• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فتاوى الطلاق الصادرة عن سماحة مفتي عام المملكة ...
    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار
  •  
    عناية النبي بضبط القرآن وحفظه في صدره الشريف
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    على علم عندي
    عبدالسلام بن محمد الرويحي
  •  
    عظمة الإسلام وتحديات الأعداء - فائدة من كتاب: ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    خطبة: أهمية التعامل مع الأجهزة الإلكترونية
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    نصيحتي إلى كل مسحور باختصار
    سلطان بن سراي الشمري
  •  
    الحج عبادة العمر: كيف يغيرنا من الداخل؟
    محمد أبو عطية
  •  
    تفسير سورة البلد
    أبو عاصم البركاتي المصري
  •  
    فضل يوم عرفة
    محمد أنور محمد مرسال
  •  
    خطبة: فضل العشر الأول من ذي الحجة
    يحيى سليمان العقيلي
  •  
    خطبة: اغتنام أيام عشر ذي الحجة والتذكير بيوم عرفة
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    حقوق الأم (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    وقفات مع عشر ذي الحجة
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    من مائدة العقيدة: شروط شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    تحريم صرف شيء من مخلوقات الله لغيره سبحانه وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    الله يخلف على المنفق في سبيله ويعوضه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / فكر
علامة باركود

الاغتراب في زمن الاقتراب

الاغتراب في زمن الاقتراب
يحيى بن علي الزهراني

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/9/2017 ميلادي - 6/1/1439 هجري

الزيارات: 6246

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الاغتراب في زمن الاقتراب


إذا نظرتَ لمَنْ تَغنَّى في الغربة، شاديًا أو باكيًا أو شاكيًا، فأنت أمامَ قضيَّة كلٌّ يصدر معها من مشرب، ومشربة حديثنا ستُجاوز المعنى اللُّغوي للغربة قليلًا، وإن كان الانطلاق منه حقيقةً وحُكمًا فقد يُرى أنَّ القُرب يُوهن الغُربة، ويُضعف وقعَها، فلا ترى أنَّ وحشتها المعتادة هي تلك التي حشرجتْ في الصدور، وأظلمتْ بالنفوس، وأشغلت العقول.

 

نتَّفق أنَّ العاملَ الذي أتى مِن أصقاع الأرض طلبًا للرِّزق سيكون حبيسًا للغُربة، مُرتهَنًا بوثاقها الغليظ حتَّى يؤوبَ قافلًا لأهله، فهو أشبه بطيرٍ في قفص، كلَّما سمع الشدو تجدَّد الحنينُ في قلبه، فلو أبصر الطليق لودَّ لو يفتدي بكلِّ شيءٍ حتَّى يخرج مِن غربته لموطن قربته.

 

((والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب مِن صنعاء إلى حضرموت لا يخافُ إلا الله، أو الذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))، هكذا يقول البشيرُ النَّذيرُ صلَّى الله عليه وسلَّم لنا ولأصحابه حين شكوا ما يلقون مِن أعداء الدَّعوة؛ قالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فالغريب المقتصِد في دربه، العارف وجهته، يعلم أن طريقه موصِلة ولو أبطأ به رِكابه فسيصل، فلا يجزع لوعورةٍ، ولا يفزع لقبورةٍ.

 

إنَّ الاستغراب من الاستعجال في طلب العون والمدد أمرٌ طبيعي؛ إذ العجلة من طبائع الإنسان، لكنَّ الفتور في طلب العون وقلَّة الدُّعاء ضعفٌ واستكانة، وكأنَّ مُلازِم الدعاء اليوم غريبٌ في النَّاس، والمُستكبر عن الدُّعاء مآلُه الذلُّ والصَّغار؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

لا ينفع العِلم قلبًا قاسيًا أبدًا ♦♦♦ ولا يلين لفكِّ الماضغ الحَجَرُ

 

ومع تزايُد المواجَهات المُتنامية بين الاغتراب والاقتراب، بين الأبرار والفُجَّار، كان القرآنُ ينزل، والرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بين أظهُر الصَّحابة، يشدُّ أزر الغُرباء، ويُؤلِّف بينهم، ويحرص على أن تنطفئ آثار الغُربة مع تنامي روح الصُّحبة.

وفي المقابل أيضًا كان صلَّى الله عليه وسلَّم يُبشِّر ويُخبر بأمد الغربة الذي سيُطوى إلا قليلًا، ثم سيُعاد نشره فلا تجد مِن أهل الصُّحبة إلا قليلًا، فالإسلامُ بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وحتى لا يقلق أولئك طمَّنهم صلَّى الله عليه وسلَّم بـ(طُوبى).

 

نزل الرحمةُ المُهداةُ صلَّى الله عليه وسلَّم طيبة، وأصابت الحمَّى أصحابه، حتى إذا أخذت الحمَّى أبا بكر الصِّديق رضي الله عنه جعل يقول:

كل امرئٍ مُصَبَّحٌ في أهله ♦♦♦ والموت أدنى من شِرَاكِ نعله

 

فلمَّا رأى صلَّى الله عليه وسلَّم حالهم، وما لاقوه مِن فراق دارهم، قال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحُبنا مكَّة أو أشد، وصحِّحها، وباركْ لنا في صاعِها ومُدها، وانقُل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفة)).

إنَّ الشَّكوى مِن إنكار القلوب لبعضها، فيما عهِدته مِن الصَّالحات، وملازمة القربات، وتذكُّر أحوال كانت فيها خيرًا وأتقى - دليلٌ على خيريَّة تلك القلوب وإيمانها، فالحنين للطَّاعة والأنين مِن المعصية أمران مُبشِّران، كما أنَّ الخوض في الشُّبهات، والوُلُوغ في الشَّهوات أمران مُنذِران.

 

وفي مُعترك الغُربة يجد الشَّاب الصَّالح والفتاة الصَّالحة بلاءً في لُزوم الجادة التي كان عليها سلفُ الأمة، والطريقة التي سار عليها أولئك المهتدون، ويزداد بهما الأمر حين يرى مِن السَّلف مَن أنكر حاله، وشكَا زمانه، واعتزل أقرانه، فهما أمام نار الجوى التي تدعو للهوى، وجنَّة المأوى التي تقود لها التَّقوى، والأعجب أنَّ ظاهر الأولى جنَّة، والأخرى نار!

 

لكنَّ ﴿ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19] الذي ارتضاه الحكيمُ العليمُ سبحانه لعباده، دينٌ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكان، وحالٍ ومآل، أما تراه يُحفِّز النُّفوس على التمسُّك به، ويُنذرها بغبرة ودخان تختلط فيها أمور، فالمُتمسِّك بدينه له أجرُ خمسين، فالثَّبات على الدِّين أمام سيل المُغريات الدُّنيويَّة سيكون جهادًا مع نفسٍ أمَّارة بالسُّوء أولًا، ومع رُفقة كانتْ مِعوَلًا للبناء فغدتْ مِعوَلًا للفناء، فلا أدري، أحنينُ المكسور للكاسر؟! أم نفس المقهور توَّاقة لما اعتادته دهرًا مِن عمرها؟!

 

إنَّ الغُربة في زمن تقارب العالم ودنُوِّ أخباره، وسرعة انتشار أفكاره، مع ما صاحب بعض المنتسبين للدِّين من ضعفٍ أو استكانةٍ، أو شعورٍ بالخجل، أو إحساسٍ بأنَّ اتباع الدين لن يُنجي من المدلهمات، ويكشف الكُرُبات، صاحبه ضعف في تأصيل، وتصدر قبل تأهيل، وعجلة لا تبقي للبيب أن ينظر قبل أن ينشر - لهيَ غربةٌ توجِب على العبد أن يمتثل أمر ربِّه تعالى؛ ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ﴾ [النحل: 43]، وتجعله حَذِرًا لا يقفو ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [هود: 46]، ويتذكَّر أنَّ ﴿ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا ﴾ [الإسراء: 36]، وينظر خلاصه حين يرى ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71] فعلم الصدور ولم يعلم الورود، ويؤمن أنَّ الأعوان والإخوان لن تُجدي؛ ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾ [الشعراء: 88] فيجتهد ليأتي ﴿ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]، وكلُّ ذلك يجعله على ملازمةٍ ودوام؛ لقول العزيز السلام: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [النور: 31].

 

الغُربة والتَّوبة لِباسان يُدرَّع بهما كل مؤمن، ألا ترى أن الاغتراب باجتناب الخوض في مجالس (الذين يخوضون في آيات الله) وقلَّة الإنكار من الجُلَّاس أمرٌ فيه مجاهدة، وقلَّ مَن يسلَم من الوقوع في المحظور من أولئك المخالطين فضلًا عن الخائضين! والغربة بالنسبة للآخرة ونعيمها، هي التي وُصفت بـ"سجن المؤمن"، والتوبة تجلو عن القلب عوالق القُرب مِن المعاصي وإلفها، فتجعله نقيًّا تقيًّا.

إنَّك في غُربةٍ تُشكي، ومن قُربةٍ تُبكي، يطول الهولُ بالطالب، حين ينظر يمنةً ويسرةً فلا يرى نِدًّا يجاذبه العلم، ولا هُمامًا يُساهِره الفقه، ولا فقيهًا يطرد معه السند، ولا مُحدثًا يستوقِفه الحكم، ولا حتَّى مَن يسمع له ويسمع منه المتن! فأي غربة - والله - هذه؟

 

إنَّ نُقولات السَّلف الصَّالح نقيَّة، وتأكيدهم على البناء العلمي جليَّة، حتى قالوا مُدارسة مسألة أحبُّ من قيام ليلة، ولا يخفى ما للصُّحبة الصَّالحة العلميَّة من أثرٍ في الثَّبات عند الفِتن، والتمسُّك بالسُّنة عند المِحَن.

إنَّك في غُربةٍ تكاد تكون دُربة لمَن وُفِّق للطلب، تطلُب الشيخ العلم وترحل له، وربَّما حللت ببابه ونزلت بجنابه، فلا يكاد يفرغ لك، وربَّما أُشغل أو شُغِل بما غيره أولى منه، حتى تفتر همَّتك في الطلب، أو تنصرف وقد أفنيت عمرًا طويلًا وأنت لم تُنجز متنًا واحدًا! فاجعل من وحدتك في الطلب دُربةً للعلم، فدروس العلم قد ملأت المواقع؛ فأرْعِ لها المسامع واستعن بالله، ففي السَّماع خير لا يفوقه إلا الحضور لو تيسَّر.

 

ومِن الغُربة التي قد لا يُفطَن لها اليوم أن تتركَ ملازَمة مجالس الذِّكر والعلم زعمًا بأن المسموعات والمنقولات تُؤدِّي الغرض، فأقول: اعلم أنَّ حضور مجالس العلم فيه تربية للنَّفس قبل تعلُّم العلم، وأنت في زمنٍ أُتيح فيه علمٌ وشحَّ فيه أدبٌ، فاطلب الأدبَ يدنُ لك العلم، وإيَّاك ثم إيَّاك أن تجعل ما أُتيح لك من مسموعات العلم إجازةً لك بالفتوى والنُّبوغ، فإنَّ العلم درجات، أوائله دركات لمَن رأى نفسه التأهُّل قبل التصدُّر.

 

إنَّ الغربة في زمنٍ من الأزمان تجعلك تعجَبُ - إن لم تكن على بيِّنةٍ من الأمر- كيف سابق أهلُ القرآن أتباع الدُّنيا، فجعل أحدهم همه أن يُقال عنه، وأن يسمع ثناءَ النَّاس له، ولعمري إنَّ العجب كبير، والخطر مُحدِّق، والدنيا خدَّاعة، والسنون تتصرم، وقد يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافرًا، يبيع دينه بعرضٍ من الدُّنيا.

 

في زمن البيع، عرض أقوامٌ دينهم، وحين عُلِم فساد المبيع كسد البيع، وقَلَّ المشتري، وتهافت أقوامٌ أيُّهم يكون أكثر تنازلًا وأكبر إنفاقًا، ووالله إنَّ دِين الله عظيم، والرب تعالى عزيز، لكن لمَّا أضعفوا دينهم في قلوبهم وابتغوا به ثمنًا قليلًا، رأى النَّاس فيهم خُبثَ الكيل وسوء المكيل، فغدًا ما عندهم هوى لا دينًا.

 

وأمام غربة المؤمن وجهاده لاتِّباع السُّنة وطلب الحق، واتِّقاء ما حاك في النفس وكُره أن يُطَّلع عليه، فليكن طريقك للنَّجاة؛ إن كانت الكلمة بعشرة دنانير، فصمتُك أغلى من مئة، ولو بذلت ألفًا، السلامة لا يعدلها شيء، والخوض في أعراض محرَّمة ودماء معصومة افتئات عظيم، والسعيد مَن جُنَّب الفتن، والأيام دُول، ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [الشعراء: 227] فانظُرْ أترضى أن يكون مُنقلبك لهم أم لمَن آمَن وعمل صالحًا؟! وانصحْ لإمامك واحفظْ لسانك، ولا تخن من خانك.

 

إنَّ الغربة الحسناء لا تعني أن تكون كالصَّخرة الصمَّاء، لكنها تُرشدك أن تكون آمِرًا بالخير وناهيًا عن الشرِّ بما تستطيع، فإن تحقَّق المراد وإلا فقد أعذرت ليوم المعاد، وهي تُرشدك لأن تعدَّ العُدَّة جادًّا حريصًا أمينًا لبناء جيلٍ ينفع اللهُ به الأمَّة، في كل ميدان كنتَ فيه، وفوق كل أرض وتحت كل سماء، والزم الرفق ما استطعت سبيلًا، فإنه زَيْنٌ، وتركه شَيْنٌ.

 

وفي المقابل - أمَّة الكتاب والسنة - أجَلُّ ما يُخشى على صالحي الأمة قنوط يقتات القلوب، ويأسٌ يأسِر النفوس، فيجعلها كـ﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]، ليست صحيحةً فتعمل، ولا كسيرة فتُعذَر، ومَن تأمَّل أزمنةً مَضَتْ في عمر الإسلام رأى أنَّ نور الإسلام يزداد توهُّجًا حين تطبق عليه البلايا، فلا تزيده إلا حقًّا ونورًا.

 

واعلمْ أنك تتغرَّب أحيانًا وأنت لا تدري، أمَا رأيتَ اللَّوم والذَّم الذي وقع عليك حين كنت أمينًا في عملك، لا ترضى أن يُخالطه ريال حرام، أو زيف سلعة، أو هدر وقت، ثم جاؤوا يحلفون أنَّ المرونة في هذه الأمور من اليُسر والتيسير، فدع التشدُّد واتركِ النَّاس تطلُب الرزق! هكذا يجلبون عليك، وربما منهم من ظاهره الالتزام، لكن باطنك الإسلام الذي يُربِّي على "مَن غشَّ فليس مِنَّا".

 

فأنت في عصرٍ كثُرت فيه منابرُ تدَّعي الإصلاح زعمًا، وتُخل تطبيقه جمعًا، يتحتَّم - والحال كذلك - أن يكون المؤمن فطِنًا لما يُحاك حوله ويُراد له، فالسَّمك قليل والصَّائدون كثير، والشَّبك غائر، والتصنُّع عائم، ثار النقعُ، وظمئ الجمعُ، وغار النقع، والدحض مزلَّة، والاستجداء منه قد يكون مذلَّة.

 

الغُربة في زمن الفِرية أن ترى النَّاس يتطاولون في وُلاة أمرهم نقدًا وتجريحًا، تعريضًا وتصريحًا، ثم ترى أنَّ السُّكوت خيرٌ من الذَّوْد عن أخيك المسلم، الذي هو الحاكم، وهو أخوك قبل أن يَحكُمك، وحقُّ الأخ النُّصح له حاضرًا، والذَّوْد عنه غائبًا، فادفع فِرية الصَّمت باتِّباع السُّنة في درء الفتنة، وردِّ المُغتاب والمُرتاب، أمَا رأيت الأحمدين ابن حنبل وابن تيمية، يُذكِّرون بلزوم السمع والطاعة والدعاء له، والأوَّل سجنوه وجلدوه ليوافقهم على مقولة الكفر، والثاني حبسوه وحاصروه حتى مات محبوسًا في القلعة، ومع ذلك قالوا بقول أهل الحقِّ، وحذَّروا من الخوض مع أهل الزيغ.

 

تعلم ويعلمون أنه ما قامت بدعة إلا وأُميتت سُنَّة، ولا خبا نور التوحيد إلا وجمع الشَّيطان للشِّرك وعلى الشِّرك أتباعه، ولا تغرنَّك تدليس المدلسة بأنَّ بدعتهم لا تُوصلهم لشركٍ، فإنَّ الشَّيطان لا يزال يطلبهم حتى يَجتالهم، وانظر قوله: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، ومَنْ تعلَّق تميمةً وُكِل إليها، ومَن تعلَّق تميمةً فلا أَتَمَّ الله له، ومَنْ تعلَّق ودعة فلا ودع الله له، ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51] فهل ترجو نصر الله وفتحه، ونوره وبركته، وأنت تُقبِل يومًا وتُدبِر عامًا؟

 

إنَّ الغربة في تاريخ الدعوة لتُنبِئك بطبيعة النفس، وأهمية التذكير؛ ﴿ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ ﴾ [الذاريات: 55]، فشكوى حنظلة وأبي بكر رضي الله عنهما منها، أجاب عنها صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: ((ساعة وساعة))، وهو جوابٌ مبثوثٌ في القرآن كقوله: (وابتغِ، ولا تنس)، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً ﴾[البقرة: 143]، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ [البقرة: 187] فإيَّاك أن تأتي أو تذر ما ﴿ لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68].

 

إنَّ فَهم حقيقة الحياة والنظرة لها ولما فيها هو مُعتركُ الأقران، ومُفترقُ الإخوان، فمَن جعلها همه ضحَّى بكلٍّ لها، ومَن جعل الأخرى همَّه ضحَّى بها، فكلٌّ مُضَحٍّ، فإيَّاك أن تتقرَّب بدمٍ لا ينفعك غدًا، فهذا المتلبسُ بالعبادة الحري بالقبول نُبِّه على مسألةٍ عظيمةٍ، حتَّى ولو كانتْ قُربانك سمينة، فتأمَّل: ﴿ وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37].

 

إنَّ حقيقة الصِّراع بين مُريدي الآخرة وطالبي الدُّنيا هي شائكة على المُرتابين، بيِّنة للموقنين، فالإيمان بأركان الإيمان، وفَهم معانيه، والعمل على ضوئها عملًا جادًّا من قلبٍ مخلصٍ - هو ممَّا يجعل نظرة الفريق الأول طامحة للعُلى، فلا تقع على دُنى، ولا تعثُر في دُمى، والمتشبِّثون بغير رَسَنٍ قويم يُوشك أن ينقطع بهم قبل بلوغهم مُرادهم؛ ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20].

 

فاعلم أنَّ الالتزام بالإسلام طريق موصلة لدار السَّلام، وكلَّما كنتَ منه قريبًا كان الشرُّ عنك بعيدًا، فأكثِر من التمسُّك به في ظاهرك وباطنك تُفلح في الدنيا والآخرة، وأكثِر من الفرائض والنوافل، فلن يُهدم قصرٌ دونه سياج، وإذا رأيتَ أمر الله تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1]، فاعلم أنك من باب أولى أن تتَّقي، فإن كنتَ ممَّن شُرفوا وكُرموا بالدخول في ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104] فإنَّ الامر بها اقترن بهم في أكثر مِن بضعة عشر موضعًا، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((واللَّه إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، وأصدقكم وأبركم)).

 

واعلم أنَّ التشاؤم بأهل الصَّلاح وأنَّهم سبب نُكوص الأمَّة، وأنَّ الدين لن يصنعَ المجد ولا يُعيد ما كان للجَد، هي دعوى سابقة، سبق أعداء الأنبياء بها جهلة اليوم، أمَا تراهم يقولون: ﴿ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ﴾ [يس: 18] ﴿ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ [هود: 62]، وقد وصف اللهُ الذي قالوا ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12] بالنفاق وأنَّ في قلوبهم مرضًا، وانظر لقول الأوَّلين والآخرين: ﴿ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ﴾ [الأنفال: 49]، وقِسها بكتابات اليوم ونداءات الإعلام!

 

وخليقٌ بك أن تعلمَ أنَّ الله تعالى أمَر نبيَّه بالاتِّباع، وحذَّره مُسايرة الأهواء؛ فقال جلَّ مِن قائل: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِين ﴾ [الجاثية: 18، 19] فلا تغترَّ بالمظاهر التي تُشرك لك؛ ﴿ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [العنكبوت: 8].

 

وأخيرًا - يا غريبًا طال شدوُه - إنَّ صلاتك باللَّيل والنَّاس نِيام توفيقٌ من العزيز العلَّام، والسكوت عن الخوض فيما لا يعنيك مِن حُسن إسلامك، لا كما يُكرِّره جهلة الخلف، والاستفزاز المُتعمد لك هو دليلٌ على فضلك ولو لم تسمع مَن يتحدَّث عن مكانتك، فالأنظار لا تُرفَع إلا لذي قيمة، وذي حقيقة تُرى حين تعرف الحق، فبه يُعرف أهله، وأعِظُك أن تضع قدمك قبل أن تعرف موضعه، أو تنزل بئرًا لا تدري مدى قعرها:

النَّارُ أول ما تكون فتيَّةٌ
تسعى بِزينتِها لكلِّ جهولِ
حتَّى إذا اشتعلَتْ وشبَّ ضرامها
ولَّتْ عجوزًا غير ذات حَليلِ

 

هاك عقدَ الغربة فإن نبذْتَه فقد عاصرته، وإن قبِلته فقد نظمته، فإنَّها مطبِقة بكلِّ مُتشبثٍ بالهدي، سائرٍ على طريقة الأولين، وملتزِمٍ سُنن الإسلام في المنشط والمكره؛ فهو في جهاد، وأي جهاد! فإن اخترت سبيلهم فاستعن بالله؛ ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ﴾ [طه: 131]، والزم الذين ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 28]، فإن لم تكن معهم في مجالسهم فاصحَبْهم في أخلاقهم، وعاصرهم في كتبهم، فقد عاش قومٌ وهم في النَّاس أمواتُ، ومات قومٌ وهم في النَّاس أحياءُ.

 

غربة تغنَّى بها الشُّعراء والخطباء والحكماء، وتفرَّد بجمالها الفقهاء إن لم تكن منهم فكُنْ معهم، المطايا في طريقها للعطايا، فالزم الغرز تحز العز، وقد قال الأول: نحن قومٌ أعزَّنا الله، ولن تلِد النساءُ حتَّى القيامة مثلهم، ولو عِشنَ ما عاش نوحٌ والعالمون، ويكفيهم شرف الصُّحبة وكفى بها يا طالبي الغُربة، والله يتولَّاني وإيَّاك بحفظه وتوفيقه.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • اللاجئات العراقيات.. ومحنة الاغتراب
  • السفر والاغتراب بين المدح والذمِّ
  • الغربة والاغتراب في الشعر الإسلامي
  • محاور الغربة والاغتراب في ديوان نقوش إسلامية (2)
  • عهد الاغتراب ( قصيدة )
  • ممنوع الاقتراب

مختارات من الشبكة

  • الاغتراب في قصيدة "لا تعذليه" لابن زريق البغدادي: دراسة أدبية موضوعية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاغتراب)(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • أعطاف العيش بين الاغتراب والأشواق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المكتبة الإسلامية بمدريد: العمق التراثي وجراح الاغتراب(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الاغتراب في الشعر الإسلامي المعاصر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • فوائد السفر ومساوئ الاغتراب (PDF)(كتاب - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • استخدام الممارسة المهنية المبنية على البراهين للتخفيف من حدة مشكلات الاغتراب المهني لدى الأخصائيين الاجتماعيين العاملين في المجال التنموي(مقالة - موقع الدكتور أحمد إبراهيم خضر)
  • احذر .. ممنوع الاقتراب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بريطانيا: منع بلطجي من الاقتراب من المؤسسات الإسلامية خمس سنوات(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أيها الزوج... احذر الاقتراب!(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بعد عامين من البناء افتتاح مسجد جديد في قرية سوكوري
  • بعد 3 عقود من العطاء.. مركز ماديسون الإسلامي يفتتح مبناه الجديد
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 7/12/1446هـ - الساعة: 2:15
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب