4 إشكاليات تعترض البت في مشروعية العملات الرقمية

إشكاليات تعترض البت في مشروعية العملات الرقمية

منذ ظهرت العملاتُ الرقمية في عام 2009، وهي ما تفتأ تُحيِّر الاقتصاديين وخبراء المال في تعريفها وتحديد ماهيتها، وحتى علماء الشريعة ومتخصِّصو فقه البيوع قد انقسموا فيما بينهم بين محلِّل ومحرِّم لها، إلا أن العملات الرقمية قد أخذت ذلك الزخم اعتبارًا من ربيع عام 2021؛ حيث ارتفعت أسعارُها بشكلٍ كبير، وأقبَل الناس على شرائها وبيعها وتداوُلها، وقد أضحى ذلك من السهولة بمكان؛ حيث يكفي أن تنشئ حسابًا على أية منصة تداول بخطوات بسيطة، لتصبح قادرًا على شراء وبيع البتكوين وغيرها.

ومع الانتشار الكبير للاتِّجار بالعملات الرقمية وتداولها بين عامة العرب والمسلمين، لم تظهر حتى الآن جهة ذات ثقل واعتبار تتحمل مسؤولية التدقيق في تلك العملات، ولا تعريف وتفصيل أحكامها بين المشروعية والحرمة؛ مما فرض واقعًا فيه بعض الإشكاليات التي تعترض طريقَ طلبة العلم ومتخصصي الشريعة والفقه، ويصعِّب عليهم وضع تصورات واضحة ومتكاملة لتحديد ضوابط التعامل بالعملات الرقمية من الناحية الشرعية.

1- الإشكالية الأولى تتمثل في تعريف العملات الرقمية، هل هي "نقد" أم لا؟ وواقع الحال يقول: إن "العملات الرقمية" ليست بنقودٍ تستخدم لشراء السلع، بل هي مجردُ أصول افتراضية يتم شراؤها وتخزينها من قبلِ المستخدمين أملًا في ارتفاع ثمنها لاحقًا، ولم تنتشر العملات الرقمية كنقود على نطاق واسع عالميًّا، ولا يوجد عدد معتبر من المتاجر يعتبرها كنقود مقبولة للشراء، فضلًا عن أنها غير متبناة من طرف الحكومات ولا المصارف المركزية، وهذا أهم ما يجرِّدها من صفتها كنقودٍ.

وذلك لم يمنَع من ظهور فريق آخر يرى في العملات الرقمية نقودًا لاعتبارات متعددة، لكن ما يهمُّنا هنا هو أن تعريف تلك العملات سواء كانت نقودًا أم أصولًا، يصعِّب على الفقهاء وطلبة العلم البدءَ في دراستها وإطلاق الأحكام عليها؛ إذ إن أحكام النقود التقليدية مختلفة قليلًا عن أحكام الأصول الأخرى كالذهب والفضة والعقارات وغيرها.

2- الإشكالية الثانية هي أن العملات الرقمية والمعاملات المرتبطة بها ليست من اختراع المسلمين، ولا من بنات أفكارهم، وبالتالي - وكما جرت العادة بسبب تأخُّر المسلمين وتخلُّف واقعهم - سيحتار المسلمون في أمرها، وقد سارع البعض إلى تحريم العملات الرقمية، فقط لأنهم لم يفهموا ماهيتها، وبدون التدبر في أمرها ولا معرفة استعمالاتها، ومعروف لدى الجميع أن تحريم الحلال في الإسلام جُرمٌ كبير لا يختلف عن تحليل الحرام، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 32].

3- الإشكالية الثالثة وهي اللغة، وقد أشرنا في النقطة السابقة أن العملات الرقمية هي اختراع غربي بالمجمل، وبالتالي فإن جميع المعلومات والبيانات والمصادر والمواقع الإلكترونية الخاصة بالعملات الرقمية هي باللغة الإنكليزية دائمًا، بل إن معظم تطبيقات العملات الرقمية - وبسبب اختلاف اللغة والثقافة - قد سبب حيرة كبيرة لدى فقهاء العالم العربي؛ لأن تلك التطبيقات والاستعمالات غير مألوفة لدى العرب.

ومما يزيد الطين بلةً هو عدم وجود محتوى عربي ذي قيمة فيما يتعلق الحلال والحرام، في حين تجد الكثير من المواقع والحسابات وقنوات اليوتيوب والمنتديات المتخصصة بالأحكام الشرعية، ولكن باللغة الإنكليزية؛ مثل مبادرة (التمويل الإسلامي العملي IPF) الأمريكية، ومنصة (خبير التمويل الإسلامي IFG) البريطانية، فهل مسلمو أوروبا وباكستان وإندونيسيا أكثر حرصًا على تحري الحلال من العرب؟

4- الإشكالية الرابعة وهي الأخطر، وهي الفجوة الكبيرة بين طلبة العلم الشرعي وبين التقنية من جهة، وبين متخصصي التقنية والعلم الشرعي من جهة.

فتارة ترى الفريق الأول يسارع في إطلاق الأحكام بالتحريم على جميع العملات الرقمية دون تمييز، فقط بسبب عدم فَهم ماهيتها لأسباب لغوية وتقنية، وتارة ترى الفريق الثاني يدعو للاستثمار في تلك العملات بغضِّ النظر عن مشروعيتها، ونظرًا لافتقار الكثير من التقنيين لمبادئ العلم الشرعي، ولا سيما في مجال البيوع وأحكام الأموال الربوية وغيرها، وهكذا يضيع المستخدمون والمتعاملون العاديون بين كلا الفريقين، وكلاهما مقصِّر للأسف.

إن حل هذه الإشكاليات الأربع يشكِّل مفتاحًا ومدخلًا للباحثين وطلبة العلم لإصدار معايير وأحكام واضحة ودائمة ومحددة للتعامل بالعملات الرقمية، ومن الحلول التي يمكن تطبيقها بهذا الخصوص:

1- عقد اجتماعات دورية متواصلة لهيئات ومجامع الفقه الإسلامي حول العالم، وحثُّها على إصدار أوراق وبيانات تحدِّد فيها ضوابط التعامل بالعملات الرقمية وأحكامها بشكل عام وموسع.

2- إقامة مبادرات باللغة العربية، لشرح وتبسيط التعامل بالعملات الرقمية، وتوضيح أحكامها للمستخدمين المسلمين.

3- حثُّ متخصصي العملات الرقمية على تعلُّم أحكام البيوع الشرعية، بحيث يتم سدُّ باب التعامل المحرَّم بالعملات الرقمية، وفتح المجال أمام الاستفادة من الجوانب المشروعة في تلك العملات بما يعود بالخير والفائدة!