من محطات طريق الحج: قلعة تبوك العثمانية

من محطات طريق الحج

قلعة تبوك العثمانية

منَ المؤكَّد أنَّ لمدينة تبوك منذ الأزمنة القديمة مركزًا هامًّا على طرُق القوافل التي كانت تَفِدُ إلى الجزيرة العربيَّة، ومن المعالم على ذلك: درب الحجِّ الشامي، ومن محطَّاته: قلعة تَبوك العثمانية، حيثُ كانت مقصدًا ومحطًّا للاستراحة والتَّزود من الماء، ويعودُ تاريخُ إنشائها إلى عَهدِ الخليفة العثماني سليمان القانوني عام 967هـ، ثم جُدِّدت عدَّة مرَّات، منها في زمن السُّلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم خان على يد محمد النَّاشف التَّذكرجي عام أربع وستين بعد الألف الهجرية، ثمَّ جُدِّدت القلعة مرَّةً أخرى في عهد السلطان عبدالمجيد خان عام ستين ومائتين بعد الألف الهجرية، وكُتِبَ ذلك في نَقشٍ وُضِعَ فوق محراب المسجد بداخل القلعة.

ومن الإفادات الفريدة في دقِّةِ وصفها: ما ذكره المؤرِّخُ الأديبُ الشَّيخ إبراهيم بن عبدالرحمن الخيَاري المدني في رحلته المُسمَّاة: "تُحفة الأُدباء وسلوة الغرباء" أثناء زيارته لتبوك وواديها عام 1080هـ فقال: "رأيناه واديًا عذبَ الهواء والماء، مُتَّسعَ الجوانب والأرجاء، به قلعةٌ عامرةُ البناء، محكمةُ الوَضع، شامخةُ الرَّفع، مبنية بالحجَرِ المنحوت بين الصُّفرة والحمرة بناء حسن الإلصاق؛ بحيث لا يظهر ما بين الحجرَين لولا الكمال بالنورة، وهي مشتملةٌ على دهليز يقابل الباب فيه دكَّةٌ لطيفة، وبابُها مُحكمٌ فيه كتابة على قيشاني لفظُها: "أمرَ بِتَعمير وتَجديد هذه القلعة المباركة مولانا السُّلطان محمَّد خان - عَزَّ نَصرُه - على يَدِ العبدِ الضَّعيفِ مُحمَّد بن النَّاشف التَّذكرجي سنة أربع وستين وألف"، وبعد الدُّخول أرضٌ مربَّعةٌ مَفروشةٌ بالحَجر، وعلى يمين الدَّاخل إيوانٌ مَعقود، وفي الأركان أوضات، ومقابلُ الإيوان صورة مسجد مفروشٌ بالبسط، وفيها محراب، وفي وسَطِ الصَّحن صُورة بئر، يقال: إنَّ ماءها نبعٌ لا مِنَ المَطر، وبجانبه حَوضٌ مَنقورٌ من الحجر يُملأ للتَّوضِّي والاستعمال، ويَشتمِل على أوضات أيضًا في الدور الثاني، وعلى مسجد غير مَسقوف فوق المسجد الأول، هذا صيفي وهذا شتوي، وبأعلاها مَدافعُ كبار يرمي بعضها عندَ وصول الحاجِّ إلى ذلك المنزل، وقد نقلَ أهلُ التَّاريخ أنَّ بها مسجدًا، ويُقال على ألسنة الواردين: إنَّ هذا المسجد الذي بداخل القلعة هو محلُّ ذلك المأثور، والله أعلم.

وإلى جانب القَلعةِ من الخَارجِ على يمين الدَّاخل بِرْكتان؛ إحداهما مُربَّعة، والأخرى مُتطاوِلة، ويُقالُ: إنَّ ماءها ينبعُ نبعًا من الأرض لا يُؤتى به لا بسانية ولا بغيرها من الآلات، وهو عذبٌ كما عُلِمَ، وبالقرب من البِرْكة بساتين مشتملة على أشجار عنبٍ وليم وتيِن كثيرة داخل البساتين وخارجها، وهناكَ سوقٌ مُشتملةٌ على أبنية قديمة، ويقابل باب القلعة بناءٌ مُربَّعٌ يقال: إنه مُعَدٌّ للضُّعفاء والمنقطعين، هذا ما يتعلَّق بالمكان.

أمَّا مَن يَقدمُ إليه من الشَّام المُلاقين للحُجَّاج فإنَّهم يَقدمون جماعات كثيرين مُضاهينَ للحجِّ بخيامٍ عظام، وعساكر ومدافع وسردار، وكان في عامنا هذا موسى بك بن التركمان حسن، وكان مَشهورًا بالشَّجاعة، وينقلون من الشَّام كل موجود بها من الفاكهة، ويقوم بها سُوقٌ عَظيمٌ لم ترَ العينُ قبلَه مثلَه، والحبوب والأجبان والدَّقيق، ويعملون الرقاق الحواري وغيره مما يؤكل، والبيض الكثير، وما لا يسعنا شرحه".

وأيضًا وصفَها المؤرِّخُ العثمانيُّ أوليا جلبي في المجلِّدِ التَّاسع من كتابه: "سياحتنامه"، وسمَّاها بقلعة عاصي خرمة، أي: قلعة النَّخيل العاصية، نظرًا لطول النَّخيل حول القلعة، وقال عن وصفها وتجديد بنائها: "تقعُ في منتصف الطَّريق إلى مكة، وقد تهدَّمت القلعةُ مع مرور الزمن، لكن بناءً على فرمان السلطان محمد الرابع قام ناشف أوغلي بتجديدها، ومحيطُها أربعمائة خطوة، وعلى بابها تاريخٌ مكتوبٌ نصُّه، ويوجد بها مدافع ومدفعية ومدفعجية، وقوة من انكشارية الشام، تحتوي على جامع وحمام وعين ماء، كما أنَّ هناك نَبعًا كَبيرًا غربَ القلعة، وهُوَ من مآثر الرسولِ الكريم ومُعجزاته".

وذكرها أيضًا المُؤرِّخ أيِّوب صَبري باشا أثناء رحلته عام 1289هـ، وحديثه في الباب الرَّابع من كتابه: "مرآةُ جزيرة العَرب" عن الطُّرق السُّلطانية الواقعة بين الحرمين الشريفَين، وكان يُعدِّدُ مراحلها ومنازلها، وعيونُ المياه التي تتخلَّلها، والاستراحات التي تحطُّ الرحال بها، وعن قوافل الحجيج التي كانت تَفِدُ إلى أرض الحجاز من سائر الدول الإسلاميَّة، ومنها الطريقُ الشَّامي الذي تسلكه قوافلُ الشَّام والأناضول وإستنانبول والبلقان، ومَحملُ الشَّامِ الشَّريف فقال (ص: 87): "تشتهرُ تبوك بالبَلح والتُّمور، وقد أمرَ السُّلطان سليمان بإقامة قلعة حجريَّة مَنيعة في هذا الموقع، ومما يُروى أنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلَّم أثناء غزو تبوك ملأ راحتيه الكريمتين من نهر (عين) تبوك ونثرها، وما كانت توجد قليلة ولا كثيرة آنذاك...، فتدفَّقت مياهها وبدأت في الجريان، وما زالت تلكَ المياه تسيلُ حتى الآن، وتوجدُ بِركة ذاتُ مياهٍ وَفيرةٍ بالقرب من قلعة تبوك..".

ولا تزال هذه القلعة شاهدةً على حُسن بنائها وجميل إنشائها إلى يومنا هذا، وتُعَدُّ من المعالم الأثريَّة في مدينة تبوك.

أمر بتجديد وتعمير هذه القلعة المباركة حضرة مولانا السلطان ابن السلطان السلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم خان ابن السلطان أحمد خان ابن عثمان، خلَّد الله مُلكه طوال الزمان، وتشرَّف بمباشرة خدمتها العبد الفقير إلى الله تعالى محمد ابن الناشف التَّذكرجي بدمشق الشام، غفر الله له، في سنة أربع وستين وألف 1063هـ.

صور قلعة تبوك العثمانيَّة