• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم والذين جاؤوا من ...
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    الحج المبرور
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    مائدة التفسير: سورة المسد
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أفضل استثمار المسلم: ولد صالح يدعو له
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    السماحة في البيع والشراء وقضاء الديون
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    خطبة: الحج ومقام التوحيد: بين دعوة إبراهيم ومحمد ...
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    موقف الشيعة من آيات الثناء على عموم الصحابة
    الدكتور سعد بن فلاح بن عبدالعزيز
  •  
    الرضى التام بعطاء الله ومنعه
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    الدرس العشرون: الهجر
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    الأدلة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من ...
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    إذا أقبلت العشر (خطبة)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (9)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    من فضائل الأوقات
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    وجوب الالتزام بالتعليمات المنظمة للحج وأولها ...
    عبدالمحسن بن محمد بن أحمد العامر
  •  
    سلسلة شرح الأربعين النووية: الحديث (24) «يا عبادي ...
    عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / عالم الكتب
علامة باركود

ليلة ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

ليلة ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني
محمد بن عبدالله السريِّع

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/3/2017 ميلادي - 28/6/1438 هجري

الزيارات: 21169

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ليلةُ ثلاثاء

مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

لم يكن يوم الثلاثاء، في الثُّلث الأخير من حياة الحافظ ابن حجر (827هـ - 852هـ)، يومًا عاديًّا من أيام الناس، بل كان دُرَّةَ أسبوعِ القاهرةِ الحافل، كان يومًا ينتظره رُوَّادُ النهرِ العسقلانيِّ العذبِ بشغف.

 

البدايةُ في الثامن من صفر، سنة 827هـ، يقارب ابنُ حجر يومَها الرابعةَ والخمسين من عُمره، ويعيش أَشُدَّ حياتِه العِلمية، والعَمَلية أيضًا، فقد تولى قبلَ قرابةِ أسبوعين فقط أرفعَ المناصب الشرعية في مصر: ولاية قضاء القضاة.

 

في «أجلِّ خانقاه بالقاهرة بنيانًا، وأوسَعِها مقدارًا، وأتقَنِها صنعةً»، خانقاه بيبرس الجاشنكير المنصوري[1]، يجلس شيخُها وأستاذُها، الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني، مَهيبًا جليلًا وقورًا، يستمع إلى المستملي يستفتح بقراءة سورة الأعلى، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو للشيخ، وللحاضرين، وللأئمة الماضين.

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

جنبات الخانقاه البيبرسية: www.archnet.org

 

لا تمرُّ لحظات، حتى يسيل ذهنُه هتونًا كغيمةِ ديم، يُملي من صدره كأنما يتلو كتابًا منشورًا، يبدأ بـ«أخبرنا»، و«حدثنا»، ويثني بـ«صحيح»، و«حسن»، و«غريب»، ويختم بـ«أخرجه» و«رجاله»، و«خالفه»، و«يشهد له»، يعتصر لإحياء سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتنقيح مرويَّاتِها، خلاصةَ عُمره، وينتقي من مئات الكتب والمصنَّفات التي كان يدأب، طيلةَ عقودِهِ الأولى، في قراءتها، وسماعها، وحفظها، وفهمها، ثم يضيف على ذلك «لمسةً حَجَرية»، بصمةً حديثيةً لا يُحسِن حبكَها إلا هو، ثم لا يُخلي المجلسَ من أبياته اللطيفة، وإنشاداته المنيفة.

 

استمرَّ الحافظُ يعقد «ثلاثائياته» فيما تبقى من أيامه، لا يكاد يتوقَّف إلا لظرفٍ طارئ، أو لمراعاة المواسم والانشغالات، وانتقل في مُدَّةٍ منها عن «الخانقاه البيبرسية» إلى «دار الحديث الكاملية»، حتى توفَّاه اللهُ وقد تجاوز تَعدادُ مجالسِهِ الألفَ مجلس، منها 150 مجلسًا في موضوعاتٍ متفرِّقة: «الأمالي المطلقة»، و230 مجلسًا في تخريج أحاديث «مختصر ابن الحاجب» في أصول الفقه: «موافقة الخُبْر الخَبَر»، و660 مجلسًا في تخريج أحاديث «الأذكار» للنووي: «نتائج الأفكار»، وهو الذي توفِّي بعدما أنهى تخريجَ نصف أحاديثه، أو نحوَ نصفها.

 

وكان كلُّ مجلسٍ من هذه المجالس يغُصُّ بالعلماء، والفضلاء، والطلبة النجباء، الذين لم يكونوا يقلُّون غالبًا عن مائة وخمسين نفسًا، يكتبون ما يمليه شيخُهم بأقصى طاقتهم من الإتقان، يَضبِطون ما يَضبِط، ويصحِّحون ما يُصحِّح، ويُلحِقون ما يُلحِق، يقتنصون شواردَ فوائده وأوابدَها كما يقتنص الصيدَ صيَّادُه.

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

نموذج من تحرير البقاعي وتصحيحه لبعض أمالي «تخريج الأذكار» أثناء إملائها: مكتبة فيض الله، 265 (ق207ب، 208أ)

 

تلكم كانت الأمالي «الشهابية»، «المصرية»، الشهيرة، وذلكم كان طرفًا من حكايتها.

 

على أن كون هذه الأمالي أشهرَ أمالي الحافظ ابن حجر، لا يعني أنها أولُ تجاربه في الباب، فقد كان شرع في الإملاء قبل ذلك بنحو عشرين سنة، في الخامسة والثلاثين من عُمره، حينما أملى كتابَه: «الإمتاع بالأربعين المتباينة بشرط السماع»، ذلك الكتاب الصعب، الذي بقي يُنسَخ، ويُنقَل، ويُقرأ على مصنِّفه، سنواتٍ طويلة، حتى قُرئ عليه في طريق عودته من رحلته الشامية، عام 836هـ، وكتب على نُسخةِ القارئ توقيعًا نفيسًا، بخطِّه النفيس، خطِّ المحدِّثين والحُفَّاظ.

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

توقيع ابن حجر بصحة سماع كتابه: «الإمتاع»، دمشق، 21 ذو الحجة 836هـ: مكتبة لاله لي، 2317 (ق128ب، 129أ)

 

وماذا عن رحلته الشامية؟

لقد بقي يومُ الثلاثاء يومًا فارقًا فيها أيضًا، فقد أملى مجلسًا حديثيًّا حافلًا، حضرَهُ القضاةُ والحفَّاظُ والأعلام، وذلك في الجامع الأموي، قلبِ العلم النابضِ في دمشق، يومَ الثلاثاء، السادس عشر من شعبان، سنة 836هـ، وكان قادمًا في ركابٍ فخيمٍ مع الملك الأشرف برسباي، متوجهًا إلى حلب، ثم إلى بلاد آمد، لرد غائلة بعض المفسدين فيها.

 

وهناك في حلب، حيث أقام أربعةَ أشهر، عقد الحافظُ سبعةَ مجالسَ حديثيةٍ ثلاثائية، في جامع حلب الأموي الكبير، يمليها من حفظه على العادة، ويعمرها بالفوائد النفائس على العادة، ثم يوقِّع للمتعطِّشين من طلبة الحديث بالشام على نُسَخهم بصِحَّةِ سماعاتهم منه، وحُقّ لهم التعطُّش.

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

توقيع ابن حجر بصحة سماع مجالس من الأمالي الحلبية، على نسخة محمد بن إبراهيم السلَّامي الحلبي، حلب، 12، 19 ذو القعدة 836هـ: مكتبة بلدية الإسكندرية، 2021د (ق11أ، 15أ)

♦ ♦ ♦

 

ذلك شأنُ يومِ الثلاثاء إذن، فما شأنُ ليلتِه؟

لم يكن الحافظ ابن حجر، بطبيعة الحال، يترك قيام الليل، بل كان يصلي كلَّ ليلةٍ قيامًا طويلًا، إلا أن ذلك لا يمنعُه مِن شَغلِ بعض لَيلِهِ بالقراءة، والبحث، والتقييد، خصوصًا: ليلةَ الثلاثاء.

 

نظرًا لانشغالاته الكثيرة، وارتباطاته بالعلم، والسلطان، والقضاء، والأهل، فقد كان يتحيَّن فرصتَه خلال الأسبوع ليستجمعَ مادَّة إملاء الثلاثاء، فيخرِّج أحاديثه، ويَلُمّ شتات فوائدِه، ويضيف نُكاتِه ومناقشاتِه، ثم يدوِّنها في ورقةٍ أو اثنتين، ليتحفَّظها بعد ذلك تحفُّظًا لا يكلِّفه أكثرَ من تأملٍ يسير.

 

وقد كان يضطرُّ أحيانًا، ويضيقُ عليه الوقت، حتى لا يجدَ فرصةً لابتداء البحث والتخريج إلا ليلةَ الثلاثاء، فيقضيها جاهدًا في ذلك، وربما لم تكتمل مسوَّدتُه إلا مع إشراقة الصباح، فتكفيه لِحِفظها لَحَظاتُ تأملٍ لطيفةٌ قبيل الإملاء، ثم يمليها كأضبط ما يكون، وكأنما أتقنها منذ زمن[2].

 

وقد تناثرت مسوَّداتُ الحافظ هذه، وتفرَّقت، وضاع أكثرها، إلا أنه حُفظ لنا منها وريقاتٌ يسيرةٌ في أماكن متفرقة، وهي كما يلي، مرتبةً بحسب تاريخها:

1- مسوَّدة المجلس 115 من «تخريج المختصر»، الذي أملاه أواخر سنة 833هـ، محفوظة ضمن المجموع (80.62)، في مكتبة المسجد النبوي (ورقتان)[3].

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

2- مسوَّدة المجلس 211 من «تخريج المختصر»، الذي أملاه يوم الخامس والعشرين من صفر، سنة 836هـ، محفوظة ضمن المجموع (493)، في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (ق3).

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

3- مسوَّدة المجلسين 69، 70، من «تخريج الأذكار»، اللذَين أملاهما يومي السابع، والرابع عشر، من شعبان، سنة 838هـ، محفوظة ضمن المجموع (493)، في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (ق2، 1)[4].

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

4- مسوَّدة المجلسين 248، 249، من «تخريج الأذكار»، اللذَين أملاهما يومي الخامس، والتاسع عشر، من ذي الحجة، سنة 842هـ، محفوظة ضمن المجموع (MS Arab SM55)، في مكتبة جامعة هارفارد الأمريكية (ق61ب، 62أ).

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

ومع أن هذه الوريقات لا تمثِّل غيرَ نسبةٍ ضئيلةٍ من أصل مسوَّداته، إلا أن بمُكنَتِها أن تنقُلَنا لنعيشَ ليلة ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني.

 

فهاهو يكتب إحدى مسوَّداته على بطن «جزء فيه عشرة مجالس من أمالي الخلال»، ويُكمل أخرى على ظهر «جزء من حديث القاضي عبدالرحيم بن عبدالله الأنصاري شاهد الجيوش»، استغلالًا لموضع الفراغ فيهما.

 

ليلةُ ثلاثاء مع الحافظ ابن حجر العسقلاني

 

وهاهو يستخدم رموزَ المصنِّفين، مثل: «كـ» لمالك، و«أ» لأحمد، و«خ» للبخاري، و«م» لمسلم، و«د» لأبي داود، و«ت» للترمذي، و«س» للنسائي، و«ق» لابن ماجه، و«خز» لابن خزيمة، و«حب» لابن حبان، و«طب كـ» للطبراني في المعجم الكبير، و«كم» للحاكم.

 

ويستخدم الاختصارات القَلَمية، مثل حرف «ق» ممدودًا؛ رمزًا لكلمة: «قوله»، وحرف «ص»؛ لكلمة: «صحيح»، وكلمتي «من - إلى»؛ لنقل ما بينهما إلى موضعٍ آخر.

ويستخدم الأرقام للإشارة إلى مدلولاتها، مثل: «٦ عن الليث» لقوله: «سِتَّتُهم الليث»، و«١٣٩» و«١٧١» للإحالة إلى المجلسين التاسع والثلاثين بعد المائة، والحادي والسبعين بعد المائة.

 

ولا يكتب أسانيد الكتب التي يحفظها، فيبدأ بكتابة: «أبو الجهم»، في التخريج من «جزئه» المشهور، وبمالك، والطبراني، وأبي نعيم، والثقفي، وغيرهم، لكننا نجده في مجلس الإملاء الفعلي يسوق إسناده تامًّا إلى هؤلاء من حفظه، في تأكيدٍ لِمَا قال السخاوي: «وقد كنت أسأله عن أسانيد، فيكتبها لي بخطه من حفظه»، وذَكَرَ أن الحافظ حضر ختمَ قراءةٍ لكتبٍ حديثية، فصار يسردُ سندَ كل كتابٍ من حفظه، حتى خُتِمَت الكتب كلُّها[5].

 

ويَعرِض للحافظ في كتابة مسوَّداتِه ما يَعرِض لكل صاحب مسوَّدة، فهو يَضرب ويَشطب، ويُلحِق ويُصحِّح، ويُقدِّم ويُؤخِّر، ويكتب في الحواشي وبين السطور، بل نراه يعيد بعضَ مادَّة المجلس 115 من «تخريج المختصر» في ورقةٍ أخرى.

 

ويُلاحَظ أن مسوَّداتِه في المجالس المتأخرة أضحت أكثرَ اختصارًا وترميزًا، وأقلَّ ضربًا وإلحاقًا، منها في المجالس القديمة، وهي دلالةٌ على تمرُّسِه في الإعداد للأمالي، وتعاظُم خبرته في تجهيز مادَّتها العلمية.

♦    ♦    ♦

 

وإذا ما انتقلنا إلى مجلس الإملاء، صبيحة اليوم التالي، فإننا نلحظ أثر الحفظ فيه جليًّا واضحًا، من جهتين:

الجهة الأولى: مطابقة جُلِّ المادة التي يمليها ابن حجر حفظًا لجُلِّ ما كتبه في مسوَّداته، مطابقةً تستحقُّ العَجَب لو كانت من غيره، ولكنها منه تستحقُّ الإكبار والإعجاب. وما من غرابةٍ في أن يُطبِّق لقبُه: «الحافظ» الآفاقَ في وقتِه وفيما بعد وقتِه، وهو بهذا القدر من الضبط والإتقان في دقائق الصنعة، وأسماء الرجال، وأسانيد الكتب، مع كونه ربما لم يتحفَّظ ذلك إلا يسيرًا -كما سبق-.

 

الجهة الثانية: ما يكون من الفروق الطبيعية بين المسوَّدات، والأمالي، مما لا بُدَّ منه لكل مُـمْلٍ من حفظه، بل مما يدلُّ على أن الإملاءَ إملاءُ حفظٍ لا غير، على أن بعض هذه الفروق كان مقصودًا للحافظ -كما سيأتي-.

 

وهذه الفروق تَشُفُّ لنا بغاية اللطف، بعد مرور نحو ستمائة سنة، عن اعتمال ذهن الحافظ ابن حجر في لحظات الإملاء، وطريقتِهِ في ترجمة محفوظِهِ إلى منطوق، وأسلوبه في التعبير عنه، وما كان منه يُتقِنُه بنَصِّه، وما كان يعبِّر عنه بمعناه وما يدلُّ عليه وما يقتضيه سياقُه.

 

ومن تلك الفروق -مثلًا-: أن الحافظ كتب في مسوَّدة المجلس 211 من «تخريج المختصر» حديثًا بإسناده إلى سنن الدارقطني، ثم خرَّجه من المعجم الكبير للطبراني، وعَكَسَ في الإملاء، فأسنده إلى الطبراني، وخرَّجه من الدارقطني[6].

 

وكتب في مسوَّدة المجلس 248 من «تخريج الأذكار»، في تخريج حديث: «خيرًا رأيت، وخيرًا يكون»: «غريب، وسنده ضعيف جدًّا، تفرَّد به محمد بن عبيدالله العرزمي، وهو متروك، وقال أبو أحمد: أجمعوا[7]».

 

وقال في الإملاء: «والراوي له عن سعيد هو محمد بن عبيدالله -بالتصغير- العرزمي -بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وفتح الزاي، وتخفيف الميم-، وهو ضعيف جدًّا، حتى قال الحاكم أبو أحمد: أجمعوا على تركه»[8].

ومن الملحوظ هنا مناوبةُ الحافظ بين لفظَي: «متروك»، و: «ضعيف جدًّا»، في الحكم على الراوي[9]، مع نقل حكاية الإجماع على تركه في الموضعين[10].

 

وبعد ذلك بسطرين، كتب الحافظ في مسوَّدته، معلِّقًا على كلامٍ للنووي: «قلت: هذا يوهم أنه اختلافٌ من الرواة في الحديث الذي قبله، وإنما هما حديثان، سندًا ومتنًا وسياقًا. طب كـ: حدثنا أحمد بن النضر، وجعفر بن ... [11]، قالا:...».

ولما أملى هذا الموضع قال: «قلت: هذا يوهم أنه والذي قبله حديثٌ واحدٌ اختلف رواتُه، وليس كذلك، بل هما حديثان مختلفان في السند، والمتن، ومحل القصّ. أخبرنا المسند أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن عبد الحميد المقدسي -في كتابه من صالحية دمشق-، أنا محمد بن علي بن ساعد -في كتابه من مصر-، وهو آخر من حدث عنه، أنا يوسف بن خليل الحافظ -سماعًا عليه بحلب-، أنا محمد بن أبي زيد الكراني بأصبهان، أنا محمود بن إسماعيل الأشقر، أنا أحمد بن محمد بن فاذشاه، أنا سليمان بن أحمد بن أيوب، ثنا أحمد بن النضر العسكري، وجعفر بن محمد الفريابي...»[12].

 

وفي مسوَّدة المجلس التالي، خرَّج الحافظ حديث النزول، فكتب: «أ عن ابن مهدي وإسحاق بن ...، خ د عن القعنبي، خ عن ابن يوسف وابن أبي أويس، م عن يحيى، 6 عن مالك. حب عن عمر بن ... عن أبي مصعب، ت عن معن، س عن ابن القاسم».

 

وأعاد صياغةَ ذلك في الإملاء، فقال: «أخرجه أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي، وإسحاق بن عيسى. والبخاري عن عبدالله بن يوسف، وإسماعيل بن أبي أويس، وعبدالله بن مسلمة القعنبي، فرقهم. ومسلم عن يحيى بن يحيى. وأبو داود عن القعنبي. ستتهم عن مالك.

 

وأخرجه ابن حبان عن عمر بن سعيد، عن أبي مصعب. فوقع لنا بدلًا عاليًا.

وأخرجه الترمذي من رواية معن بن عيسى[13]. والنسائي من رواية عبدالرحمن بن القاسم. كلاهما عن مالك»[14].

 

ولا بُدَّ للحافظ أن يضيف ما يحضره حالَ الإملاء من الفوائد والنكت، وإن لم يكن دوَّنه في المسوَّدة، ومِن أظهرِ ذلك: ضبطُ الأسماء والأنساب ضبطَ حرف، فإنه يُكثِر من ذلك في أماليه جدًّا، وإن لم يضبطه لنفسِه حالَ التسويد، وذلك ليفيدَ الطلبة فيه، وينبِّهَهم عليه، خصوصًا مع كونه جانبًا يُحتاجُ إليه، ويكثر فيه الغلط[15]، وقد سبق مثاله في ضبط اسم ونسبة «محمد بن عبيدالله العرزمي».

 

ومن الفروق ما يكون ثابتًا في المسوَّدة، وحذفه الحافظُ حالَ الإملاء، إما لقصد الاختصار، أو لقصدٍ غيره، أو ربما لغيابه عن بالِهِ تلك اللحظة.

 

ومثال ذلك: أنه كتب في مسوَّدة المجلس 211 من «تخريج المختصر»: «تنبيه: زعم بعض من خرَّج أحاديث «المختصر» أن سياق المختصِر يقتضي أن الحديث من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد من لفظه. قلت: وغفل عن...».

وحذف في الإملاء الإشارةَ الصريحة، فقال: «زعم بعضهم أن حديث السهام لم يرد من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وغفل عن...»[16].

 

وهذه الإشارة هي للزركشي في «المعتبر»[17]، وهو من موارد الحافظ التي كان ينظر فيها أثناءَ تخريج «المختصر»، حيث أفاد منه وتعقَّبه في مواضع.

 

ثم كتب الحافظُ عقب ذلك، في مسوَّدة المجلس نفسِه، تعقُّباتٍ في لفظ حديث: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»، وحذفها كليةً في الإملاء.

 

وفي مسوَّدة المجلس 69 من «تخريج الأذكار»، كتب: «وقال لنا شيخنا حافظ العصر أبو الفضل ابن الحسين: لم أجد في صبيح بن عمر تجريحًا ولا توثيقًا. قلت: وجدت في طبقته: صبيح بن عمير العبدي، ذكره الأزدي في الضعفاء، وقال: إنه مجهول. فما أدري أهما اثنان أو واحد؟».

 

واختصر ذلك في الإملاء إلى: «ورواة هذا موثقون، إلا صبيح بن عمر، فلا يُعرَف إلا في هذا»[18]، وكأنه أضرب عن إيراد ما سَوَّده، لعدم جزمه به، واكتفى بإيراده له في «لسان الميزان»[19].

 

ومن ذلك: أنه خرَّج في مسوَّدة المجلس 248 من «تخريج الأذكار» حديثَ الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثًا...»، فكتب: «م د ت عن قتيبة، م ق عن محمد بن رمح، أ عن حجين بن ... ويونس بن ...، وأبو عوانة من رواية ابن وهب والمقرئ، 6 عن الليث. كم من رواية سعيد بن عفير عن الليث...».

 

ثم اختصر وغاير في الإملاء، فقال: «أخرجه أحمد عن حجين بن المثنى، ويونس بن محمد. ومسلم وأبو داود والترمذي جميعًا عن قتيبة. ومسلم أيضًا وابن ماجه عن محمد بن رمح. أربعتهم عن الليث»[20]، ولم يذكر روايتي أبي عوانة، والحاكم.

*       *       *

 

وهكذا، كانت هذه المجالس مَقصِدَ الوُرَّاد، ومَورِدَ القُصَّاد، وكانت أفانينُها وفوائدُها ظلالًا وارفة، وأفياء غنَّاء، ومدارسَ من مدارسِ العلم التي عَزَّ نظيرها على مدى التاريخ، وكان خلفَ ذلك كلِّه: ليلةُ ثلاثاء.



[1] المواعظ والاعتبار، للمقريزي (4/ 285). والخانقاه «كلمة فارسية، معناها: بيت، وقيل: أصلها «خونقاه»، أي: الموضع الذي يأكل فيه الملك. والخوانك حدثت في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجُعِلَت لتخلِّي الصوفية فيها لعبادة الله - تعالى -»، المواعظ والاعتبار (4/ 280). وما زالت «الخانقاه البيبرسية» قائمةً على شارع الجمالية، بالقاهرة.

[2] المصدر الأساس للمعلومات المذكورة فيما مضى من هذه المقالة، هو كتاب: «الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر»، للسخاوي، في مواضع متفرقة منه.

[3] الظاهر أن أصلَ المجموع قد فُقد من المكتبة قريبًا، إذ لا يتوفَّر فيها له إلا مصوَّرةٌ ناقصة (بالأسود والأبيض)، وحُفِظَت مصوَّرتُه التامة في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وكلاهما لا يغني بتَّةً عن الأصل الذي كان مما آلَ من مكتبة محمد العزيز الوزير التونسي إلى مكتبة المسجد النبوي، والله المستعان.

[4] مقلوبة الترتيب في المجموع.

[5] الجواهر والدرر (1/ 188).

[6] موافقة الخبر الخبر (2/ 367).

[7] كذا، بإهمال أبي أحمد، وقطع بقية كلامه، اختصارًا في المسوَّدة.

[8] نتائج الأفكار (3/ 130).

[9] واللفظ الذي كتبه في المسوَّدة: «متروك»، هو ما اختاره في الكتاب الذي أنجزه قبل سنواتٍ من هذا المجلس: تقريب التهذيب (6108).

[10] ونسبة هذه الحكاية إلى أبي أحمد الحاكم مشكلة، فالذي حكى هذا الإجماعَ، كما في تهذيب التهذيب (3/ 638)، أبو عبدالله الحاكم، وأبو يحيى الساجي، وقد وقع فيه بين قولَيهما قولُ أبي أحمد الحاكم: «ليس حديثه بالقائم».

[11] كذا، لم يكمل اسمه، اعتمادًا على معرفته له، وسيفعله في مواضع أخرى تأتي.

[12] نتائج الأفكار (3/ 131).

[13] تحرف في المطبوع إلى: «عبس».

[14] نتائج الأفكار (3/ 134).

[15] وأمالي الحافظ موردٌ ثَرٌّ لهذا الجانب، ربما غُفِلَ عنه.

[16] موافقة الخبر الخبر (2/ 367).

[17] (ص216).

[18] نتائج الأفكار (1/ 333).

[19] (4/ 306).

[20] نتائج الأفكار (3/ 129).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله (773 - 852 هـ)
  • كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ / 1361م)
  • كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني
  • أيام الحافظ ابن حجر العسقلاني في بلاد الشام (1)
  • بين دفتي مجموع خطي
  • تصويب قول الحافظ ابن حجر في عبد الملك بن محمد

مختارات من الشبكة

  • ليلة القدر أعظم ليالي العام ليلة الرحمة والمغفرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تحري ليلة القدر(مقالة - ملفات خاصة)
  • ليلة القدر(مقالة - ملفات خاصة)
  • الكلمة الطيبة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • هل تنتقل ليلة القدر من ليلة إلى أخرى باختلاف السنين ؟(مقالة - ملفات خاصة)
  • بين يدي رمضان (3)(مقالة - ملفات خاصة)
  • ليلة القدر: ليلة العفو والصفح(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بدع ليلة القدر(مادة مرئية - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • ليلة هي من أقسى ليالي الدنيا(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ليلة رفع القرآن الليلة الحزينة(مقالة - ملفات خاصة)

 


تعليقات الزوار
1- شكر و ثناء
أحمد بن جمعة - مصر 28-03-2017 05:06 PM

جزاك الله خيرا...
عرض طيب سهل سلس
زادك الله علما
أكثر من هذه النفائس

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 29/11/1446هـ - الساعة: 0:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب