كتاب " تاريخ بيت المقدس " ليس لابن الجوزي

كتاب "تاريخ بيت المقدس"

ليس لابن الجوزي[1]

كَثُرَت المؤلفاتُ التي وضعها العلماءُ في فضائل بيتِ المقدسِ وتاريخها ابتداءً من القرن الثالث الهجري إلى القرن الرابع عشر.

وقد كانتْ هنالك جهودٌ مشكورة ومساعٍ مبرورةٌ لرصدِ هذه المؤلفات والتعريفِ بها وبيانِ نُسَخِها الخطيةِ، كجهودِ الدكتور كاملِ العسلي، والدكتور محمود إبراهيم، ثم الشيخ شهاب الله المدني.

والذي يُلاحَظ أنّ التوجَّهَ إلى إِخراج هذه المؤلفات إلى عالم النور لم يزلْ دون المستوى المطلوب، وما زالتْ لدينا كتبٌ مهمةٌ تنتظرُ همَّةَ الباحثين المدققين الغيارى لتحقيقها وخدمتها ودراستها ونشرها.

وأضربُ على ذلك مثالاً بكتاب "الروض المغرَّس في فضائل البيتِ المقدَّس" للإمام عبد الوهاب بن عمر الحسيني الشافعي (المتوفى سنة 875هـ)، وهو من الكتب المهمة في هذا الباب، وعليه عوَّلَ الشيخُ محمد بن أحمد السيوطي المنهاج) المتوفى سنة 880هـ) في كتابه "إِتحاف الأخِصَّا بفضائلِ المسجدِ الأقصى"، وقد طُبِعَ هذا الأخير، ولم يزلِ الأولُ مخطوطاً![2].

كما يُلاحَظُ أَنَّ عدداً ممَّا خَرَجَ مِنْ هذه الكتب لم يكنْ إخراجُهُ يتناسبُ ومكانةَ موضوعِهِ، فكتابُ "الأُنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" - وهو مِنْ أهم المؤلفاتِ في هذا المجال - لم يُخدَمْ إلى اليوم - فيما أعلمُ - الخدمةَ اللائقةَ به.

وإذا تولى الأمرَ باحثٌ من غيرِ أهلِ هذا التراثِ تشعبت الملاحظاتُ، وتنوَّعت الإيرادات.

أَخلصُ مِنْ هذا إلى ذكرِ الكتابِ موضوعِ هذا البحث، وهو "تاريخُ بيتِ المقدس" فأقول:

هذا كتابٌ تحتفظُ بنسختِهِ الخطيةِ الوحيدةِ المكتبةُ الوطنيةُ بتونس ضمن مجموعٍ، ويقُع في (17) لوحةً، وقد جاءَ عنوانُهُ مطوَّلاً، وتخللَ العنوانَ نسبتُهُ إلى ابنِ الجوزي، هكذا:

"كتاب تاريخ بيت المقدس، وذكرُ بنائه وفضل الصلاة فيه من جمع الشيخ الإمام العالم الفاضل أبو الفرج [ كذا ] عبدالرحمن بن الجوزي قدَّسَ الله سرَّه العزيز وذكرُ دخولِهِ وما وَرَدَ في ذلك من الأخبارِ النبوية والآثار المحدية [كذا وكأنَّهُ يريدُ المحمدية] شَّرفه الله تعالى وعظَّمه وكرَّمه وحماهُ بمنِّه وكرمِهِ. آمين رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل".

ويقع الكتابُ في ثلاثةَ عَشَرَ فصلاً، محذوفةَ الأسانيد.

وقد فُرِغِ مِنْ نَسْخِهِ في العاشر من محرّم سنة (885هـ) بالقاهرة.

وحين نقرأُ الكتابَ قراءةً كاملةً مُتفحِّصةً تتبادرُ إلينا ملحوظاتٌ عدةٌ منها:

1- طولُ العنوان بما لم يُعْهَدْ عن ابنِ الجوزي، وتخلُّلُ اسمِ المؤلِّف ذلك العنوان، والخطأُ النحويُّ في كنيةِ ابن الجوزي!.

2- ذَكَرَ المؤلف في مقدمته أنَّ كِتابَهُ منتخبٌ من كتابين هُما:

• "المستقصى" لبهاء الدين ابن عساكر.

• وكتاب المشرَّف بن المرجَّى.

والنقلُ عن الثاني لا غرابةَ فيه، فهو مُتقدمٌ على ابن الجوزي.

أَمَّا النقلُ عن بهاء الدين ابن عساكر فيثيرُ التساؤلَ لأَنهُ معاصرٌ لابن الجوزي، ولكنه أصغرُ منه، ومن غير المعقول أَنْ يلجأَ عالمٌ مثلُ ابنِ الجوزي إلى الانتخابِ مِنْ كتابِ عالمٍ يصغُرهُ سناً ومكانةً وشهرةً.

وُلد ابنُ الجوزي سنة (508 هـ) وتوفي سنة (597 هـ)، ووُلِد ابنُ عساكر سنة (527 هـ) وتوفي في سنة (600 هـ).

3- حذفُ الأسانيدِ يُثير التساؤلَ أيضاً، فابنُ الجوزي كان حريصاً على ذكر الإسنادِ حتى في كتبٍ لا أهميةَ لذكر الإسناد فيها ككتابهِ "أخبار الحمقى والمُغَفَّلين". إلا أن يُقال: إنَّ الحذف من النُّسّاخ، وقد حصل هذا في كتب أخرى.

4- نحن نعلمُ أنَّ لابن الجوزي كتاباً ثابتَ النسبِة إليه اسمُهُ "فضائل القدس" وقد جعله سبعةً وعشرين باباً، وهو كتابٌ علميٌ، ونَفَسُ ابن الجوزي واضحٌ فيه تماماً، ويُوجدُ تداخلٌ ملحوظٌ بين عناوينِ أبوابِ "فضائل القدس" وفصولِ "تاريخ بيت المقدس"، فما معنى أَنْ يكون لمؤلفٍ واحدٍ كتابان في هذا؟

وقد يُقال: إِنَّه أَلَّفَ كتاباً مختصراً ثم وسَّعه، أو موسعاً ثم اختصره. وقد تَكفل البحثُ بالجوابِ على هذا.

5- ومن الملحوظات البارزة عدمُ إنطباق عنوان الكتاب "تاريخ بيت المقدس" على مضمونه، فهو كتابُ فضائل وليس بتاريخ، حتى إننا لا نجدُ فيه ما وجدناه في "فضائل القدس" من أبوابٍ يَصْدقُ عليها أنها من التاريخ، أو قريبةٌ منه.

6- ثم إننا نجدُ في الفصل الأول من الكتاب نقلاً عن كتاب "المغني في غريب المهذب"، وهذا لابن باطيش، وكان له حين وفاة ابن الجوزي اثنتان وعشرون سنة، ولا يُعقل أَنْ يحتاج ابنُ الجوزي إلى النقلِ عنه! هذا إذا كان ابن باطيش ألَّفَ كتَابهُ آنذاك.

7- ونجدُ كذلك في الفصل الثاني نقلاً عن كتاب "فضل الخيل"، وهذا الكتابُ للدمياطي - وإِنْ كان لم يُصَّرحْ باسمِ المؤلِّف، والنقل موجودٌ فيه - والدمياطي وُلِدَ بعد وفاة ابنِ الجوزي بـ (16) سنة!!

8- ونرجعُ بعد هذا إلى الكتب التي ترجمتْ لابن الجوزي وهي (56) كتاباً فلا نرى فيها ذكراً لكتابٍ بهذا العنوان، إِلَّا عند مؤرخٍ متأخرٍ هو جميل العظم (المتوفى سنة 1352هـ ).

والظاهرُ أنه ذكرَهُ اعتماداً على هذه النسخةِ التونسية.

النتيجة:

إِنَّ هذا كله يقودنا إلى القول بأَنَّ هذا الكتابَ ليس لابن الجوزي، وإذا لم يكن له فلمن هو؟

نُقلِّبُ كُتُبَ فضائلِ بيتِ المقدسِ فيستوقفنا كتابُ "باعث النفوس إلى زيارةِ القدسِ المحروس" لإبراهيم بن عبدالرحمن الفزاري المعروف بابن الفركاح المولود سنة (660هـ) والمتوفى سنة (729هـ).

ونرى مُقدمة "تاريخ بيت المقدس" هي مقدمةُ "باعث النفوس"، ولكنَّ الديباجةَ (الحمدلة والصلوات والترضي) مختلفةٌ تماماً.

ونقابلُ "التاريخ" بـ "الباعثِ" فنكتشف أنهما واحد، إِلا أَنَّ "التاريخَ" قد أَخلَّ بعددٍ من الأحاديثِ والأخبارِ والآثار، فما معنى هذا؟

إِنَّ تفسيرَ هذا - باختصارٍ - أنّ ما سُمِّيَ بـ "تاريخ بيت المقدس" ونُسِبَ إلى ابن الجوزي (المتوفى سنة 597هـ) هو نسخةٌ منتخبة أو مختصرة من "باعث النفوس" لابن الفركاح (المتوفى سنة 729هـ ).

وبذلك ينحلُّ اللغز، وتنكشفُ الحقيقةُ، وتَتَّسِقُ النقولُ، ويُصَحَّحُ الخطأُ الذي استمرَّ (542) سنةً!

وقد طُبع هذا الكتابُ سنةَ (1421هـ - 2001م) في القاهرة بتقديم وتعليق وتحقيق الدكتور محمد زينهم محمد عزب!!

ولم ينتبه المحقِّقُ إلى شيءٍ من ذلك مطلقاً!!!

وهذا غير التحريفات التي وقعتْ منه - وقد أحصيتُ له (148) تحريفاً -! وغير الأسقاط - وهي في (18) موضعاً - على صِغَر حجمِ الكتابِ!!

هذا عن نسبة الكتاب، ويبقى الكلامُ على قيمته العلمية، وهو ضمن البحث.

ومما يُذكَرُ هُنا أنَّ موقع مؤسسة فلسطين للثقافة في الإنترنت قد أنزلَ هذا الكتابَ منسوباً كذلك إلى ابن الجوزي - مع حذفِ الديباجة والمقدمة! - مِمَّا يزيدُ في تضليل القراء والباحثين.

هذه خلاصةُ البحثِ الذي أشرُفُ بتقديمه إلى هذا المؤتمرِ العلمي المهم المبارك الذي رجوتُ الحضور فيه لولا بعض العوائق.

وأختم كلمتي بكلمةٍ للإمامِ الزاهدِ العابدِ الكبير بشر بن الحارث الحافي البغدادي وهي قولُهُ: "ما بقي من لذات الدنيا إلا أَنْ أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس".

فهل يتحققُ لنا هذا الأملُ المنتظرُ؟ نرجو ذلك.