قراءة في كتاب: موقف الشريعة الإسلامية من اعتماد الخبرة الطبية والبصمة الوراثية في إثبات النسب ونفيه

قراءة في كتاب

"موقف الشريعة الإسلامية من اعتماد

الخبرة الطبية والبصمة الوراثية في إثبات النسب ونفيه"

للعلامة المالكي المغربي محمد التاويل

لقد عَنَّتْ للناس اليومَ نوازلُ كثيرة؛ منها الاقتصادية والاجتماعية، والعمرانيَّة والطبيَّة، وغيرها، وهذه النوازل - بلا شك - تحتاجُ إلى بيان حُكمِ الله فيها من طرف العلماء الأجلَّاء؛ وذلك عن طريق النظَر والاجتهاد، الذي يُعتبر أعظم سبيل لتحقيق أصل صلاحية الشريعة لكلِّ زمانٍ ومكان، ومواكَبتِها لمستجدَّات هذا الزمان والمكان.

وقد عهدنا في شيخنا المجتهد العلَّامة محمد التاويل رحمه الله تعالى مسارعتَه إلى التصدِّي للاجتهاد في النوازل المستعصيةِ التي ظهَرتْ في هذا الزمان في شتى المجالات، وإخراج ما وصَل إليه بنظَرِه الحكيم، واجتهاده الذي لا يَترك فيه وُسعًا، ولا يدَّخر جهدًا - في كتبٍ؛ ليعمَّ خيرُها الناسَ جميعًا.

وإنَّ مِن أعظم النوازل الطبيَّة التي عنَّت للناس اليومَ، وتصدَّى لها شيخنا الجليل رحمه الله تعالى بالاجتهاد والفتوى: نازِلةَ اعتماد الخِبرة الطبيَّة أو ما يصطلح عليه بالبصمة الوراثيَّة في إثبات النَّسَب ونفيِه، فأخرج فيها للنَّاس كتابًا وَسَمَه بـ: "موقف الشريعة الإسلاميَّة من اعتماد الخبرة الطبِّية والبصمة الوراثية في إثبات النَّسَب ونفيه"، وسأحاول في هذه المقالة أن أُعرِّف بالكتاب مِن حيث مضمونه، ومن حيث منهج صاحبه فيه، ومن حيث أسلوبه، وكذا مِن حيث تميُّزه.

مضمون الكتاب:

لقد قسَّم العلَّامةُ سيدي محمد التاويل كتابَه هذا إلى مقدِّمة، وثلاثة مباحث، وخاتمة.

جاءت المقدِّمة مُبَيِّنَةً لبعض الحقائق ومذكِّرة بها، لَخَّصها شيخُنا في حقيقتين اثنتين، وبيَّنهما أتم بيانٍ.

ثمَّ جاء المبحث الأول موسومًا بـ: "في اعتماد الخبرة الطبية في نَفي النَّسَب"، وقد قسَّمه شيخنا إلى ثلاثة مطالب؛ تحدَّث في الأول عن اعتماد الخبرة الطبيَّة في نفي النَّسَب ومبرِّراته عند القائلين به المدافعين عنه، وقد ذكَر لأهل هذا المذهب ثلاثةَ مبرِّرات، رَدَّ على كلِّ مبرر بما يفنِّده ويدحضه.

وأمَّا المطلب الثاني، فقد خصَّصه العالِمُ الجليل للحديث عن عدَم مشروعيَّة اعتمادِ هذه الخبرة لنَفي النَّسَب، ودلَّلَ على ذلك بأدلَّةٍ من الكتاب والسنَّةِ والإجماع وأقوالِ الصَّحابة، بلغ عددها سبعة عشر دليلًا، تنوَّع ما بين نَصٍّ من الكتاب، وآخر من السنَّة، وقضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وقاعدة فقهية، وأخرى أصوليَّة، فأثبَت أنَّ اعتماد البصمة الوراثية لنفي النَّسَب مخالفٌ ومناقِضٌ لتلك الأدلَّة كلِّها، كما أنَّه يشكِّل ظلمًا للمرأة والولد، وتهديدًا لاستقرار الأسرة، كما أثبت أيضًا أنه لا مَحيص عن اعتماد اللعان لنَفي النَّسَب، كما قرَّرتْ ذلك الشريعة الإسلامية.

والمطلب الثالث والأخير في هذا المبحث تحدَّث فيه الشيخُ عن رَفْض أحد الزوجين نتائجَ الخبرة، أو امتناعه من إجرائها، وهو مَطلبٌ وجَّه فيه شيخُنا مجموعةً من الأسئلة إلى دعاة هذه المسألة، والتي أثبَت مِن خلالها تخبُّطَ هؤلاء وتناقُضهم فيما ذهبوا إليه، وقد قسم هذا المطلب إلى فرعين؛ أمَّا الأول فوضع له عنوان: "في رفض الزوج نتائج الخبرة"، وأمَّا الثاني فوضع له عنوان: "في امتناع أحد الزوجين من إجراء الخبرة الطبية".

بعد حديثه حَفظه الله عن اعتماد البَصمة الوراثية في نفي النَّسَب، انتقل الشيخُ محمد التاويل إلى المبحث الثاني ليتحدَّث عن اعتماد الخبرة والبصمة الوراثية في إثبات النَّسَب وإلحاق الولَد بغير الزَّوج ممَّن وُلد مِن نطفته، وقد قسَّمه إلى مطلبين اثنين؛ الأول: تحدَّث فيه عن مبررات هذه الدعوى، ورَدَّ على أصحابها بما يبطلها ويفنِّدها.

والمطلب الثاني: خصَّصه رحمه الله للاستدلال على بُطلان وعدم مشروعيَّة اعتماد الخبرة لإثبات النَّسَب.

ليأتي المبحث الثالث والأخير لمناقشة ودَحْض ما تمسَّك به دُعاة البصمة مَن الشُّبه لتبرير دعواهم، وقد بلغ عددها ثماني شُبه، ناقشها وفنَّدها في ثمانية مطالب.

وأمَّا الخاتمة، فجَعلها الشيخُ للحديث عمَّا يمكن أن يؤدِّي إليه اعتمادُ البصمة الوراثية والعمل بنتائجها؛ "مِن القذف المحرَّم دينًا، المعاقَب عليه شرعًا في حالة نَفْي الولد عن أبيه الشَّرعي، أو إلحاقه بأب غير شرعي"[1].

منهج الشيخ العلَّامة محمد التاويل في معالجة النازلة:

تروم هذه النقطة التطرُّقَ إلى المعالم المنهجيَّة التي ارتكزَتْ عليها دراسةُ الشيخ محمد التاويل لنازِلة البصمة الوراثيَّة؛ ليصِل مِن خلالها إلى تَقرير الحكم الشرعيِّ فيها.

والنَّاظِرُ في الكتاب يجد أنَّ الشيخ قد سلَك منهجًا علميًّا دقيقًا؛ من حيث الاستدلال، ومن حيث طريقة التناول.

وفيما يلي أَرصُدُ بعض معالم هذا المنهج:

أولًا: تنويعه للأدلَّة التي يستدلُّ بها: حيث استدلَّ حفظه الله على ما أوصله إليه اجتهاده بالنصوص الشرعيَّة، وإجماع الأمَّة، والقياسِ، وأقوالِ الصحابة، وكذلك بالقواعد الفقهيَّة والأصولية، ومقاصد الشريعة في حِفظ النَّسَب، واستقرار الأسرة والمجتمع، مع عدم إغفاله للأدلَّة العقلية والمنطقية.

ثانيًا: اعتماده في الاستدلال بالأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الصَّحيح منها والحسَن.

ثالثًا: بيانه لمحلِّ الشاهد في النصوص والأقوال بطريقة مُبِينَةٍ مُفْهِمَةٍ للمراد، من غير تحيف ولا تحريف ولا لَيٍّ لأعناقها.

رابعًا: استعماله النصَّ الواحد في الاستدلال من أوجه متعددة بحسب القضيَّة المُسْتَدَلِّ عليها.

خامسًا: اعتماده على المنهج الجدَلي المتين في إبطال مذهب المخالفين: حيث يورد مواقفَ المخالفين وأدلَّتَهم ومبرِّراتِ مذهبهم وشُبهَهم، ثمَّ يردُّ عليها بما يدحضها ويفنِّدها، وهذا ما نلحظه - مثلًا - في المطلب الأول من المبحث الأول، وكذلك الثاني والثالث؛ حيث أورَد الشُّبهات والمبرِّرات التي عوَّل عليها دعاةُ اعتماد البصمة الوراثية، وردَّ عليها بما يجلي ضعفَها، ويبطل الاحتجاجَ بها، ونلحظ هذا المنهج بجلاء أيضًا في المطلب الثالث مِن المبحث الأول؛ حيث وجَّه إليهم تساؤلات، كَشَفَ بها تخبُّطهم وتناقضهم.

سادسًا: عدم تسميته للأشخاص الذين تبنَّوا مسألة اعتِماد الخبرة الطبيَّة في نفي النَّسَب وإثباته؛ فهو حفظه الله قد ناقشَ الأقوالَ والمزاعِمَ بمعزل عن أصحابها، وهذا مستوى عالٍ في الأخلاق والموضوعيَّة.

سابعًا: إحاطته بالموضوع ومعالجته إيَّاه بشكل دقيق؛ وذلك واضحٌ من خلال تقسيم الكتاب إلى المباحث والمطالبِ التي أُشير إليها سالفًا، وهذا يساعد القارئَ على الإحاطة بالموضوع وتصوُّرِه تصورًا شاملًا كاملًا صحيحًا.

أسلوب الكتاب:

اعتَمد الشيخُ العلَّامة محمد التاويل في تأليف كتابه أسلوبًا سهلًا سلسًا يفهمه القارئُ مِن غير أن يحتاج إلى جهدٍ فكريٍّ في فهم المراد، اللهمَّ إلَّا ما يتعلَّق باستعمال بعض المصطلحات الفقهيَّة والأصولية التي ينبغي للقارئ أن يكون على قَدْرٍ من الدراية والعلمِ بالتخصُّص الذي تنتمي إليه؛ حتى يتمَّ له فهمُها واستيعابها؛ وذلك مما لا بدَّ منه باعتبار أن الدراسة هي دراسة فقهيَّة مَحضة، غير أنَّ ذلك لا يمنع القرَّاءَ مِن استيعاب موضوع الكتاب وتصوُّره وفهم مراد الشيخ منه.

ولعلَّ سهولةَ العبارة، وسلاسَةَ الأسلوب كانت مَقصودة للشيخ وهو يؤلِّف مؤلَّفَه، خاصَّة وأنَّه ألَّف كتابه ونشَره ليقرأه المبتدئُ والمتوسِّطُ والرَّاسِخ، فكان لا بدَّ من مراعاة هذه الحيثيَّة، والله أعلم.

مميزات الكتاب:

تناولَتْ كتبٌ كثيرة موضوعَ البصمة الوراثية، غير أنَّ كتاب الشيخ محمد التاويل تميَّز عن هذه الكتب بمجموعة مِن المميزات قد ظهرَتْ في الأسطر السابقة؛ سواء تعلَّق الأمر بمضامينه من حيث الشُّمول والإحاطة، أو بمنهجه مِن حيث الدقَّة والوضوح، أو بأسلوبه مِن حيث السُّهولةُ واليُسر، والإبانةُ والإفهام.