خلع السكران

خلع السكران

السَّكران: إما أن يكون متعديًا بسُكْره، أو أن يكون غير متعدٍّ.

فإن كان غير متعدٍّ بسُكْره بأن كان سبب سُكْره أمرًا مباحًا، كتناول البنج للتداوي، أو تناول مادة مخدرة دون أن يعلم أنها كذلك، أو كمن شرب الخمر مكرَهًا أو مضطرًّا، فقد اتفق الفقهاء على أن طلاقه لا يقع إذا صدرت منه صيغةُ الطلاق وهو في هذه الحالة[1].

يقول ابن قدامة: (أجمع أهلُ العلم على أن زائل العقل بغير سُكْر أو ما في معناه لا يقع طلاقُه)[2].

ولما كان الخُلْع في معنى الطلاق كان مَن خالَع زوجتَه حال سُكره، ولم يكن متعديًا بهذا السُّكر، لا يقع خلعُه.

◄ أما إن كان متعديًا بسُكْره، بأن كان سُكْره بطريق محرم؛ كتناول الخمر، والمواد المُسكِرة أو المخدِّرة، اختيارًا منه، فقد اختلف الفقهاء في وقوع الخُلْع منه وهو في هذه الحالة، وذلك على رأيين:

الرأي الأول:

◄ ومنهم الحنفية، والمالكية، والشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، ويرون أن خلع السَّكران في هذه الحالة يقع.

كما جاء في المبسوط: (وخلع السَّكران وطلاقه وعتاقه يقع)[3].

وفي الأم: (قال: ويجوز طلاق السَّكران من الشراب المسكِر، وعتقُه، ويلزمه ما صنع، ولا يجوز طلاقُ المغلوب على عقله من غير السُّكر)[4].

وفي المدونة الكبرى: (قلت: أيجوز طلاق السَّكران؟ قال: نعم، قال مالك: طلاق السَّكران جائز، قلت لابن القاسم: ومخالعة السَّكران جائزة؟ قال: نعم، ومخالعتُه)[5].

وقد استدل أصحابُ هذا الرأي بالأدلة الآتية:

1) قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43].

فقد ثبَت في الآية الكريمة النهيُ عن الصلاة في حال السُّكْر، وهذا يقتضي عدم زوال التكليف عنهم وهم في هذه الحالة، وكل مكلَّف يصح منه الطلاق والخُلْع، كما تصحُّ منه باقي التكاليف الشرعية[6].

2) حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل الطلاق جائز، إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله))[7]، والسكران ليس واحدًا ممن عدَّهم الحديثُ الشريف، فيحوز خلعه وطلاقه.

3) قياسًا على الحدود والقِصاص، فلو قذف السَّكران أو قتَل، للزمه الحد أو القِصاص، فناسب ذلك أن يلزمه طلاقه وخلعه، والقول بغير ذلك ينافي مقاصدَ الشريعة؛ إذ القول بعكس هذا يجعله إذا فعل حرامًا واحدًا، لزمه حُكمه، وإن تضاعف جُرمه بالسُّكْر وفعل المحرم الآخر، لم يلزمه شيء، كما لو ارتد بغير سُكر، فيلزمه حُكم الرِّدة، فإذا جمع بين الردة والسُّكر لم يلزمه حُكم الردة لأجل السكر، وهذا مخالف لمقاصد الشريعة[8]؛ لذا ينبغي القول بصحة وقوع الخُلْع منه، لا سيما أن السَّكران عاصٍ بسبب سُكره، فلا يصح مكافأته بمعصيته بأن تسقط عنه التكاليفُ أو الالتزامات التي ألزم بها نفسه حال سكره.

الرأي الثاني:

◄ وهي الرواية الثانية عند الإمام أحمد، ورأي عند الشافعية، بعدم وقوع الطلاق والخُلْع من السكران، بلا فَرْق بين أن يكون متعديًا بسكره من عدمه.

وفي المغني: (والرواية الثانية: لا يقع طلاقه، وهو قول عثمانَ رضي الله عنه، ومذهب كثير من التابعين، ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالَفه، وقال أحمد: حديث عثمان أرفعُ شيء فيه، وهو أصحُّ)[9].

وفي المهذب: (وروى المُزَني أنه قال في القديم: لا يصح ظِهاره، والطلاق والظهار واحد، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، أحدهما: لا يصحُّ، وهو اختيار المزني وأبي ثور؛ لأنه زائل العقل فأشبه النائمَ، أو مفقود الإرادة فأشبه المكرَه)[10].

وقد استدلوا بما يلي:

1) بعض الأقوال الواردة عن الصحابة؛ كقول عثمان بن عفان: (ليس لمجنون ولا لسكران طلاق)، وقول ابن عباس: (طلاق السكران والمستكره ليس بجائز)[11]، وفي هذا دليلٌ على عدم وقوعِ الطلاق من السَّكران، وكذا خلعه؛ لأن ما يشترط في واحدٍ منهما يشترط في الآخر.

2) قياس زائل العقل بالسُّكر على المجنون والنائم والمعتوه في أن كلاًّ منهم زائل العقل، أو المكره؛ فإنه فاقدُ الإرادة الصحيحة، فتصبح عبارته مُلغاةً لا قيمةَ لها؛ ولذا لا يقع طلاقُه، ولا يصحُّ خلعه[12].

الرأي الراجح:

◄ باستعراض أدلة الفريقين يتبين رجحانُ رأي الجمهور القائل بوقوع الخُلْع من السكران المتعدي بسُكره؛ لقوتها وتعددها، ولو صحت الأقوال المنسوبة للصحابة رضوان الله عليهم في عدم وقوع طلاق السكران، لأمكن حملها على السكران غير المتعدي بسُكره، وبخاصة أن الصحابة جعلوا السكران كالصاحي في حقوق العباد؛ كما في حد القذف، وغيره من الأحكام[13]، أما قياس زائل العقل بالسُّكر على المجنون وغيره، فهو قياس مع الفارق؛ لأن السكران بمحرَّم تعدَّى بسكره، وقد فقد إرادته باختياره بعد إتيانه المحرم، فيجب أن يؤخذ بتصرُّفاته عقوبةً وزجرًا له.

◄ هذا، ومن الواجب أن نشير هنا إلى أن القانون المصري عند تنظيمه لهذا الأمر بالنسبة للطلاق قد تبنَّى الرأي المرجوح؛ فنصت المادة الأولى من القانون رقم 25 لسنة 1929 على أنه (لا يقع طلاق السكران والمكرَه)، وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذا القانون ما نصه: (طلاق السكران لا يقع بِناءً على قول راجح لأحمد، وقول في المذاهب الثلاثة، ورأي كثير من التابعين، وأنه لا يعرف عن أحد من الصحابة قولٌ فيه بالوقوع).