• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟ (خطبة)
    د. مراد باخريصة
  •  
    المرأة بين حضارتين (خطبة)
    أبو سلمان راجح الحنق
  •  
    تفسير قوله تعالى: { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    رجل يداين ويسامح (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    سلسلة شرح الأربعين النووية: الحديث (25) «ذهب أهل ...
    عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
  •  
    من فضائل لا إله إلا الله
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    أصول الفقه مفهومه وفوائده وأهميته في الدين
    د. ربيع أحمد
  •  
    خطابات الضمان، تحرير التخريج، وبيان الحكم، ...
    د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري
  •  
    شموع (111)
    أ.د. عبدالحكيم الأنيس
  •  
    خطبة: أهمية العمل التطوعي
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    أحكام الغبن في نظام المعاملات المدنية السعودي: ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: من وحي عاشوراء (الطغاة قواسم مشتركة، ...
    وضاح سيف الجبزي
  •  
    وهل من طلب ليقتل لديه وقت للنظر؟؟
    مصطفى سيد الصرماني
  •  
    قواعد مهمة في التعامل مع العلماء
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    مكارم الأخلاق على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة
    الدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري
  •  
    من سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم
    الشيخ محمد جميل زينو
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / الخطب / خطب المناسبات
علامة باركود

خطبة: من وحي عاشوراء (الطغاة قواسم مشتركة، ومنهجية متطابقة)

خطبة: من وحي عاشوراء (الطغاة قواسم مشتركة، ومنهجية متطابقة)
وضاح سيف الجبزي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 20/7/2025 ميلادي - 25/1/1447 هجري

الزيارات: 247

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من وحي عاشوراء

(الطغاة قواسم مشتركة، ومنهجية متطابقة)

 

الحمد لله العظيمِ الخالق، المتكفِّل برزق جميعِ الخلائق، رافِع السبعِ الطوابقِ، ومُرسِي الأرضِ بالجبال الشواهق، أحمده -سبحانه- على فضله وإنعامه، السابقِ واللاحق.


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾ [الصافات: 5].


وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، فتَح به المغالق، وأبان به الحقائق، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله، وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، ما أضاء صبحٌ، وذرَّ شارق، وأرعَد رعدٌ، ولمَع بارق.

 

عليه سلامُ الله ما لاح بارقُ
وما أشرقتْ بالنّيرين المشارقُ
وخيرُ صلاة ما استقام على الهدى
تقيٌّ، وما اختار الغوايةَ مارِقُ
وحبٌّ نديٌّ واشتياقٌ وبهجةٌ
إذا مرَّ طيفٌ بالمناجاة طارقُ
أنار به الله السبيلَ فرفرفتْ
على جانبيه للسُّراة البيارقُ

 

اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على سيدنا محمد، رافِع الشَّكِّ، ودافع الشّركِ، وداحِض الإفْكِ، صلاةً ترفعُ منارَ قائِلها، وترسلُ عليه سحائبَ المغفرة بوابلِها.


وبعد، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فقال: «مَا هَذَا؟» قالوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قال صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.


وفي رواية: فقالوا: «هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»[1].


يا صباحًا ليس يُنسى
فيه نجّى الله موسى
يومَ عاشوراءَ ربي
عدْلَه في الأرض أرسى
أهلك الباغي وأعطى
فيه للباقين درسا
أنَّ للظالم يومًا
أنَّ للمظلوم شمسا


﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 137].

 

نجَّيتَ يا ربّ موسى حينما انطلقا
من بطش فرعون لما بحرُك انفلقا
ونحن يا رب هلكى فاجْلُ كربَتَنا
إنا نخاف إذا لم تُنْجنا الغرقا
لنا مِن الهمِّ ما نرجو إزالتَه
ومَن سواك يزيل الهمَّ والقلقا؟!
وأنت يا رب ذو عفو ومغفرةٍ
فجُدْ علينا بفتح يسبق الفلقا
وهبْ لنا رحمة هيئ لنا رَشَدا
مِن أمرنا واكفِنا مِن شرِّ ما خَلقا

 

أيها المؤمنون، ومن وحي عاشوراء، وفي ذكرى نجاة المستضعفين، وهلاك إمام الطغاة والمستكبرين، ومن خلال قصة موسى مع فرعون -بخصوصها-، سنتأمل أهم ملامح الطغيان وسماته، وبواعثه وأدواته، والقواسم المشتركة بين الطغاة، والمنهجية التي يسيرون عليها، والتي قد تصل حد التطابق، وأبرز الصفات والسلوكيات التي يتشابهون فيها، ونتدبَّر سنن الله في مصارع الطغاة، وهلاك الظلمة، ونصر المؤمنين، ونجاة المستضعفين، فأقول -مستعينًا بالله-:

لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالمًا آخر، يقرُّ فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، ﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴾ [الزمر: 17].

 

ولاستنهاض الهمم، واستجاشة العزائم، وإنارة الطريق، وتحديد القيم والغايات والأهداف، يبين لنا القرآن مراد أولياء الرحمن، ورؤية أتباع الشيطان: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ﴾ [النساء: 76].

 

والطاغوت -يا أيها المسلمون-، صيغة من الطغيان، تفيد كلَّ ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التي رسمها الله للعباد، كما قال الله: ﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ﴾ [الحاقة: 11]، ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه: 43]، ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾ [الفجر: 10 - 12].

 

ففرعون هو رائد مدرسة الطغيان، ومؤسس نظرية الاستبداد، والمثل الأعلى للطغاة والمستبدين، والمجرمين والمستكبرين؛ ولذا أسهب القرآن الكريم في رسم أبعاد شخصيته، وعرض ملامح تفكيره، وذِكر طريقة تعامله، وتعداد جرائمه وانتهاكاته، وكشف أركان نظامه القمعي، وأدواته التضليلية، وسرد البراهين والحجج التي أقيمت عليه، والآيات والنذر التي حذَّرته، ووصلت إليه، ﴿ فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴾ [النازعات: 21، 22].

 

ففرعون -يا أيها الموحِّدون- هو الصورة النموذجية للطاغية على مدار التاريخ الإنساني، حتى صار اسمُه مصدرًا لاشتقاق الأفعال والصفات؛ فمن الاستعمالات الدارجة قولهم: فلانٌ تفرْعن؛ أي: صار ظالمًا جبَّارًا مستكبرًا، ميِّت الضمير.

 

ويقال: الناس فرْعَنوا الحاكم؛ أي: نافقوه، وباركوا تصرفاته، وتجاوزاته، وأخطاءه، وانتفاشتَه، وبطشه، حتى عميتْ بصيرتُه، وأظلمتْ مسيرتُه، وفسدتْ سريرتُه، وفحُشتْ جريرتُه؛ فأصبح كفرعون؛ فسادًا وعلوًّا، وغرورًا وعتوًّا، وظلمًا وطغيانًا، وبغيًا وعدوانًا.


وقد قال بعض العارفين: ما من نفسٍ إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدَر فأظهر، وغيرُه عجَز فأضمر[2].


معاشر الإخوة، واستقراء التاريخ الإنساني يضع أيديَنا على حقيقة لم تتخَلَّف؛ وهي: أن التاريخ كلَّه لم تخْل أيّةُ مرحلة من مراحله من طاغية، أو طغاة.. قد يختلفون في الشكل والوسائل، ولكن الجوهر، والملامح الأساسية -نفسيًّا وسلوكيًّا - واحدة لا تتبدل ولا تتغير.


فالفرعونية والطاغوتية ليست مجرَّد حادثة عابرة، أو قصة آفلة، بل إنها ظاهرة عانى منها الناس قديمًا وحديثًا، وستبقى جاثمةً على صدور الخلق ما دام في الأرض حقٌّ وباطلٌ، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31].


حين هلك أبو جهل فـي بَـدْر الكبرى، كبَّر صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «كَانَ هَذَا فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ»![3]


فتأمل -يا عبد الله- كيف ربط -صلوات ربي وسلامه عليه- بين الفرعون الأول، وبين خلَفِه -فرعون هذه الأمة- أبي جهل؟!


ليرسِّخ في أذهان أُمَّته: أن الصورة الفرعونيَّة لم تنته بهلاك مؤسسها الأول، وليست مجرد حدث مضى، وإنما هي: ظاهرة مستمرة، ونمط متكرِّر، وأسلوب متجدِّد، ومنهجية مستنسخة، ومدرسة متأصِّلة، وفكرة متجذِّرة، تتمثل في:

تشرُّب الضلال، وحملِ لواء الباطل، وتبني الإفساد، والتلذُّذ بممارسة الإجرام، والتعالي على الناس، واضطهاد المستضعفين، وإفسادِ الأنظمة، والمجتمعات، والتضييقِ على الخلق في شؤونهم الدينية والدنيوية، واستباحة الأموال، والأعراض، والدماء، والممتلكات، ومحاربة الحق وحمَلَته، -ولو كان حاملُه نبيًّا-: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123].


فهؤلاء المجرمون والفراعنة والطغاة، لديهم صفات متقاربة، وبينهم قواسم مشتركة، وتجمعهم رؤية واحدة، ويمارسون سلوكيات متشابهة، ويستخدمون منهجية متماثلة في كيفية التعاطي مع الحق، والتعامل مع الخلق.


ولعل أبرز تلك السمات، وأبْيَن تلك الصفات، وأوضح تلك الملامح، وأهم تلك القواسم، ومعالم تلك المنهجية الفرعونية الطغيانية الاستبدادية هو التالي:

التعالي والاستكبار، والعجب والغرور: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [الشعراء: 29]، ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 4]، ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [القصص: 39]، ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]، ﴿ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴾ [الزخرف: 52]، ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51].


يفتخر -هذا الطاغية- بنهرٍ ما أجراه، ما أجراه![4] فأجرى الله الماء من على رأسه وأخزاه.


يا رُبّ شخصٍ أنفُه شامخٌ
مِن كِبْرِه وهو الحقيرُ الوضِيعْ
يظنُّ أن الناس مِن دونهِ
وأنه ربُّ المقامِ الرفيعْ
لا يعرفُ الفضل لأصحابهِ
كلا ولا يعرفُ حُسْنَ الصَّنيعْ
والكبرُ من أوصاف كلِّ امرئٍ
لا يفعلُ الخير ولا يستطيعْ

 

عباد الله، ومن القواسم المشتركة بين الطغاة: الاتهام والتشكيك، والإرجاف والتشويه: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 78]، ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴾ [الشعراء: 54، 55].


وهذه الوسيلة التي استخدمها فرعون للتشكيك في دعوة موسى -عليه السلام- استخدمتها قريش؛ لصرف الناس عن دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ﴾ [ص: 6]، إنَّ ما يدعو إليه محمد، إنما يريد به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعًا، وتصديقنا له فيه منقلبنا[5]، ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ [القصص: 57]، فردَّ الله عليهم في نفس السورة، وفي نفس الآية، ونفس القصة: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57].


معاشر المؤمنين، ومن أبرز السمات الطغيانية المشتركة: قلب الحقائق، وتزييف الواقع، والتدليس والتلبيس، والكذب والتزييف، جهارًا نهارًا، عيانًا بيانًا: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الأعراف: 109، 110]، ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 123]، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ [يونس: 76، 77]، ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 101، 102]، ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَامُوسَى ﴾ [طه: 57]، ﴿ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ﴾ [طه: 63].


وما أجل وأجمل وأجلى ما رد به موسى -عليه السلام- على هذا الهراء والإرجاف! وهو ردٌّ على كل الطغاة، والفراعنة والمجرمين، الذين -كما قيل-: يكذبون كما يتنَفَّسُون: ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴾ [طه: 61].


أيها المؤمنون، ومن أساليب الطغاة، ومنهجيتهم في التعامل، أنهم يتخذون من الأرض، أو ما يسمى الوطن، ورقة للتخويف والقمع، وأداةً للابتزاز والتركيع، وثني الناس عن مبادئهم، وهذا من أخبث الأساليب، وأقذر الطرق التي يسلكها هؤلاء المستبدون مع المستضعفين؛ حيث إن مؤداه الإبعاد من الأرض، والإخراج من الديار: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88]، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13]، ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ﴾ [النمل: 56].


فالإخراج من الديار، والنفي من الأوطان -إجبارًا أو اضطرارًا أو اختيارًا- سُنَّة فرعونية متواترة، وطريقة طغيانية متَّبعة، ومنهجية إجرامية مُتجذِّرة، ووسيلة طاغوتية متأصلة، ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30]، ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 76، 77]، ﴿ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [الإسراء: 103]، ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13].


ولقد ذكر الله -تعالى- أنَّ خروج الأجساد من الأوطان، هو قسيمُ خروج الأرواحِ من الأبدان: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [النساء: 66 - 68].


فتأمَّل: كيف سوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم؟! فجعل -سبحانه- الإخراج من الديار بإزاء القتل، وهو بمفهومه: أن الإبقاء في الديار عديلُ الحياة.

 

وللأوطانِ في دمِ كلِّ حرٍّ
يدٌ سلفَتْ ودَينٌ مُستحقُّ

وأحسب أن الله -جلَّ وعزَّ- ما قرن الموت بالإخراج من الديار، وأجزل ثواب المهاجرين في سبيل الله، التاركين أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، إلا لأن الهجرة ضرب من ضروب الموت، ولون من ألوانه، فإن (تعدَّدت الألوان فالموت واحد)![6]

 

العينُ بعد فِراقها الوَطَنا
لا ساكِنًا ألِفَت ولا سَكَنا
رَيَّانةٌ بالدَّمع أقلقَها
ألا تُحسَّ كرًى ولا وَسَنا

 

وتأمل كيف أجاب بنو إسرائيل بفطرتِهم مَلِكَهم بالموافقةِ على القتال، لاستعادة ما سُلب منهم؟ ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246].

 

بلادٌ ألفناها على كل حالةٍ
وقد يؤلَفُ الشيءُ الذي ليس بالحسَنْ
وتُستعذَبُ الأرضُ التي لاهوا بها
ولا ماؤها عذبٌ ولكنَّها وطنْ

 

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير الخلق، يخرجه قومُه من داره وقراره، فيقف مودِّعًا إياها قائلًا: «والله إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ الله، وأَحَبُّ أرْضِ الله إلى الله، ولَوْلَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خَرَجْتُ»[7].


وعن ابن عبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكَّة: «ما أطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحَبَّكِ إليَّ، ولولا أن قَوْمِي أَخْرَجُوني مِنْكِ ما سَكَنْتُ غيْرَكِ»[8].

 

وحبَّبَ أوطانَ الرّجالِ إِليهِمُ
مآربُ قضاها الشَّبابُ هنالكا
إِذا ذَكَروا أوطانَهم ذَكَّرَتهمُ
عهودَ الصِّبا فيها فَحنُّوا لذلكا

 

أيها المسلمون، ولوقع الإبعاد عن الأوطان، والإخراج من الديار على الأنوف الحمِيَّة، والنُّفوس الأبيَّة، والهمم العَلِيَّة؛ مدح سبحانه المهاجرين بتضحيتِهم وتركِهم لأوطانِهم في سبيلِ الله -تعالى-: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8].

 

كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى
وحنينُه أبدًا لأولِ منزلِ
نقِّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى
ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

 

بيد أنَّ الفرار من الظلم -يا عباد الله-، والتغرُّب في سبيل الحريَّة، طبيعة قديمة في النفوس الكريمة، وما هو فرار ولا هي غربة، وإنما هو الحقُّ يفرُّ مغلوبًا ليكرَّ غالبًا، ويصدُر مطلوبًا لِيَردَ طالبًا، سنَّة الله في الحرية، ظهرت في إبراهيم -عليه السلام- حين هاجر من بابل إلى كنعان؛ ليغرس بذور النبوة في فلسطين والحجاز، وظهرت في موسى -عليه السلام-، فَفَرَّ من مصر إلى مَدْيَن؛ ليعود إلى فرعون بآيات ربِّه، وظهرت في محمد صلى الله عليه وسلم، فهاجر من مكة إلى يثرب؛ ليرجع إلى مكَّة مجتمع القوَّة، مشدود الأسر[9].


معاشر الإخوة، إن من مخلفات الاستعمار، أن جعل ولاء الدين ثانويًّا بالنسبة للأوطان، وإلا فمن لا خير له في دينه لا خير له في وطنه؛ لأنه إن كان بنقضه عهد الوطنية غادرًا فاجرًا، فهو بنقضه عهد الله وميثاقَه أغدر وأفجر، وإن الفضيلة للإنسان أفضلُ الأوطان، فمن لم يحرص عليها فأحرى به ألَّا يحرص على وطن السقوف والجدران[10].


إنَّ الإسلام لا يعترف بهذه الحدود والأسوار التي وضعها المستعمر، بل يعتبر أن المسلمين إخوة، ووطنهم واحد، وأرضهم واحدة، وأنهم جسد واحد، «إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ»[11].

 

إذا تخاصم أهل الحبِّ في وطنٍ
كتبْتُ في دفتري نهجي وعنواني
بالشّام أهلي وبغدادُ الهوى وأنا
بالرّقمتين وبالفُسْطَاطِ جيراني
النّيلُ مائي ومِن عمّان تَذْكِرتي
وفي الجزائر إخواني وتطواني
وفي ثرى مكة تاريخُ ملحمةٍ
على رُباها بنينا العالَم الفاني
في طيبة المصطفى عهدي وموعظتي
هناك يُنسج تاريخي وعرفاني
والوحيُ مدرستي الكبرى وغارُ حرا
بدايتي وبه قد شعَّ قرآني
وثيقتي كُتِبتْ في اللوح وانهمرتْ
آياتُها فاقرؤوا يا قوم عنواني
فأينما ذُكِر اسمُ الله في بلدٍ
عددتُ ذاك الحمى من صُلب أوطاني
دنيا بناها لنا الهادي فأحكمَها
أعظِم بأحمدَ مِن هادٍ ومِن بانِ

 

أيها المسلمون، ومما يجمع بين الطغاة من السمات: الاستعلاء على النصح، والإعراض عن التذكير، والاستنكاف عن قبول الحق؛ فمهما تُقدَّم لهم من نصائح صادقة، ومهما تطرح أمامهم من افتراضات منطقية، ومهما تساق بين أيديهم من براهين قطعية، ومهما يواجهون به من حجج عقلية؛ فإنهم يعرضون عنها صفحًا، ويتعاملون معها باستعلاء، ويقابلونها بتعنُّت وازدراء: ﴿ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ﴾ [الأنعام: 4]، ﴿ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 132]، ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ﴾ [الشعراء: 5]، ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، ﴿ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ﴾ [القمر: 2، 3]، ﴿ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا ﴾ [القمر: 41، 42].


إن الطغاة مصابون بسيكولوجية أحادية الرؤية؛ ولذا يستخدمون الإرهاب الفكري: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29].


رأيُ الجماعةِ لا تَشقی البلادُ بهِ
رغم الخلاف ورأيُ الفردِ يشقيها

يعطِّل الطاغية مبدأ الشورى، ويستبد برأيه، ويستند إلى قناعته، ثم يقول: ﴿ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، وصدق ربي: ﴿ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴾ [هود: 97]، ﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ﴾ [طه: 79].


خطب أحدهم فقال: أقول كما قال العبد الصَّالح: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 29]، فقالوا له: ليس هذا من قول عبد صالح، إنما هو من قول فرعون، فقال: من قاله فقد أحسن[12].


هكذا يقتبس الطغاة بعضهم من بعضهم، ويسيرون على نفس المنهج، ويسلكون نفس الطريق: ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53].


إن منطق الطغاة في كل آن:

يا قوم لا تتكلَّمُوا
إنَّ الكلام مُحرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُّومُ
وتأخَّروا عن كل ما
يقضي بأن تتقدموا
ودَعُوا التَّفهُّم جانبًا
فالخيرُ أن لا تفهموا
إن قيل: هذا شَهْدُكم
مُرٌّ فقولوا: علقَمُ
أو قيل: إن نهاركم
ليلٌ فقولوا: مظلمُ
أو قيل إن بلادكم
يا قوم سوف تقسَّمُ
فتَحمَّدوا وتشَكَّروا
وترنَّحوا وترنَّموا

 

هذا، وإن أحسن بيان، وأوضح تِبيان، وأعظم برهان، كلامُ مَن ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 58، 59].


قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه -يا عباد الله- يغفر لكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله المبدئ المعيد، الوليِّ الحميد، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد ولا نديد، شهادةَ مخلصٍ في التوحيد، راجٍ للحسنى والمزيد، ونشهد أن سيدنا محمَّدًا عبده ورسوله لبنة التمام، وبيت القصيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريَّته والتابعين، والناصرين لسُنَّته بالقول والفعل إلى يوم الدين.


معاشر المؤمنين، ومن منهجية الطغاة المتشابهة: تصنُّع التواضع، وتكلُّف البساطة، والتظاهر بالشفقة -عند الحاجة-: ﴿ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [الشعراء: 34، 35]، ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26].


وتلك هي شنشنة الطغاة، وهذا هو ديدنهم، حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم؛ يلينون في القول، ويخفضون الجناح، ويصيحون بالويل، ويصرخون مستغيثين بالليل، وإلا فإن عادتهم أن يستخفُّوا بأتباعهم، ومن عادة الأتباع الوفاءُ لسادتهم وكبرائهم، ومتابعتُهم على باطلهم، وما يزينون لهم من الأعمال، ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].


سألوا عبدًا: إذا ربحتَ مالًا كثيرًا فماذا ستفعل به؟ قال: سأشتري سيِّدًا لطيفًا.


إنَّ مَن استمرأ العبوديَّة لا يتوقُ إلى الحرِّيَّة.


هكذا، حينما يجد الطاغية في قومه من الجهل، والغفلة، والذِّلة، ومن خواء القلوب من الإيمان، ومن بُعْد النفوس عن العزَّة والإباء والكرامة، ما يجرئه على التماديوالبغي والاستطالة.


فما يخدع الطغاةَ شيء ما تخدعهم غفلةُ الجماهير، وذلتُها وانقيادُها، وإلا فالطاغية فرد لا يملك في الحقيقة قوةً ولا سلطانًا، إنما هي الجماهير الغافلة الذَّلول، تمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيجر، وتحني له رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزَّة والكرامة فيطغى، وهي تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى.


فلو لَبِسَ الحمارُ ثِيابَ خَزٍّ
لَقال النَّاس: يا لك مِن حمارِ

لا يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبدًا، ولا يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبدًا، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربّها، وتؤمن به، وتأبى أن تتعبَّد لواحد مِن خَلقِه، لا يملك لها ضرًّا ولا رشدًا!


والشَّعبُ لو كان حيًّا ما استخَفَّ بِهِ
فَردٌ، ولا عاثَ فيه الظَّالِمُ النَّهِمُ

لقد مثَّل الجبروت الفرعوني نموذجًا لطغيان السلطان والمال؛ ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 39].


إنَّ الطاغية لا يطغى إلا إذا امتلك المال والجند والسلاح، وتكاد أن تكون هذه هي أعمدة وأوتاد وركائز الطغيان ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ ﴾ [ص: 12]، ﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾ [الفجر: 10 - 12].


إن الطاغية يحتاج إلى وزيرٍ منافقٍ، أو مستشارٍ بلا ضمير، يلبي رغباته، وينفذ توجيهاته (كهامان)، ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ﴾ [القصص: 38].


ومع هذا الوزير أيضًا: حَشْدٌ من الجنود والأعوان والأتباع، الذين يتعالَون على الناس، وينكِّلون بهم: ﴿ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [القصص: 39].


وعادة أعوان الطاغية أن يكونوا من الانتهازيين، والنفعيين الذين يزينون له ما يهواه، ويُحسِّنون له القبيح، ويستثيرون مكامن طغيانه، كي يفسد ويبطش: ﴿ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127].


ويمثِّل سماسرةُ الحروب، وتُجَّار الأزمات، محورًا ارتكازيًّا في التركيبة الطغيانية، فهم المموّلون، والانتهازيون، والابتزازيون والمستفيدون: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76].


ومع أنه سبق له التحذير: ﴿ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]، إلا أنه كان أداة إفساد، ومصدر طغيان.


وما أشدَّ طغيان المال! ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6، 7].

 

أنالَكَ رزقَه لتقومَ فيه
بطاعتِه وتشكرَ بعضَ حَقِّهْ
فلم تشكُرْ لِنعمَتِهِ ولكنْ
قَوِيتَ على معاصيه بِرزقهْ

 

أيها المسلمون، ومن أبرز الملامح ظهورًا، وأجلاها حضورًا، وأبينها اشتراكًا، وأكثرها استخدامًا، في المدرسة الطغيانية الفرعونية: البطش بالمخالف، والتنكيل بالمستضعفين، واستخدام القوة في مواجهة الحق أهله: ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ﴾ [الأعراف: 127]، ﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ [طه: 71]، ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 25-26].


وهذه الكلمة هي بعينها كلمةُ كل طاغية مفسد، عن كل مريدٍ للخير، داعٍ إلى الحق، وهي بعينها كلمة الباطل الكالح، في وجه الحق الجميل، وهي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ، ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [البقرة: 118] فتطابقت أقوالُهم، واتَّحدتْ أفعالُهم.


والطغاة كما يستخدمون قوتهم للقهر والبطش والترويع، فإنهم -كذلك- يستنفرون طاقاتهم وجهدهم في محاربة الحق، والانتصار للذات: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ [يونس: 79]، ﴿ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، ﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾ [طه: 60]، ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ﴾ [طه: 64]، ﴿ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 41، 42].


أيها الناس، إن خدمة السلطان الباطل، والطاغوت الغالب، هي وظيفة المحترفين من رجال الدين! وكلما انحرفت الأوضاع عن إخلاص العبودية لله، وقام سلطان الطاغوت مقام شريعة الله؛ احتاج الطاغوت إلى هؤلاء المحترفين، وكافأهم على الاحتراف، وتبادل وإياهم الصفقة؛ هو يعطيهم المال ويجعلهم من المقربين، وهم يقرون سلطانه باسم الدين! ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [الأعراف: 169].


لقد أكَّد فرعون -لهؤلاء التجار- أنهم مأجورون على حرفتهم، ووعدهم مع الأجر القربى منه، زيادة في الإغراء، وتشجيعًا على بذل غاية الجهد، وهو وهُمْ لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والبراعة والتضليل، إنما هو موقف المعجزة والرسالة، والاتصال بالقوة القاهرة، التي لا يقف لها الساحرون ولا المتجبرون! ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18].


ولقد اطمأن السحرة على الأجر، واشرأبت أعناقُهم إلى القربى من فرعون، واستعدُّوا للحلبة، فتوجَّهوا مباشرةً إلى موسى -عليه السلام– بالتحدي: ﴿ قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ﴾ [الأعراف: 115].


ويبدو التحدي واضحًا في تخييرهم لموسى، وتبدو -كذلك- ثقتُهم بسحرهم وقدرتهم على الغلبة، وفي الجانب الآخر تتجلى ثقةُ موسى -عليه السلام-، واستهانتُه بالتحدي: ﴿قَالَ أَلْقُوا﴾[الأعراف:116]، تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه، المطمئن إلى معيته: ﴿ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27].


قالها، وسلَّم أمره إلى المستعلي على كل متكبر، القاهر لكل متجبر، ولسانُ الحال:

أنا محميٌّ بدرعٍ
من يقينٍ وثباتِ
معي الله فلم لا
أتحدى النائبات؟!
هل ترى الإعصار يومًا
هزَّ شمَّ الراسيات

 

﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ [الأعراف: 116]، ﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ [طه: 66]، ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 81، 82].

 

ومن هذه النقطة، وهذا الحدث، يبدأ التحول الجذري، وتدخل مرحلة أخرى من مراحل صراع الحق مع الباطل، وتبرز أهمية الإيمان في الثبات أمام الطغيان، ويتجلى دور اليقين في تسكين أفئدة المستضعفين، وأن الاعتصام برب العالمين هو عدَّة المؤمنين، وملاذ الصادقين.

 

وهذا ما سيكون الحديث عنه في الجمعة القادمة، بحول الله وطوله، وتوفيقه وعونه.

 

﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [يونس: 85، 86].



[1] رواهما البخاري (2004 - 3943)، ومسلم (1130).
[2] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (14/ 324).
[3] رواه أحمد (4246)، وأبو داود (3722)، وأبو يعلى (5231)، والطبراني في الكبير (8468)،والطيالسي (328)، والبيهقي (18014)، وابن أبي شيبة (36697).
[4] مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (22/ 104).
[5] ينظر: تفسير الطبري (20/ 21).
[6] ذكريات علي الطنطاوي (3/ 347).
[7] أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8868)، وأحمد في المسند (18715)، والترمذي (3925)، وقال: حسن صحيح غريب، وابن ماجه (3108)، وأبو يعلى في مسنده (2662)، والحاكم (4270)، وقال: صحيح، ووافقه الذهبي، وابن حبان (3708)، وصححه الألباني في صحيح المشكاة (2725).
[8] رواه الترمذي (3926)، وقال: حسن صحيح غريب، وابن حبان (3709)، والطبراني في الكبير (10633)، والبيهقي في الشعب (3724)، وصحَّحه الألباني في صحيح المشكاة (2724).
[9] آثار الإمام البشير الإبراهيمي (2/ 334).
[10] النظرات (2/ 344).
[11] رواه مسلم (2586)، وأحمد (18434).
[12] البيان والتبيين (2/ 168).




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • المواساة (خطبة)
  • الرحمن بكشف تجليه، والرحيم بلطف توليه
  • من نماذج سورة البقرة
  • الخسران المبين: في رحاب سورة العصر (2) (خطبة)
  • خير من ألف شهر (خطبة)
  • عرفات.. سحائب عطايا مرسلات (خطبة)
  • على ضفاف عاشوراء {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • عاشوراء بين ظهور الحق وزوال الباطل (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الظلم مآله الهلاك.. فهل من معتبر؟ (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المرأة بين حضارتين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رجل يداين ويسامح (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • سلسلة شرح الأربعين النووية: الحديث (25) «ذهب أهل الدثور بالأجور» (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: أهمية العمل التطوعي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من مشكاة النبوة (5) "يا أم خالد هذا سنا" (خطبة) - باللغة النيبالية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: أفشوا السلام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • السهر وإضعاف العبودية لله (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطورة إنكار البعث (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • أكثر من 70 متسابقا يشاركون في المسابقة القرآنية الثامنة في أزناكاييفو
  • إعادة افتتاح مسجد تاريخي في أغدام بأذربيجان
  • ستولاك تستعد لانطلاق النسخة الثالثة والعشرين من فعاليات أيام المساجد
  • موافقة رسمية على مشروع تطويري لمسجد بمدينة سلاو يخدم التعليم والمجتمع
  • بعد انتظار طويل.. وضع حجر الأساس لأول مسجد في قرية لوغ
  • فعاليات متنوعة بولاية ويسكونسن ضمن شهر التراث الإسلامي
  • بعد 14 عاما من البناء.. افتتاح مسجد منطقة تشيرنومورسكوي
  • مبادرة أكاديمية وإسلامية لدعم الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في التعليم بنيجيريا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 25/1/1447هـ - الساعة: 16:0
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب