إضاءات في الوعي .. مداخل أساسية وقضايا شائكة

إضاءات في الوعي

مداخل أساسية وقضايا شائكة

ثمة أسئلةٌ كثيرة، وقضايا شائكة، تطرح نفسها بإلحاح على "الوعي" الإسلامي المعاصر، وهو يحاول استئناف دوره في "الشهود الحضاري"، وفي حَمْلِ مشعل الهداية للبشرية جمعاء، بعد تجربة فريدة في التاريخ الإنساني.

في هذا الصدد، تبرز أهمية وآنية المحاولات والأطروحات التي قدّمها الكتاب الذي صدر مؤخرًا: "إضاءات في الوعي.. مداخل أساسية وقضايا شائكة"، للباحث السنوسي محمد السنوسي، عن "دار البشير" بالقاهرة.. وهو بالمناسبة أحد كُتَّاب "الألوكة" لمدة امتدت لأربع سنوات.

الكتاب - عبر أربعة فصول، بعد التوطئة - يحاول أن يقدِّم إسهامًا فكريًّا وثقافيًّا مع قضايا التأسيس الفكري، ومع أسئلة التغيير والحضارة، ومع علاقتنا بالغرب، إضافة إلى أنه يقدّم جرعة واعية من الأمل في "المستقبل"، الذي أصبح الاشتباك معه "ضرورة لا ترفًا"، كما جاء بالكتاب.

في الفصل الأول: "في المصطلحات والتأسيس الفكري"، فرَّق الباحث بين الإسلام والفكر الإسلامي؛ مبينًا خطورة الخلط بينهما؛ لأنه يؤدي إلى تشويه الإسلام، وتحميله أخطاء أبنائه.

وأوضح الباحث أن الإسلام والفكر الإسلامي بينهما مساحة من التداخل، وأيضًا مساحة من التمايز.. ويأتي التداخل من كون الفكر الإسلامي يقوم على الإسلام؛ مصدرًا وتشريعًا وتوجيهًا.

أما مساحة الاختلاف والتمايز بينهما - بحسب الكتاب - فتأتي من أن الإسلامَ هو الدين الذي ارتضاه اللهُ لعباده، وهو الرسالة الخاتمة المحفوظة الباقية المهيمنة إلى يوم الدين، بينما الفكر الإسلامي هو تعاطي العقل البشري مع الإسلام.. ومن ثم فالفكرُ الإسلامي ليس منزَّهًا عن الوقوع في الخطأ، دون أن يكون ذلك طعنًا في الإسلام، الدين والقيم والمبادئ.

بجانب ذلك، حذَّر الباحث من عدم التدقيق في المصطلحات الوافدة، وفي مضامينها المنبثقة عن بيئة فكرية مغايرة تمامًا من ثقافتنا وحضارتنا؛ موضحًا أن الإسلام قد يلتقي مع بعض المصطلحات والمناهج الحديثة، لكنه يظل منهجًا مغايرًا متميزًا، لا يصحُّ إلحاقه بغيره من المناهج.

أما عن أهم "أسئلة التغيير والحضارة" - التي تشكل الفصل الثاني - فتناول الباحثُ عددًا من القضايا المعاصرة المهمة، مثل: معادلة التغيير "الاجتماعي والسياسي"، و"تغيير المنكر" وضوابطه ومحدداته.

كما تطرق الباحث إلى "الحِوار"، الذي وصفه بأنه "فريضة غائبة حانَ أذانُها"، خاصة "بعد أن انزوَتْ عن سمائنا، مع غياب شمس حضارتنا وأُفول نَجمها، حتى رأينا هذا الضيق بين أبناء الأسرة الواحدة، فضلاً عن أبناء المجتمع الواحد، ناهيك عن أبناء الوطن الواحد والحضارة الواحدة".

إضافة لتلك القضايا، حذَّر الباحث من التهاون في أمر الدماء؛ فالإنسان هو صنعة الله، وهو عماد العمران - معنويًّا وماديًّا - ولا يجوز سفكُ الدماء إلا بالحق الذي وضَّحَتْه وفصَّلَتْه شريعة الإسلام على نحو قاطع، منعًا من التلاعب في تلك المسألة ذات الخطورة.

وبحسب نص الكتاب، فـ: "الاعتداء - بغير حق - على هذا المخلوق المكرَّم، وتلك الصَّنعة المميَّزة من بين الكائنات على ظهر الأرض: اعتداءٌ على أمر الله في الخَلق والتكوين والمشيئة، بل إن الاعتداءَ على النفس والاستهانة بالدماء، حرامٌ على الإنسان حتى منه على نفسه وبيده! فكما يَحرم على أحد أن يعتدي على أحد، كذلك يحرم على الإنسان أن يعتدي على ذاته".

كما تطرق الباحث إلى مسألة "الحرية" وأهميتها في البناء الحضاري، وإلى "الإعلام" وضرورة التفرقة بين الخبر والرأي، وإلى "دور منظمات المجتمع المدني" والإشكاليات التي تعرقل فعاليتها؛ فإذا كان المجتمعُ المدني هو "حلقة الوصل" بين الجماهير - كأفراد، أو حتى كوحدات صغيرة من الأسرة والعائلة - وبين الدولة، كإدارة مركزية تدير المجتمع، وتتحكم في موارده، وخريطته السياسية والاجتماعية بوجه عام.. فإن أهمية "حلقة الوصل" هذه تنبُعُ من أنها كلما اتسعت وتَمتَّنت، كان بمقدورها أن تحدِث توازنًا بين سلطة الدولة وميلها بالضرورة إلى التغول وإحكام السيطرة على المقدرات والمصاير، من جهة، وبين حقوق الشعوب وتطلعاتها في العيش الكريم والتمتع بحقوقها السياسية والاجتماعية، من جهة أخرى.

أما في الفصل الثالث، فأشار الباحث إلى بعض القضايا في العلاقة مع الغرب، وقدم "قراءة في بواكير المواجهة مع الغرب"، وذكر أن "المفكرين الغربيين الذين أسلموا" هم إحدى وأهم "صور لقاء الشرق والغرب".

كما أشار إلى قضية "المرأة بين الإسلام والغرب"، مبينًا أن بعض التجارِب - التي وُلدت من رَحِم المعاناة - تعكس بصدقٍ ووضوحٍ الفروقَ الهائلة بين هاتين النظرتين للمرأة.

أما في الفصل الرابع والأخير: "في الأمل والمستقبل"، فتطرق فيه الباحث إلى قضية "الخطاب الإسلامي والمستقبل"، مؤكدًا أنها باتت ضرورة لا ترفًا؛ فالإسلام منذ بدايته لم يُعْنَ فقط باللحظة الراهنة، وكيفية التعامل معها، بل عُنِيَ - إضافة إلى هذا - بتوجيه الأنظار نحو المستقبل، وحثِّ الهمم لاستشراف الغد المجهول... فمع تنزُّلِ القرآن الكريم كان الحديث المتكرر والتنبيه الدائم إلى الدار الآخرة، وما بعد الموت من جنة أو نار، وتأثير ذلك على حاضر الإنسان في الحياة الدنيا.

بل تحدَّث القرآن عن الصراع بين الفُرس والروم وطبيعة المواجهة بينهما، وأخبر عن انتصار الروم في بضع سنين، وفي هذا - كما يقول الباحث - توجيهٌ للمسلمين لمدِّ أبصارهم خارج حدودهم الجغرافية، وكذلك الزمنية، ومتابعة ما يجري فيها من تطورات وانعكاسات على علاقة المسلمين مع الآخرين، وعلى سير الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج.

كمد شدّد الباحث على أهمية ما أسماها: "صناعة الأمل"، مبينًا أن "ضمان فاعليةِ الأمة" يتمثل في العمل على ترسيخ "الأمل" عند أبنائها - لا سيما عند الأجيال الناشئة - في قدرتها على تجاوز منعطفها التاريخي؛ وذلك بما حباها الله من إمكانات معنوية ومادية لم تتوافر لغيرها من الأمم.

♦♦ ♦♦ ♦♦

تبقى الإشارة إلى أن الكِتاب جاء في لغة رصينة، استطاعت - إلى حد كبير - أن تمزج الفكر بالأدب؛ في أسلوب ينبئ عن مولد كاتبٍ رصين، ننتظر منه المزيد بفضل الله.

كما حرَص الباحث على تأصيل أفكاره من القرآن الكريم والسنة النبوية، وعلى الاستشهاد بنقولاتٍ من إسهامات كبار المفكرين.. معالجًا ذلك وعينُه على الواقع المعاصر، بقضاياه المتعددة الشائكة.

على أن القضايا التي تناولها الباحثُ - رغم أنه عالجها بشيء من التفصيل - ما زالت تحتاج منه - ومن الباحثين الجادِّين - إلى مزيدٍ من المتابعة والدراسة؛ حتى يمكن أن نقدم للعقل المسلم المعاصر وعيًا راشدًا ناضجًا، يكون له خيرَ زادٍ في دورته الحضارية من جديد.