مقدمة كتاب الاحتياط وقواعده الأصولية

الاحتياط وقواعده الأصولية

الدكتور إسماعيل عبد عباس الجميلي

تدريسي في كلية الإمام الأعظم - رحمه الله - الجامعة

شكر وعرفان

من الفضل أن لا ننسى أهل الفضل، فبعد إتمام هذه الأطروحة أشكر الله سبحانه وتعالى الذي مَنّ عليَّ بانجازها، فهو المعين أولاً وأخيراً.

وإذا كان شكر الناس من شكر الله ومن الوفاء أن يردّ الحق لأهله فإني بكل فخر واعتزاز أتقدم بالشكر الجزيل لأستاذي المشرف فضيلة الأستاذ الدكتور بشير مهدي الكبيسي لتفضله بالإشراف على هذه الاطروحة والذي فتح لي قلبه وبيته وغمرني بوافر علمه وسابق تجربته، فجزاه الله عني كل خير وأطال في عمره وبارك في جهده.

وأتقدم بشكري وتقديري إلى الأساتذة الأفاضل أعضاء لجنة المناقشة الذين سيتفضلون بمناقشة هذه الاطروحة ويرفدونها بآرائهم القيمة وتوجيهاتهم السديدة.

ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر لأساتذتي الذين درست عليهم، وكافة مشايخي الذين غمروني بعنايتهم منذ نعومة أظفاري حتى أثروا فيَّ وتأثرت بهم وأخص منهم بالذكر الشيخ المربي الشهيد حمزة عباس مهنا والشيخ محمود عبد العزيز والشيخ محمود حسين فجزاهم الله عني خير الجزاء.

كما وأتقدم إلى كل من قدم لي المساعدة خلال مدة إعداد هذه الأطروحة وأخص منهم أخي وشيخي أبا عبد الله عمر عبد عباس، والدكتور عصام البصري الذينِ ما بخلا بنصحٍ ولا توجيه أسأل الله لهما التوفيق والسداد.

(المؤلف)

♦♦♦♦

المقدمة

­­­­­الحمد لله رافع الحرج عن عباده المؤمنين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين وصحابته الميامين.

أما بعد:

فقد ولدت المناهج والدراسات الأصولية ضيقة المسالك نزيرة القواعد والتأويلات ثم أخذت تتطور شيئا فشيئاً حالها حال الوليد حتى أصبحت متكاملة تقريباً في أول أثر وصل إلينا وهو كتاب الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى ثم تطورت المناهج والدراسات الأصولية مروراً بمرحلة التقعيد والتأصيل ثم التقسيم ومحاولة تخريج الفروع على الأصول حتى ظهرت مدرسة الإمام الشاطبي[1] -رحمه الله تعالى- التي تحدثت عن مقاصد الشريعة فبينت أن الشريعة الإسلامية مبنية على جملة من المقاصد والأصول الثابتة التي من شأنها أن تكون نبراساً للمتفقهين في الدين ومرجعا عند تضارب الآراء وتبدل الأعصار شريطة إجادة فهمها.

والشريعة مبناها وأساسها على تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وكلها عدل ورحمة ومصلحة وحكمة فأي مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى القسوة وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة[2].

ثم إننا نجد في كثير من نصوص الشريعة أن رفع الحرج والاحتياط متجاذِبان: هذا يدعونا إلى أمر والآخر يمنعنا منه فمتى اعتورا حكماَ ما؛ أمسكنا بعُرْوة الاحتياط وارتحنا للأخذ بالتيسير ورفع الحرج.

ونظراً للابتعاد عن عصر النص وتشتت الأفكار واختلاف النظرات، فقد أصبحت علامات الحيرة والتردد عنوانات بارزة ترسم على ملامح الحياة الإسلامية صبغة الجمود والسلبية، وفي ظل هذا الواقع القلق المحيِّر يظهر الاحتياط في الدين واحداً من المسائل المهمة في هذه الشريعة الغراء، ولما كانت تفاصيله منثورة في بطون الكتب، أحببت أن أجمع نظامها تحت القواعد المعتمدة، تيسيراً لمعرفة أحكامها ورداً للفروع إلى أصولها، والجزئيات إلى كلياتها، حتى تكون هذه المسائل في متناول الدارسين، يرجعون إليها متى أرادوا التعرف على شيء من أحكامها؛ لذا فإني اخترت الدراسة في موضوع: أثر الاحتياط في التقعيد الأصولي فتتبعت ما قيل في الاحتياط والقواعد الأصولية التي كان لمسلك الاحتياط الأثر في تقعيدها في مؤلفات العلماء كما يتتبع المقتفي الأثر فكانت لي جولات في مؤلفاتهم قديماً وحديثاً ممن تكلم في الاحتياط والقواعد الأصولية.

أهم الدراسات السابقة التي تناولت موضوع الاحتياط:

سبقت هذه الدراسة دراسات عديدة تناولت موضوع الاحتياط عثرت على مجموعة منها، كتب بعضها قديماً وبعضها الآخر حديثاً؛ وهذه الدراسات تناول الموضوع عرضاً ولم تبحثه تفصيلاً فاكتفت بالإشارة عن التفصيل وبعضها الآخر اقتصر فيه الباحث على جانب من الاحتياط دون الآخر وبعضها بحث الاحتياط من جوانب عدة وجميع هذه الدراسات أفادت الموضوع بكثير من المعلومات وسهلت على الباحث كثيراً من الصعوبات إلا أنني لم أعثر على أي دراسة تناولت قواعد الاحتياط في أصول الفقه كدراسة مستقلة ولا أعرف دراسة متخصصة في هذا الموضوع قبل هذه الدراسة.

ويمكن هنا أن أشير إلى أهم الدراسات في موضوع الاحتياط..

أولاً: الدراسات القديمة:

لا أعلم في الدراسات السابقة من أفرد موضوع الاحتياط بدراسة مستقلة سوى الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي[3] الذي ألف كتاباً اسماه: (كتاب الاحتياط)[4] ذكره صاحب كشف الظنون، وقد بحثت عن هذا الكتاب فلم أقف عليه.

وأما بقية الدراسات فلا تعدو أن تكون تعرضت للاحتياط عرضا لا استقلالاً كما يلاحظ في كتب القواعد الفقهية من ذكر بعض القواعد الاحتياطية وكذلك ما ورد عند بعض المحققين من العلماء في كتبهم من ذكر بعض ضوابط الاحتياط وأدلته كالعز بن عبد السلام[5] في قواعده الكبرى[6] وابن القيم[7] في كتابه بدائع الفوائد[8]وما ذكره ابن حزم الظاهري[9] في كتابه الإحكام في أصول الأحكام فقد عقد في الباب الرابع والثلاثين فصلاً تحت عنوان الاحتياط وقطع الذرائع[10]، وغيرهم من العلماء.

ثانياً: الدراسات الحديثة:

تنقسم الدراسات الحديثة بحسب تناولها موضوع الاحتياط دراسة مستقلة او ضمناً إلى قسمين:

القسم الأول: الدراسات المتخصصة: وهي الدراسات التي تناولت موضوع الاحتياط دراسة مستقلة وهي:

1- نظرية الاحتياط الفقهي[11]: تناول الباحث موضوع الاحتياط ودرسه دراسة مستفيضة لم يسبق إليها واني لأرى أن هذه الدراسة أفضل دراسة في موضوع الاحتياط عثرت عليها، وقد جاءت دراسته في أربعة فصول تكلم في الفصل الأول عن حقيقة الاحتياط ومظاهره ومقاصده، وتكلم في الفصل الثاني عن مقومات الاحتياط وأسبابه ومسالكه، وتكلم في الفصل الثالث عن حجية الاحتياط وشروطه وموجهاته، وتكلم في الفصل الرابع عن أثر الاحتياط في التقعيد الأصولي والفقهي وواقع التشريع العملي.

2- العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي[12]: تناولت الدراسة موضوع الاحتياط في ثلاثة أبواب تكلم الباحث في الباب الأول عن تعريف الاحتياط وحجيته، وتكلم في الباب الثاني عن أقسام الاحتياط وشروط العمل به وتكلم في الباب الثالث عن اثر الاحتياط في القواعد الفقهية والفقه.

3- قواعد الأخذ بالأحوط ضوابطها وتطبيقاتها الفقهية في مجال العبادات[13]: تكلم الباحث في دراسته عن موضوع الاحتياط في ثلاثة فصول ففي الفصل الأول عرَّف الاحتياط والألفاظ ذات الصلة، وتكلم في الفصل الثاني عن مشروعية العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي، وبين في الفصل الثالث القواعد المندرجة تحت الاحتياط في العبادات.

4- الاحتياط حقيقته وحجيته[14]: تناول الباحث في دراسته موضوع الاحتياط في ثلاثة فصول تكلم في الفصل التمهيدي عن منشأ الاحتياط وتكلم في الفصل الأول عن حقيقة الاحتياط، وتكلم في الفصل الثاني عن حجيته، ودراسته كانت مقتصرة على الاحتياط عند الشيعة إلا في بعض المسائل ولم تكن دراسة مقارنة.

القسم الثاني: الدراسات غير المتخصصة: وهي الدراسات التي تناولت موضوع الاحتياط ضمناً منها:

1- الاحتياط حقيقته وحجيته وأحكامه وضوابطه[15]: قسم الباحث رسالته إلى خمسة أبواب تكلم عن الاحتياط في باب واحد واغرق بحثه في الكلام عن الشبهة والورع والشك والخلاف فقال كالمعتذر: ((لقد كان ما سلف من هذا الكتاب – وهو قدر الثلثين- بحثاً مفصلاً لقضايا أساسية في علوم التشريع لكن هذا البحث ربما طوّل على القارئ الشقّة وأغرقه في تفاصيل ودراسات عديدة يحس بها أنه إزاء موضوع الاحتياط كالتائه الغريب يبصر الطريق مرة ويغيب عنه مرات))[16].

2- الأدلة الاستئناسية عند الأصوليين للدكتور اشرف محمد الكناني لقد خصص الباحث الفصل السادس للاحتياط وتحدث فيه عن تعريفه وأمثلته وحجيته وأنواعه ولم يعرض للقواعد شيء.

3- قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية[17]: تحدث الباحث في الفصل السابع من الباب الخامس عن الاحتياط تحت عنوان (قاعدة الاحتياط) ذكر فيها تعريفه وأدلة مشروعيته وحكم الأخذ به وختم بشرط العمل به.

وهناك بحوث صغيرة أشرت إليها في طيات هذه الأطروحة.

خطة الأطروحة:

وعلى أساس ما جمعته من مادة علمية، فقد قسمت هذه الأطروحة بعد هذه المقدمة إلى بابين وخاتمة.

جعلت الباب الأول: نظرياً فقسمته إلى ثلاثة فصول:

تكلمت في الفصل الأول: عن مفهوم الاحتياط ومشروعيته وضوابطه وحكم العمل به، وجعلته في أربعة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن مفهوم الأثر والاحتياط.

وفي المبحث الثاني: عن مشروعية الاحتياط.

أما المبحث الثالث: فتكلمت فيه عن ضوابط العمل بالاحتياط.

وفي المبحث الرابع: عن حكم العمل بالاحتياط.

أما الفصل الثاني: فقد عقدته لمكان الاحتياط بين أصول الشريعة وقواعدها وجعلته في ثلاثة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن مفهوم الاحتياط باعتباره أصلاً ودليلاً.

وفي المبحث الثاني: عن حقيقة القول في الاحتياط.

أما المبحث الثالث: فقد تكلمت فيه عن علاقة الاحتياط ببعض القواعد.

وتكلمت في الفصل الثالث: عن مفهوم التقعيد الأصولي ونشأته ومصادره وعلاقته بالتقعيد الفقهي وقد قسمته إلى أربعة مباحث:

فتكلمت في المبحث الأول: عن مفهوم التقعيد الأصولي.

وفي المبحث الثاني: عن نشأة القواعد الأصولية.

وفي المبحث الثالث: عن مصادر التقعيد الأصولي.

وفي المبحث الرابع: عن العلاقة بين التقعيد الأصولي والفقهي.

أما الباب الثاني: فقد جعلته تطبيقياً منقسماً على ستة فصول:

تكلمت في الفصل الأول: عن اثر الاحتياط فيما يتعلق بقواعد السنة وجعلته في مبحثين:

تكلمت في المبحث الأول: عن قاعدة: خبر الواحد حجة.

والمبحث الثاني: عن قاعدة: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداءً.

أما الفصل الثاني: فتكلمت فيه عن اثر الاحتياط في قواعد القياس وجعلته في مبحثين أيضا:

تكلمت في المبحث الأول: عن قاعدة: لا قياس في الحدود.

والمبحث الثاني: عن قاعدة: العلة المقتضية للاحتياط مقدمة.

أما الفصل الثالث: فتكلمت فيه عن اثر الاحتياط في قواعد الذرائع وجعلته في ثلاثة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن الوسائل بالنسبة إلى ما تفضي إليه وجعلته في مطلبين:

المطلب الأول: عن قاعدة: وسيلة الواجب واجبة.

والمطلب الثاني: عن قاعدة: وسيلة المحرم محرمة.

وتكلمت في المبحث الثاني: عن قاعدة: سد الذرائع حجة.

وفي المبحث الثالث: عن قاعدة: ما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة.

أما الفصل الرابع: فتكلمت فيه عن اثر الاحتياط في قواعد مباحث الألفاظ وجعلته في ستة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن قاعدة: اللفظ المشترك يعم.

وفي المبحث الثاني: عن قاعدة: اللفظ العام يحمل على العموم.

وفي المبحث الثالث: عن قاعدة: يحمل المطلق على المقيد إذا اختلفا في السبب دون الحكم.

وفي المبحث الرابع: عن قاعدة الأمر المطلق يدل على الوجوب.

وفي المبحث الخامس: عن قاعدة: الأمر المطلق يدل على الفور.

وفي المبحث السادس: عن قاعدة: النهي المطلق يدل على التحريم.

أما الفصل الخامس: فتكلمت فيه عن اثر الاحتياط في قواعد الترجيح وجعلته في خمسة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن قاعدة: الدليل المانع مقدم.

والمبحث الثاني: عن قاعدة: الدليل الموجب مقدم.

والمبحث الثالث: عن قاعدة: الخبر المثبت للحكم مقدم.

والمبحث الرابع: عن قاعدة: الخبر النافي للحد مقدم.

والمبحث الخامس: عن قاعدة: ما مقتضاه الاحتياط مقدم وجعلته في مطلبين:

تكلمت في المطلب الأول: في ترجح العام على الخاص.

والمطلب الثاني: في تعارض الفعل والقول.

أما الفصل السادس: فتكلمت فيه عن اثر الاحتياط في قواعد لم يصرح فيها الأصوليون بمسلك الاحتياط وجعلته في أربعة مباحث:

تكلمت في المبحث الأول: عن قاعدة: خبر الواحد حجة فيما تعم به البلوى.

والمبحث الثاني: عن قاعدة الأمر المطلق يدل على التكرار.

والمبحث الثالث: عن قاعدة الاستثناء إذا تعقب جملاً يعود إلى الجميع.

والمبحث الرابع: عن قاعدة الزيادة على النص ليست نسخاً.

وأما الخاتمة: فقد تكلمت فيها عن أهم النتائج التي توصلت إليها في هذه الأطروحة.

منهجي في الكتابة:

وقد كان منهجي - في تناول معظم المسائل والقواعد - التعريف بالمصطلح لغةً واصطلاحاً، ثم أذكر مفهوماً عاماً للقاعدة ولربما اذكر مثالاً إن كان يحل الإشكال أو يوضح المراد ثم أذكر تحرير محل النزاع إن كانت القاعدة فيها عدة جوانب متفق على بعضها مختلف في بعضها الآخر، ثم أذكر أهم أقوال العلماء في القاعدة مقدماً القول أو الأقوال التي تقرر القاعدة وتوافقها ثم الاستدلال لكل قول ومناقشة الاستدلال ان وجد، ثم الخروج بما يبدو لي أنه القول الراجح، ثم أبين اثر الاحتياط في تكوين وصناعة القاعدة وأختم المسألة بذكر تطبيقات للقاعدة الأصولية، متبعاً في ذلك المنهج العلمي في كتابة الأطاريح الجامعية من التوثيق من المصادر المعتمدة وعزو الأقوال إلى أصحابها بدقة وتأمل وغيرها.

أما منهجي في تخريج الأحاديث: فقد رتبت المصادر على حسب القدم في الوفاة، وإذا ورد النص بعدة روايات، فإني أشير بعد ذكر المصدر بقولي: (واللفظ له).

وأنا هنا لا ادعي لعملي الكمال والتمام، إنما قصدي إخراج الأطروحة بالوجه الصحيح، فان أكُ قد وفقت فلله الحمد والمنة، وان تكن الأخرى فحسبي أني حاولت الوصول إلى الحق وبذلت ما بوسعي من جهد، واني سائل من حسن ظنه إذا عثر على شيء طغى به القلم أو زلت به القدم أن يغفر ذلك في جنب ما قربت إليه من البعيد وقيدت له من الشريد وأرحته من التعب وأن يكون في حسبانه أن الجواد قد يكبو وأن الصارم قد ينبو وأن النار قد تخبو وأن الإنسان محل النسيان وأن الحسنات يذهبن السيئات ولست أرى عذرا لما سهوت فيه إلا قول القائل:

وما أبريء نفسي إنني بشر أسهو وأخطئ ما لم يحمني قدر من أن يقول مقراً إنني بشر ولا أرى عذراً أولى بذي زلل

والله أسأل في الختام والتمام أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الكريم وأن يجزيني به أعظم الجزاء إنه هو الكريم الجواد.