مصطلحات الجرح والتعديل وتطورها التاريخي في التراث المطبوع للإمام البخاري (WORD)

مصطلحات الجرح والتعديل وتطورها التاريخي

في التراث المطبوع للإمام البخاري

الخاتمة:

إن الاشتغال بالتراث العلمي للإمام البخاري أُراه من مشاريع العمر، وقد مضى ما يفوق من عشر سنوات، وأنا أعمل فيه، دائبا دون انقطاع. لا أنقطع عن التفكير فيه إلا حين أتفرغ لالتزامات ومسؤوليات أخرى تقطعني عنه، وقد أصبح هَمِّي الوحيد طيلة هذه السنين، أسعَدُ به وأنعمُ في لحظات التَّجلِّي والصَّفاء، حين يفتح الله بانكشاف وجه جديد، أو تحرير مبحث يبعث على الارتياح، وأحزن وأقلق حين تصـرفني الصوارف التي لا تخلو من مثلها شواغلُ الحياة.

وإذا كان من غير اللائق بالمرء أن يتحدث عن نفسه، وعن عمله، وما بذل فيه من جهد، وما وصل إليه، فإن مقام مناقشة مثل هذه الرسائل يستدعي من الطالب الباحث أن يتكلم عن عمله، بل يوجب عليه ذلك.

وقبل الحديث عن هذه الرسالة، لا بد من التذكير بأهم ما توصلت إليه الدراسة السابقة التي مهدت لها[1]، وقد كان من أهم نتائجها:

• تقويم مصادر ترجمة الإمام البخاري، والترجمة له ترجمة حاولت إضاءة بعض الجوانب الغامضة من حياته. وبسبب عدم كفاية المعلومات المتوفرة، انتهى البحث إلى أمنية ما زالت قائمة لحد الآن تتمثل في العمل على إخراج ثلاثة مصادر من الأهمية بمكان، ولعلها أهم ما كتب عن حياة البخاري، وهي:

• " شمائل البخاري" لأبي جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق (-260ﻫ)[2].

• "مناقب البخاري" للإمام الذهبي (-748ﻫ)[3].

• " مناقب البخاري" للحافظ ابن حجر (-852ﻫ)[4].

كما خرجت الدراسة الأولى لتراث البخاري العلمي بالكشف عن أمرين هامين نشرا في شكل مقالين، وهما:

أ - إثبات أن التاريخ المطبوع باسم "التاريخ الصغير" هو "التاريخ الأوسط"، وعلى إثر نشره، صدر التاريخ الأوسط مُصحَّحا عليه عنوانُه من رواية الخفاف، وقد نوه الناشر بهذا المقال، وبعد حصولي على النسخة الخطية الوحيدة من الكتاب برواية الخفاف وجدتها ناقصة، فتبين أن الكتاب نُشِر مُلفَّقاً منها، ومن رواية زنجويه المنشورة قديما باسم التاريخ الصغير خطأ، وهذا يدعو إلى البحث عن نسخ أخرى كاملة تمكن من إخراج الكتاب في نشرة علمية موثقة.

ب - التوصل إلى أن "التاريخ الكبير" مرتب - بالإضافة إلى ترتيبه على حروف المعجم- على نظام كتب طبقات المحدثين، وقد جر ذلك إلى الوقوف مطولا عند كتب الطبقات ليأخذ الكتاب موقعه ضمنها، كما أسعف ذلك بإضاءة جانب كبير من منهج الكتاب وترتيبه وبنائه العام.

كما أن تتبع رواة التاريخ الكبير ومسار مخطوطاته أظهر أن هناك أصولا ومخطوطات لم تدخل في نطاق النسخة المطبوعة مما يستدعي :

• العمل على إخراج طبعة جديدة للتاريخ الكبير وخدمته بما يليق به، وييسر الاستفادة منه. فبالإضافة إلى الحاجة إلى تصحيحه، هناك حاجة ماسة إلى إخراجه مقروءاً قراءةً شارحةً تعين قارئه، وتستعين بتفسيرات بعض تلامذة البخاري لألغازه وإشاراته فيه، وبالأخص منهم العقيلي وابن عدي.

كما عُنِيت الدراسةُ السابقة بإفراد فصل لموارد البخاري في الجرح والتعديل، حيث تم التمهيد لهذا الفصل بالتذكير بمشيخة البخاري، والتعريف بالخصوص بشيوخه، وبشيوخ شيوخه ومن فوقهم في الجرح والتعديل، مرتبين على حروف المعجم، وإحصاء مواضع النقل عنهم.

وقد رام هذا الفصل بيان كيفية انتقاء البخاري لشيوخه في الجرح والتعديل، وموازينه في الأخذ عنهم، وكيفية اعتماده على الأصول المكتوبة إلى جانب مسموعاته الشفوية في محاولة للتعرف على بعض النسخ والأجزاء المدونة في أقوال سابقيه في الرجال. كما رام إبراز حجم الإضافة الهامة التي أضافها الإمام البخاري في المعجم العام لرواة الحديث النبوي الذين تُكلِّم فيهم بجرح أو تعديل.

أما هذه الرسالة فقد عنيت بإعادة النظر في التراث العلمي للإمام البخاري ولتلميذه الإمام الترمذي، على نحو جديد من الفحص والتدقيق، يتمثل في التحقق من اسم كل كتاب، وصحة نسبته، والإحاطة بجميع رواياته، وتاريخ نَسْخِها، وقد أدى ذلك إلى إضاءة جوانب هامة من هذا التراث، وتقويم كثير من المعلومات المتعلقة به، وكان من أهم ما تم التوصل إليه في هذا البحث الكشف عن كتاب مفقود يعد من أهم ما ألف في "مكتبة تراجم الضعفاء" وهو الضعفاء الكبير للبخاري، بثلاث روايات:

• رواية أبي علي آدم بن موسى الخُواري ، وقد وقعت للعقيلي (-322ﻫ)، واعتمدها في كتابه "الضعفاء الكبير".

• رواية أبي بشر محمد بن أحمد بن حمّاد الدولابي (-310ﻫ).

• ورواية محمد بن عبد الله بن الجنيد ، وقد وقعتا لابن عدي (-365ﻫ)، واعتمدهما في كتابه "الكامل في الضعفاء".

وبما أن مادة الكتاب هي أقوالٌ في الرجال بالجرح أو التعديل، فقد سمحت طبيعة هذه المادة بتقديم نص جامع للروايات الثلاثة التي تتكامل فيما بينها لتعطي نصا قريبا من نص المؤلف، ويتضح ذلك من مقارنة إحالات العلماء على الكتاب.

وقد تمت العناية في هذا النص المستخرج من الكتاب من التحقق من اسم الراوي، وصحة نسبة القول فيه، باعتماد عدة طبعات من كتابي العقيلي وابن عدي، على رداءة هذه الطبعات، وقد تطلب ترتيب النص وإخراجه، كثيرا من الوقت والعنت، من أجل التحقق من أسماء المترجم لهم، وإلحاق كل نص بصاحبه، ولولا الخدمات التي قدمها الحاسوب في هذا المجال لما كان بالإمكان إتمامه على هذا النحو.

ومما يجب الإلماع إليه هنا، هو أن هذه الدراسة لا تدعي أنها تقدم النص الكامل للضعفاء الكبير، وإنما تقدم مستخرجا منه، في انتظار أن يمن الله I علينا بنسخة خطية من هذا الكتاب.

وحسب هذا النص المستخرج الذي حُرِص فيها على إيراد كل نص بسنده إلى مؤلفه، أن يقدم مادة موثقة من الكتاب تبعث على الاطمئنان، كما أن ترتيبه الدقيق على حروف المعجم، من شأنه أن يسعف الباحث بطلبته منه دون عناء.

أما التاريخ الصغير، فقد تم الوقوف عنده طويلا، للخلط والالتباس الذي لحقه موضوعا وعنوانا، وتم تقديم محاولة جادة لتاريخ نص الكتاب، حيث عُمِل على استجلاء روايته الوحيدة، لعبد الله بن عبد الرحمن الأشقر القاضي، وتتبع كل النسخ المتفرعة عنها في جميع أطوارها التي أمكن التعرف عليها.

وقد تم استخراج (90) نصا منه، من خلال المصادر الناقلة عنه التي وصلتنا، وفي النية إخراج ذلك، كقطعة من هذا الكتاب المفقود، ما لم تظهر منه هو الآخر إحدى نسخه الخطية.

أما عملية التأريخ للكتب المعتمدة في متن الدراسة، فقد هدت إلى إنجاز معجم تاريخي، يُقدَّم كنموذج يُرجَى أن يكون رائدا لمعاجم أخرى في هذا المجال، وهو عبارة عن معجم جامع لكل الرواة الذين تكلم فيهم البخاري بجرح أو تعديل في كل تراثه العلمي، وقد رُتِّبوا على حروف المعجم، ورُتِّبت الأحكامُ النقدية في كل ترجمة تعددت فيها الأحكام ترتيبا تاريخيا، وتُوِّجت بآخر حكم. الأمر الذي ساعد على تصنيف هذه الأحكام، إذ اعتُبِر لفظ الحكم الأخير مصطلحا مدروسا، واعتُبِرت بقية الأحكام في تلك الترجمة ضمائم لهذا المصطلح.

إن كل هذه الجهود إنما كانت من أجل إقامة متـن تام وموثق يؤهل لدراسة مصطلحات الإمام البخاري، وقد تم اختيار قول البخاري "فيه نظر"، لدراسته من منظور الدراسة المصطلحية، على أمل أن يكون هو الآخر نموذجا لدراسة مصطلحات أخرى تَمَيز البخاري بها، وأَكثَر من استعمالها من مثل :"منكر الحديث"، و"سكتوا عنه" وغيرها.

لقد انتهى الجانب التطبيقي من هذه الدراسة إلى نتائج هامة في كل مبحث من مباحثها، وقد يكون بعضٌ مما توصلت إليه الدراسةُ المصطلحيةُ لقول البخاري :"فيه نظـر" معروفا عند بعض القدماء أو المحدثين، ولكن الجديد في الدراسة، هو أنـها عملت على التدقيق في بيان مراد البخاري من هذا القول، كما كشفت عن مراده من ضمائم هذا المصطلح، وأهمها قوله:" في حديثه نظر"، في إسناده نظر"، ورامت إثبات ذلك عمليا ومن خلال البحث العلمي.

وحسبي من هذا العمل أنه بصرني ببعض أدوات البحث الجاد، ووضعني في بداية الطريق، وقد خرجت منه بأمرين:

• إن كثيرا من البحوث العلمية نجد مشقة وعناء في إنجازها على الوجه الصحيح، مع أنها في واقع الأمر قريبة التناول، وتكون صعوبة الوصول إلى النتائج المرضية ناجمة عن سلوكنا طرقا معوجة لبعدنا الزمني عن بيئات المحدثين المتقدمين.

• إن صعوبة التعامل مع المصادر الأولى لتراثنا، تعود لفقداننا اليوم للتعليقات الشفوية التي كانت تصاحب النص المكتوب في مجالس الإملاء، وفي لحظات تَحَمُّل العلم عن الشيوخ، هذه التعليقات التي كانت تبوح بكل أسرار النص، وتُجَلِّي لغتَه الاصطلاحية. وأحسب أنَّ تشجيعَ الدرس المصطلحي اليوم قادرٌ على إحياء المفاهيم الأصيلة، وعلى ترشيد السلوك، وعلى انضباط النيات بالمقاصد.

هذا والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أكمل خلقه محمد، وعترته الطاهرين وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وكتبه راجي عفو ربه:

محمد بن البدالي اولادعتـو

بمراكش

في يوم السبت 29 ذي القعدة 1426ﻫ

الموافق ل 31 دجنبر 2005م

Oattou325@hotmail.com