• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / منبر الجمعة / الخطب / تفسير القرآن
علامة باركود

خطبة: تأملات في سورة العنكبوت

خطبة: تأملات في سورة العنكبوت
أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 13/12/2024 ميلادي - 11/6/1446 هجري

الزيارات: 6704

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

خطبة: تأملات في سورة العنكبوت

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

 

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

 

‌اللهم ‌صل ‌على ‌محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

المقدمة:

يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].

 

أخرج أحمد في "مسنده – ط الرسالة" (14653) من حديث جابر بن عبدالله في بيعة العقبة في حديث طويل، إلى أن قال جابر: "فقمنا نبايعه - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين، فقال - أي أسعد -: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطِيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافةً، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على السيوف إذا مستكم، وعلى قتل خياركم، وعلى مفارقة العرب كافةً، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفةً، فذروه، فهو أعذر عند الله، قالوا: يا أسعد بن زرارة، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلًا رجلًا، يأخذ علينا بشرطة العباس ويعطينا على ذلك الجنة".

 

كثيرًا ما استوقفني ولا يزال سؤال: كيف علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيواجهون هذه الابتلاءات الشديدة في سبيل الله فور إسلامهم؟ كنت أتساءل في نفسي: فالقرآن الذي نزل عليهم هو نفسه القرآن الذي بين أيدينا، محفوظ بحفظ الله، والسنة النبوية كذلك بين أيدينا. فمن أين جاءهم هذا الفهم العميق؟ وكنت أتصفح آيات القرآن وأقلب صفحات كتب السنة بحثًا عن الجواب، ويا لغفلتي؛ إذ كان الجواب واضحًا ومكشوفًا، ولكنه لم يصادف قلبًا واعيًا، وعقلًا متيقظًا. وهذه هي إحدى فوائد الابتلاء.

 

قبل أن نشرع في صدر خطبة اليوم، لا بد من توضيح بعض النقاط:

أولًا: هذه الخطبة لا يجوز أن تفهم بمعزل عن سياق الخطب والأقوال التي سبقتها؛ فهي وقفة إيمانية مع معنى عظيم، وجزء من الحل الصحيح. فلا يظن أحد أننا ندعو للتواكل أو لترك الجهاد، أو لعدم الأخذ بالأسباب والاستعداد، فهذا لا يقول به مسلم.

 

ثانيًا: هذه الخطبة ليست ردًّا على أولئك المتسائلين بنبرة استهزاء: لماذا لم يتحقق النصر حتى الآن؟ فهؤلاء إما مغفلون أو متغافلون، ونحن نرى العالم قد توحَّد في حصار هذه الفئة المؤمنة؛ فالشاحنات والسفن الحربية تقطع المسافات لدعم العدوِّ بما يحتاج إليه، في حين نرى ونسمع عن إخواننا الذين يموتون جوعًا وقهرًا، فيتساءل هؤلاء بكل وقاحة: لماذا لم يأتِ النصر؟

 

ثالثًا: الخطبة ليست موجهة لمن يبحثون عن تبرير تقصيرهم بإلقاء اللوم على المجاهدين الذين بذلوا جهدهم في نصرة الدين ورفع راية التوحيد، فإذا ببعض أبناء جلدتنا يتحدثون عن "المصالح والمفاسد"، وهؤلاء يضيعون صريح النصوص، ويقدمون المصالح على الواضحات، وكيف تقدم المصلحة على النص الصريح في معركة واضحة بين الحق والباطل، بين المعتدي والمدافعين عن مقدسات المسلمين؟!

 

نحن هنا لمحاولة الإجابة عن السؤال الذي بدأنا به: هل هناك علاقة بين أن تكون مسلمًا وأن تبتلى؟ وما هي طبيعة هذا الابتلاء؟ وهل لنا أمثلة من الأمم السابقة؟ وما الذي يجب على المسلم فعله عند الابتلاء؟

 

السؤال الأول: هل هناك علاقة بين أن تكون مسلمًا وأن تبتلى؟

فإن من يتأمل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد البلاء متواترًا، ولله در الشدائد التي تهب المؤمنين قلوبًا جديدة يتدبرون بها كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

 

يقول الله عز وجل في محكم التنزيل في سورة العنكبوت في جواب واضح صريح لهذا السؤال:

﴿ بسم الله الرحمن الرحيم الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 7].

 

يقول ابن القيم رحمه الله: فليتأمل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم، فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين، إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما ألا يقول ذلك، بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربُّه وابتلاه وفتنه- والفتنة: الابتلاء والاختبار- ليتبيَّن الصادق من الكاذب، ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه، فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.

 

فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عُوقِب في الدنيا والآخرة، فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألمًا وأدوم من ألم أتباعهم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرِض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداءً، ثم يصير إلى الألم الدائم.

 

وسئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل، أن يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى، والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل، فلما صبروا مكَّنَهم، فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وإنما يتفاوت أهل الآلام في العقول، فأعقلهم من باع ألمًا مستمرًّا عظيمًا بألم منقطع يسير، وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر.

 

فإن قيل: كيف يختار العاقل هذا؟ قيل: الحامل له على هذا النقد والنسيئة. والنفس موكلة بحب العاجل ﴿ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ﴾ [القيامة: 20، 21] ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ﴾ [الإنسان: 27]، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصوُّرات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذَّبوه، وإن وافقهم، حصل له الأذى والعذاب، تارةً منهم، وتارةً من غيرهم، كمن عنده دين وتقًى حل بين قوم فُجَّار ظَلَمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم، أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرِّهم في الابتداء، ثم يتسلَّطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداءً لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية: "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئًا".

 

ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرًا، فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربًا من عقوبتهم، فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شرَّ نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرَّم، وصبر على عدوانهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم؛ كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتُلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتُّجَّار، وغيرهم.

 

ولما كان الألم لا محيص منه ألبتة، عزَّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر، بقوله: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5]، فضرب لمدة هذا الألم أجلًا، لا بد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذّ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحَمُّل مشقة الألم العاجل، بل ربما غيَّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به؛ ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه الشوق إلى لقائه، فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زَيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين".

 

فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوِّن عليه الآلام والمشاق، وهو أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده، ولكنْ لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به، والله سبحانه سميع لتلك الأقوال، عليم بتلك الأفعال، وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها، ويعرف قدرها، ويحب المنعم عليه، فتصلح عنده هذه النعمة، ويصلح بها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]، فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾.

 

ثم عزَّاهم تعالى بعزاء آخر، وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وثمرته عائدة عليهم، وأنه غني عن العالمين، ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين.

 

والمقصود: أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان؛ كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غِشِّه إلا بالامتحان؛ إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذه الدار؛ وإلا ففي كير جهنم، فإذا هُذِّب العبد ونُقِّي أُذِن له في دخول الجنة.

 

واعلم -رحمني الله وإياك- أن الفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]، فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب، ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث. فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها؛ انتهى من كلامه رحمه الله.

 

السؤال الثاني: ما هي طبيعة هذا الابتلاء؟

ثم تنتقل الآيات بعد ذلك لتبيان الأسباب الرئيسية التي قد توقع الإنسان في الفتنة، والتي يجب عليه أن يكون على وعي بها وحذر من الوقوع في شراكها. هذه الأسباب تنحصر في ثلاثة محاور رئيسية:

أولها: الحب الجِبِلِّي؛ أي: ذلك الحب الفطري الذي يميل به الإنسان نحو الدنيا وشهواتها أو أهلها.

 

وثانيها: الترهيب؛ وهو استخدام التهديد والتخويف لإبعاد المؤمن عن دينه، أو لإثارة الخوف في قلبه حتى ينصرف عن الحق.

 

وأخيرًا: الترغيب الذي يتمثل في تقديم الإغراءات والمكاسب الدنيوية، أو الوعود الكاذبة والأماني الخادعة لإضعاف الإرادة والإيمان.

 

هذه الوسائل الثلاثة هي الأدوات التي يستغلها أهل الزيغ والضلال في محاولاتهم لإضعاف أهل الإيمان وثباتهم.

 

الوسيلة الأولى: الحب الجِبِلِّي:

أما عن الوسيلة الأولى، وهي الحب الجِبِلِّي، فقد ضرب الله عز وجل مثالًا بأقرب وأعز محبوبين إلى قلب الإنسان، وهما الوالدان، الأب والأم، ليظهر مدى تأثير هذا الحب في قلبه. فالإنسان مفطور على حب والديه والاعتراف بفضلهما؛ مما قد يجعله يتأثر بأقوالهما وأفعالهما. وفي هذا السياق يُبيِّن الله عز وجل أن هذه المحبة رغم مشروعيتها وعلو مكانتها، لا يجب أن تتجاوز حدود الطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو أن تقود الإنسان إلى ترك الحق والانحراف عن طريق الاستقامة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 8، 9].

 

قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾ نزلت في سعد بن أبي وقاص فيما روى الترمذي قال: أنزلت في أربع آيات فذكر قصةً، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟! والله لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أموت أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت هذه الآية: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴾؛ الآية. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وروي عن سعد أنه قال: كنت بارًّا بأمي فأسلمت، فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيَّر بي، ويقال: يا قاتل أُمِّه، وبقيت يومًا ويومًا فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا فإن شئت فكُلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت ونزلت: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي ﴾؛ الآية. وقال ابن عباس: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك.

 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 9] كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحرك النفوس إلى نيل مراتبهم. وقوله: ﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ مبالغة على معنى، فالذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته. وإذا تحصل للمؤمن هذا الحكم تحصل ثمرته وجزاؤه وهو الجنة.

 

الوسيلة الثانية: الترهيب:

ثم تنتقل الآيات إلى الوسيلة الثانية من وسائل الفتنة، وهي الوسيلة الأشهر والأكثر استخدامًا، ونسأل الله العافية؛ ألا وهي الترهيب. ويقصد بالترهيب التخويف والتلويح بالعقاب والأذى؛ لإجبار المؤمن على التنازل عن مبادئه أو التخلي عن دينه، أو على الأقل زعزعة ثقته وثباته. يستخدم أهل الباطل هذا الأسلوب لثني أهل الإيمان عن الحق، فيلجؤون إلى تهديدهم بالمصاعب الدنيوية؛ مثل الحرمان من الرزق أو التعرض للأذى الجسدي والنفسي؛ لإخافتهم وصرفهم عن طريق الهداية، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 10، 11].

 

يقول ابن القيم: ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله، وهي أذاهم له، ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منهم وتركه السبب الذي ناله كعذاب الله الذي فَرَّ منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فَرَّ من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق.

 

الوسيلة الثالثة: الترغيب:

ثم تنتقل الآيات إلى الوسيلة الثالثة من وسائل الفتنة، وهي الترغيب، حيث يغري أهل الباطل المؤمنين بالوعود الزائفة والأماني الكاذبة، في الدنيا والآخرة. يلجؤون إلى عرض مغريات الدنيا من مال وجاه وسلطة، محاولين استمالة النفوس الضعيفة بالوعود البرَّاقة التي سرعان ما تتلاشى، أو بالوعود الكاذبة في يوم القيامة. إنهم يوهمون الناس بأن في اتِّباعهم الخير الوفير والمصالح العظيمة، لكن في الحقيقة، لا تعدو تلك الوعود إلا سرابًا يخدع الناظر إليه. فالترغيب في الدنيا قد يكون أشدَّ خطرًا من الترهيب؛ لأنه يغري النفس بحب الزائل على حساب الباقي، ويبعدها عن الالتزام بالحق والتشبُّث به، يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [العنكبوت: 12، 13].

 

قال القرطبي: قال مجاهد: قال المشركون من قريش: نحن وأنتم لا نبعث، فإن كان عليكم وزر فعلينا؛ أي: نحن نحمل عنكم ما يلزمكم. والحمل ها هنا بمعنى الحَمالة لا الحمل على الظهر. وروي أن قائل ذلك الوليد بن المغيرة.

 

﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ يعني ما يحمل عليهم من سيئات من ظلموه بعد فراغ حسناتهم. روي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو أمامة الباهلي: "يؤتى الرجل يوم القيامة وهو كثير الحسنات فلا يزال يقتص منه حتى تفنى حسناته، ثم يطالب فيقول الله عز وجل: اقتصوا من عبدي، فتقول الملائكة: ما بقيت له حسنات، فيقول: خذوا من سيئات المظلوم فاجعلوا عليه"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾. وقال قتادة: من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء. ونظيره قوله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [النحل: 25]، ونظير هذا قوله عليه السلام: "مَنْ سَنَّ في الإسلام سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، روي من حديث أبي هريرة وغيره. وقال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدًى فاتُّبِع عليه وعمل به فله مثل أجور من اتَّبَعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وأيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبِع عليها وعمل بها بعده فعليه مثل أوزار من عمل بها ممن اتَّبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا"، ثم قرأ الحسن: ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾، قلت: هذا مرسل وهو معنى حديث أبي هريرة خرجه مسلم. ونص حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتُّبِع فإن له مثل أوزار من اتَّبَعه ولا ينقص من أوزارهم شيئًا، وأيما داعٍ دعا إلى هدًى فاتُّبِع فإن له مثل أجور من اتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئًا"؛ أخرجه ابن ماجه في السنن. وفي الباب عن أبي جحيفة وجرير. وقد قيل: إن المراد أعوان الظلمة. وقيل: أصحاب البدع إذا اتُّبِعوا عليها، وقيل: محدثو السنن الحادثة إذا عمل بها من بعدهم. والمعنى متقارب، والحديث يجمع ذلك كله.

 

فهذه تأملات في سورة مباركة؛ ألا وهي سورة العنكبوت في محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة، كان منها السؤال الأول: هل هناك علاقة بين أن تكون مسلمًا وأن تبتلى؟ ومنها السؤال الثاني: ما هي طبيعة هذا الابتلاء؟ ثم استعرضنا بفضل الله وحده ثلاث وسائل شهيرة في فتنة المرء عن دينه والعياذ بالله، الوسيلة الأولى: استغلال الحب الجِبِلِّي، والوسيلة الثانية: الترهيب، والوسيلة الثالثة: الترغيب. أقول ما تسمعون، وإني أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله عز وجل عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

‌اللهم ‌صلِّ ‌على ‌محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

نستكمل مستعينين بالله عز وجل وحده ولا حول ولا قوة إلا بالله التطواف مع هذه السورة المباركة.

 

السؤال الثالث: هل لنا أمثلة من الأمم السابقة؟

تأخذنا السورة الكريمة إلى أمثلة متعددة من صور الابتلاء والاختبار؛ لتوضح لنا عمق وأهمية هذه التجارب في حياة المؤمن. هذه الأمثلة تظهر كيف يختبر الله عباده خاصة الأنبياء منهم الذين هم أفضل البشر على الله عز وجل، ليميز الصادقين من المدعين، وليعلم من يصبر ويثبت على الحق رغم الصعوبات والتحديات. إن الابتلاءات تأتي في صور متنوعة، منها ما يتعلق بالنفس، ومنها ما يتعلق بالمال والأهل والمكانة، ومنها ما يتعلق بالتكذيب، وكلها تهدف إلى تنقية القلوب وتقوية الإيمان.

 

القصة الأولى: قوم نوح عليه السلام:

يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 14 - 15].

 

قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ ذكر قصة نوح تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ أي: ابتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا. وخص نوحًا بالذكر؛ لأنه أول رسول أرسل إلى الأرض وقد امتلأت كفرًا. وأنه لم يلق نبي من قومه ما لقي نوح. قال الحسن: لما أتى ملك الموت نوحًا ليقبض روحه قال: يا نوح، كم عشت في الدنيا؟ قال: ثلاثمائة قبل أن أبعث، وألف سنة إلا خمسين عامًا في قومي، وثلاثمائة سنة وخمسين سنةً بعد الطوفان. قال ملك الموت: فكيف وجدت الدنيا؟ قال نوح: مثل دار لها بابان دخلت من هذا وخرجت من هذا.

 

قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ الهاء والألف في "جعلناها" للسفينة، أو للعقوبة، أو للنجاة، ثلاثة أقوال.

 

وتأمل هنا أن عمر الدعوة كان ألف سنة إلا خمسين عامًا، عمر مديد، وكل من آمن حوتهم سفينة صنعها نوح عليه السلام بيده، وكان فيها من الحيوانات من كل زوجين اثنين، والنصر كان في إجابة دعوة نوح عليه السلام، بلا جيوش ولا قتال، بل بدعوة نبي من أولي العزم عليهم السلام، صدق الله وثبت بفضل الله على الحق والهدى.

 

القصة الثانية: قصة إبراهيم عليه السلام:

ثم يقول الله عز وجل في قصة أخرى في نفس السورة: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [العنكبوت: 16 - 18].

 

فماذا كان جواب قومه؟ يقول الله عز وجل: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [العنكبوت: 24].

 

وفي قصة إبراهيم عليه السلام لفتة مهمة، أن من الأنبياء من آتاه الله ثوابه في الدنيا والآخرة، ومنهم إبراهيم عليهم السلام، يقول الله عز وجل: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 26، 27].

 

يقول القرطبي: قوله تعالى: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ﴾ أول من صدق إبراهيم حين رأى النار عليه بردًا وسلامًا. قال ابن إسحاق آمن لوط بإبراهيم وكان ابن أخته، وآمنت به سارة وكانت بنت عمه.

 

﴿ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ قال النخعي وقتادة: الذي قال: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ هو إبراهيم عليه السلام. وتأمل هنا أن النصر كان بتحويل النار إلى برد وسلام على إبراهيم عليه السلام.

 

القصة الثالثة: قصة لوط عليه السلام:

ثم تنتقل السورة إلى القصة الثالثة: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 28-35].

 

وهنا لفتة مهمة، أن نصر الله عز وجل في هذه القصة لم يأتِ على الفور، بل دعا لوط عليه السلام ربه، واستجاب الله عز وجل له، وتخلل ذلك إرسال الرسل إلى إبراهيم بالبشرى، ثم ذهابهم إلى لوط، ثم موعدهم الصبح، ومع أن الصبح قريب، كما أن نصر الله عز وجل لدينه قريب، إلا أن هناك أقوامًا يستعجلون النصر، ونحن نؤمن بالنصر يقينًا، في الموعد الذي يشاء الله عز وجل.

 

القصة الرابعة: قصة مدين:

ثم القصة الرابعة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 36، 37].

 

القصة الخامسة والسادسة: قوم عاد وثمود:

ثم الإشارة إلى القصة الخامسة والسادسة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 38].

 

القصة السابعة والثامنة والتاسعة: قارون وفرعون وهامان:

ثم الإشارة إلى القصة السابعة والثامنة والتاسعة، في قول الله عز وجل: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 39، 40].

 

وتأمل النهايات في كل هذه القصص، من الله عز وجل، دون أي أسباب من البشر.

 

السؤال الرابع: ما الذي يجب على المسلم فعله عند الابتلاء ليحظى بالفوز والنجاة؟

ثم تأخذنا الآيات إلى الأسباب الرئيسية في الفوز والنجاة عند وقوع الابتلاء، وهي كالتالي:

السبب الأول: توحيد الله عز وجل: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 41 - 43].

 

يقول ابن القيم: فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءهم أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [مريم: 81، 82]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴾ [يس: 74، 75].

 

وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ﴾ [هود: 101].

 

فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليًّا يتعزز به، ويتكبر به، ويستنصر به، لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.

 

فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: ﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾؟ فالجواب أنه سبحانه لم ينفِ عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقدرةً، فكان الأمر بخلاف ما ظنوه.

 

وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس. وقد تأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر على المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر والله أعلم.

 

ومن عجيب حيل العنكبوت أنه ينسج تلك الشبكة شركًا للصيد ثم يكمن في جوفها فإذا نشب فيها البرغش والذباب وثب عليه وامتص دمه، فهذا يحكي صيد الأشراك والشباك، والأول يحكي صيد الكلاب والفهود، ولا تزدرينَّ العبرة بالشيء الحقير من الذرة والبعوض، فإن المعنى النفيس يقتبس من الشيء الحقير، والازدراء بذلك ميراث من الذين استنكرتْ عقولهم ضرب الله تعالى في كتابه المثل بالذباب والعنكبوت والكلب والحمار، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [البقرة: 26]، فما أغزر الحِكَم وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها! وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته وحكمته! فسل المعطل: مَن ألهمها هذه الحيل والتلطف في اقتناص صيدها الذي جعل قوتها، ومَن جعل هذه الحيل فيها بدل ما سلبها من القوة والقدرة فأغناها ما أعطاها من الحيلة عما سلبها من القوة والقدرة سوى اللطيف الخبير؛ انتهى من كلامه رحمه الله.

 

السبب الثاني: ديمومة قراءة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله عز وجل:

﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].

 

السبب الثالث: الإيمان بالقرآن الكريم اعتقادًا واتِّباعًا وتصديقًا وعملًا وتلاوةً:

﴿ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ﴾ [العنكبوت: 47].

 

وجاءت عدة آيات في فضل القرآن الكريم وإعجازه كنت أتمنى أن يتسع المقام لبسطها.

 

السبب الرابع: عدم الاستعجال:

﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 53 - 55].

 

وهنا يكمن موضع العبرة: عدم الاستعجال، فالتأخير في تحقُّق النصر للمؤمنين أو في إنزال العقوبة على الظالمين ليس دليلًا على ضعف أو عجز من الله عز وجل، بل هو جزء من حكمته البالغة وتدبيره المحكم. إن الله سبحانه وتعالى يعلم مواطن الخير، ويعلم ما يصلح عباده في الوقت الذي يراه مناسبًا، فيؤخر النصر ليزداد المؤمنون صبرًا وثباتًا، ولتنضج قلوبهم باليقين، ويمهل الظالمين لعلهم يتوبون أو تزيد عليهم الحجة. فهذا التأخير هو جزء من الابتلاء والتمحيص، ودرس للمؤمنين في التوكل على الله والرضا بقضائه وانتظار فرجه بتفاؤل وثقة.

 

السبب الخامس: الهجرة للمستضعفين مع اليقين بأن الرزق من الله عز وجل:

﴿ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ [العنكبوت: 56].

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [العنكبوت: 60].

 

السبب السادس: الإيمان والعمل الصالح:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [العنكبوت: 58].

 

السبب السابع: الصبر على الإيمان والعمل الصالح والتوكل على الله عز وجل:

﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [العنكبوت: 59].

 

السبب الثامن: الجهاد في سبيل الله، ويشمل كافة صور الجهاد:

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

قال ابن القيم: علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكملُ الناس هدايةً أعظمُهم جهادًا، وأفضلُ الجهاد جهادُ النفس، وجهادُ الهوى، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الدنيا. فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سُبُل رضاه الموصلة إلى جنته. ومن ترك الجهاد، فاته من الهدى بحسب ما عَطَّل من الجهاد.

 

قال الجنيد: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا ﴾ أهواءهم ﴿ فِينَا ﴾ بالتوبة ﴿ لَنَهْدِيَنَّهُمْ ﴾ سُبُل الإخلاص.

 

ولا يتمكن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِر عليها نُصِر على عدوِّه، ومن نُصِرت عليه نُصِر عليه عدوُّه.

 

قال الأوزاعي وابن المبارك: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر؛ يعني: أهل الجهاد، فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

 

قلت: وفي هذا ردٌّ على الذين يحملون إخواننا المجاهدين مسؤولية ما يحدث، متناسين الخذلان غير المسبوق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يفتي القاعد للمجاهد.

 

ثم يواصل ابن القيم كلامه فيقول: واعلم أن حقيقة الصبر مع الله هو ثبات القلب بالاستقامة معه، وهو ألا يروغ عنه روغان الثعالب ها هنا وها هنا، فحقيقة هذا هو الاستقامة إليه وعكوف القلب عليه.

 

وقد قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ وقال: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ﴾ [الحج: 78]، وفي حديث جابر: "إن الله تعالى لما أحيا أباه وقال له: تمَنَّ. قال: يا رب أن ترجعني إلى الدنيا حتى أُقْتَل فيك مرة ثانية"، وقال: "ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد".

 

وهذا يفهم منه معنيان أحدهما أن ذلك في مرضاته وطاعته وسبيله، وهذا فيما يفعله الإنسان باختياره كما في الحديث: "تعلمت فيك العلم".

 

والثاني إنه بسببه وبجهته حصل ذلك، وهذا فيما يصيبه بغير اختياره وغالب ما يأتي قولهم: "ذلك في الله" في هذا المعنى.

 

فتأمل قوله: "ولقد أوذيت في الله،" وقول خبيب: "وذلك في ذات الإله" وقول عبدالله بن حرام: "حتى أقتل فيك" وكذلك قوله: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾، فإنه يترتب عليه الأذى فيه سبحانه.

 

وليست (في) ها هنا للظرفية، ولا لمجرد السببية، وإن كانت السببية هي أصلها فانظر إلى قوله: "في نفس المؤمن مائة من الإبل"، وقوله: "دخلت امرأة النار في هِرَّة" كيف تجد فيه معنًى زائدًا على السببية وليست "في" للوعاء في جميع معانيها، فقولك: "فعلت هذا في مرضاتك" فيه معنى أزيد على قولك: "فعلته لمرضاتك"، وأنت إذا قلت: "أوذيت في الله" لا يقوم مقام هذا اللفظ كقولك: "أوذيت لله" ولا "بسبب الله"، وإذا فهم المعنى طوى حكم العبارة. والمقصود أن الصبر في الله إن أريد به هذا المعنى فهو حق، وإن أريد به معنى خارج عن الصبر على أقضيته وعلى أوامره وعن نواهيه وله وبه لم يحصل. فالصابر في الله كالمجاهد في الله، والجهاد فيه لا يخرج عن معنى الجهاد به وله. والله الموفق؛ انتهى من كلامه رحمه الله.

 

ختامًا: هذه وقفات مباركة مع سورة العنكبوت، السورة التي تتناول الفتنة كحقيقة حتمية في حياة المسلم، ونسأل الله السلامة والعافية، تتجلى فيها أسباب الفتنة التي يجب أن يحذر منها المؤمن، وتتركز في ثلاثة محاور: الحب الجِبِلِّي، والترهيب، والترغيب. كما تحتوي السورة على تسع قصص للأنبياء مع أقوامهم، تقدم دروسًا عظيمة يجب على كل مسلم التوقف عندها واستنباط العبر منها، وهي قصص: قوم نوح، وإبراهيم، ولوط، ومدين، وعاد، وثمود، وقارون، وفرعون، وهامان.

 

أما عن أسباب النصر، فقد تضمنتها السورة الكريمة في ثمانية أسباب رئيسية، قد تزيد حسب ما يفتحه الله على عباده: توحيد الله عز وجل، الاستمرار في قراءة القرآن، وإقامة الصلاة، وذكر الله، الإيمان بالقرآن الكريم قولًا وعملًا، وتصديقًا وتلاوةً، عدم الاستعجال وانتظار حكمة الله في كل أمر، الهجرة للمستضعفين، مع اليقين بأن الرزق من الله، الإيمان والعمل الصالح، الصبر على الإيمان والعمل الصالح، والتوكل على الله، والجهاد في سبيل الله بكافة صوره وأشكاله.

 

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الثبات على دينه، وأن يجعلنا من الذين ينجون من الفتن، ويفوزون بنصر الله وتأييده، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

 

اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عَدْلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب هَمِّنا وغَمِّنا.

 

اللهم انصر إخواننا في غزة وفي كل ديار المسلمين، واربط على قلوبهم، وأنزل عليهم من رحماتك، اللهم داوِ جرحاهم، واشْفِ مرضاهم، وتقبَّل شهداءهم. اللهم إنهم إخواننا، قد ظُلِموا بغير حق، وأُخْرِجوا من ديارهم بغير حق، اللهم انتصر لهم، واربط على قلوبهم، وردهم إلى ديارهم، ومساجدهم سالمين آمنين. اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا رب السماوات والأرض، يا من بيده مقاليد الأمور، نسألك أن تنصر إخواننا على عدوِّك وعدوِّهم وعدوِّنا نصرًا عزيزًا مؤزرًا. اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، واجعل الدائرة تدور على أعدائهم وأعوانهم. اللهم ارفع الحصار عن إخواننا، واجعل ديارهم وأوطانهم آمنةً مطمئنةً، اللهم انصر إخواننا، وارحم شهداءهم، واشفِ جرحاهم، وفكَّ أسراهم، واحفظهم من كل مكروه وسوء.

 

اللهم إنا نسألك باسمك القَهَّار أن تقهر من قهر إخواننا، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين. اللهم بارك جهاد المجاهدين في كل أرض المسلمين، وأيِّدهم بجنودك ونصرك يا قوي يا كريم. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.

 

اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطل عمره في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسع له في قبره مد بصره، وآنس وحدته ووحشته.

 

اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتنا، وارزقهن العفاف، ووفق المسلمين لكل خير وبر.

 

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • التكثيف البصري في سورة العنكبوت
  • نفحات قرآنية .. في سورة العنكبوت
  • وقفة عند سورة العنكبوت
  • مقاصد سورة العنكبوت
  • آية الذرية في سورة العنكبوت ومضامينها التربوية
  • فوائد من ترجمة الإمام ابن دقيق العيد (625 – 702) هـ
  • العزيز: معاني ودلالات في اللغة والشرع: من كتاب "إتمام الرصف بذكر ما حوته سورة الصف من الأحكام والوصف"

مختارات من الشبكة

  • تأملات في بعض آيات سورة النازعات (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في سورة الكهف (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة عن تأملات في سورة يوسف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في سورة هود (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في سورة الأنعام (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في الحياة والممات (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • تأملات في دعاء السفر (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • تأملات في الحج (10) ماذا بعد الحج؟! (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • تأملات في الحج (8) الحج بين الفضائل والبدائل (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تأملات في الحج (4) السعي حركة وبركة (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب