• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    ‌مؤلفات ابن الجوزي في التراجم المفردة
    أ. د. عبدالحكيم الأنيس
  •  
    أم المحققين الباحثة البتول التي لم تدخل مدرسة ...
    أ. أيمن بن أحمد ذو الغنى
  •  
    التفاوض على الراتب أم قبول أي عرض؟
    بدر شاشا
  •  
    إشكاليات البناء المعرفي للشباب المسلم: قراءة في ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    خطبة: الغزو الفكري... كيف نواجهه؟ (1)
    يحيى سليمان العقيلي
  •  
    التفكير النقدي في مواجهة التفاهة
    ماهر غازي القسي
  •  
    مناهجنا التربوية وعقيدة يهود
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    نظرات في تحقيق عبد السلام هارون كتاب البرصان ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    نظرة المستشرقين للحضارة الإسلامية
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    قراءات اقتصادية (71) صعود الأمم وانحدارها
    د. زيد بن محمد الرماني
  •  
    أنواع السرطانات الرئيسية بالتفصيل مع أسباب كل نوع
    بدر شاشا
  •  
    التفوق الإنساني للحضارة الإسلامية أوقاف الحيوانات ...
    د. باسم مروان فليفل
  •  
    هل القلب هو محل العقل؟
    إبراهيم الدميجي
  •  
    مدارس الفكر الإداري بين التجربة الغربية والتوجيه ...
    د. أحمد نجيب كشك
  •  
    الحسن البصري - أخباره وأشهر أقواله
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    محور الحضارات
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

ذكريات ومواقف من دراستي في المرحلة المتوسطة والثانوية!

ذكريات ومواقف من دراستي في المرحلة المتوسطة والثانوية!
أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/12/2025 ميلادي - 19/6/1447 هجري

الزيارات: 28

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ذكريات ومواقف من دراستي في المرحلة المتوسطة والثانوية!

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد: فقد بعثَ إليّ فاضل جدولًا بأسماء خرّيجي (معهد المدينة العلمي)، الذي درَستُ فيه كلًّا مِن المرحلة المتوسطة، والمرحلة الثانوية؛ وبنظْرتي إلى هذا الجدول، وكان فيه اسمي، تحرّكتْ أشجاني؛ فتذكّرت الذكريات والدروس والعبر، وما كان مِن مكابدةٍ في هذه الفترة مِن عمري؛ فكتبتُ هذه الوريقات.

 

وبعد: فما مِن شأني أن أَشغل الناسَ بشخصي الفاني، وإنما أنشغل وأُشغل بما فيه دروس ومعانٍ، وأَعدّ ذلك مِن حصاد العمر وزكاته، وقد يكون لأحباب المرء حقٌّ في بعض حصاد عُمُره.

 

وجميلٌ لو جَعل الإنسانُ عمرَه وَقْفًا مِن بعده؛ لله رب العالمين؛ ولنفْع عباده، فربما يتأتَّى هذا النفع مِن دروسٍ يستخلصها مِن أخطاء نفسه، أو أخطاء غيره أو ما مَرّ به مِن تجارب وعِظات. وإنما الأعمال بالنيات.

 

وإنّ مما انجذبتْ إليه نفسي: العناية بقراءةِ سِيَرِ الناس، ولا سيما المتميزين منهم، مِن الأئمة وسِواهم، وقراءة تراجمهم؛ لأنّه، كما قِيل: "تراجم الرجال، مدارس الأجيال"!

 

ومِثل هذا، أنّي إذا صَحِبتُ أحدًا في سفرٍ، مثلًا، فإنّي أحرص على سؤال أُكرره، وهو: ماذا عن تجاربك وما انتهيتَ إليه في الحياة؟

 

(1)

وكنتُ في دراستي لهذه المرحلة، اتخذتُ قرارًا مع نفسي آنذاك بأن لا أُصاحب إلا مَن توافرت فيه صفات (هي شروطي لصُحْبتي)، فأرقُبُ زملائي مِن بعيد؛ فمن أراه متفلّتًا أتجنبه، وأمّا مَن أراه متحلّيًا بالأدب أختار صُحبته، فلستُ ممن يرتضي صُحبةَ مَن هبَّ ودبّ؛ وليس هذا شأن مَن يَلتمِس في حياته الحِكمة والسلامة! وقد أسعدني الله بهذا النهج، الذي وفّقني له بمحْضِ فضْله وإحسانه، سبحانه وتعالى، له الحمد والشكر!

 

وقد اخترت -تطبيقًا لهذا المبدأ- شخصًا مِن زملائي، اسمه/ فالح بن حمّاد بن عيّاد الجهني، رحمه الله، وكان ذا خلق فاضل وجدّيّة، فكنا نخرج سوية في أوقاتٍ للمذاكرة، نطلع في مكانٍ ما، نختاره، وليس معنا إلا الشاي وكُتُبنا ودفاترنا، ونتّفق على الاقتصاد في الكلام والأحاديث الجانبية فيما بيننا، ونضع رأسَنا في الدروس والمذاكرة، أو نضع دروسنا في رؤوسنا 😃 وأعجبني أنه كان جادًّا، سمحًا، نظيفَ الِهندام، نظيفَ اللسان، وكان متزوجًا، وكان معه دبّاب (دراجة نارية) وأنا كذلك، وكثيرًا ما كان يأتي معه بالشاي بالورد، وكان يَصب الشاي ورائحة الورد تَعبق منه، ولأول مرةٍ عرفتُ أنّ الورد يوضع في الشاي بدلًا من النعناع!

 

وإني لأذكر، بغبطةٍ وإجلال، هذا الزميل الكريم، صاحِبَ الخلق الفاضل، والعقل الراجح، الذي كان مقبلًا على شأنه؛ فلا شأنَ له بغيره، ويُضيف على ذلك ابتسامته الرضيّة!

 

فاللهم أسعده في قبره، وأسعد مَن بعده، واجعلهم خير خلف لخير سلف، اللهم ارضَ عنه وعنهم، واجزه خير الجزاء!

 

لقد حَبّب الله إليّ هذا المـَنْزع في الأخلاق والسلوك، وله الحمد والشكر؛ وفي ضوء ذلك أختار صِحابي، وكما قيل: الطيور على أشباهها تقع!

 

وتَبَعًا لهذا التوَجّه في الأخلاق والسلوك، فمِن الطبيعي أنْ أصحب مَن يوافق طبعه طبعي، ولا أنسى أنني كنت في بداية عُمُري -وما زلتُ- أستغرب تفوّهَ بعض الناس بكلماتٍ تَخرج عن حدود اللياقة، أو الحِشْمة، أو الأدب؛ حتى إني أرى أنّ النطق ببعض الكلمات يُوجِبُ المضمضة وغسْل الفم بعدها! لكنهم لا يفعلون، بل يستمرون سادرين في إيثار كلماتهم تلك!

 

والفضل في هذا لله وحده، سبحانه وبحمده!

 

وكم هي دروسٌ تلقّيتُها خارج الدروس مِن أخي هذا (فالح بن حمّاد الجهني)، الذي كان على اسمه فالحًا، وأمثاله، ممن صَحِبتُهم أو مررتُ بهم في حياتي!

 

ولقد عجبتُ مِن نفسي، التي هشّتْ وبشّتْ، بل وبكتْ وأنا أكتب هذه السطور عن بعض ماضي الشباب في تلك المرحلة مِن عمري، مستحضِرًا فضْل ذي الفضل عليّ، ولك أن تتخيل، أيها القارئ لهذه الحروف، قيمةَ هذه المعاني الإيجابية، وقيمة هذه السيرة التي أثّر بها الأفاضل فيّ، بل وكم لها من أثرٍ مِن بعدي فيمن بعدي؛ إذ ما من شكٍّ في أنّ مَن تعامل معي ومَن صَحِبني قد جَنى بعضَ هذا الأثر الحسَن، الذي اكتسبتُه مِن طِيب الطيّبين!

 

فخذوا العبرة والدروس، أيها الناس، وأيها الشباب، وأيها الكرام!

 

إذا ما صحبتَ القوم، فاصحَبْ خيارهم
ولا تصحب الأرْدى؛ فتردى مع الرديّ!

وقُلْ مثلَ هذا فيما يتعلق بنتائج صحبتي، وصحبة غيري، للكتب القيّمة وآثارها!

 

(2)

ثم بعد هذا الزميل اصطفيتُ زميلًا آخر، اسمه/ مَسْعد بن ناهض الجهني، وكان ذكيًا، متواضعًا، حريصًا على الاستقامة على طاعة الله، حييًّا، شاعرًا، وأحواله المادّية مستورة، وليس لديه وسيلةُ نقْل، فكان يأتي ويروح معي على دراجتي النارية.

 

وقال في مدحي قصيدة أو أبياتًا جميلة، مكتوبةٌ عندي، ولا أذكر الآن منها سِوى شطر بيت، هو: "عرَفتُ الحقيقةَ بعد الدراسة"، وفي هذا معنىً بديع، أي: أنه عرَف حقيقتي -على حدّ زعمه- بعد الدراسة، وفي هذا معنيان، فهو بمعنى دراسته لشخصيتي، ومعنى آخر بعد الدراسة معي! (وهذا بحسب تفسيري الآن لمراده). وعهدي به أنه كان موظفًا في المحكمة الشرعية.

 

وذكَر لي في الأحاديث الجانبية، أنه ليلةً في منتصف الليل، تذكّر أباه المطلّق أُمّه، ويسكن وحده في "الأصيفرين" (جبلان صغيران في الحرّة الغربية، وأظنّ أنهما قد أُزيلا في المشاريع)، بينما هو ساكن مع أمه في باب الكومة، تذكّر أباه في هذا الوقت، وتذكّر وُحْدتَه؛ فقلِقَ عليه، وتذكّرَ حقه عليه؛ فما كان منه إلا أن لبس ثوبه وخرج إلى أبيه ليطمئن عليه، رغم الظلام آنذاك، وكثرة الكلاب النابحة في الطريق؛ ورغم أنه صغير السن، ويقول: صادفتْني الكلاب تَنْبح وأرعبتْني، لكن، سلّمني الله منها! فمِن هذه عرفتُ فضلَه؛ وأحببته! اللهم اجزه خير الجزاء! وكان له فضلٌ عليّ بأخلاقه الكريمة، أحسنَ الله إليه ومَن معه، حيًّا أو ميتًا.

 

ومما أذكره مِن الطريف معه، أسعده الله، أنّا كنّا نذاكر مقرر الفقه، ومَرّتْ بنا عباراتٌ لم نعرف ضبطَها، وبعد محاولاتٍ، قال لي: الحلُّ عندي. قلت له: وما هو؟ قال: نحفظها كما هي 😃.

 

والعجيب أني بحثت عن اسمه في قائمة خرّيجي المعهد مِن دفعتنا، فلم أجده، ولا في الدفعة التي بعد دفعتي من الخريجين؛ فهل يُعقل أن يكون سقَط اسمه سهوًا! ولئن كان سقط اسمه مِن سجلّاتهم فإنه لم يَسقط مِن ذاكرة زميله الوفيّ، بإذن الله.

 

وقد درسْنا في المعهد المرحلتين: المتوسطة والثانوية في خمس سنوات؛ وذلك أنّ المرحلة الثانوية فيه سنتان، لكن زادوا سنةً ثالثة في سنَةِ تخرّجنا، لكنهم قالوا لنا في السنة الأخيرة: مَن ينجح منكم يا أصحاب الثانية ثانوي محقِّقًا نسبة 80 من 100؛ ينتقل إلى الكليات، ومَن ينجح بنسبةٍ أقل من 80 يَدْرس سنةً ثالثة؛ فنجح بعضنا محققًا نسبة الثمانين فما فوق، عددهم عشرة أشخاص فقط، كنتُ الرابع منهم؛ ففرحنا بهذا كثيرًا، وانتقلنا إلى التقديم للقبول في الكليات. والحمد لله رب العالمين.

 

(3)

وكنتُ مررتُ بظروفٍ وأحوال مختلفة في أثناء دراستي في معهد المدينة العلمي، ففترةً كنت لا أملك درّاجة، فكنت أمشي مِن (العنابس) على قدميّ إلى المعهد في طريق سيد الشهداء يوميًا ذهابًا وإيابًا، وهي مسافة ليست بالقليلة، وأحمل الكتب التي كانت تُثقل كاهلي، والحمد لله، وكنتُ أطويها في سجادةٍ جديدة، على مذهب بعض أصحابنا.

 

ثم امتلكتُ دراجة عادية ثم دراجة نارية، وكنتُ أتفنّن بقيادتها على مذهب أمثالي آنذاك، والحمد لله تعالى!


ورمقتُ، وأنا في الفصل وفي الفسحة، بعض زملائي مِن طرْفٍ خفيٍّ، فرأيتهم على شاكلةٍ أخرى؛ فاتخذتُ طريقًا أو فجًّا غير فجّهم، والحمد لله، وما زلتُ أتذكّر ما سمعته من بعضهم -مِن غير استماع إليهم- عن مغامراتهم المؤسِفة ومسالكهم غير السالكة في الحياة، فأفِرُّ منهم فراري من الأسد، وأحمد الله على السلامة!


﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18]! ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11]!

 

(4)

وكنت في الصباح أمرُّ للفطور في طريقي إلى المعهد بمحلّ بيعٍ لحليب البقر الطازج الساخن، يَعمله (فَتّة) وهي خبز بُرّ يَفتّهُ، أي: يقطّعه قِطَعًا صغيرة ثم يضع عليه السكّر ثم يصب عليه الحليب الساخن في إناء يُسمّى (زِبديّة)، وربما أضاف عليه المقْتدرون بعض الإضافات، رأيتهم يزيدون عليه السمن، وهو محل شخصٍ يمنيّ فاضل محترّم، ينادونه باسم (يا عم سعيد)، يكررونه وحفّظوني إياه، وكثيرًا ما يزدحم المحل، وهو ليس بالكبير كثيرًا، وأمامه ساحة واسعة تُطِلّ على الحرمِ عن قربٍ على ساحة (المناخة) بعد مكان مكتبة الملك عبد العزيز السابق إلى جهة الحرم على يمينِ الموجّه وجْهه نحو الحرم، كان يملأ هذه الساحة بالكراسي والطاولات، ويجلس عليها الزبائن! وكان سعيدٌ هذا سعيدًا بزبائنه، وهم سعداء به، ما رأيت فيهم إلا الرّزانة والهدوء والاحترام، لكنه يأخذ فلوسهم😃.

 

وكنت أغتبط، ولا زلتُ، وأحمد الله وأشكره على هذا الفطور اللذيذ الخفيف.

 

وأنا مِن شريحة طلابٍ في ذلك الوقت، لم نكن مرفّهين، ولا يُجهَّز لنا الفطور قبل ذهابنا إلى المدرسة، ولا تُقدَّم لنا هذه الخدَمات الفندقية، التي تُقدّم اليوم في البيت للأولاد قبل خروجهم إلى المدْرسة، ومع هذا ما هم مُرْضين هؤلاء الطلاب (الأولاد)، الذين يُرَبّوْن اليوم تربية الدجاج، إلا مَن عافاهم الله! وإنما، يتولى كلٌّ منا أمْرَ نفسه، أي: فطوره كيف شاء، على قاعدة (اخدمْ نَفْسَك)، وكان هذا مِن مجالات الحرية المتاحة لنا 😃، ﴿ وَإِنْ تَعُدّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تحصُوهَا ﴾ [النحل: 18].

 

وأنا في هذه الرواية عن حياتي في أثناء دراستي لهاتين المرحلتين، لم أتطرق إلى هذا النوع من الكلام عن المأكل والمشرب، وما إلى ذلك، سِوى هذا الموضع؛ لأن ذلك ليس هو المهم، وأنا لا يَشغلني باب: أكل يأكل، وإنما باب: درَسَ يَدْرس، وعقَلَ يَعقِل.

 

لكن، ذكرتُ هذا لتذكير نفسي وتذكير غيري بطبيعة الحياة آنذاك، والتنبيه على نعم الله المستجدة المتجدّدة المتعددة، المستوجبة الشكر لله على ما أنعم به أولًا وآخرًا، جلّ جلاله!

 

وبمناسبة ذِكْر ساحة المناخة هذه، أَذكرَ شيئًا طريفًا، وهو أنه قبل هذا الوقت بسنوات، كنت أنا وشقيقي (عطا الله) نمشي في هذه الساحة متجهين إلى المسجد النبوي، وكنّا قادمين من بيتنا في العنابس، ونحن صغار في مرحلة تعلّم القراءة والكتابة، ونتسابق على قراءة ما نراه في طريقنا من اللوحات التجارية، فواجهتنا لوحة مكتوبٌ عليها (محمد محمود أورفلي)، فقرأها أخي عطا الله؛ فقال بعدها: صلى الله عليه وسلم 😂، ظنه اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أصغر منّي سنًّا، وربما كنتُ أَدِلَّ عليه بذلك، فقلت له: هذا ليس رسول الله.

 

وهنا أقول: فذاك الصغير، الذي قرأ اسم ذاك التاجر؛ فصلّى عليه وسلّم؛ لأنّ اسمه محمد، هو الآن: د.عطا الله، الطبيب الحبيب، العبقري في عينِ أخيه، الذي نفع الله به البلاد والعباد، ولا أُزكّي على الله أحدًا، وقد وفقه الله إلى خيرٍ كثير في باب العلم والتعليم وإفادةِ الناس، فسبقني في كل شيء، أسعده الله وتقبّل منه وإياي والمسلمين.

 

وأنا هو ذاك الصغير الذي كان يتدرب على القراءة بقراءة ما يصادفه في الشارع من لوحاتٍ تجارية، أنا هو عبد الله الرحيلي، الذي صار كذا وكذا…

 

وهنا، لا أتجاوز هذا الحدَث، دون أن أهمس في أُذُن القارئ، فأقول: إنّ كل إنسان له مِن ماضيه ذكرى وموعظة؛ لكن، إنْ هو ذَكَرَ فتذكّر، أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فحمِد الله وشكَرَ؛ واستخْلَصَ مِن ماضيه الدروس والعِبَر!

 

(5)

وأذكر شيئًا آخرَ مهمًّا، والعلم به مفيدٌ لكاتبه وقارئه كثيرًا، وهو موضوع المسافة التي كنتُ أقطَعها يوميًا إلى المعهد، ذهابًا وإيابًا.

 

حيث أُقدّر المسافة مِن منزلنا إلى المعهد، مع تعرّجات الطريق، ما بين 10 و 12 كيلو متر، فتكون بالذهاب والإياب ضِعْف هذه المسافة؛ فلو كانت المسافة 10 كيلو متر، فهذا يعني أني أمشي يوميًا 20 كيلو، ولو كانت المسافة 12 كيلو، فهذا يعني أني أمشي يوميًا 24 كيلو متر، كلّ هذا لأدرس وأتعلّم، وبالرغم مِن المشقة إلا أني ما تعِبتُ وما تأفّفت.

 

وكنّا نستطيل الطريق، وكنّا نمشي ونمشي، ونشعر أنّ الكتب تُثقِل كواهلنا وما مللتُها، والحمد لله رب العالمين.

 

يا تُرى، كم سيكون مجموع مسافة المشي في السنة الدراسية!

 

وهل يُذكّرنا هذا برحلات أسلافنا الصالحين مِن المحدّثين والمسافات الطويلة التي يقطعونها في طلبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

لا شك في أنّ هذه المسافة التي كنت أمشيها طويلة، ويمكن تقديرها مثلًا في شهرين فقط على افتراض أنّ الدراسة 22 يومًا من الشهر، فنقول: 24 مضروبة في 44 يومًا (شهرين)= 1056 كيلو متر.

 

وعلى التقرير الآخر: 20 مضروبة في 44= 880 كيلو مترًا!

 

فكم تكون المسافة في السنة الدراسية كلها؟ احسبوها، إن شئتم. اللهم أسألك القبول.

 

ومع ذلك، فهذه المسافات ليست بشيء عند رحلات أئمة الحديث الشريف، الذين يرحلون مِن بلد إلى بلد؛ حتى أنّ بعضهم مشى مسافة بلاد الإسلام كلها طولًا وعرْضًا، ذهابًا وإيابًا!

 

خذوا على سبيل المثال: الإمام أبا حاتم الرازي، رحمه الله، الذي يقول عن بعض رحلاته في طلب العلم، أيْ: طلب الحديث النبويّ، إذ كانوا إذا أطلقوا كلمة (العِلم) في تلك العصور قَصَدوا بها الحديث النبوي! يقول: "أوّل سنةٍ خرجتُ في طلب الحديث، أقمتُ سبع سنين، أحصيتُ ما مشيتُ على قدميّ زيادةً على ألف فرسخٍ"! قال الإمام الذهبي: "قلتُ: مسافة ذلك نحو أربعة أشهرٍ سَيْرَ الجادّة"! أيْ أنّ تلك المسافة هي مسافةُ مشيٍ على الأقدام لمدة أربعة أشهرٍ دون تَوَقّف! لم يَدخل في هذا بقيّة سَيْرِه على قدميه في بقية رحلاته الواسعة!

 

لا تَعْرِضَنّ لِذِكْرنا في ذِكْرهم
ليس الصحيح إذا مَشَى كالمُقْعدِ!

(6)

ذكريات أُخرى في هذه المرحلة الدراسية:

مما مررتُ به، أو مَرّ بي مِن الذكريات والمواقف في هذه المرحلة:

جِدّيّة المنهج الدراسي:

كانت المناهج الدراسية قويّةً جادّة محببةً للنفس، ولا سيما في مقررات اللغة العربية والأدب، حيث كان مقررًا علينا في كل سنةٍ دراسية حِفْظ ستين بيتًا، على الأقل، مِن الشعر العربي الجزل، ولا سيما مِن شعر العصر الجاهلي والمعلّقات السبع، وكانت القصائد تُشرح لنا، وأحيانًا يُقدَّر أنْ يعطينا المقرر أُستاذٌ جيدٌ جادٌّ، له عنايةٌ بهذا المجال، أحسنَ الله إليهم، وجزاهم عنّا خير الجزاء.

 

وفي النحو كانت المقررات قويّةً أيضًا، حيث درَسْنا:

- النحو الواضح، لعلي الجارم، 3 أجزاء.

 

- شرْح ابن عقيل لألفية ابن مالك، رحمهما الله، في جزْأين في مجلّد كبيرٍ، ننوء بحمْله، ونَزهو به، حيث يَنْقلنا إلى مستوىً عالٍ في اللغة العربية! ومما أعجبني فيه، قوله عن لفظ الجلالة (الله): هو أَعرَفُ المعارف؛ لقد أطرَبتْني العبارة هذه!

 

- وفي البلاغة درسْنا مقررات قوية رائقة!

 

وكنتُ التزمتُ فترةً بالشروع في حِفْظ ألفية الإمام ابن مالك، رحمه الله، مخصِّصًا وقتَ ذلك بأوقات الفسحة بين الحصص، ولا سيما الفسحة الكبيرة، التي يَذهبُ فيها الطلاب إلى شراء الشاي وما قد يَتبعه مما يؤكل، وأمّا أنا فكنت أتنحّى جانبًا مختليًا بألفية ابن مالك، ولا أتذكّر قدْر ما حفظته منها، لكن لم يكن كثيرًا، ليتني حفظتها.

 

وكان مِن نتائج هذه المقررات أنْ لاحظتُ في آخر سنَةٍ دراسية، أنّ عددًا مِن زملائي قد أصبحوا شعراء، منهم زميلي السعيد المسْعِد (مَسْعَد الجهني)، وأمّا أنا فلم أَظفر بلقبِ شاعرـ لكن تَحرّكتْ عندي المشاعر، بالرغم مِن أنّ أبي رحمه الله كان في عيني عبقريًّا، وما زال، وكان شاعرًا، وله أبيات وقصائد في باب الحكمة رائقة، أمّا ابنه فتوقّف عند المشاعر، ولم يَظفر مِن الشعر بشيء، ومرّت به مواقف وصعوباتٌ أثارت أشجانه حتى كاد يتفوّه بالشعر، فعلِمت أنّ الوَقود المحرِّك للشعر لدى المرء هو المواقف البليغة التي تتسبب في قدْح زناد شاعريته، ومِنها بعض المعاناة حين دراستي بكلية الشريعة، فقلتُ:

لا شيء قد يَبقى على الإطلاقِ
الكلُّ يَفنى والمهيمن باقي!

يقولون لي إنه بيتُ شعرٍ صحيح!

 

ومواقف أُخرى، أهاجت أشجان الشعر لديّ، دون أن تَصنعُ منّي شاعرًا، لا داعي للإشغال بها.

 

وحين رسبتُ في اختبار القبول في مادة الحساب، حيث كنتُ زاهِدًا -وهي المرة الوحيدة التي رسبتُ فيها في دراستي- قلتُ كلامًا توهّمتُه شعرًا، وليس كذلك، ولا أتذكّره الآن، ومنه بقايا كلماتٍ في ذاكرتي، هي: خسِرتُ درجاتٍ في منهجِ الحساب...فكيف بي يا ربي في يوم الحسابِ! (مشاعر، وليست شعرًا).

 

قيل لي مرةً: هل أنت شاعر؟ قلتُ: لستُ بشاعر، لكني شاعر، ولا أستطيع أنْ أُخفي المشاعر!

 

وكان في المقررات الدراسية مقرر اسمه (الإنشاء)، ونتدرّب فيه على التعبير والإلقاء، وكان لي ذكريات طريفة مع هذا المقرر، فقد كان مجالًا للمواقف الطريفة والمحْرِجة؛ إذْ كان بعضنا عنده بعض العِيّ، وكنت أنا مِن هؤلاء، إضافةً إلى خجلٍ شديد؛ فيؤثّر هذا سلْبًا في قيامي في الفصل للتعبير عن الموضوع الذي يُحدّده الأستاذ، وكان ممن يشترك معي في هذا العِيّ زميلي عبد الله غُرم الغامدي إلا أنه صاحب مرَحٍ ونُكتة، ومِن مكْره بي، سامحه الله، أنه طلب منه الأستاذ أن يقف ويُعبّر عن الموضوع، فقام لكن لم يستطع أنْ يقول جملةً مفيدة، وإنما قال: و و! فقال له الأستاذ: مَن يُترجِم عنك؟ قال: زميلي عبد الله؛ وهذا لعلمه بحالي مِن العِيّ؛ فورّطني؛ فقال الأستاذ: قم يا عبد الله تكلّمْ، فلربما لم تكن حالي بأحسنَ مِن زميلي!

 

وفي دفتر التعبير، أو الإنشاء، كنّا نكتب تعبيرًا الموضوعات التي يَطلبها الأستاذ، وأحيانًا يَترك لنا الخيار، فمرّةً كتبتُ موضوعًا عن بعض آيات التبشير والإنذار، وتفاعلتُ معه وأتقنتُه، فقرأه أستاذنا جزاه الله خيرًا، فأُعجب به، وأمرني أنْ أقرأه على زملائي في الفصل، وهو يقول لهم: انظروا إلى التعبير الجيد، هكذا نريدكم.

 

وكان في دفتري موضوعات مِن تعبيري، وبعض المحاولة الفاشلة لقول الشعر، وكنتُ حريصًا على هذا الدفتر، لكن عَرَضتُه على شيخٍ فاضلٍ؛ للاستئناس برأيه، رحمه الله، لكنه لم تُعجبه محاولة الشعر هذه، وقال: هذا لا يليق بطالب العلم، وقال، مستشهدًا ببيت الإمام الشافعي:

ولولا الشعر بالعلماء يُزري
لكنت اليوم أشعرَ مِن لبيد!

وأَخذَ الكتاب ولم يردّه إليّ، ربما نسي، سامحه الله، ولا أُريد أنْ أُطالب به ورثته!

 

فكان هذا الأمر بمثابة كبحٍ لـِجِماح شيطان الشعر عندي.

 

وعلى أيّ حالٍ، لقد كانتْ هذه المناهج الدراسية تَصنعنا، أو تَصنَع مِنّا رجالًا، أحسن الله إلى أساتذتنا، وجزاهم عنّا خير الجزاء وكل مَن أسهم بسهم في ذلك.

 

(7)

ومِن الذكريات في هذه المرحلة، أيضًا:

عدة ذكرياتٍ، أسردها بإيجاز، وهي لا تحتمِل إلا الإيجاز، منها:

(1)- (موقفٌ خطأٌ وقَعْتُ فيه): إذْ حدَثَ لي موقف في السنة الأولى مِن المرحلة المتوسطة، أو الثانية، أحرجني، وهو أنّه كانت هناك شلة مِن زملائي اللعّابين، الذين لاحظتهم يَغشّون في اختبار مادة الأدب، فاستغربت هذا ونصحتهم، فردّوا عليّ، وقالوا: هذا ما فيه شيء، فالأستاذ يريد ذلك مساعدةً لطلابه، وهو يرانا ولا يقول شيئًا؛ فخدعوني وأقنعوني للأسف، فمارستُ فِعلتَهم على قلقٍ شديد، وهي، بحمد الله المرة الوحيدة في حياتي في هذا الباب؛ ومِن فضل الله عليّ أنْ ضبطني أُستاذنا الفاضل، الذي كان اسمه (ضيف الله)، على اسم أبي، رحمهما الله، وكنتُ أُجلّه وأحترمه، وأُقدِّر فيه إخلاصه ونشاطه في إعطاء المقرر، فلمّا رآني على فِعْلتي هذه الخارجة عن الخط، قال لي: حتى أنت يا عبد الله! وكان يُقدّرني ويَنظر لي نظرةً إيجابية؛ فأُحرجتُ؛ حتى كأنما أقام عليّ بهذه الكلمة الحدّ في هذا الغشّ، الذي لم يَتِمّ أصلًا؛ فتُبتُ إلى الله توبةً نصوحًا، والحمد لله.

 

فأدركتُ عاقبة الصحبة غير الناضجة!

 

وحَبّب الله إليّ الصدق والأمانة، فضلًا منه سبحانه وبحمده.

 

ولستُ أزعم أني لا أكذب، لكنّي فعلًا أنتهج الصدق في حياتي، وليس لي في هذا كبير فضلٍ؛ إذ هو محْضُ منْحةٍ مِن الله.

 

وقد قال الإمام الذهبي، رحمه الله: "مَن زَعمَ أنه لا يَكذب، فهو أَرْعَن"!

 

ومما قلتُه كبيرًا في هذا: "واللهِ، لو كُلِّفتُ بعمل إحصائية لبني آدم؛ لحذفتُ منهم الكذَبة والخوَنةَ والغششة"، فلا أُدخلهم في الإحصائية؛ لأنهم نسخةٌ مقلِّدة للإنسان، وليسوا نسخةً أصلية!

 

(2)- (تربية أبوية): وبهذه المناسبة، فإنّ مما أذكر عن هذه الفترة مما أغتبط به، أنْ قد جَعَل الله لوالدي، رحمه الله، مِن الفضل عليّ ما لا أُكافئه عليه إلا بالدعاء، وبأنْ يكون له مِن الأجر بتربيته لي ما أرجو أنْ تَقرّ به عينه يوم القيامة؛ لكونه سببًا فيما آتي وما أذرَ في باب السلوك الحسَن! ومِن ذلك أنه كان يُرسلني إلى السوق الذي كان قريبًا مِن الحرم؛ لأشتري مقاضي للبيت، وأعود بها إلى البيت مشيًا إلى البيت في العنابس، وربما استأجرتُ سيارة في العودة؛ فإذا رجعتُ أَردّ على والدي ما زاد من الفلوس، مهما كانت قليلة؛ فكان يَفرح، ويُجلسني بجواره، ويُلقّبني بالأمين! ويا لَله كم كان الصغير يَفرح بهذا اللقب، أو وسام الشرف هذا!

 

فلا تَبخلوا على أولادكم بالكلمة الطيبة، مهما كانت؛ فإنها تؤسّس للفضائل في حياتهم، وتُؤدّي مِن الآثار الحسنة أداءً حسنًا لا تَرقى إليه كلمات السب والشجب والضرب عند مَن يَجترحون حُرمةَ مسالك الحكمة في تربيتهم لأولادهم؛ تَوهّمًا منهم أنّ هذه تربية!

 

(3)- (أشياء أو دروسٌ خاطفة): قد انْقدحَ في ذهني في هذه المرحلة أشياء ودروس عابرة؛ جاء بعضها عرَضًا؛ فأصابتْ في نفسي غَرَضًا؛ فنفعني الله بها كثيرًا، مهما كان الأمر صغيرًا، وقد أسهم بعضها في إنضاجي وتأسيسي علميًّا ومنهجيًا، ومِن هذه الأمور العابرة في حياتي في مرحلة الدراسة المتوسطة والثانوية: (إلهام الله لي القناعة بقاعدةِ (الحرص على أن لا أَظلم أحدًا))!

 

إنّ بناء حياتي على هذه القاعدة كان له ما بعده.

 

فما زلتُ أذكرُ منّة الله عليّ بإلهامه لي في هذه المرحلة، أنْ بنيتُ حياتي على هذه القاعدة المهمة؛ وأخذتُ نفسي بها، بفضل الله، فكان لها الأثر البالغ في مستقبل أيامي، فابتعدتُ عن ظلمي للناس بمختلف صُوَره؛ حتى صار هذا طبعًا في نفسي فلا تَقبل أنْ أَظلم أحدًا، لا بلكمة ولا بكلمة!

 

وإني لمعترفٌ ومغتبطٌ بهذه المنحة الإلهية، ومعترفٌ بأني لا أستطيع أنْ أشكر الله عليها حق شكره! وأَعدّ هذه مِن أجمَل ما أُهديه لمن أُحبُّ، ولا سيما الشباب؛ ليؤسِّسوا حياتهم على (نظيف مِن بدري)! ويا أيها الإنسان، أنت في حياتك سائرٌ في طريقك إلى الله والدار الآخرة؛ للحساب؛ فهل يَستقيم أنْ تَحْمل على ظهرك أوزار الناس وأنت ماضٍ في هذا الطريق!

 

بل كُنْ نظيفًا، وتَخلّصْ مِن حقوق العباد عليك، أحياءً وأمواتًا؛ فإنّ الحقوق مُلْزِمة، إنْ في الدنيا وإنْ في الآخرة!

 

(4)- (أنا وكتاب ابن المرزبان): رأيتُ في قائمة كتبٍ اسم كتاب ابن المرزبان، رحمه الله، المتوفّى في 309 ه: "تفضيل الكلاب على كثيرٍ مِمن لبس الثياب"؛ فلفتَ نظري، وشدّ انتباهي، وقلتُ في نفسي: ما أحوجني إلى قراءة هذا الكتاب، ولا سيما أني كنت تعاملت مع بعض الكبار، فرأيتهم يَظلمون الصغار، ومنهم مَن توفّاه الله، اللهم سامحهم! وبحكم السن، لم يكن العقل ناضجًا، فلا أدري كيف أحصل على هذا الكتاب؛ حتى قُدّر لي زيارة مدينة (درام) في بريطانيا أثناء زيارتي مع رئيس قسم الاستشراق د.محمد بن عثمان صالح، رحمه الله، (الذي علمتُ الآن أنه توفي قبل أشهر مِن هذا العام 2025م، ولا أُوفيه دعاءً وثناء على نُبْله وحُسْن زمالته. ولا أنسى أنه أسرَّ إليّ في هذا السفر، أنّ مِن عادته ومِن عبادته التي يحمد الله عليها: أنه لا يحصل على مبلغٍ، راتبٍ، أو غيره إلا جَعلَ منه نصيبًا لأبيه وأمّه؛ فيا له مِن شرَفٍ وإحسان!)، لعدد من البلدان، منها بريطانيا؛ للاطّلاع على أقسامِ الدراسات الشرقية؛ والوقوف عن كثبٍ على مناهجهم الدراسية وطبيعة الدراسة لديهم، والمصادر والمراجع في مكتباتهم؛ وذلك استعدادًا لكتابة الخطة الدراسية لقسم الاستشراق، الذي وافق مجلس جامعة الإمام على إنشائه بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة.

 

وفي (درام) حصلتُ على معلومةٍ فرحتُ بها، وهي تحقيق د.كوركيس بن عوّاد بالاشتراك مع دكتور مصري في بريطانيا لذاك الكتاب، الذي تَشوّف ذلك الشاب في المرحلة الثانوية لو يقرأه!

 

تشوّفتُ له صغيرًا، وقرأتُه كبيرًا، بعد حصولي على الدكتوراه! لكنهم غيّروا اسم الكتاب إلى: "فضْل الكلاب على كثيرٍ ممن لبس الثياب"، وقدّموا له بمقدمات عن (أدبيات الكلاب)؛ قياسًا على الثقافة الإنجليزية؛ فأبعدوا النجعة! ثم وقفت على الكتاب باسمه الصحيح، نشْر المكتب الإسلامي، بتحقيق زهير الشاويش، دون تشويش!

 

وفي هذا إلْماحةٌ مهمة لطيفة، يُمكن إدراكها، والتقاطها مِن مشهد هذه الذكرى، وهي أنّ حياة الإنسان ليست منفصلة عن فترةِ شبابه، بل إنها كثيرًا ما تأتي على قانون شبابه! وكثيرًا ما تكون طبيعة مرحلة الشباب مؤسّسة لِسَنن باقي حياته! فانتبهوا أيها الكبار والصغار!

 

(5)- (التقاط الدروس العابرة في حياتي): مما وفّقني الله له في هذه المرحلة الدراسية وما بعدها: فكرة الانتباه لدروس الحياة العابرة، بما فيها ما أُسمّيه: (أخْذُ الدرس بالمقلوب)، وذلك بالتعلم مِن الأخطاء، كالتعلم مِن الصواب؛ وكم كان في الأخطاء مِن غنائمِ الدروس! إنك بهذا النهج تُصبحُ متعلِّمًا أو مستثمرًا لكلٍّ مِن الصواب والخطأ في حياتك وحياة الناس!

ولا أُحصي هذه الدروس!

 

ومِن ذلك أنني ذهبتُ مرةً لأتوضأ في دورة المياه في المعهد، فلمّا دخلت الحمّام، أكرمكم الله، اختبرت الماء، ففتحت صنبور الماء، فوجدتُ الماء مقطوعًا، فخرجت، فجاء في هذه الأثناء طالبٌ مضطرًا مستعجلًا، ودخلَ الحمام، فلا تسأل عن أصوات قنابله -لا مؤاخذة- دون أن يعلم المسكين أنّ الماء مقطوع، فلا أدري كيف خرج مِن الحمّام بعد ذلك؛ فكان خطؤه درسًا لي في التنبه والاحتياط في التصرفات!

 

ولا مجال لسرْد الأمثلة في بابِ أَخْذِ الدرس بالمقلوب، والله يعلمُ كم هي أخطاء الآخرين تُجاهي، التي عانيتُ منها كثيرًا؛ لكني تجاهلتها مع أنّ أذاها لم يتجاهلْني، واكتفيتُ بالاستعانة بالله تعالى، ثم أستثمر خطأ المخطئين عليّ؛ بأنْ أُلْزِمَ نفسي بالأخذ بعكسِ خطئه؛ فأقول في نفسي، مثلًا: لقد أذاقني هذا الشخص طعمَ الظلم؛ فأيقنت بأنّ الظلم -إلى جانب دلالة وحْي الله- حرامٌ ومُرٌّ! وفي الوقت نفسه أَختبرُ نفسي حينئذٍ، بيني وبين نفسي: هل حقدتُ على هذا الشخص؟ هل أصبحتُ أتشوّف له الشرّ؟ وذلك للتأكد من سلامتي مِن هذا الداء وذاك؛ إذِ الواجب على المسلم سلامة الصدر، وترْك الحقد أو تمنّي الشر للآخرين، حتى لو كان متعدّيًا عليك، ويَكفي في هذا الشأن استحضار أنّ الله يُدافع عن الذين آمنوا. ومَن ابتلاك ولم تستطع الفِكاك منه؛ فدعوتَ عليه، فلا تُحدّد ولا تقترح على الله ما تريده أن يَعْمله به، يكفي أن تقول: اللهم اكفني شرّه، ونحوها من العبارات.

 

أنصحكم أن تأخذوا الدروس في حياتكم على صوابها، وأنْ تأخذوها، أيضًا بالمقلوب، على ما أوضحتُ.

 

مع الأساتذة:

وأمّا الذكريات مع أساتذتنا في هذه المرحلة، فذات أشجان وأشجان! جزاهم الله عنّا خير الجزاء.

 

وكان منهم صِنفٌ قد جعلَنا همًّا له، وتعهّدَنا بتعليمه ونُصحه وتوجيهه، ولا أُحصيهم، لكن منهم:

د.علي بن سلطان الحكمي، رحمه الله، الذي حصل على الدكتوراه بعد ذلك، وانتقل إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وانقطعتْ عني أخباره بعد ذلك، (وأظنه توفي عام 1429ه)، وكان قد درّسَنا: اللغة، والأدب، والتاريخ، وكان جادًّا، ومما أثّر فينا فعلًا تأثيرًا إيجابيًا، أنه كان سببًا لإكسابنا صفة الالتفات إلى الكتاب والعناية بالقراءة، فاختار لنا كتبًا، وكلّفنا بقراءتها، جزاه الله خيرًا.

 

ومما أذكره عن أساتذتي في هذه المرحلة، كلمة قالها أُستاذنا مِن سوريا، الشيخ وهبي بن سليمان الغاوجي، رحمه الله، (المتوفى بتاريخ 4 ربيع الثاني، 1434ه، الموافق 19، فبراير، 2013م)، قال: ترى بعض النساء تلبس ملابس غير ساترة، وتلبس عليها العباءة، ثم تكشفها وهي ماشية، فإذا كُلّمتْ قالت: هذا الهوى! وهذا صحيح: الهوى، وليس الهواء!

 

وكثيرون الأساتذة في هذه المرحلة الذين أَثّروا فينا تأثيرًا حسَنًا، جزاهم الله خير الجزاء.

 

وبمناسبة ذِكر القراءة، أذكرُ أني بدأتُ عادة القراءة في هذه المرحلة؛ وذلك بتأثير عدة أسباب، منها الأساتذة، مِن أمثال د.علي بن سلطان الحكمي، ومنها أنّي أَخذتُ مِن المعهد جائزةً في النشاط، ليس لأني متفوق، وإنما لأني كنت مَعنيًّا في تلك السن بالنجارة، فكانت لي أعمالٌ خشبية، وكمْ مِن موقف طريفٍ لي مع أعمال الخشب! ولا داعي للاستطراد بذكرها، فعملتُ دولابًا خشبيًّا لطيفًا للإذاعة، لحفظ جهاز البث الإذاعي، ومِن توفيق الله أنْ كانت الجائزة هي الكتاب الرائع الممتع المفيد: "رجال مِن التاريخ"، للشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، الذي كان هو بدايتي الجادة في القراءة، ولم أكن حاضرًا عند توزيع الجوائز، فقيل لي: لك جائزة تجدها عند مدير المعهد، الأستاذ حُميّد الحازمي، ذكَره الله بخير، ويبدو أني تأخرت عن الذهاب له بعض الأيام، وأذكرُ أنّ ذلك بسبب خجلي، لكن، لـمّا دخلتُ عليه في مكتبه رحّب بي، وأعطاني الكتاب، وقال كلمةً شدّتني لقراءته، جزاه الله خيرًا، قال: هذا كتاب جيد، قرأته ووجدته جميلًا.

 

ولا أنسى كيف عَلقْتُ بالكتاب، أو علَق بي، حتى أنهيتُه؛ فكان كأنه رقية شرعية ناجعة فتَحتْ شهيّتي للقراءة؛ فأنعمَ الله عليّ بهذا مِن عادة القراءة ما لا أستطيع شكر الله عليه حق شكره!

 

القراءة يا سادة هي الطريق للحياة حقًا، وهي الطريق للتميّز والعبقرية، وهي الدواء الناجع للشفاء مِن داء الجهل، وهي الطريق لحلِّ مشكلات الإنسان ومشكلات البشرية!

 

قلتُ مرّةً: رأيتُ أُناسًا يأكلون ويشربون ولا يقرأون، فلا أَدري ماذا يريدون!

 

وقلتُ: اقرأْ على مَن لا يَقرأ! أيْ: اقرأْ عليه رقيةً شرعيةً، لعل الله يَشْفيه!

 

ومما أذكره مِن طريف هذه الفترة، أنه زارنا في المعهد الشيخ محمد سالم البيحاني مِن عدن، رحمه الله، صاحب الكتاب المفيد الممتع حقًّا: "إصلاح المجتمع"، (المتوفى بعد ذلك في تعز بتاريخ 26 ذي الحجة، 1391 ه، الموافق 13 فبراير/ شباط، 1972م)، وألقى علينا كلمةً توجيهية جميلة، ومما قاله فيها:

يقول: جاءني مرّةً شخصٌ يدافع عن حقوق المرأة بزعمه، فجلس بجواري وتكلم، فقلتُ له: أوّلًا مساء الخير يا أختي، فقال: أنا رجل لستُ امرأة، يقول: فقلتُ له: ظننتك امرأةً تطالب بحقوقها! ومما يَحْبِك الموقف أنّ الشيخ كان كفيفًا، رحمه الله. وذكَر لطيفةً أخرى في ذمّ الكسَل، أستحيي مِن ذكْرها.

 

وختامًا:

بعد هذه الجولة في الحديث المستحضِر لهذه المرحلة الدراسية، يَنبغي أنْ أقول:

لم تكن هذه الفترة، التي مررتُ بها، وعايشتُ وقائعها، مجرّد وقتٍ مضى، كلا، بل كانت فترةَ تأسيس لِما بعدها مِن مراحل دراستي ومراحل عُمُري!

 

لم تكن مجرّد زمنٍ تَقضّى، وإنما كانت فترةَ بناء وتعليم وتدريب؛ ليكون بَطلُ أحداثها هو ذلك الرجل، الذي يقال عنه: أ. د.عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، ولا يُغني ذلك عنه شيئًا، إنْ لم يَقبلْه الله، اللهم عَوْذًا عَوْذًا بوجهك الكريم!

 

وتولّى بعد ذلك عددًا مِن المهام، ودرّس لطلابه في تخصصه وغيره مِن التخصصات، ما تعاهدهم به؛ فرأى في طلابه ما يسرّه، وما يرجو بركته عليه وعليهم وعلى والديه وأساتذته وسائر أحبابه؛ فما كان له توصيل هذا الخير، لولا فضل الله ثم تلك المرحلة، التي يُقال عنها المتوسطة والثانوية، وفضْل الفضلاء عليه!

 

لم تكن هذه المرحلة زمنًا فقط، وإنما هي: زمنٌ، وأهدافٌ، ومقاصد، ومنهجية، وأعمال، ونيّات، ومجاهدَة، ومكابدة، وسعْيٌ في نقْل الخير للآخرين!

 

ولم يكن كل هذا إلا بالله تعالى، ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وما صاحبُها سِوى مَطيّة سخّرها الله؛ فيا فوزه، إنْ قبِله الله، ويا لَخسارته إنْ ردّه الله ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ [الطارق: 9]، عياذًا بوجهِ ربي!

 

فهل يؤخذ هذا الدرس أو الدروس، المؤكِّدة أهمية التأسيس على صوابٍ في هذه المرحلة، يراعيها الوالدان، والأساتذة، والمربّون! اللهم آمين.

 

هناك بيتٌ مِن الشعر الفارسيّ، ترجَمَتُه: كما يَضعُ المِعْمار الطوبة الأُولى مِعْوجّةً؛ يأتي الجدار مِعْوَجًّا ولو إلى الثريّا!

 

سنرحل إلى الدار الآخرة؛ فلا يبقى منّا شيء، ولن يَبقى عنّا مِن بَعْدنا شيء؛ إنْ لم نترك شيئًا يُذْكَر أو يُذكِّر! سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

 

والحمد لله أوّلًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، وصلّ اللهم وسلّم على نبينا محمدٍ وآله وأصحابه أجمعين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ذكريات ومواقف مع الشيخ محمد يونس الجونفوري

مختارات من الشبكة

  • أقوال ومواقف للسلف الصالح عن الرضا بقضاء الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • إضاءات منهجية من بعض مواقف الإمام مالك العقدية (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواقف الغرب من الحضارة الإسلامية(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • إضاءات منهجية من بعض مواقف الإمام مالك العقدية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواقف من إيثار الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موعظة وذكرى(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله)
  • برينجافور تحتفل بالذكرى الـ 19 لافتتاح مسجدها التاريخي(مقالة - المسلمون في العالم)
  • حقوق المرأة (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موقفان تقفهما بين يدي الله (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الهجرة النبوية والأمل(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • أكثر من 40 مسجدا يشاركون في حملة التبرع بالدم في أستراليا
  • 150 مشاركا ينالون شهادات دورة مكثفة في أصول الإسلام بقازان
  • فاريش تستضيف ندوة نسائية بعنوان: "طريق الفتنة - الإيمان سندا وأملا وقوة"
  • بحث مخاطر المهدئات وسوء استخدامها في ضوء الطب النفسي والشريعة الإسلامية
  • مسلمات سراييفو يشاركن في ندوة علمية عن أحكام زكاة الذهب والفضة
  • مؤتمر علمي يناقش تحديات الجيل المسلم لشباب أستراليا ونيوزيلندا
  • القرم تشهد انطلاق بناء مسجد جديد وتحضيرًا لفعالية "زهرة الرحمة" الخيرية
  • اختتام دورة علمية لتأهيل الشباب لبناء أسر إسلامية قوية في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 19/6/1447هـ - الساعة: 11:7
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب