شوارد وفوائد: من كتاب قيد الصيد (25)

شوارد وفوائد: من كتاب قيد الصيد (25)

أَنْفُسٌ مَاتَتْ بِحَسَراتِها:

في طبقات الحنابلة في ترجمة محمد بن عبدالباقي البصري المعروف بقاضي المارستان ت 535 هـ، وهو من سلالة الصحابي الجليل كعب بن مالك، أنه لَمَّا مَرِض أوصى أن يُكتَب على قبره قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ﴾ [ص: 67، 68][1].

وفي الطبقات أيضًا في ترجمة ابن الجوزي 597هـ، أنه أوصى أن يُكتَب على قبره:

يا كثيرَ العفوِ عمَّن كَثُر الذنبُ لديهِ جاءك المذنبُ يرجو الصْ صَفْحَ عن جُرمِ يديهِ أنا ضيفٌ وجزاءُ الض ضَيْفِ إحسانٌ إليهِ[2]

وفي "المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" انتقاء ابن الدمياطي في ترجمة جعفر بن محمد العباسي 572 - 598؛ أنه أوصى عند موته أن يكتب على قبره: حوائج لم تُقضَ، وآمالٌ لم تُنلْ، وأنفسٌ ماتتْ بحسراتِها[3].

وفي البداية والنهاية[4] في ترجمة نجم الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عمر 729، أنه أعدَّ لنفسه قبرًا، وكتب عليه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53][5].

♦  ♦  ♦

وأمرهم شورى بينهم:

قال الأستاذ مصطفى السباعي - رحمه الله تعالى - في كتابه: "السُّنَّة ومكانتها في التشريع"، في معرض رَدِّه بعض الشبهات الواردة على السُّنة، قال:

"ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أول خلاف وقع بين الصحابة اختلافهم فيمَن يتولى الخلافة عنه، ومع أنه كان خلافًا في أمرٍ من أشد شؤون الجماعات والأمم خطرًا، وهو الرئاسة العليا للدولة، فقد كان حديثهم وتبادلهم للآراء، وحُرمة الصحبة، ونشدان الحق؛ لا نعرف له مثيلاً في تاريخ المجالس النيابية في العصر الحاضر، فكيف بتلك العصور التي لم تعرفْ فيها الأمم مبدأ الشورى؟ ولا كان للشعوب حق في اختيار ولاتها وأمرائها؟

إنك لتقرأُ في مصادر التاريخ الصحيحة أخبارَ سَقِيفة بني ساعدة، كيف اجتمع فيها الأنصار عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليختاروا من بينهم أميرَ المسلمين، وخليفته بعده، وكيف سارع شيوخ المهاجرين - وعلى رأسهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة - إلى إخوانهم الأنصار، وكيف استمعوا إلى حججهم بأدب واحترام، وكيف أدلَى أبو بكر برأيه ورأي المهاجرين، فوفَّى الأنصار حقَّهم من فضل النصرة للإسلام، والذود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيواء المهاجرين والترحيب بهم، ثم ذكر فضل المهاجرين بلا تبجح ولا غرور، وذكر أن العرب لا يدينون إلا لهذا الحي من قريش، وأنه إن كان الأمير من الأوس نفست عليهم الخزرج، وإن كان من الخزرج نفست عليهم الأوس.

ثم كيف عدل الأنصار عن رأيهم في الانفراد بالخلافة إلى أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، وكيف أجابهم المهاجرون بأن هذا أول الوهن والضعف، وكيف اقترح أبو بكر على الحاضرين أن يبايعوا عمر أو أبا عبيدة، فإذا عمر يقول لأبي بكر: أنتَ أفضل مني، فيقول أبو بكر لعمر: ولكنك أقوى مني، فيقول عمر: إن قوتي مع فضلك، ثم يسرع فيبايع أبا بكر فيُبايعه المهاجرون، فيتسابق الأنصار إلى مبايعته؛ حتى إنهم ليكادون يطؤون زعيمَهم سعد بن عُبَادة وهو الذي كان مرشحًا للخلافة، فينتهي الأمر بإجماع مَن في السقيفة على مبايعة أبي بكر، فيبايعه الجمهور بعد ذلك.

وبذلك تمت الخلافة له، وانتهى هذا المشكل الخطير دون أن تراق قطرةُ دم، أو تشتبك الأحزاب فيما بينها، أو توغر الصدور بالتُّهم الباطلة والتحامل المثير.

إنك لتقرأ هذا وأمثاله، فإذا هو يعطيك صورة واضحة لأدب القوم، وسُمُوِّ نفوسهم، وتماسُك مجتمعهم، وقوة صلات التعاون والإخاء فيما بينهم.

♦  ♦  ♦

وما هي من الظالمين ببعيد:

قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى - في "السير" في ترجمة الإمام الكبير الحافظ عبيدالله بن عبدالكريم أبي زرعة الرازي 264هـ:

"قال الحاكم: حدَّثنا أبو حاتم الرازي سمعت أبا محمد بن أبي حاتم، سمعت أبا زرعة يقول: بينا أنا قائم أصلي، وأنا أقرأ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278، 279]؛ فوقف متعجبًا من هذا الوعيد ساعة، ورجعت إلى أول الآية ثلاث مرات، فلما كانت المرة الثالثة، وقعت هزة من الزلزلة، فبلغني أنهم عدوا بضعة عشر ألف جنازة، حملت من الغد بالري".