الحياة التعليمية في الحجاز بين عهدين

الحياة التعليمية في الحجاز بين عهدين

(هذا حديث عن النهضة التعليمية في الحجاز بعد التوحيد وقبل تأسيس المملكة العربية السعودية، كما جاء في مجلة الشرق الأدنى الصادرة في القاهرة في يوم الأربعاء 6 ربيع الثاني 1346هـ الموافق 1 أكتوبر 1927م، السنة الأولى الصفحة 31، مادة الحجاز).

أفاد الشيخ كامل القصاب الذي ولاه الملك عبدالعزيز إدارة تعليم الحجاز بعد توحيدها، صاحب مجلة الشرق الأدنى الصحفي والمؤرخ أمين سعيد عن النهضة التعليمية هذه، من خلال تقرير كان قد كتبه وقدمه لصاحب المجلة. والشيخ كامل كان رائداً من رواد النهضة التعليمية والفكرية في بلاد الشام، كما كان رائداً من رواد الحركة الوطنية العربية، فهو بالنسبة لعلاقاته بالملك عبدالعزيز غني عن التعريف، فقد قال الشيخ القصاب فيما جاء على صفحات مجلة الشرق الأدنى:

(لم يكن في الحجاز معارف قبل العهد الجديد، وإن الحكومة الحاضرة خصصت في ميزانية السنة الماضية 3800 جنيه ذهبي للمعارف، ثم زادتها 2200 جنيه، أنفق منها لتجديد الأدوات المدرسية وإصلاحها 1300 جنية فقط.

وأنشأت مديرية المعارف في السنة الماضية مدرسة ابتدائية وأربع مدارس تحضيرية في مكة، ومدرسة ابتدائية واحدة ومثلها تحضيرية في كل من جدة والمدينة المنورة، ومدرسة ابتدائية ذات أربعة صفوف في كل من الطائف وينبع والوجه، وفتحت في قرى جدة ثلاثة كتاتيب. وزادت رواتب المديرين في هذه المدارس نحو 1200، منهم 400 في مكة و290 في جدة و150 في المدينة المنورة، وينتظر أن يزيد عددهم في العام الدراسي الجديد ليصل إلى الألفين، وأنشأت أيضاً المعهد الإسلامي السعودي في مكة المكرمة ليكون منهلاً عذباً لطلاب العلوم الدينية يقفون فيه على أسرارها ونواة التعليم الثانوي، وتدرس فيه عدا العلوم الدينية علوم اللغة العربية والرياضيات وسنن الكون (الطبيعة) والعلوم الاجتماعية وافتتح فيه صفان حتى الآن، وفيه قسم ليلي تلقى فيه الدروس والمحاضرات.

وفي المسجد الحرام بمكة عشرة مدرسين تابعين للمعارف يتقاضى كل منهم راتباً كافياً وهم يلقون الدروس على الطلاب بشكل حلقات فيدرسون في الصباح التوحيد والتفسير والحديث وفروع الفقه وأصوله على المذاهب الأربعة، ويدرسون بعد الظهر العلوم العربية من نحو وصرف وغيره، ويعظون الناس من بعد صلاة المغرب إلى العشاء. وفي الحرم المدني أيضاً مدرسون كهؤلاء وقد أدخل تعليم اللغة الإنجليزية في مدرسة جدة هذا العام، ويفكرون بتأسيس مدرسة لتعليم البنات حتى الآن. وأصلحت في العام الماضي دور المدارس والكتاتيب وأنشئت إنشاءً جديداً لتكون مطابقة للنظام الصحي الحديث، ويجلس التلاميذ اليوم على مقاعد خشبية بدلاً من تلك الحصر البالية والشروط الصحية مستوفاة في الدور الجديدة.

وقد أمر جلالة الملك بتشييد مدرسة في الرياض بطاقة استيعابية قدرها ثلاثمئة تلميذ، بوشر بإنشائها وربما تفتح قريباً، وختم الأستاذ حديثه بقوله: (وفي استطاعتي القول الآن بأن حركة التعليم في الحجاز تسير بخطى واسعة بفضل مساعدة جلالة الملك وسهره على كل ما يرقى بشعبه ويسمو به).

انتهى كلام الشيخ كامل القصاب عن التعليم وتطويره والرقي فيه في عهد الملك عبدالعزيز في مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها.

ولا بد من التعريف بالشيخ القصاب رحمه الله، بقصد بيان مكانته ومنزلته العلمية والاجتماعية والسياسية والدينية رحمه الله.

من هو الشيخ كامل القصاب؟

هو رائد من رواد النهضة التعليمية والسياسية في بلاد الشام، مطلع القرن العشرين للميلاد، وهو واحد من أربعة أشخاص أسسوا (جمعية الفتاة العربية). أصله من مدينة حمص، هاجر والده إلى دمشق، كان مولده بدمشق عام (1290هـ، الموافق 1873م وفاته 1373هـ، 1954م) أنشأ بدمشق المدرسة الكاملية وكانت ليلية، انتدبه السوريون سنة 1915م في مصر للتشاور مع الشريف حسين لأخذ رأيه عن المفاوضات القائمة بينهم وبين الإنجليز، كما انتدبوا الشيخ محب الدين الخطيب لزيارة الرياض وأخذ رأي الملك عبدالعزيز. ومن خلال وجود الشيخ القصاب في الحجاز افتتح مدرسة في مكة وطلب من الشريف النهوض بالتعليم في الحجاز، لكن الشريف رفض رأيه هذا، وأدرك الشيخ القصاب من هذا الموقف محاربة الشريف حسين للتعليم والنهوض به، ولذلك فهو ليس لديه الأهلية بأن يتزعم الأمة العربية بقصد الاستقلال عن الأتراك، ونقل هذه الصورة عن الشريف لإخوانه في مصر.

غلاف مجلة "الشرق الأدنى" ويرى عليه عدد من العناوين الخاصة بمملكة نجد والحجاز وملحقاتها

وبعد توحيد الحجاز بنجد وقيام (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) قصد الشيخ كامل القصاب الحجاز ثانية وذلك عام 1926م، وفي هذه الزيارة كان وجوده وجود مشاركة في المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه الملك عبدالعزيز علماء الأمة الإسلامية لحضوره من أجل التباحث في شؤون الحجاز، وبعد انتهاء المؤتمر طلب منه الملك عبدالعزيز قبول تكليفه للنهوض بالتعليم في الحجاز وذلك باستلامه إدارة تعليم الحجاز. وقد قبل الشيخ تكليف الملك عبدالعزيز له، وامتدت إدارته هذه مدة سنتين أي حتى نهاية سنة 1928م، وبعدها كانت قد اشتعلت في فلسطين ثورة البراق لسنة 1928م، فقصد فلسطين ليكون قريباً من إخوانه المجاهدين هناك، وقد قبل الملك منه إعفاءه من الإدارة للسفر إلى فلسطين، حيث واقع الحال يتطلب وجوده هناك، فقصد حيفا حيث فيها رفيق دربه وجهاده الشيخ عز الدين القسام، ففتحا مدرسة في حيفا واشتركا في تأليف كتاب.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن وجود الشيخ القصاب -رحمه الله- في فلسطين كان امتداداً لصلة وتواصل الملك عبدالعزيز مع القضية الفلسطينية، لا سيما بعد ثورة حائط البراق عام 1929م، وفي أرشيف وثائق دارة الملك عبدالعزيز العديد من رسائل الملك عبدالعزيز إلى الشيخ القصاب وهو في فلسطين. والرسائل التي تم نشرها في جريدة أم القرى خير دليل على ذلك.

ذلك هو واقع التعليم في الحجاز بين عهدين وفي ظل ملكين كان قد جاء على لسان شاهد شهد العهدين بحاله ومقاله، فكانت شهادته هذه لله ثم للتاريخ، حفظ لنا هذه الشهادة ميراث أمين سعيد -رحمه الله-، التي مضى على نشرها في مجلة الشرق الأدنى أكثر من ستة وسبعين عاماً، وقد جاءت في هذه الأيام لتوثق لنا واقع التعليم في مملكة الحجاز ونجد وكيف نهض به الملك عبدالعزيز ليكون أساس بناء وتكوين لدولته الناهضة ورسالة العلم والتعليم التي خطها ورسمها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه.