• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المرأة في القرآن (1)
    قاسم عاشور
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (11)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الإنصاف من صفات الكرام ذوي الذمم والهمم
    د. ضياء الدين عبدالله الصالح
  •  
    الأسوة الحسنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    أحكام المغالبات
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    تفسير: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: الاستطابة
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    ثمرات الإيمان بالقدر
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    العشر وصلت... مستعد للتغيير؟
    محمد أبو عطية
  •  
    قصة موسى وملك الموت (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الشاكر، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (12)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    تلك الوسائل!
    التجاني صلاح عبدالله المبارك
  •  
    حقوق المسنين (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تعوذوا بالله من أربع (خطبة)
    عبدالله بن عبده نعمان العواضي
  •  
    حكم المبيت بالمخيمات بعد طواف الوداع
    د. محمد بن علي اليحيى
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / سير وتراجم
علامة باركود

أبو بكر الصديق

أحمد الجوهري عبد الجواد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 20/4/2017 ميلادي - 23/7/1438 هجري

الزيارات: 27893

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أمجاد الإسلام.. في سير أعلامه الكبار


مقدمة:

في تاريخنا الإسلامي صفحاتٌ مشرقة، تكاد روعتها ووضاءتها تذهب بالعقول والأبصار.

وبعثُ هذا التاريخ، وتقديم أمجاده إلى الجيل الحاضر: ضرورةٌ وفريضة؛ من أجل أن يتزود بها وهو يصنع الحاضر ويخطو نحو المستقبل في ثقة وعزم واقتدار.

 

وقد كتبت من قبل عن ثلَّة من عظمائنا الكبار في كتاب "صفعات قادت إلى الخيرات"، ثم أتبعتُها ثلةً أخرى كريمة في كتاب: "علماء أغنياء آثروا العلمَ على الملذَّات"، وقد حاولت من خلالهما الغوص إلى أعماق تاريخنا، مستخرجًا اللآلئ والدرر، قاصدًا الإلمام بشخصيات تاريخنا الممتد شرقًا وغربًا، الضارب في أعماق الزمان طولًا وعرضًا؛ لأعرِّف القارئ الكريم بأكبر قدر مِن أمجادنا العظيمة، ولم أكن في ترجمتي لهذه الشخصيات أسرُدُ القصص والمواقف من حياتهم سردًا، بل كنت أقف معها مولِّدًا العظات والعبر، مستنطقًا الشخصية لتفيدنا بمواقفها وظروفها في مواجهة الحياة على أرض الواقع، وتجيب لنا بسَعَة تجاربها عن مشكلات العصر.

 

وقد تقبَّل الجمهور الكتابينِ - والفضل لله - بقَبول حسن، وأثنى عليهما ثناءً عطرًا، والحق أنه قد هالني كمُّ الإعجاب والإطراء الذي ناله الكتابان، وأسعدني نزولهما هذا المنزل، فلله الحمد أولًا وآخرًا، وقد راعني أثناء ذلك تساؤلات القراء عن حقيقة بعض الشخصيَّات التي أوردتها بالكتابينِ، وقد ظنُّوها من بُنيَّات الخيال، أو مما حسَّنته وطوَّرته المبالغاتُ والمزايدات؛ إذ ما تصوَّر هؤلاء القرَّاء أن يكون في تاريخ الإسلام مثلُ تلك الشخصيات العظيمة ثم لا نسمع بها، أو تكون للإسلام تلك الأمجاد والحضارات والمدنيات ولا نعرف عنها شيئًا!

 

وقد حدا بي هذا إلى التفكير في تناول أمجاد الإسلام بشيء من التوسُّع عن طريق الترجمة لبعض العظماء الذين بنَوا هذه الأمجاد عبر التاريخ؛ بُغْية تعريف الأجيال بما حواه هذا التاريخ من أمجاد، وما حققه على أرض الواقع من بطولات، من خلال الحديث عن العظماء الخالدين القادة الأبطال، ونرسم أثناء ذلك الطريقَ لاستعادة هذا المجد الضائع، من خلال الاقتداء بسيرهم؛ حيث إن القدوة الحسنة هي أول لَبِنة في بناء الشخصية الفعالة المنوط بها استعادة ذلك المجد، فكانت تلك الصفحات، التي أحسب أنها ليست حبرًا على ورق، ولا قصصًا لملء الفراغ، كلَّا بل هي صنائع كبيرة تجسَّدت يومًا، وكانت درة في تاج التاريخ الإنساني، وحقائق عظيمة عاشت يومًا في دنيا الناس، وأنفاسًا خالدة تمثَّلت يومًا في أعمال ساهمت في ريادة أمتِنا وبناء حضارتها التي أذهلت الدنيا.

 

إنها - أيها القارئ الكريم - قطعٌ حيةٌ من تراث أمتنا، تبعث عظمة الإسلام وأمجادَه في النفوس، من خلال ترجمة لمائة من الأعلام، رأيت أنهم أكبر الشخصيات أثرًا في تاريخ أمتنا العريق.

 

وهدفي من هذه السِّير أن تُوقِد سطورُ حياة هؤلاء العظماء مصابيحَ الوعي؛ لتُرِي جيلنا الحاضر وأجيالنا المستقبلة صفحاتِ المجد والفخار الذي شهدَتْه وعاشته أمتنا؛ لنبني في حاضرنا ومستقبلنا خلفًا مجيدًا لسلفٍ عزيزٍ، ونقيم واقعًا يكون بحق خيرَ امتداد لهذا الماضي المشرق العزيز.

 

إنَّني لحريصٌ أن تكون شخصياتها عناصرَ في صنع ترياق ودواء يُفيد أمتنا في حاضرها؛ للشفاء من عللها، والخروج من أزمتها، والالتفات إلى دورها في الرِّيادة، ذلك الدور الذي غابت عنه طويلًا.

 

إنني أريدها أن تنفخ الروح في رماد النفوس، فتستيقظ بعد سُبات، وتنبعث بعد موت؛ لتُري الدنيا عظمة الإسلام وأمجادَه من جديد.

 

ولا يظنَّنَّ ظانٌّ طالع فهرس الكتاب، أو اختلس النظر إلى أسماء الشخصيات التي ترجم لها، أنَّه أحاط بما قيل في بعضها علمًا، وأن الذي سيقرؤه عنها فيه معادٌ مكرورٌ؛ فإن مناجم الذهب التي نفتِّشها هنا تمدُّنا - لا ريب - بكثير من الكنوز التي لم يقف عليها قبل ذلك، ولئن فرضنا أن حدسه ذاك صدَق بخصوص شخصية منها، كان قد أكثر البحث في تفاصيل حياتها، وتخصص في القراءة عنها، وتوسَّع في الإلمام بما كُتب فيها؛ فلن يصدُقَ ذلك جزمًا على بقية شخصيات الكتاب التي لا أعلم أنها اجتمعت يومًا بين دفَّتي كتاب.

 

إضافة إلى أن صفحات كتابنا هذا ليست تراجم فحسب، إنها بحث في أسرار صنعة المجد، وكشف عن الجذور العميقة والطبيعية للقضايا الكبرى والمهام الملحَّة التي تواجه حياتنا الآن، متسائلين حول كل قضية:

هل طرقها هؤلاء الأعلام؟

وبأي مستوى من مستويات العمق والنضج تناولوها؟

وما هو موقفهم منها، وعلامات الاستفهام والمشكلات التي طرحها عصرُهم على التاريخ وتطورات الحياة؟


إن ظاهر هذه الصفحات ترجمة للشخصيات المذكورة بها، ولكن باطنها مختبَر يُحلِّل من خلال تجارب هذه الشخصيات تاريخَ المجد في الإسلام؛ بهدف استخلاص عوامل النهوض وتفعيلها، واستبانة أسباب الانهيار وتجنبها.

 

الفكرة الأساسية لهذه الصفحات أن تكون هذه التراجم "بعثًا للتراث، وفرصة لإعادة تقويمه، على أساس من المنهج العلمي؛ لتتحوَّل هذه التراجم إلى أرواح حية تعيد لنا شخص صاحبها من جديد إلى رحاب الحياة؛ علمًا وفكرًا، وريادة وثورية، ليسهم مرة أخرى في إذكاء أُوار النار التي تصهر بها اليوم لبنات البناء الحضاري الذي نرغب في تشييده، كما أسهمت من قبل في هذا السبيل إسهام الرواد العمالقة الذين لا يشق لهم غبار"[1].

 

ليست هذه الصفحات سردًا تاريخيًّا لحياة هؤلاء الخالدين إذًا!

إنها تتجاوز ذلك إلى البحث في ظروف حياتهم وقوانين تطور مجتمعاتهم، ومحاولة رصد تفاعلاتهم مع هذه الظروف، وتجاذبها إياهم وتجاذبهم إياها إلى أن استطاعوا قيادتها والتأثير فيها ومعالجة مشكلاتها، وكيف استطاعوا بناء هذا المجد وصناعته، وكيف قدروا على تشكيل التاريخ والتأثير فيه وتغيير مجرياته؟!

 

إنه لا يَسَعُنا - ونحن نسعى لاستعادة مجدنا المفقود - أن نتجاهل الأسس والعوامل التي بُني عليها هذا المجد وأقيم أولَ مرة.

 

كما لا يَسَعُنا أيضًا - في هذا الطريق - إغفال معاوِل الهدم والتقطيع التي فتَّتت هذا المجد وأزالته حتى صارت حالُنا إلى ما نحن عليه اليوم.

 

ومثل هذين الأمرين أمرٌ ثالثٌ يجب أن نضعه نُصْبَ أعيننا، ألا وهو أنه لا يمكن لنا التغافل عن عوامل الإخفاق التي انتابت المحاولاتِ المتعددة التي بُذلت لاستعادة أمجادنا ثم باءت بالفشل، فلنتعرَّف عليها ونضعها نصب أعيننا؛ حتى لا نقع فيها فنبوء نحن أيضًا بالإخفاق!

 

هذه الصفحات تهتف بكل مسلم وَفيٍّ واعٍ:

نحن إلى هذه الثلة الكريمة ننتمي، وإلى هؤلاء العظماء نضرب بشجرة نسَبِنا، وعن هذه الشجرة العظيمة العملاقة التي أنبتت وأينعت وأطعمت ثمارها أهلَ الأرض فعرَفوا طعم الحياة نتفرع.

 

لا أزعم أنني قد سطرت هنا حياةَ كل العظماء، فإنهم في خضمِّ تاريخنا المجيد كالنجوم في السماء لا يحصيهم إلا خالقُهم، ولا يتصور الوصول لأعماق ذلك التاريخ كاملة وصيد كلِّ لآلئه، إنما اخترتُ من كل فئة واحدًا، ومن كل زمن فردًا، ومن كل ظرفٍ شخصية مؤثرة تفيد دراستُها واقعَنا؛ لتشابه ظرفها مع ظرفنا.

 

هكذا حرَصتُ على تنوع هؤلاء المائة؛ حتى يكون تناول الشخصيات شموليًّا، وقد أردت هذه الصفحات منجمًا زاخرًا بالتجارِب الموفقة والحكيمة التي قد تجد فيها أمتي المفاتيحَ الموافقة لحل مشكلاتها الحاضرة، وتأسيس مستقبلها؛ باستلهام مِن عراقةِ ماضيها.

 

إنه ليؤسفني أننا نقف عند حدود ما كتب عن شخصياتنا، ولا نجدد النظر في سيرها مع مرور الزمن، ولا نستفيد من تراثها وفقهها لحلول مشكلاتنا الحاضرة، ومِن ثَم جعلت هذا هدفًا لي في هذه الصفحات.

 

وإن لله تعالى سننًا ربانية في الكون، في الأفراد والدول، في المسلمين والكافرين، وهذه السنن عملت فيمَن قبلنا، وهي باقية تعمل فينا، وستعمل فيمن بعدنا، فإذا أردنا أن نفسر شيئًا مما يحدث حولنا، فلا بد أن نقرأ التاريخ ونستوعب أحداثه؛ لنتعرف على سنة الله في الأمور، ونتعامل على وَفْقِ ما يطلب الله منا حيالها، فهي ذات معادلات في النجاح والرسوب.

 

وإذا كان تجاهُل حرف "لو" أول دروس التاريخ؛ لأنه لن يغير من أحداث مضت شيئًا، فإن الاستفادة من هذه الأحداث إيجابيًّا وسلبيًّا هو الدرس الذي يليه، فالتاريخ هو ذاكرة الأمم، أو المعمل الكبير الذي يحوي جميعَ التجارب البشرية، ويحفل بمعادلات النجاح لمن يحسن صياغتها، ومعادلات الخسارة لمن أراد اجتنابها والحذر منها، ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وليس عبثًا أنزل اللهُ تعالى ثُلُثَ كتابه العظيم قصصًا وتاريخًا!

 

وفي هذه السِّير حرَصتُ على إبراز تلك المعادلات وتبيينها؛ لتكون ظاهرة حية نابضة قريبة لمن رامها.

والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.


أمجـاد الإسلام.. في سير أعلامه الكبار

(1) أبو بكر الصديق


أيُّ عظماء مائة أولئك الذين لا يكون رأسَهم أبو بكر الصديق، أفضل البشر قاطبة بعد أنبياء الله؟!

لا شك أنهم تاج العظمة الإنسانية الذين يحوزون فخار بني آدم بأسره!

وأي عظماء مائة أولئك الذين لا يكون رأسهم أبو بكر الصديق؟

وهو - بعد النبيِّين والمرسلين - درَّة هذا التاج، والمتفرِّد بذروة سَنام الصدِّيقية عن جدارة واقتدار!

 

إنهم ولا بد أن يكون كذلك، ولا بد من أن يكون فيهم أبو بكر، ولا بد أن يكون أبو بكر أعظمَهم ومقدَّمهم، ولا بد أن يكونوا مع أبي بكر فخارَ بني الإنسان!

 

وكيف لا، وما طلعت شمسٌ ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصدِّيق؟ لهذا كان من الواجب، بل من الضروري، أن يبدأ حديثنا من هنا، من عند أبي بكر!

 

عاش أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاثًا وستين سنة، فقد ولد سنة (50) قبل الهجرة، وتوفي سنة (13) بعدها.

 

تنقسم حياة الصديق إلى ثلاث مراحل رئيسة:

الأولى: في الجاهلية، وتقدَّر بسبع وثلاثين سنة تقريبًا.

والثانية: مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام إلى أن قُبض صلى الله عليه وسلم، وتقدَّر بأربع وعشرين سنة.

والثالثة: بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي أبو بكر رضي الله عنه، وهذه مدة خلافته، وهي سنتان وثلاثة أشهر وبضعة أيام.

 

وقد كان أبو بكر في هذه المراحل جميعها قدوة ومثلًا أعلى لكل الذين عرَفوه، وأخبارُه فيها جميعًا معجِبة مُثيرة، ولنُلقِ الضوء على كل واحدة منها مفردة، بما يكشف اللثام عن محاسنها، ويقرِّبنا من هَدْيها:

المرحلة الأولى في الجاهلية:

عبدالله، هذا هو اسم الطفل الذي وُلد للزوجين: عثمان بن عامر، المكنَّى بأبي قحافة، وسَلْمى بنت صخر بن عامر، المكناة بأم الخير، وبيِّنٌ أنهما كانا أبناء عمومة.

 

كان ذلك المولد الميمون في عام 573 ميلادية؛ أي: بعد حادث الفيل بثلاث سنوات تقريبًا[2]!

ولقد شاء الله أن يجمع ذلك المولودُ إلى عراقة النسب والأصلِ عظمةَ المناقب والفضائل، فها هو قد نمي لأبوين من قبيلة تيم، أحد القبائل التي انتهى إليها الشرفُ في قريش، ونشأ وترعرع في مكة يخطو في طريق الفضل، ويصعد سلَّم المجد، فتعلم الأنساب والأخبار حتى غدا أنسَبَ قريشٍ لقريش، وأعلمَ قريش بها وبما فيها من خير وشر، وتخرَّج على يديه كثير من النسَّابين المعروفين فيها، حتى غدا من رؤساء قريش وأشرافها، وكان محببًا فيهم، مألفًا لهم، ذا خُلُق ومعروف، حسن المجالسة[3].

 

وكان أحدَ عشرةٍ عاد فخر قريش بأسرِه فيهم، ومن ثم أضحت بيده أحد أعمال قومه الكبار، فأوكل إليه أمر الدِّيات، ولا غرو؛ فقد كان عبدالله بن عثمان يتمتَّع بكثير من صفات العظمة والقيادة، ومن ثم كان إذا تحمَّل شيئًا من الديات صدَّقته قريشٌ وأمضوا حمالته وحمالة مَن قام معه، وإن احتملها غيرُه خذلوه ولم يصدِّقوه[4]، وأيضًا كانوا يقدِّمونه في كثير من شؤونهم؛ لسداد رأيه، وحسن مشورته، وسَعَة علمه!

 

وكان تاجرًا يرتحل بين البلدان، فاتسعت مداركه، وغزر علمه، وتعمقت خبرته، وعرف الناسَ وعرَفه الناسُ، سيما وقد كان ينفق من ماله بسخاء وكرم، فعُرِف بذلك واشتَهَر[5].

 

تلك صفات الرجل الذي يعده الله ويهيِّئه؛ ليكون يمينَ النبي صلى الله عليه وسلم ورفيقه ووزيره، والذي سيرحل النبي صلى الله عليه وسلم عنه تاركه ليكون من بعده نائبه وخليفته وأميره.

 

وكأنما عظمته تلك إرهاصٌ بمنزلته، ونبوءة بالمهمة التي تنتظره، ولعله لهذا السبب أيضًا حُفِظ من شر الجاهلية وشِراكها المختلفة، فكان عفًّا صينًا، ذا مروءة، عاقلًا، هداه عقلُه للامتناع عن شرب الخمر والسجود للأصنام، فحرَّم الخمر على نفسه[6]، ولم يسجد لصنم قط، لقد ارتقت نفسه عن أراذل الأمور، ونأى بها عن سفسافها، وكيف لا يفعل وهو العاقل الرشيد؟ الذي أتى به أبوه صبيًّا يعرفه على آلهته قائلًا: "هذه آلهتُك الشمُّ العوالي"، فدنا أبو بكر من الصنم وقال له: "إني جائع؛ فأطعِمْني"، يقول أبو بكر: فلم يُجبني، فقلت: "إني عارٍ؛ فاكسُني"، فلم يُجبني، فألقيتُ عليه صخرة فخرَّ لوجهه[7].

 

هذا فعله وهو صبي، فكيف به وقد صار رجلًا ملمًّا بعلوم زمانه، خبيرًا بواقعِه، رحالة بحاثة، يلتمس الهدى عند أصحاب الاطِّلاع والمتدينين بالأديان المختلفة؟ ولنُلقِ إليه الفؤاد يقصُّ علينا طرفًا من ذلك، يقول:

كنت جالسًا بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفَيل قاعدًا، فمرَّ أمية بن أبي الصلت، فقال: "كيف أصبحت يا باغي الخير؟"، قال: "بخير"، قال: "وهل وجدتَ؟"، قال: "لا"، فقال:

كل دينٍ يومَ القيامة إلا *** ما مضى في الحنيفيَّة بورُ

 

أمَا إن هذا النبي الذي يُنتظر منا أو منكم، يقول أبو بكر: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبيٍّ يُنتظر ويُبعث، فخرجت أريد وَرَقة بن نوفل، وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصدر، فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: "نعم يا بن أخي، إنَّا أهلُ الكتب والعلوم، ألَا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسبًا - ولي علم بالنسب - وقومك أوسط العرب نسبًا، قلت: "يا عم، وما يقول النبي؟"، قال: "يقول ما قيل له، إلا أنه لا يَظلم ولا يُظلم ولا يُظالم"، فلما بُعث رسول الله، آمنتُ به وصدَّقته[8].

 

هذا هو أبو بكر الإنسان قبل أن يُسلم، فكيف هو حين يأتيه الإسلام، أو يأتي هو إلى الإسلام؟!

إن في هذه المرحلة من حياة الصدِّيق مثلًا أعلى للإنسان - كل إنسان - يريد أن يُوقظ في نفسه الفطرة التي تبرز إنسانيته بقيمها الكبرى الخالدة: الحق والخير والجمال، تلك القيم العليا التي طالما سعى لها الإنسان، وبذل في سبيل الحصول عليها أغلى ما يملك.

 

وفيها درس أيضًا للذين يريدون أن يصنعوا رجالًا تقوم على أكتافهم دولة الإسلام، هذا الدرس هو أن يكون هؤلاء الرجال أزكياء النفوس، أذكياء العقول، بالفطرة لا بالصناعة، فإن مثل هؤلاء تكون قلوبهم طيبة، وسرائرُهم سليمة، وفهومهم زاكية، وجوارحهم نقية، وأخطاؤهم قليلة!

 

ألم نقل: إن الله هيَّأه لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأعدَّه ليكون يمينه في حياته، وخليفتَه بعد مماته؟!

 

وحين بلغ هذا الإعداد ذروتَه، بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمن به أبو بكر وكان معه، وكانت تلك هي:

المرحلة الثانية مع النبي صلى الله عليه وسلم:

بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر أول الناس إيمانًا به وتصديقًا له؛ إذ كان قبل البعثة على صلة قوية به، ومعرفةٍ عميقة بأخلاقه، ويعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرمِ أخلاقه - ما يؤهله لمثل هذا المنصب، ويجعله صادقًا في كل حرف يتفوه به من مشكاته.

 

ولهذا حين دعاه رفيقه محمدٌ إلى الإيمان به وتصديق نبوته، لم يتردَّد أو يتأخر، بل سارع فكفَر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقرَّ بحق الإسلام، وأصبح مؤمنًا، وقد سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم سرورًا كبيرًا بإسلامه ذاك[9].

 

فكان أول مَن أسلم من الرجال[10]، وليست هذه بالأولية الوحيدة في حياته؛ بل فيها غير ذلك كثير؛ إذ كان رضي الله عنه سباقًا إلى كل خير، لا يسابقه أحد فيدركه!

 

وضع أبو بكر كلَّ إمكانياته وقدراته في سبيل خدمة دينه من أول يوم؛ ماله، وأهله، وعلاقاته، وعلمه، ونفسه، وبدأ يدعو إلى الإسلام مَن وثِق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه ستةٌ من العشرة المبشَّرين بالجنة[11]، وخلق سواهم كثير، فيهم أُسَرٌ بأكملها، منها أسرته.

 

لقد واسى أبو بكر الإسلامَ وسانده بماله، وكان ينظر من يُسلم من العبيد والضعفاء وليس لهم ظهرٌ يسندهم، ولا عشيرةٌ تحميهم، ولا سيوفٌ تذود عنهم، فيشتريهم ويعتقهم؛ لينجوا من آلام وعذاب مقيم.

 

وحين اشتد الأذى بالمسلمين وزاد فوق الطاق، أذن الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رفيقُه في رحلته تلك وأنيسه في الغار أبا بكر رضي الله عنه، تلك الرفقة التي أسعدَتْه غاية السعادة على ما وصفَتْ عائشة رضي الله عنها بقولها: فواللهِ ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي[12]، وحين يتحول الفرح إلى بكاء، تكون تلك قمة الفرح.

 

هاجر أبو بكر إلى المدينة، وشارك بقوة في تأسيس مجتمعها ودولتها الناشئة، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر والمَشاهد كلَّها، ولم يَفُتْه منها مشهد، بداية من بدر إلى فتح مكة، ومن قبل ذلك ومن بعده كان طوع إشارة النبي صلى الله عليه وسلم، يكلفه بما يشاء فيُمضيه، ومن ذلك الإمارة على بعثة الحج، والإمامة بالناس في الصلاة في مرضه الذي توفي فيه، وكأنما كانت هذه الأمور وغيرها تهيئةً له وإعدادًا لما سيؤول إليه أبو بكر من خلافة رسول صلى الله عليه وسلم، فيوم الاثنين من ربيع الأول لعام (11) من الهجرة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام أبو بكر مكانه في رئاسة الناس.

 

لقد جمع أبو بكر في تلك المرحلة جميعَ خِلال الحق، وحاز في المثُل العُليا قصبَ السبق، ويكفي أنه أول مَن أسلم، وأول من لقِّب في الإسلام، لقَّبه النبي صلى الله عليه وسلم (عتيقًا)، وأول مَن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم[13]، وثاني اثنين، الله ثالثهما، ووزير النبي صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه من دون الناس جميعًا كي يرافقه كسوادِهِ، يدخل معه ويخرج معه، وكان منه بمحلِّ السمع والبصر.

 

وخلال هذه المرحلة كذلك استوى أبو بكر على عرش الصدِّيقية برضا الصحابة أجمعين، وحق له؛ فهو بلا نزاع خير مَن طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين، وسيد كهول أهل الجنة ما خلاهما[14].

 

ولقد مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ، وإنه بعد وفاته لأعظم رضا عنه وعن أعماله، بما قدَّم خلال ذلك من جلائل الأعمال لدين الله، وهذه هي المرحلة الثالثة من حياة الصدِّيق:

المرحلة الثالثة: خليفة النبي صلى الله عليه وسلم:

مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعدما بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، فرأى المسلمون أن خير مَن تجتمع عليه كلمتُهم بعده هو الرجل الذي اختاره هو لدينهم، فكان أنْ رضُوه لدنياهم، وبذا تولى أبو بكر خلافة المسلمين وبقي فيها إلى أن مات، وكانت مدة خلافته سنتين وشهرين وبضعة أيام، وقد صدقت رؤيتهم تلك؛ إذ بخلافة أبي بكر اعتدل الدين واندحر الشرك، وبها قوي الإيمان ورغِم النفاق، وظهر أمر الله على كلِّ ما عداه ومن عاداه.

 

لقد كان أبو بكر رضي الله عنه رجلَ هذه المرحلة من حياة الإسلام بجدارة واقتدار، وذلك منذ أول يوم، وكان في وقفاته حيالَ القواصم التي كادت تكسر ظهر الإسلام حياةُ الدين وأهلِه، فعن أي منها نحدِّث، وبأيها نذكِّر؟ هل نحدث عن ثباته يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، أم نحدث عن فقهه يوم السقيفة؟ أم نحدث عن حزمه يوم الردة؟!

 

لقد أيَّد الله الدينَ وثبَّت أقدام المسلمين بأبي بكر في هذه الكُرب العظيمة؛ فلولا أنه قام في هذا الشأن، لكان للإسلام تاريخ آخر، يعلم الله وحده إلى أين كان يصير!

 

ولا ريب أنه في ذلك يسيرُ على الطريق الأولى التي اختطها لنفسه في نصرة الحق الذي يؤمن به، ألَا وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم مهما كانت التضحيات، أليس هو - أيام النبي صلى الله عليه وسلم - الذي سارَع إلى التصديق وقت أن كان الناس يتردَّدون، وهو الذي أعلن إيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حين كان الجميع يستخْفون، وهو الذي استيقن بالحق يوم الحديبية أنه مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان الجميع يتشككون[15]؟!

 

فلا غرو أن نراه اليوم على ذات الطريق ثابتًا حين يَهِنون[16]، بصيرًا حين يحارون، وحازمًا حين يخورون[17]!

 

ولعل الدرس الأكبر الذي تمدنا به حياةُ الصديق هو: الاتباع وعدم التفريط في أية جزئية من جزئيات الشرع الكريم قرآنًا وسنةً، فلا فلاح ولا نجاح في الدنيا والآخرة إلا باتباعهما، وهذا درسٌ واضحٌ بيِّنٌ في كل كلمة من سيرة الصديق.

 

لقد أثبتت الحوادثُ أن أبا بكر كان أحقَّ الناس بقيادة الأمة، سيما في هذا الدَّور الأهم من أدوار حياتها، ليس لأنه خيرها وأفضلها دينًا وإيمانًا فحسب، فما بهذا فقط ينبغي أن تعطى القيادة، فقد كان إلى جوار ذلك قائدًا عسكريًّا محنكًا وسياسيًّا ملهمًا، حتى إنه سبق في هذه المرحلة المبكرة الإستراتيجياتِ الحديثةَ، وخُطتُه في الدفاع عن المدينة، ومساعيه في الحفاظ على مكاسب الإسلام الأولى، وغيرها من النجاحات التي حققها في خلافته القصيرة - خيرُ دليل على ذلك، "فلم تمضِ أيام معدودات على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اشتبك الإسلام في صراع رهيب مع الوثنية التي عاودتها الحياة فجأة، والصليبية الرابضة في شمال الجزيرة، تمنع الدخول في الإسلام، وتحبط دعايته بالقوة"[18]!

 

ولم تمضِ أيام معدودات كذلك حتى أذعنت الجزيرة، وخضعت الوثنية بعد ضربة كسرت فقارَها واعتصرت روحها، فهمدت إلى الأبد، وطرد الرومان عن الحدود، بل وبدأت الفتوحات الإسلامية تقتطع من جسد الإمبراطوريتين الكبيرتين في العالم؛ الفارسية في العراق، والبيزنطية في الشام، تمهيدًا لسقوطهما بعد أمد قصير.

 

كان صانع هذا المجد هو أبا بكر الصديق، ذلك الرجل الذي ربَّاه محمد صلى الله عليه وسلم على معرفة الحق والفناء فيه، فصدق ما عاهد اللهَ عليه، ونهض كأعتى الأبطال بالأثقال الباهظة التي رُمي بها، وحمل المسلمين يومئذٍ معه على تحمُّل هذه الشدائد، والنهوض بهذه التبعات.

 

لقد حفِظ العاصمة، وجيَّش الجند، وولى القادة، ورسم الخطط، وبعث الطلائع، وحارب بالموقف والكلمة مع السيف والدرع، حتى انقشعت الغمة، وتحقَّق النصر، وثبَتت قدم الإسلام، واندحر أعداؤه.

 

وإذا كان دستور الإسلام هو القرآن، فإن أبا بكر قد قام بجمعه في مصحف واحد.

وإذا كانت المدينة يومئذٍ عاصمته، فقد حماها وحافظ عليها.

وإذا كانت الجزيرة العربية يومئذٍ موطنَ شَعْبه، فقد وحَّدها أبو بكر وأمَّنها من الداخل، ودفع المخاطر عن حدودها، وحصن ثغورها في الخارج.

 

وإذا كانت الشورى هي حلقة الوصل بين الحاكم ورجاله، فقد أعلى أبو بكر مكانتها حين جعلها منهاجه في الحكم ونظامه في كل أمرٍ، حتى إني لا أعلم أحدًا كان أكثر مشورة لأصحابه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق، حتى كانت أهم الوصايا الإستراتيجية في القيادة هي وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لعمرو بن العاص رضي الله عنه، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور في أمر الحرب، فعليك به"[19].

 

وهذه أسس الدولة وأركانها الرئيسة، وعليها قامت دولة الإسلام في خلافة الصديق.

لقد وضع أبو بكر المَعْلَمَ الأول لمجد الإسلام فوق أساس النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك المجد الذي سنراه بعد قليل ملءَ السمع والبصر، وملء البر والبحر، في شرق العالم وغربه، يقدِّم للناس أروع ما عرفته الإنسانية من مظاهر الحضارة الحقة، ومعالم المدنية الصحيحة.

 

ذلكم هو أبو بكر الذي يعرفه المسلمون: زاهدًا ورعًا، جوادًا منفقًا، خاشعًا لينًا، وهو في القمة من ذلك، ولنضف إليها أيضًا أنه كان يقظًا حذرًا، وكان نِعْمَ المثل للإداري البارع، والقائد المحنَّك، والسياسي الملهَم، والبطل المغوار.

 

وتقفنا سيرة الصديق على أمهات الدروس المستفادة من تاريخ المجد الإسلامي، وهي كثيرة بليغة، لكني أختار أبلغها ونحن في أول الطريق؛ لنعرف أول طريق بناء هذا المجد كيف كان!

 

إنه درس السَّقِيفة الذي يعرفنا بدور التربية في بناء الأمم والشعوب، فـ"لا أعتقد أن أحدًا من الممكن أن يقبل بما حدث في السقيفة إلا إذا كان على درجة عالية راقية من التربية، فالجهد الضخم الذي بذله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تربية هذا الجيل - سواء في فترة مكة أو في المدينة - لم يصبح هباءً منثورًا بموته صلى الله عليه وسلم أبدًا، فمعجزة هذا الدين هي بناء الرجال، وليس من السهل أبدًا أن يتنازل رجل مثل سعد بن عبادة عن الخلافة، وهو يقف في عشيرته وسَقيفته ومدينته، وليس من السهل أن يفزع الفاروق من الخلافة، فيبعدها عنه إلى الصدِّيق رضي الله عنه، وليس من السهل أن يتمنى الصديق رضي الله عنه أن لو حمل الأمرَ رجلٌ غيره وكفاه تبعات الأمانة الثقيلة، وليس من السهل أن يتسابق الأنصار على بيعة قرشي، وليس من السهل أن يقبل أهلُ المدينة جميعًا وأهل الإسلام جميعًا رجلًا واحدًا دون اعتراض ولا تمرد.

 

هذا كله نتاج تربية، ولن يأتي هذا من فراغ، ولن ينزل عليهم الورع فجأة.

وإذا أردنا أن نكون مثلهم، فلا بد من تربية جيل يعرف قيمة الدنيا ويزهد فيها، ويعلم قيمة الآخرة ويرغب فيها، لا بد من تربية جيل يقدِّم رضا الله عز وجل على هوى نفسه، ويستجيب لشرع الله وإن تعارض مع مصلحته ورأيه.

 

ولا بد من تربية جيل يتنازل لأخيه عن أشياء يعتقد أنها قد تكون من حقه، لا يتنازل عن ذلك إلا لله، ولا يرغب من وراء ذلك إلا رضا الله وجنته، إن رُبي هذا الجيل فسيصبح أمر الخلافة والصدارة والمجد أمرًا يسيرًا إن شاء الله، وإنه ليسيرٌ على من يسره الله عليه"[20].

 

أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام، فأوضح معالمها، وبين أهدافها، ورسم الخطوط العريضة لمسيرتها، ولكنه صلى الله عليه وسلم رُفع إلى الرفيق الأعلى ولم يستكمل البناء الفني لهذه الدولة، وحين أتى بعده الصديق رضي الله عنه كان أن انتفضت عليه معظم القبائل كما ذكرنا، فشُغِل بتوطيد أركان هذه الدولة، ولم يمهله القدر؛ إذ كانت مدة خلافته أقصر مما كان يُتوقع؛ ولذلك لم يدخل تطورًا كبيرًا في الدولة، ولما كان عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتسعت الفتوح، وفُتحت على المسلمين الدنيا بخيراتها وذهبها، وواجه المسلمون حضارات وأوضاعًا لم يعهدوها من قبل، فكان ولا بد من أن يواجه عمر هذه الحضارات والتطورات الجديدة في كل المجالات بتطورات مثلها، مستلهمًا روح الشريعة وأهدافها العامة[21].

 

وهذا ما فعله الفاروق؛ فوضع بذلك لَبِنة جديدة في بناء المجد الإسلامي، نتعرف إليها في الصفحات التالية.



[1] جمال الدين الأفغاني (10)؛ د. محمد عمارة، دار الشروق، وفي هذه المقدمة كليمات أخرى منها منثورة.

[2] انظر: تاريخ الخلفاء، (56) السيوطي، تحقيق إبراهيم صالح، دار صادر.

[3] انظر: البداية والنهاية (3/39).

[4] انظر: أسد الغابة (3/310)؛ ابن الأثير.

[5] أبو بكر الصديق (66)؛ علي الطنطاوي، دار المنارة.

[6] أخرجه أبو نعيم بسند جيد؛ كما في تاريخ الخلفاء (32).

[7] انظر: الخلفاء الراشدين (31)؛ محمود شاكر.

[8] تاريخ الخلفاء (52).

[9] البداية والنهاية (3 /40).

[10] انظر: صحيح سنن الترمذي (2898).

[11] انظر: الرحيق المختوم (32)؛ صفي الرحمن المباركفوري، دار العصماء - دمشق.

[12] مسند إسحاق بن راهويه (2/ 584).

[13] رواه ابن أبي خيثمة بسند صحيح؛ كما في تاريخ الخلفاء (33).

[14] انظر: صحيح سنن الترمذي (2897).

[15] انظر: صحيح مسلم (1785).

[16] انظر: صحيح البخاري (3467).

[17] انظر: جامع الأصول في أحاديث الرسول (8/ 605)، حديث (6426).

[18] فقه السيرة (ص493).

[19] أخرجه البزار والعقيلي، وسنده حسن، كذا في الكنز (٢ /163)، وقال في المجمع (٢/٣١٩): رواه الطبراني ورجاله قد وُثِّقوا.

[20] سلسلة الصديق (رقم4) محاضرات صوتية للدكتور راغب السرجاني.

[21] موسوعة فقه عمر بن الخطاب (9 ،10)؛ محمد روّاس قلعه جي، دار النفائس.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أبو بكر الصديق.. رجل الدولة العظيم
  • أبو بكر الصديق ودوره في الدعوة الإسلامية
  • لقاء إذاعي - أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
  • أبو بكر الصديق خليفة رسول الله (1)
  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه
  • أول خليفة في الإسلام أبو بكر الصديق
  • لماذا اختار أبو بكر الصديق رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أميرا للمؤمنين؟
  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه (خطبة)
  • لماذا سبق أبو بكر؟
  • أبو بكر الصديق (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • أبو بكر المروزي ومسند أبي بكر الصديق(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • كتاب تحفة الصديق في فضائل أبي بكر الصديق لابن بلبان(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق في الغار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أوليات: أبو بكر الصديق رضي الله عنه(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أبو بكر الصديق (نشيد للأطفال)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من هو أبو بكر الصديق؟(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • أبو بكر الصديق القدوة الثاني(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مدرسة "أبو بكر الصديق" الإسلامية بمنطقة بادبوا في جامبيا تستضيف وفدا دعويا(مقالة - المسلمون في العالم)

 


تعليقات الزوار
1- الرقيق القوي
حسن - مصر 22-04-2017 04:49 PM

جزاكم الله خيراً .. وبارك في ما تخطه أناملكم ونفع به

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 29/11/1446هـ - الساعة: 21:31
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب