الضغط السكاني

الضغط السكاني

تأليف الدكتور: لويد جنسن

ترجمة

الدكتور محمد بن أحمد مفتي

الدكتور محمد السيد سليم

يعتبر الاكتظاظُ السكاني من العواملِ الرئيسة المؤدِّية إلى تفاقُم مشكلة الحرمان الاقتصادي، والتي تؤدِّي بدورها - كما يدَّعي البعض - إلى إشعال لهيبِ الصراع الدولي، وقد لاحظ مالتوس في القرن الثامن عشر أن إنتاجَ الغذاء العالمي يتزايدُ على شكلِ متوالية حسابية، بينما يتزايَدُ السكانُ في شكل متوالية هندسية، وطبقًا لمالتوس فإن المَخرجَيْنِ الوحيدين من هذا التناقُض هما الحروبُ أو المجاعات.

ويمكن تصوُّرُ مدى فداحة مشكلة السكان في العالم إذا لاحظنا أن سكانَ العالم يتضاعَفون كل 35 أو 36 سنة، ويعني ذلك أن عددَ سكان العالم الراهن البالغ 4 بلايين نسمة سيصل إلى 8 بلايين نسمة عام 2015م، وإلى 16 بليونًا عام 2050م، إضافة إلى أن حوالي 70% من سكان العالم يُقيمون في الدول الأقل تطورًا، ويتعرَّضون لمشكلات المجاعات الدورية، وسُوء التغذية، وبصفة عامة، فإن المواردَ الغذائية العالمية وفيرةٌ، وتستطيع أن توفِّرَ الغذاء الكافي لبلايين أخرى من البشر، خاصة إذا تم استغلالُ الموارد الغذائية في المحيطات استغلالاً سليمًا، ومن ثَم، فإن مشكلةَ الغذاء هي في الأساس مشكلةٌ توزيعية؛ حيث تُعاني بعضُ الأقاليم من نقصِ الغذاء، بينما تنعَمُ أقاليمُ أخرى بوفرته، لكن يجب تذكُّرُ أن حلَّ تلك المشكلة التوزيعية ليس أمرًا يسيرًا، فإذا قامت إحدى الدول ذاتُ الإنتاج الغذائي الوفير بمدِّ الدول النامية بالغذاء مجَّانًا أو بأسعارٍ زهيدة، فإن ذلك سيؤثِّرُ على السوق العالَمية للغذاء، مما يخلُقُ صراعًا خطيرًا بين تلك الدولة والدول المصدِّرة للغذاء، وينبغي تذكُّرُ أن الدولَ لا توزِّعُ مواردها الغذائية في الداخل طبقًا لاحتياجات السكَّان، ففي الدولِ النامية تشجِّعُ الحكومةُ تصديرَ المواد الغذائية للحصول على العملاتِ الأجنبية في الوقت الذي يكونُ فيه جزءٌ من السكان على شَفَا الهلاك.

كذلك، تؤثِّرُ العاداتُ الغذائية في الكميَّةِ المعروضة من الغذاء، وعلى سبيل المثال، فإن استهلاكَ الأمريكيين والأوربيين كمياتٍ ضخمةً من اللحومِ يؤثِّرُ سلبيًّا على الكمية المعروضة في العالَم من الحبوب؛ لأن إنتاجَ رطل واحد من اللحمِ يتطلَّب استهلاكَ سبعة أرطال من الحبوب.

وقد ذهَب فالك إلى حدٍّ أبعدَ من النظرية المالتوسية في تفسيرِ العلاقة بين الزيادة السكانية والعنف الدولي، فقدَّم التفسيرات التالية:

1- يؤدي الاكتظاظُ السكاني إلى خَلْق ضغوطٍ نحو التوسع في الأقاليم الأقل اكتظاظًا بالسكان.

2- يؤدي تزايدُ الطلب على الموارد إلى خَلْق حوافزَ لتأمين مصادرِ تلك الموارد.

3- يؤدي اكتظاظُ السكان إلى البؤس العام، وهذا يؤدِّي إلى إقامة نُظم سياسية قمعية، وبلورة الأيديولوجيات المتطرِّفة.

4- تؤدي الهوَّةُ المتزايدة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، والناشئة عن الضغوط السكانية إلى تعميقِ حدَّة الشعور بالظُّلم.

5- تؤدي الضغوطُ السكانية في الدول الغنية إلى الإبقاء على الحواجز الراهنة أمام الهجرة إلى تلك الدولِ من الدول الفقيرة، وإلى الإقلالِ من الدافع نحو تقديمِ المعونات الغذائية[1].

رغم أن التحليلَ المنطقي يؤدِّي بنا إلى استنتاج أن الضغطَ السَّكني يؤدي إلى تزايدِ العنف بين الدول، فإن الدراساتِ الإحصائيةَ التي جرت على القرنين التاسع عشر والعشرين توصَّلت إلى أنه لا تكادُ توجَدُ علاقة بين الضغط السكاني، والصراع الدولي[2]، ففي كتابه: "دراسة للحرب" استخلص رايت أن الاكتظاظَ السكانيَّ - في حدِّ ذاته - لا يفسِّرُ العنف الدولي، ولكن الضغطَ السكاني قد يؤدي إلى الحروبِ الاستعمارية؛ ففرنسا تصرَّفت بطريقة عدوانية في أواخر القرن التاسع عشر؛ لأن عددَ سكانها كان يتناقصُ مقارنةً بسكان ألمانيا، مما أدى إلى سعيِ فرنسا إلى المحافظةِ على توازنِ القوى مع ألمانيا عن طريق التوسُّعِ الاستعماري.

كذلك، فإن الهجراتِ الجماعية كانت عبر التاريخ أداةً لحل مشكلة الاكتظاظ السكاني ونقص الموارد الغذائية، وقد أدَّت هذه الهجراتُ إلى حروبٍ وصراعات بين الدول التي تأثَّرت بها.

ويرى بعضُ الكتَّاب أن الضغط السكاني الصيني على المناطق غيرِ المأهولة في الاتحاد السوفيتي هو أحدُ العوامل الأساسية المؤثرة في النزاع الصيني - السوفيتي الراهن، ويبدو أن الاتحاد السوفيتي يخشى من ظهور جنكيز خان حديثٍ يكتسحُ مناطقَ الإستبس الروسية من أجل تخفيفِ الضغط السكاني عن الصين ذاتِها.

بَيْدَ أنَّ الهجرةَ الجماعية من خلال الغزو الإقليمي، ليست هي الأسلوبَ الوحيد الذي يمكِنُ أن تتبعَه الدولة لحل مشكلة عدم التوازن بين حجم السكَّان والموارد؛ فقد استطاعت المكسيك واليابان وإيطاليا أن تحُلَّ هذه المشكلة بالأسلوب السلمي من خلال الهجرةِ الجماعية السلمية إلى الدول الأخرى، أكثر من ذلك، فإن تقدُّمَ مستوى التقنية من شأنه تخفيفُ الآثار السلبية للضغط السكني من خلال توفيرِ مزيدٍ من الموارد الغذائية للسكَّان.

إلا أن شكري ونورث يقدِّمانِ وجهةَ نظرٍ أخرى حول العلاقةِ بين الضغط السكاني والتقنية، مُفادُها: أن تطورَ التقنية مع تزايد السكان لا يؤدِّي إلى حل المشكلات السكانية، ولكنه يخلُقُ ضغوطًا هائلة نحو التوسُّع الخارجي[3]، فتطورُ التقنية مع تزايد السكان يؤدِّي إلى زيادة الحاجة إلى الموارد اللازمة لمواكبة المستوى التقني وتطويره، وربما لا يأخُذُ هذا التوسعُ شكلَ الاستعمار أو الصراع الدولي، ولكنه قد يأخُذُ شكلَ التجارة الخارجية - كما حدث في حالة السويد والدول الإسكندنافية الأخرى التي تعرَّضت لهذه الضغوط - في الوقت الذي تعاملَتْ فيه بريطانيا وفرنسا وألمانيا مع تلك الضغوطِ من خلال التوسُّعِ الاستعماري خلال الفترة من عام 1870م حتى 1914م، فقد اتضح أن ما بين 60% إلى 80% من التباينِ في الظاهرة الاستعمارية لتلك الدول يمكِنُ تفسيرُه في ضوءِ الضغط السكاني والنمو التقني، والاستعداد العسكري، وما أدَّى إليه ذلك من اللجوءِ إلى العُنف المتمثِّل في الحروب الاستعمارية أو الحروب بين الدول الاستعمارية ذاتِها، وبما أن العواملَ الممكن التأثيرُ فيها - كالقيادة والتفاعل الدبلوماسي - لا تؤثِّرُ كثيرًا في التوسُّع الاستعماري، فإنه قد يكونُ من العسير ضبطُ الضغوط التوسُّعية الاستعمارية، وقد حاوَل بعضُ الدارسين اختبارَ تلك النظرية باستعمال البيانات المتعلِّقة بعشر دولٍ آسيوية خلال الفترة من عام 1950م حتى 1970م[4]، واستخلصت الدراسةُ أن الدولَ التي شهِدت ضغطًا سكانيًّا وتقنيًّا داخليًّا كانت هي ذاتها الدول التي اتبعت سياساتٍ عدوانية، وأن الدولَ التي لم تشهَدْ هذا الضغط كانت أكثرَ ميلاً إلى اتباع سياساتٍ سلمية، بَيْدَ أنَّ الدراسةَ استخلصت أيضًا أن عاملَ القوة يؤثِّر بشكل أكبرَ في حدوث الصراعات والصدامات العسكرية الدولية بين الدول الآسيوية من عاملِ النموِّ السكاني والتقني.

على الرغم من أننا عرَضْنا لعديد من النظريات الاقتصادية المتعلقة بالاستعمار، ولدور المركب العسكري - الصناعي، ودور الحرمان الاقتصادي، فإنه لا يكاد يوجَدُ اتفاقٌ عام حول الوزن النسبي للعوامل الاقتصادية في تأثيرِها على الصراع الدولي، فقد حلَّل ريتشارد سون الحروبَ التي وقَعت في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وخلص إلى أن 29% من تلك الحروب حدثت نتيجةً للعوامل الاقتصادية[5]، كذلك، فالاقتصاديُّون أنفسُهم يقلِّلون من أهمية العوامل الاقتصادية في حدوث الحروب، فالاقتصادي الدولي المعروف كندلبرجر يقول: إن "الحرب ليست قضيةً اقتصادية بصفة رئيسة؛ فالأسبابُ الاقتصادية ليست هي الأسبابَ الرئيسة للحرب"[6]، ويؤيد وجهةَ النظر تلك فاينر الذي يرى أن الحربَ "هي أساسًا ظاهرة سياسية، وأسلوبٌ لحلِّ المنازَعات بين الجماعات"[7].

وربما يرجِعُ الاختلافُ حول دور العوامل الاقتصادية إلى الاعتقادِ السائد بأن الاعتماد الاقتصادي المتبادل سيُسهِمُ في خَلْق السلام الدولي؛ ولهذا فإننا سنخصِّصُ الجزء التالي لمناقشة هذه القضية.