وجبة فئران

أعتدت أن أمضي إجازتي الصيفية في ربوع تركيا التي لا أجد أجمل ولا أفضل منها للسائح المسلم. وفي إحدى هذه الإجازات تلقيت دعوة لحضور مؤتمر إسلامي في إيطاليا، وما أن انتهى المؤتمر حتى عرض عليّ أحد الأصدقاء أن أمضي عدة أيام في قرية منعزلة تقع في أقصى بحيرة ((كومو)) بعيدًا عن المدينة المسماة باسم هذه البحيرة.

وحقًا كانت القرية المسماة ((يومازو)) من أجمل القرى وأكثرها هدوءًا وكانت تقع على شاطئ البحيرة وسط جبلين عاليين، أحدهما تملؤه القرى والبساتين، وثانيهما أجرد تمامًا تعلو قمته كتلة من الثلج لم تستطع شمس الصيف أن تذيبها لشدة ارتفاع تلك القمة.

ولم يكن في تلك القرية الصغيرة إلا مطعم صغير تديره صاحبته العجوز دون أن تستعين بأحد من الخدم أو الطهاة.

وعزمت على أن أتناول وجبة الغداء في هذا المطعم مكتفيًا بما اشتريته من البقالية الوحيدة في القرية من الخبز والجبن مع الفاكهة وبعض المعلبات لوجبة الفطور ووجبة العشاء.

دخلت المطعم الصغير، وجلست على مائدة مطلة على البحيرة، وماهي إلا أن جاءتني صاحبة المطعم تحمل في إحدى يديها قائمة الطعام، وتحمل في الأخرى دفترًا لتسجيل طلبات الزبائن.

ولما كنت مولعًا بتناول السمك فقد بادرتها بطلبه باللغة الفرنسية دونما حاجة للنظر في قائمة الطعام، ولكن المرأة لم تفهم كلمة السمك كما نطقت بها بالفرنسية، وكررت طلبي باللغة الإنكليزية، ولكنها لم تبد إلا أمارات الاستفهام تنطق بها عيناها وحركة يديها. وعندئذ لم يكن مني إلا أن تناولت دفتر الطلبات منها، ورسمت لها سمكة بسرعة ومهارة، إذ رسمت زاوية حادة متجهة إلى يمين الورقة، ووضعت مقابلاً لها زاوية معاكسة لاتجاه الأولى ثم وصلت بين الإشارتين، وأثبت ذيلاً لهذه السمكة، ولم أنسى وضع العين مبالغة في تجويد الرسم.

وقدمت إلى صاحبة المطعم ما رسمته مطمئنًا إلى أنها سوف تفهم هذه اللغة العالمية التي قامت عليها اللغة الهيروغليفية. وما إن نظرت المرأة في الدفتر حتى صاحت صيحة منكرة، ثم أخذت تبربر في لهجة غاضبة بلغتها الإيطالية التي لم أكن أعرف منها إلا بضع كلمات يسيرة، ومع ذلك فقد فهمت من إشارة يديها وغضبتها أنها تطلب مني مغادرة المطعم.

وما إن هممت بالتحرك من المقعد حتى جاء أحد الزبائن، يحاول تهدئتها، ويسألها على ما يبدو لماذا تتصرف هذا التصرف الجنوني.

وحمدت الله أن الزبون الشاب كان يتقن الإيطالية والفرنسية التي أجيدها إلى حد ما إذ التفت إليّ قائلاً بكل هدوء: ((إنك أيها السيد طلبت من صاحبة المطعم وجبة فئران، ورسمت لها فأرة واضحة المعالم، وقد أثار هذا تقززها، واعتبرت طلبك إهانة لها وتحقيرًا لمطعمها، مما أثار غضبتها، ولم يكن أمامها إلا أن تطلب منك مغادرة مطعمها لأنها حريصة على سمعته، وإذا كنت أيها السيد من بلاد يأكل أهلها الفئران فإن أهل هذه البلاد يعتبرون ذلك أمرًا يثير التقزز والاشمئزاز)).

وقلت للشاب المؤدب: ليس الأمر كما تظن، حاولت أن أرسم لها سمكة عندما رأيت جهلها بكلمة ((سمك)) باللغة الفرنسية والإنكليزية، وكأنها في قريتها المنعزلة لم يدخل مطعمها أحد ممن يتكلمون إحدت هاتين اللغتين.

وتناول الشاب قائمة الطعام من يد صاحبة المطعم، وحدق فيما رسمته ثم قال لي مداعبًا:
((يبدو أنك يا سيدي رسام ماهر، لكنني أنصحك ألا تجعل رسومك لغة هيروغليفية معاصرة)).

أضف تعليقك:	إعلام عبر البريد الإلكتروني عند نشر تعليق جديد
الاسم
البريد الإلكتروني	(لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق	رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي