من أقوال السلف في الاعتكاف

من أقوال السلف في الاعتكاف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى أصحابه أجمعين؛ أما بعد:

فطوبى لصائمٍ جاهَدَ نفسه، فجعل اجتهاده في العشر بالاعتكاف، فأحيا باعتكافه سُنَّةً هَجَرَها كثير من الناس؛ ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله)).

للسلف أقوال في الاعتكاف، يسَّر الله فجمعت بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها.

تعريف الاعتكاف:

قال الإمام القرطبي رحمه الله: "الاعتكاف في اللغة الملازمة... وهو في عرف الشرع ملازمة طاعة مخصوصة، في وقت مخصوص، على شرط مخصوص، في موضع مخصوص".

قال عمرو بن دينار رحمه الله: "الجوار والاعتكاف واحد".

قال الإمام البغوي رحمه الله: " ﴿ وَالْعَاكِفِينَ ﴾ [البقرة: 125] المقيمين المجاورين".

قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان: "الاعتكاف... يسمى جورًا".

النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الاعتكاف منذ دخل المدينة:

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: "روى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول: عجبًا للمسلمين، تركوا سنة الاعتكاف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتركه منذ دخل المدينة حتى قبضه الله".

الاعتكاف في المساجد:

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والإمام الزهري رحمه الله: "لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة".

حكم الاعتكاف:

قال الإمام ابن بطال رحمه الله: "مواظبته صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف تدل على أنه السنن المؤكدة".

قال الإمام القرطبي رحمه الله: "أجْمَعَ العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قُرْبَة من القُرَبِ، ونافلة من النوافل، عمِل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويُكره الدخول فيه لمن يُخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه".

قال العلامة ابن باز رحمه الله: "المشروع للمؤمنين التأسِّي بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وأن يختموا هذا الشهر الكريم بالعناية بهذه العشر، والحرص على مضاعفة الجهود فيها، ومن تيسَّر له الاعتكاف، فالاعتكاف سُنَّة".

مقصود الاعتكاف وروحه:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "الاعتكاف... مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها... فيصير أُنْسُه بالله بدلًا عن أنسه بالخلق، فيُعِدُّه بذلك لأُنْسِهِ به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه".

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "حقيقة الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قَوِيَتِ المعرفة بالله، والمحبة له، والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية".

الطِّيبُ للمعتكف:

قال الإمام مالك رحمه الله: "لا بأس بالطِّيب للمعتكف".

هَدْيُه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف:

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "هديه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف:

• لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرًا قط.

• كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفَّاه الله عز وجل، وتَرَكَهُ مرة، فقضاه في شوال.

• كان يعتكف كل سنة عشرة أيام، فلما كان في العام الذي قُبِض فيه اعتكف عشرين يومًا.

• كان إذا اعتكف... لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان.

• كان يأمر بخباء فيُضرب له في المسجد، يخلو فيه بربه عز وجل، وكان إذا صلى الفجر، ثم دخله... وكان إذا اعتكف دخل قُبَّتَه وحده.

• كانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف... ولم يُباشِر امرأة من نسائه وهو معتكف.

الاعتكاف والصوم:

قال ابن عباس رضي الله عنهما، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "من اعتكف فعليه الصومُ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنِ اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران؛ وهما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم كمذهب أبي حنيفة ومالك، والثاني: يصح الاعتكاف بدون الصوم كمذهب الشافعي".

قال العلامة العثيمين رحمه الله: "الاعتكاف... لا يشترط له الصوم... وهذا القول هو الصحيح".

ما يفعله المعتكف:

قال العلامة العثيمين رحمه الله: "أمَّا ما ينبغي أن يفعله المعتكف، فيشتغل بالقراءة والذكر والصلاة، ولا بأس أن يتحدث قليلًا إلى أصحابه الذين معه في الاعتكاف، أو الذين يدخلون لزيارته؛ فإنه قد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان معتكفًا، فزارته صفية - إحدى زوجاته رضي الله عنهن - لكن لا يعني ذلك أن يجعل الإنسان أكبر وقت في اعتكافه أن يتحدث إلى أصحابه، كما يوجد في بعض المعتكفين في المسجد الحرام، فأكثر أوقاتهم يكون في التحدث فيما بينهم، فإن لم يكن فالنوم، نوم وحديث، فأين الاعتكاف؟!".

المرأة والاعتكاف:

قال العلامة العثيمين رحمه الله: "المرأة تعتكف ما لم يكن في اعتكافها فتنة، فإن كان في اعتكافها فتنة فإنها لا تُمكَّن من هذا... والمسجد الحرام ليس فيه مكان خاص للنساء، وإذا اعتكفت المرأة، فلا بد أن تنام إما ليلًا أو نهارًا، ونومها بين الرجال ذاهبين وراجعين فتنة".

قال عطاء رحمه الله: "إذا حاضت وهي معتكفة، رجعت إلى بيتها، فإذا طهُرت، فَلْتَرْجِعْ إلى جوارها... ولا يمسها زوجها حتى تفرغ من جوارها".

قال الإمام الزهري رحمه الله: "إذا حاضت المرأة وهي معتكفة، خرجت إلى بيتها، فإذا طهُرت قَضَتْ ذلك".

قال ابن جريج رحمه الله: "سُئل عطاء: أتتطيَّب المعتكفة وتتزيَّن؟ قال: لا، أتريد أن يقع عليها زوجها؟ لا تتطيب، قلت: ففعلت، أيقطع ذلك جوارها؟ قال: لا، ولم تفعل ذلك، وهي في عبادة وتخشع، إنما طِيبُ المرأة وزينتها لزوجها".

الصمت عن الكلام مطلقًا في الاعتكاف:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو في غيرهما، فبدعة مكروهة، باتفاق أهل العلم".

أمور تحرُم على المعتكف:

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "المعتكف يحرُم عليه النساء ما دام معتكفًا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها، فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يُقبِّلَ امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يَعُود المريض، لكن يسأل عنه وهو مارٌّ في طريقه".

قال العلامة السعدي رحمه الله: "الوطء من مفسدات الاعتكاف".

اتخاذ المعتكف لنفسه موضعًا من المسجد:

قال الإمام النووي رحمه الله: "جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعًا من المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه، ما لم يضيِّق على الناس، وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه، لئلا يضيق على غيره، وليكون أخلى له وأكمل في انفراده".

الاعتكاف مسنون في العشر كلها حتى ولو رأى ليلة القدر:

قال العلامة العثيمين رحمه الله: "الاعتكاف مسنون في العشر الأواخر كلها، حتى لو رأى ليلة القدر؛ أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد علِم أن ليلة القدر ليلة الحادي والعشرين، واستمر في اعتكافه؟ بلى، وهو عالم بها، وأنها قد مضت، ومع ذلك اعتكف العشر الأواخر، فنقول: ربما يكون اعتكافك بعد أن رأيتها بمنزلة الراتبة للفريضة؛ يعني أنه يكمل أجر الليلة، فهل منا من يتأكد أنه أعطى ليلة القدر حقها؟ أبدًا، كلنا مقصرون، نسأل الله أن يعاملنا بعفوه".