وصول الأماني بذكر تعقبات العسقلاني على العلامة الكرماني في شرحه لصحيح البخاري (6)

وصول الأماني

بذكر تعقُّبات الحافظ ابن حجر العسقلاني

على العلامة الكِرماني في شرحه لصحيح البخاري (6)

• كان الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول: ((لو التقط من "الفتح" بيان ما وقع للكرماني في شرحه، وللزركشي في تنقيحه؛ لكان شرحًا حسنًا. يسر الله ذلك)). "الجواهر والدرر" (2/708).

• وكان حريصًا على الالتقاط المذكور، وإفراده بالتصنيف، فما لبَّى أحد من تلامذته دعوته. "الجواهر" (2/698).

• طريقتي في هذا الكتاب أديرها على ذكر الحديث محل البحث بديئًا من "الجامع الصحيح" برواية أبي ذَرٍّ الهَرَوِي عن مشايخه: المُسْتَمْلِي، وابن حَمُّوَيْه السَّرَخْسِي، والكُشْمَِيْهَنِي، ثلاثتهم عن الفَِرَبْرِي، عن البخاري. ثم إنني أثني بذكر كلام الكِرماني. ثم أختم بذكر تعقب ابن حجر العسقلاني. وربما ذكرت في الحواشي بعضَ فوائدَ مما له تعلق بالسياق.

بسم الله الرحمن الرحيم

عَوْنَك يا لطيف

• قال الإمام البخاريُّ - قدس الله سره - في كتاب الإيمان:

بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ". وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ... وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الْإِيمَانِ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِالْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: "إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ". انتهى.

وأنت - بارك الله فيك - فاعلم أن أثر عمرَ بنِ عبدالعزيز هذا قد وصله الحافظ في "تغليق التعليق" من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، وهو في "المصنف"[1] وكتاب "الإيمان"[2] له، قال: حدثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم، حدثني عيسى بن عاصم، حدثني عدي بن عدي، قال: كتب إليَّ عمر بن عبدالعزيز:... فذكره.

قال الحافظ:

((وهو إسناد صحيح، ورجاله ثقات. ورواه أحمد بن حنبل في كتاب "الإيمان" له[3]، عن وكيع، عن جرير بن حازم، نحوه)). ا.هـ.

وقوله فيه: "إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ" كذا هو في "مصنف ابن أبي شيبة"[4]، وعليه أكثر رواة الصحيح، ورواه ابن عساكر[5] هكذا: "إِنَّ الْإِيمَانَ فَرَائِضُ"، برفع "فَرَائِض" على الخبرية، وبرفع ما بعدها على العطف.

• قال العلامة الكرماني[6] واعتمد رواية الجمهرة:

((الغرض من هذه الحكاية بيان أن عُمرَ - رحمه الله - كان قائلاً بأن الإيمان قول وفعل، وكان قائلاً بزيادة الإيمان ونقصانه؛ حيث قال: "اسْتَكْمَلَهَا"، و: "لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا".

لكن لقائل أن يقول: لا يدل ذلك عليه، بل على خلافه؛ إذ قال: "إن للإيمان كذا وكذا"، فجعل الإيمان غيرَ الفرائض وأخواتها، فقال: "اسْتَكْمَلَهَا" أي: الفرائض ونحوها لا الإيمان، فجعل الكمال لها لا للإيمان)). انتهى.

• فقال الحافظ ابن حجر[7]:

((لكن آخر كلامه يشعر بذلك، وهو قوله: "فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا" أي: الفرائض وما معها فقد "اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ"؛ وبهذا تتفق الروايتان؛ فالمراد أنها من المكملات؛ لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيمانًا)). انتهى.

♦♦♦

• وقال الإمام البخاريُّ في كتاب الإيمان:

بابٌ: أيُّ الإسلامِ أفضلُ؟

(11)- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".

ثم قال الإمام:

بابٌ: إطعام الطعام منَ الإسلام

(12)- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ[8] - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ فَقَالَ[9]: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ". انتهى.

ولا يذهب عنك الفارق بين اللفظين، ففي الحديث الأول: ((أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟))، وفي الثاني: ((أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟)).

وإن بعض أهل العلم ليحمل هذا على الاتحاد، ويخرجون الجواب على اختلاف أحوال السائلين وأزمنة سؤالاتهم إلى ما هنالك. ومن خَبَر تحري الرواة في مثل هذا التمس الفرق بين اللفظين على الأصل.

• فقال العلامة الكرماني[10]:

((إن قلتَ: هل فرق بين (أفضل) وبين (خير)؟

قلتُ: لا شك أنهما من باب التفضيل، لكن الفضل بمعنى كثرة الثواب في مقابل القلة، والخير بمعنى النفع في مقابلة الشر، والأول من الكمية، والثاني من الكيفية )). انتهى.

• فقال الحافظ ابن حجر[11]:

((اعتُرِض بأن الفرق لا يتم إلا إذا اختص كلٌّ منهما بتلك المقولة، أما إذا كان كل منهما يُعْقَل تَأَتِّيهِ في الأخرى فلا. وكأنه بني على أن لفظ (خير) اسمٌ لا أفعل تفضيل)). انتهى.

وفي الحق أن ما ساقه الحافظ من اعتراض معترَض، وكلام الكرماني سالم، والسياق ناطق بأنه ما ذهل عن أن لفظة (خير) هاهنا أفعل تفضيل، لا اسمٌ. والله أعلم[12].

وأجود ما وقفت عليه في التفريق بين اللفظين ما سطره ذو النظر الثاقب الرشيد، والرأيِ الأريب السديد، العلامة الأحوذي، ابن رجب الحنبلي - رحمه الله تعالى-. فانظر له "فتح الباري" (ج1/ص40-41) ط/ مكتبة الغرباء.