• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: أم سليم ضحت بزوجها من أجل دينها (1)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    خطبة: التربية على العفة
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    فضل من يسر على معسر أو أنظره
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    كونوا أنصار الله: دعوة خالدة للتمكين والنصرة
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    لا تعير من عيرك
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    من مائدة التفسير: سورة النصر
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / سيرة
علامة باركود

أبو بكر والمرتدون

د. أحمد عبدالحميد عبدالحق

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/1/2008 ميلادي - 30/12/1428 هجري

الزيارات: 369788

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أبو بكر والمرتدون

 

شهدت السنونُ الأخيرةُ موجةً من الردَّةِ ساعد على وجودها نظامُ التربية العقيم في عالمنا الإسلامي، وتخلي المؤسساتِ التعليمية عن عملها في غرس العقيدة الصحيحة في قلوب المتعلمين؛ مما كان سببًا في تنشئة الأجيال المسلمة الجديدة بعيدًا عن الإسلام، وفِقدانها من يقوم برعايتها من الدعاة، بعد أن صارت الدعوةُ إلى الله مهنةً يُتكسب بها، ووظيفة تُرحِّلُ إليها الحكوماتُ جزءًا من طلاب الوظائف دون النظر في قدراتهم أو استعداداتهم، في مقابل ذلك ازديادٌ لنشاط الدعوات التخريبية؛ من تنصيرٍ وإلحادٍ وغيره، وفي الوقت نفسه تشجيعٌ وتحريض من جهات خارجية لأصحاب تلك الدعوات، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، بل والتدخل لحمايتهم من تطبيق القوانين عليهم، حتى صار بعضُهم يجاهر بعد ردته بتسفيه الإسلام وأهله دون بينة والتطاول على أئمته بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وعلى ذات الله سبحانه وتعالى!..


فإذا ما سعى أحدٌ لمقاضاتهم أمام القانون هبَّ حماتُهم في الغرب والشرق للدفاع عنهم، وحضوا المسئولين على التدخل للضغط على المحاكم لإلغاء الأحكام التي تصدر عليهم، ثم قيام إعلامهم بعد إلغاء تلك الأحكام بالرفع من شأنهم، وتصويرهم على أنهم كانوا ضحايا لعدم تقدير الإنسانية وحريتها، وذلك لاستعطاف عوام الناس عليهم..


ومما زاد من الخطب سعيُ من تولى كِبرَ ذلك من هؤلاء لِجَرِّ مَنْ نصبتهم السلطاتُ علماءَ، وجعلت منهم المفتين والمتكلمين الرسميين باسم الإسلام دون سواهم - لأن يُلقوا جزافًا بالأحكام التي تؤيد مسعى هؤلاء، وتمنحهم الحق في ردتهم باسم حرية الاعتقاد وأنه لا إكراه في الدين..


ولخطورة ذلك الأمر رأيتُ أن أعرض في هذه الصفحات التالية موقفَ أبي بكر الصديق من الطائفة المرتدة وكيفية تعامله معهم، على اعتبار أن عصره شهد أكبر فتنة تتعلق بهذا الأمر؛ لنكون على بينة من موقف الإسلام من تلك القضايا، والخطوات العملية التي اتخذها السلف في مجابهتها..


وقبل الخوض في الحديث لابد من الإشارة لعدة نقاط:

النقطة الأولى: أن أبا بكر الصديق بعد محاورته لكبار الصحابة لم يخالفه أحدٌ منهم في الإجراءات التي اتخذها بشأن المرتدة.

 

النقطة الثانية: أنه لم يصدر عن أي من علماء السلف المشهود لهم بالفضل على مر التاريخ رأيٌ أو اجتهادٌ يخالف ما ذهب إليه أبو بكر الصديق في هذه القضية.

 

النقطة الثالثة: أن تطبيق الأحكام الإسلامية يكون بحسب التمكين للمسلمين، بمعنى أن تطبيق بعض الأحكام الإسلامية قد يتوقف في البيئة التي تكون الهيمنةُ فيها لغيرهم، ولكن ذلك لا يغير من الحكم الثابت أو يبدله شيئًا..


وعليه فإن من فعل شيئا يخرج من الإسلام، ولم يرجع عنه فهو مرتد، ليس له مسمى غير ذلك، بغض النظر عن تطبيق الأحكام الشرعية عليه أو عدم تطبيقها، لتتصرف معه الجهات القضائية كيفما شاءت، تعاقبه أو تعفو عنه، أو تجعل فعله من مباحات القانون، فهي المسئولة عن ذلك أمام الله، ولكن يبقى حكمُه في الشرع ثابتًا، وهو المقاتلة حتى يرجع لدين الله، ولا يوصف بغير كونه مرتدًا عن الإسلام..


النقطة الرابعة: أن أبا بكر قاتل المرتدين باعتبارهم خارجين على الإسلام، وليس على الدولة أو القانون كما زعم بعض المعاصرين، بدليل قوله رضي الله عنه معلقا على من جادله بشأنهم: "أينقص الدين وأنا حي..؟!" ولما قال له عمر رضي الله عنهما: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا لقاتلتهم على منعهم".

 

وهذا الخبر أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: "لما توفي رسولُ الله وكان أبو بكر رضي الله عنه، كفَر مَنْ كفَر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس... (البخاري: 3/308) وذلك يعني أن الصحابة كانوا متفقين على ردتهم وكفرهم، وإنما كان الخلاف أولا حول إمكانية مقالتهم.


النقطة الخامسة: أن المرتدين الذين تظاهروا بالإسلام ومنعوا الزكاة كان في نيتهم أن يحاربوا أبا بكر قبل أن يحاربهم، بل قد حدث ذلك بالفعل، فقد استغلوا غياب جيش المسلمين مع أسامة وأغاروا على المدينة، هذا فضلا عن قتل بعضهم لمن ثبت على دينه من أهلهم، فقد وثبت بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كما قال الطبري كل قتلة، وكذلك فعل مَن وراءهم فِعلَهم..


وكل من ادعى النبوة شرع في تجييش الجيوش لمحاربة أبي بكر الصديق قبل أن يجيشها لهم، مثال ذلك ما حدث مع طليحة الأسدي، فقد حدث الطبري "عن القاسم بن محمد قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة وطيء على حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب إليهم ناس من بني كنانة فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بـ"حبال" فكان "حبال" على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج...".

 

وحتى من ذهبوا ليجادلوه في إقامة الصلاة والإمساك عن الزكاة كانوا قد اصطحبوا معهم الجيوش سرًّا، وجعلوها على مقربة منهم خارج المدينة يتحينون الفرصة لمباغتته..


النقطة السادسة: أن أبا بكر الصديق لم يفرق في قتاله للمرتدين بين من أعلنوا الحرب عليه أو من اكتفوا بردتهم؛ وذلك لأن قتاله لهم لم يكن لخروجهم على الدولة كما ذكرنا من قبل، وإنما لخروجهم على الإسلام، ولم نسمع أنه رضي الله عنه قبِل من أحد منهم غيرَ الإسلام، وكانت رسالتُه في ذلك لأمرائه صريحة "ولا يُقبلُ من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجِز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذَّن المسلمون فأذِّنوا وكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم...".

 

بل إن أبا بكر رفض أن يقبل ممن عرض عليه أن يؤلف إليه قومه مقابل جُعْل من المال، فقد جاءه الزِّبْرِقانُ بنُ بدر والأقرعُ بنُ حابس وقالا: اجعل لنا خَرَاجَ البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا، فأبى..


ونقول ذلك؛ لأن البعض الآن لا يرى عقوبةً على المرتدين إذا اكتفوا بردتهم ولم يخرجوا على الدولة، مع أن مرتدة العصر وإن لم يحملوا السلاح ما كفُّوا يومًا عن محاربة الإسلام والتطاول على شرعه وتعاليمه ورموزه، وما تركوا فرصة إلا وجَدُّوا في استفزاز المسلمين بالطعن في دينهم، هذا فضلا عن سعي الكثير منهم لوصل حبالهم بجهات خارجية تحميهم كما قلنا حتى من تطبيق القوانين المدنية عليهم..


النقطة السابعة: أن المرتدين شوكتُهم أشد على المسلمين عشرات المرات من شوكة الكافر والمشرك الذي لم يحتك بالإسلام من قبل، ومن شاء فليراجع تاريخ القرامطة وغيرهم من الفرق الخارجة على الإسلام، وكذلك تاريخ الأسر المرتدة التي أتيحت لها الفرصةُ لتهيمن على بعض ديار الإسلام كالهند وغيرها؛ لذا لا ينفع معهم غير سياسة الحزم المبكر كما فعل الصديق رضي الله عنه.

 

وقد تعايش المسلمون على مر التاريخ بسلام مع أصحاب الديانات الأخرى بينهم قلة أو كثرة ولم يستطيعوا أن يتعايشوا مع المرتدة؛ لامتلاء قلوبهم بالغيظ عليهم..


النقطة الثامنة: أن حركة الردة على عهد أبي بكر بدأت برموز من أصحاب الأهواء والطامعين، ثم تبعها جموعٌ غفيرة لا رأي لها من أبناء قبائلهم، ومن ثم كان التخلص من تلك الرموز يعني عودة تلك الجموع إلى دين الله أفواجًا، ولو بقيت تلك الرموزُ أو الرءوس لتأصَّل الكفرُ في قلوب تلك الجموع، والآن أيضا المرتدة ما هم إلا شراذم قليلة تنعق فيتبعها الأراذل من الناس، لكن إن تُرِكت عمَّت نارُها، واستفحل شرُّها وعظم..


النقطة التاسعة: أن كل مسلم على عهد أبي بكر أحس بأنه مسئول أمام الله بما يلزم أبا بكر، وأن مدافعة المرتدين من باب الفروض عليه، لذا كان الواحدُ منهم يتحرك بدافع من نفسه، ولا ينتظر حتى يأتيه الأمر من الخليفة، فهذا (الجارود بن عمرو بن حنش)، وقد وفد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيبل وفاته، وكان من قبلُ على النصرانية فأسلم، وبقي بالمدينة حتى فقه في الدين، ثم رجع إلى قومه فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتد قومه (بنو عبد القيس)، وقالوا: لو كان محمد نبياً لما مات، وبلغ ذلك الجارود فجمعهم وقال لهم: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموا، قالوا: سل عمّا بدا لك، قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترونه؟ قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً -صلى الله عليه وسلم- مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا، وثبتوا على إسلامهم.

 

ثم صار يقاتل بقومه من ارتد من أهل البحرين حتى جاءه جيش أبي بكر الصديق..


وهذا (الطاهر بن أبي هالة) أيضا لما أحس بخطورة الأمر لم ينتظر الأمر من أبي بكر الصديق، وإنما تحرك بمن معه نحو تهامة اليمن، فقاتل من بها من المرتدين من أهل (عك) و(الأشعريين)، وانتصر عليهم قبل أن يصل إليه كتابُ أبي بكر الصديق.


لذا لم يمض سوى عام على تولي أبي بكر الصديق الخلافة حتى عمت السكينة سائر الجزيرة العربية، وصارت أهدأ من حالها قبل وفاة رسول الله، والآن كل فرد مسلم مطالب بأن يقوم بعمله لحماية الإسلام من خطر الردة، وأن يعلم أن ذلك من باب الفروض عليه، ولا يعني ذلك أن نحمل السلاح في وجوه الناس، وإنما يشارك الواعظ بموعظته، والعالم بحجته، والمدرس بتربيته، وولي الأمر بتحصين من يعوله ضد فكر هؤلاء المنحرف، والمحامي بدفاعه، والقاضي بحكمه..


النقطة العاشرة: أن كثيرًا من القبائل العربية لما رأت الهزائم تتوالى على المرتدين أسرعت إلى العودة إلى الإسلام، كما حدث من بني عامر وبني سليم وهوازن، إذ أسرعوا إلى الإنابة إلى الله لما وجدوا الهزيمة قد حلت بطليحة الأسدي وعيينة بن حصن، وكانوا من قبل يخافون من شوكتهما، ويقولون: ننظر من تكون له الكرة فنتبعه، فهل يا ترى ما مصير هؤلاء لو تساهل أبو بكر الصديق مع المرتدين، ألم يكن ذلك سيجرئهم على الخروج على الإسلام هم أيضًا؟؟..


والآن ننظر كيف واجه أبو بكر رضي الله عنه هؤلاء:

قال عروة بن الزبير: لما بويع أبو بكر رضي الله عنه ارتدت العرب إما عامة (أي بإعلان الخروج من الإسلام) وإما خاصة (أي بالامتناع عن الزكاة) في كل قبيلة، ونَجَمَ النفاقُ، واشرأبت اليهودُ والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم..


بهذا الموقف استقبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه خلافته، ومع فداحته إلا أنه انتظر ما هو أشد فداحة منه، فقال لمن حوله لما جاءتهم هذه الأخبار: "لن تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمرُّ، فلم يلبثوا أن قدمت كتبُ أمراء النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم قبيل وفاته من كل مكان بانتفاضة عامة أو خاصة، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين..


إذن فالأمرُ كان أصعبَ مما نعانيه الآن من هجوم شرس على الإسلام، والحال كان أظلمَ وأشدَّ قتامة، لكنّ أبا بكر لم يهن، ولم تَلِن له قناةٌ، وإنما أصر على تأمين حدود الدولة الإسلامية ضد أي خطر مرتقب من الخارج عن طريق بعث جيش أسامة، والضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسُه وشيطانه الخروجَ على الإسلام في الداخل..


ولما قال له الناس: إن هؤلاء (أي جيش أسامة) جُل المسلمين، والعربُ على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعةَ المسلمين، رد عليهم: "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننتُ أن السباع تخطفني لأنفذتُ بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته"...


وما هي إلا ساعات حتى انتهت مناقشة هذا الأمر مع مجموع أهل الشورى الموجودين بالمدينة، فودع أسامة وجيشه إلى حيث أوصاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسير، وجمع مَن عنده قدرة على حمل السلاح من الأعراب الذين كانوا يسكنون حول المدينة ليكوّن منهم جيشَ دفاع داخلي..

 

ثم جعل كبارَ الصحابة في نقاطِ مراقبة على منافذ المدينة إلى البادية، ومنهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود..


جدد طلبه من أهل المدينة أن يكونوا في المسجد استعدادًا لكل طارئ، وقال لهم: "إن الأرض حولنا كافرة، وقد رأى وفدهم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأمُلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدّوا".


ولم تمض سوى أيام ثلاثة على تشييع جيش أسامة حتى داهمت المدينةَ غاراتُ المرتدين ليلاً، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى أن جيش أسامة قد ابتعد عن المدينة وأوغل في البعد، فأوصل المراقبون خبرَ زحفهم إلى أبي بكر الذي كان مرابطًا بمن معه في المسجد إلى الحراس على مداخل المدينة أن اثبُتوا لهم حتى يلحق بهم، ثم أسرع إليهم بمن معه، فانهزم المغيرون وولوا الأدبار، ولحقهم المسلمون على إبلهم حتى قابلوهم في مكان يسمى بـ(ذي حسى)..


لكن المسلمين فوجئوا بأن هؤلاء المغيرين ما هم إلا طليعة لجيش يختبئ خلف الجبال، فلما اشتبكوا معهم أخرجوا قِرَبًا لهم قد نفخوها كحيلة لتخويف الإبل، ودحرجوها بأرجلهم في وجه إبل المسلمين، فنفرت الإبل خوفًا منها حتى انقلبت بمن يركبها من المسلمين إلى المدينة واضطرب صفهم، فشق الأمر عليهم، وسعد المرتدون بذلك الحدث الذي كان من الممكن أن يكون بداية لتضييق الخناق على المدينة ومن فيها..


لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يمهلهم، وإنما سابق بهم الزمن، وأعاد ترتيب جيشه صباح اليوم التالي بحيث يستغني عن الإبل تمامًا، ثم خرج إليهم ماشيًا في آخر الليل بجيشه مخليا الإبل بالمدينة، وعلى الميمنة النعمان بن مُقَرّن، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما أصبح الصباح إلا والمسلمون يعجلونهم بالسيف، فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون إلى (ذي القصة)، وهناك ترك أبو بكر النعمان بن مقرن في عدد من المسلمين، ورجع هو بالناس إلى المدينة، بعد أن أمنها من الخطر مسافة أميال عدة.


فارتفعت معنويات المسلمين بهذا النصر، وثبت مسلمو القبائل المحيطة بالمدينة على دينهم، ووافق ذلك وصول أموال الصدقات من عدة جهات، فقد جاء صفوان بن أمية بصدقات بني عمرو، وذلك في أول الليل، وجاء الزبرقان بن بدر في وسط الليل بصدقات بني عوف، وجاء عدي بن حاتم الطائي في آخر الليل بصدقات قومه، اجتمع كل ذلك ليكون منة من الله على المسلمين الذين ثبتوا مع أبي بكر في مواجهة هؤلاء المرتدين..

 

واكتملت الفرحة بعودة أسامة بجيشه منتصرًا غانمًا ظافرًا بعد شهرين كاملين من رحيله..


ومع أن نصره قد فتّ في عضد المرتدين والمنافقين، وجعلهم لا يفكرون بعدها في مهاجمة المدينة إلا أن الصديق رضي الله عنه لم يرض بنصر ناقص، لم يرض بأقل من أن تعود الجزيرة العربية إلى سالف عهدها قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، تكونُ فيها العزةُ لله ورسوله وللمسلمين دون سواهم، لم يرض أن يكون بجزيرة العرب مكانٌ يعبد فيه الشيطان، فاستخلف من توّه أسامة بن زيد على المدينة، وقال له ولمن معه: "أريحوا وأريحوا ظهركم"، ثم خرج بحامية المدينة التي خرج بها من قبل إلى (ذي القصة)، فقال له من حوله من المسلمين: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام أبداً..


ولم يكن كلام الصديق -رضي الله عنه- عن الخروج بنفسه إلى من تبقى من المرتدين كلامًا يردد للدعاية كما يحدث من بعض الساسة الذين دأبوا على استغفال شعوبهم، ولذا قال: "لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي"، ثم خرج إلى (ذي الحسى) و (ذي القصة) حيث يعسكر النعمان بن مقرن وأخواه، فضمهم إلى جيشه ثم توجه إلى الرَبَذة، وهناك التقى من تجمع فيها من المرتدين فقاتلهم حتى ولّوا الأدبار، وتفرق شملهم، وأقسم ليقتلن كل من تجرأ على قتل مسلم منهم إن وصلت إليه جيوشه قبل أن يعود إلى الإسلام؛ ليكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسُه الاعتداءَ على المسلمين..

 

ثم جاءته بعد ذلك رسلُ القبائل المحيطة بالربذة مُقرةً له بما أوجبه الإسلام من صلاة وزكاة و... إلى آخر أركان الإسلام وواجباته..


عاد أبو بكر بعدها إلى المدينة، وكان جندُ أسامة قد أخذوا حظهم من الراحة، وأضيف إليهم المزيدُ من الراغبين في الجهاد، فعقد رضي الله عنه أحد عشر لواءً للقضاء على من تبقى من المرتدين في كل أنحاء الجزيرة العربية، بقيادة خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حَسَنة، والمهاجر بن أبي أمية، وعمرو بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، وحذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة، وطريفة بن حاجز، وسويد بن مُقَرن، والعلاء بن الحضرمي.


ولم يكتف بذلك بل بعث إلى أمرائه الذين ثبتت رعيتهم على الإيمان أن يجيشوا ما يستطيعون منهم، فأعد (عَتَّابُ بن أسيد) والي مكة أخاه خالد بن أسيد، وسيره إلى المرتدين في تِهامة فغلبهم، وبعث (عثمان بن أبي العاص) والي الطائف ابنه ربيعة إلى شنوءة فقهرهم أيضًا، وأرسل إلى (جرير بن عبد الله البجلي) أن يسير بمن معه من المؤمنين إلى (بجيلة) و (خثعم) فانتصر عليهم.


وتلك خطوة غير مسبوقة في التاريخ حسب علمي أن يقاتل رجل في أكثر من عشر جهات متفرقات، وما ذاك إلا لثقته رضي الله عنه في نصر الله، ولأنه كما قلنا كان يسابق الزمن، وكان حريصًا على أن ينقل نور الإسلام إلى خارج الجزيرة العربية قبل وفاته، كما كان يعلم أن تلك القبائل التي وجه لقتالها كان بينهم الكثير من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم بين المرتدين، ويتحينون الفرصة للمجاهرة بإسلامهم...


ومع حزمه الشديد وحرصه على ألا يتسامح مع المرتدة قِيدَ أنملة، إلا أنه كان ينصح قادته أن يسيروا على مبدأ "وآخر الدواء الكي"؛ بمعنى أنه أمرهم أن يجعلوا القتال آخر وسيلة يلجئون إليها في مواجهة هؤلاء المرتدة، خاصة وأنهم قد اختلط بهم من أخفى إسلامه، أو أجبر على مسايرة زعمائهم..


وأرسل مع كل قائد رسالة، وأمره أن يقرأه على كل قوم يمر عليهم، وقد جاء في تلك الرسالة "بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه، أو رجع عنه..


سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفّر من أبى ونجاهده..


أما بعد.. فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيا؛ ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفي الله رسوله صلى الله عليه وسلم وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه..


وكان الله قد بين له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30] وقال: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34] وقال للمؤمنين: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]..


فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه ويجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالا، قال الله تعالى: ﴿ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ﴾ [الكهف: 17] ولم يُقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يُقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ [الكهف: 50] وقال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6]..


وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا، ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا سألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم".


وأما وصيته للأمراء فجاء فيها:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوةَ لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعدُ فيما استسَرَّ به، ومن لم يُجب داعيةَ الله قتل وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس، فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم، ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يُؤتى المسلمون من قِبَلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول".....


وسار الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد، وقصد طليحة الأسدي، وفي طريقه مر بقبيلة طيء، وكان أفرادها قد انحازوا إلى طليحة عصبية له، ولكن خالدًا لم يبدأ بمهاجمتهم، وإنما أخذ بنصيحة الصديق، وأبطأ في مهاجمتهم، وقد طلب منه عدي بن حاتم أن يمهله ثلاثة أيام يراجعهم فيها ففعل، وماطلوه أولا وقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا (يقصدون أبا بكر)، فقال عدي مهددًا إياهم: لقد أتاكم قوم ليبيحُن حريمكم، ولتكنُنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به! فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة (المكان الذي عسكر فيه طليحة) منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم، أو ارتهنهم، فأجابهم إلى ذلك، ونجح في فصلهم عن طليحة، وعادوا مقرين بالإسلام، وبما أوجبه الله عليهم..


وأراد خالد أن يقصد قبيلة (جديلة) بعد ذلك، فقال له عدي: إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء فأجلني أيامًا لعل الله أن ينقذ جديلة كما أنقذ طيئًا، ففعل فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب..


ثم صار خالد إلى (بُزاخة) فالتقى طليحة الأسدي ومن انحاز إليه من المرتدين، وكان معه عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة فقاتل قتالا شديدًا حتى إذا أحس بوطئة الحرب ذهب إلى طليحة، فقال: هل جاءك جبريل؟ فقال: نعم، قال عيينة فماذا قال لك؟ فقال طليحة: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه، فقال عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب، فانصرفوا، وانهزم باقي الناس فأتوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا، وقد كان أعد فرسه عنده وهيأ بعيرًا لامرأته، فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم تركهم للقتل وفر إلى الشام[1]، وهذا جزاء من يتبع كل ضال..


فاجتمعت بعدَ فرارِه أسد وعامر وغطفان إلى خالد رضي الله عنه، وأعلنوا توبتهم، وليس هذا فقط، بل إن بني عامر وسائر القبائل من سليم وهوازن بعد أن رأوا هزيمتهم أقبلوا يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا...

 

فبايعهم خالد على الإسلام وكانت بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم..


ولكنه لم يقبل من أحد منهم إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعَدَوْا على أهل الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم فأوثقهم وأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار؛ جزاء وفاقًا لما فعلوه بالمسلمين من قبل ليكونوا عبرة لغيرهم..


وكان ذلك عن أمر أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كتب إليه يقول: "ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرًا، واتقِ الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله،.. ولا تظفرن بأحد قتلَ المسلمين إلا قتلته ونكَّلت به غيره..


وبعد انتهاء خالد من بني أسد وأحلافهم اتجه بأمر من الخليفة إلى بني يربوع في تميم وعليهم مالك بن نويرة، وكان قد تحالف من قبل مع سجاح التغلبية على المسلمين، ولكنها تخلت عنه لما شعرت بقوة المسلمين، وعادت إلى موطنها "الجزيرة" فتحير بنو تميم الذين حالفوها من قبل، وندموا على ما كان منهم، ولم يلبثوا طويلاً حتى وصلت إليهم جيوش خالد بن الوليد، فعندما جيء برؤسائهم إلى خالد جادلهم، وشهد جماعة على بني يربوع أنهم لم يؤذنوا فقتلهم، وقتل ضرار بن الأزور الذي كان على طليعة خالد مالك بن نويرة...


وحدثت خلافات في قتله، وذكر عوام القصاص في ذلك الأعاجيب، من ذلك أنه قتله وخلفه على امرأته دون أن تعتد، وأنه قطع رأسه وأوقد فيها النار حتى استوت عليها اللحم التي أعدها لطعامه..


ومن العجب أن من يُسمُّون أنفسهم بالتنويريين في عصرنا صاروا يجمعون مثل تلك الروايات ليطعنوا بها في صحابة رسول الله، ولم يكلف الواحدُ منهم نفسَه ليُعمِل عقلَه في مثل تلك القصص، فأيُّ شعرِ رأسٍ هذا الذي تُوضع عليه اللحومُ فينضجها مهما كان كثيفًا؟! إننا لو أحضرنا قنطارًا من الشعر وأشعلنا فيه النار لاحترق قبل أن تنضج اللحوم التي توضع عليه، فما بالنا بفروة رأس؟!..


وعلى كل فإن أبا بكر الصديق قد عاتب خالدًا بعد عوده إلى المدينة؛ لأنه لم يتريث في قتلهم، فاعتذر لأبي بكر بأنه لم يصدر عنهم ما يدل على أنهم قد هموا بالإقدام على الإسلام فرضي عنه، ولم يكن أمام أبي بكر غير ذلك في مثل تلك الظروف، فالأمور مضطربة، والأحوال مختلة، والبعض يدعي ما ليس في قلبه، وقد شهد الأكثرية أن مالك بن نويرة ومن معه لم يسلموا، ومن سمعه يقول: صبأنا فسرها بأنه قالها والسيف على رأسه نجاة من الموت، ودرأً للشبهة دفع أبو بكر الصديق ديةَ مالك بن نويرة ومن قُتل معه، ورد على أهلهم سبيهم ومالَهم الذي أُخذ منهم كما ذكر الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام"..


وإذا كنا نرى أمريكا بجبروتها تبرّئ جنودها الآن من كل عملية تنسب إليهم ويروح فيها عشرات بل مئات الأبرياء من الأطفال والعجائز وهم آمنون في بيوتهم، فعلامَ يسعى أذيالها لكيل التهم لجيش خالد لأنه قتل قائد الجيش المحارب له؟!..


ونعود إلى خالد بن الوليد فنقول: إن أبا بكر قد أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب بعد الفراغ من مالك بن نويرة، فسار إلى البطاح والتقى جنده هناك، وانتظر حتى جاءه المدد، فقام إلى مسيلمة وأتباعه من بني حنيفة، وكان (عكرمة بن أبي جهل) قد قصده من قبل فُهزم على أيديه، فأمده أبو بكر الصديق بشرحبيل بن حسنة، ولكنه لما علم بهزيمة عكرمة طلب من شرحبيل ألا يتسرع في مصادمته قبل أن يزوده بمدد آخر عوضًا عمن فقد من جيش عكرمة، لكنه تعجل المواجهة، واستعان على قتالهم بمن ثبت على إسلامه من بني حنيفة بإمرة ثمامة بن أثال، فهُزم أيضا أمام مسيلمة لقلة عدد من معه، فلامه خالد عند وصوله على تسرعه؛ حتى حلت به الهزيمة..


أما مسيلمة فإنه استقوى بعد انتصاره على عكرمة وشرحبيل، وعسكر ببني حنيفة في منطقة تسمى "عقرباء" في أعلى وادي حنيفة، فسلك إليه خالد من ثنية في جبل اليمامة (طويق) وعلى مُجَنِّبَتيه زيد بن الخطاب أخو عمر، وأبو حذيفة بن عتبة، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس، ثم أمر ضرار بن الأزور أن يسير في قسم من الجند من ثنية أخرى من الشمال، وينزلوا من جهة منطقة تسمى (ملهم) إلى عقرباء..


وعند "عقرباء" جرت معركة حامية الوطيس بين الفئتين، تراجع المسلمون في أولها حتى دخل بنو حنيفة على خالد في فسطاطه، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد أزالت المرتدين عن مواقعهم، وأجبرت مسيلمة على الالتجاء إلى حديقة عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت، وفيها صُرع مسيلمة الكذاب وعدد كبير من جنده، واستشهد من المسلمين عدد من القراء ووجهاء الناس، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وانتهت المعركة بنصرة المسلمين، ثم دعا خالد الناجين من أهل اليمامة إلى الإسلام والبراءة مما كانوا عليه فأسلم سائرهم..


أما عكرمة فقد أمره أبو بكر -رضي الله عنه- أن يلحق بحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان حتى يلتقوا مع المهاجر بن أبي أمية الذي يكون قد فرغ من اليمن وسار إلى حضرموت، وقصد أبو بكر من ذلك ألا يُبقي جيشًا في مكان شعر فيه بالهزيمة فيضعف معنويًا، وألا تكون فكرةُ الهزيمة موجودة في معجم أي مسلم مجاهد.


اتجه عكرمة إذن في أثر حذيفة وعرفجة، فأدركهما قبل الوصول إلى عمان، وهناك راسلوا جيفرًا وعبادًا القائدين الذين سيرهما أبو بكر قبلهم لينضموا إليهم، ويقاتلوا المرتدين متحدين تحت لواء واحد، وكان مكان التجمع في منطقة "صحار" حيث جرت معركة بين الطرفين ("لقيط دبا" المرتدين، والمسلمين) كاد ينجح فيها "لقيط دبا" لولا النجدات التي وصلت للمسلمين من البحرين وغيرها، فانتصر المؤمنون..


وبعد الفراغ من المعركة أُرسل عرفجة إلى أبي بكر الصديق مهنئًا ومعه خُمس ما غنموه، وبقي حذيفة يدير شئون عمان، وأما عكرمة فسار بعد النصر إلى منطقة تسمى "مهرة " وكان القوم فيها قد ارتدوا، إلا أنهم اختلفوا فقسم منهم في السواحل مع رجل يسمى (شخريت) وهم أقل عدداً، فبدأ بهم عكرمة فدعاهم للإسلام فوافقوا، وأنابوا إليه مما أضعف القسم الثاني الذين كانوا في المناطق المرتفعة مع رجل يسمى (المصبح)، فهزموا أمام المسلمين، وأرسل عكرمة خبر هزيمتهم مع (شخريت) إلى المدينة المنورة.


بعد ذلك تابع عكرمة سيره حتى التقى في مأرب المهاجر بن أبي أمية الذي كان أبو بكر رضي الله عنه قد أرسله من قبل إلى اليمن، على أن يمر بمكة فيضم إليه خالد بن أسيد، وبالطائف فيضم إليه عبد الرحمن بن أبي العاص، وبالسراة فيضم إليه جرير بن عبد الله البجلي، وبتهامة فيضم إليه عبد الله بن ثور، وبنجران فيضم إليه فروة بن مسيك، ثم اصطحبهم جميعا إلى اليمن..


وفي اليمن أسر المهاجرُ عمرَو بنَ معد يكرب وقيس بن عبد يغوث المكشوح، وكانا من قادة المرتدين الذين يؤلبون الناس، وأرسلهما إلى أبي بكر رضي الله عنه ثم واصل سيره إلى صنعاء فدخلها، ولاحق شُذَّاذ القبائل الذين هربوا إليها، واقتحم هو وعكرمة حضرموت..


وفي تلك الظروف حاول البعض أن يهيج فتنة يروح فيها الصالح والطالح كما يحدث في العراق الآن، فقد جاء رجل يسمى الفجاءة إياس بن عبد ياليل إلى أبي بكر فقال: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام فحملته وسلحته، ثم انتهى إليّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأخذه فتأتيني به، فسار طريفة بن حاجز حتى أمسك به وجاء إلى أبي بكر، فأمر بطرحه في النار بمنطقة البقيع اقتصاصًا لمن قتل من أبرياء الناس...


وهكذا لم يهل شهر ربيع من العام التالي لخلافة الصديق إلا وقد قطع دابر المرتدين تمامًا، ونجح بسياسته الحازمة في أن يطهر الجزيرة العربية من كل رجس، وأن يجمعها على كلمة التوحيد لينطلق بعدها أبناؤها إلى الأقطار الأخرى مخرجين الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد، من جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فليكن لنا في مواقفه رضي الله عنه وأرضاه الأسوة الحسنة.

 


[1] مضى طليحة إلى كلب على النقع فأسلم ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام، ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدًا، فقال يا أمير المؤمنين: ما تهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما، فبايعه عمر..





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أبو بكر الصديق.. رجل الدولة العظيم
  • فضائل أبي بكر الصديق
  • مناقشة الآراء التي لا تتفق مع وجوب قتل المرتد
  • لماذا سبق أبو بكر؟

مختارات من الشبكة

  • أبو بكر المروزي ومسند أبي بكر الصديق(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة مجلسان الأول من أمالي أبي بكر الشيرازي والثاني من أحاديث أبي بكر إسماعيل النيسابوري(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مجموعة خصال في رجل واحد (حديث: من أصبح منكم اليوم صائما؟)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • نماذج من صبر الصحابة على الأذى والشدائد في الدعوة إلى الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق في الغار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منهج الدرس والتحصيل في القرن 6 هـ - أبو بكر بن العربي نموذجا – (PDF)(كتاب - آفاق الشريعة)
  • أوليات: أبو بكر الصديق رضي الله عنه(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تقنية اللوحات الإعلامية Infographics: دراسة نظرية مع التطبيق على كتاب أخلاق العلماء لأبو بكر الآجري (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • من سلسلة أحاديث رمضان حديث: أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة...(مقالة - ملفات خاصة)

 


تعليقات الزوار
7- جزاكم الله خيرا
عبد الرحمن - مصر 21-01-2008 03:59 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا، وجمعكم على الخير، أنا بفضل الله مؤمن بأن كل ماجاء به الإسلام حق ولكنني اردت ان اعرف سبب كل شيء لأن المعارك هذه الايام معارك كلامية ولابد أن لانترك الحلبة ونبذل مافي الوسع ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر لان اليهود والنصارى لن يرضوا ابدا مهما حاولنا، والمواقع التي تهاجم الإسلام بشراسة هذه الايام تؤثر في ذوي النفوس الضعيفة . ومجادلة أهل الغرب بالتي هي احسن مطلوبة لان الله تعالى انزل آيات كثيرة على اليهود يجادلهم بالحق مع انهم كاذبون ومخادعون، والله حليم وامهلهم إلى يوم الفصل
6- تتمة لكلام فضيلة الشيخ خالد
حسام الحفناوي - مصر 20-01-2008 08:48 PM
الاحتجاج بأحاديث النهي عن التحريق بإطلاق، ليس بمُسَلَّم؛ فهذا علي رضي الله عنه ـ وهو من أفقه الصحابة على الإطلاق ـ لما بلغه إنكار ابن عباس تحريق المرتدين احتجاجًا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بعذاب الله تعالى، لم يُعَوِّل عليه، بل استمر في تحريق الكفار حتى قبل موته، واستنكر علي رضي الله عنه قول ابن عباس حين بلغه بقوله: (ويح ابن عباس) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (5/213) الدارقطني في سننه (3/108) بإسناد صحيح، ولفظه عند أحمد في مسنده (1/282): (ويح ابن أم ابن عباس).
وروى البيهقي في سننه (6/254) بإسناد صحيح، عن أبي عمر الشيباني، أن عليًا أُتي بالمستورد العجلي وقد ارتد، فقتله، فأعطاه النصارى بجيفته ثلاثين ألفًا، فأبى أن يبيعهم إياه وأحرقه.
ورواه بإسناد آخر فيه ضعف بنفس القصة، وفيه: (فقال علي: اقتلوه، فتواطأه القوم حتى مات، فجاء أهل الحيرة، فأعطوا – يعني بجيفته - اثني عشر ألفًا فأبى عليهم علي، وأمر بها، فأُحرقت بالنار).
وأخرج أحمد والدارقطني أنه لما ضرب ابن ملجم عليًا، قال علي: افعلوا به كما أراد رسول الله أن يفعل برجل أراد قتله، فقال: "اقتلوه ثم احرقوه". وإسناده ضعيف.
وقد روى الطبراني في "المعجم الكبير" (1/97) عن إسماعيل بن راشد أن الحسن قدّم ابن ملجم، فقتله، ثم أخذه الناس في بواري، ثم أحرقوه بالنار. قال الهيثمي في المجمع (9/193): هو مرسل، وإسناده حسن.
ويقصد بحسن إسناده مع إرساله: أن إسناده لابن راشد راويه حسن، ولكنه لم يدرك القصة.
وقد جاء عن معاذ رضي الله عنه ما يؤيد صنيع علي رضي الله عنه بالمرتدين، وهو إمام العلماء، ومن كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى الطبراني في الكبير (20/43) عن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه و معاذ بن جبل إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس القرآن، فجاء معاذ إلى أبي موسى يزوره، إذا عنده رجل موثق بالحديد، فقال: يا أخي، أبعثنا نعذب الناس، أم بعثنا نعلمهم ونأمرهم بما ينفعهم؟ فقال له: أسلم، ثم كفر، فقال: والذي بعث محمدًا بالحق، لا أبرح حتى أحرقه بالنار، فقال أبو موسى: إن لنا عنده بقية، قال معاذ: والله لا أبرح أبدًا، قال: فأُتي بحطب، فألهبت فيه النار، وطرحه".
قال الهيثمي في المجمع (6/399): رجاله رجال الصحيح.
وأما خالد رضي الله عنه ـ وهو مدار حديث كاتب المقال وعنه نقل الإحراق ـ فينبغي التأمل في مرويات حروب الردة؛ لأن كثيرًا منها جاء من طرق الهلكى والمتروكين، كالواقدي، وأبي مخنف لوط بن يحيى، وسيف بن عمر التميمي، وغيرهم، وإن كان هذا لا يعني نفي إحراق خالد للمرتدين في الجملة، لكن المرويات تحتاج إلى تحرير لمعرفة ما ثبت منها، وما لم يثبت.
ومن هذه المرويات: ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (5/212)، وابن أبي شيبة في مصنفه كذلك (6/547) من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، قال: حرق خالد بن الوليد ناسًا من أهل الردة، فقال عمر لأبي بكر: أتدع هذا الذي يعذب بعذاب الله؟ فقال أبو بكر: لا أشيم سيفًا سَلَّه الله على المشركين.
وحديث عروة عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مرسل كما في جامع التحصيل للعلائي (1/236)، وقد ولد في آخر خلافة عمر، أو في خلافة عثمان على خلاف في ذلك. وإسناد القصة إلى عروة حسن.
وهذا الحديث لو صح لكان دليلًا على عدم إنكار الصديق لذلك الفعل. وقد جاءت أخبار عدة ـ ينظر في أسانيدها ـ أن أبا بكر رضي الله عنه قد فعل هذا ببعض من ارتد على عهده، كتحريقه للفجاءة بالنار في المسجد بحضرة الصحابة، وغيرها من الوقائع.
ولو سلمنا عدم ثبوت الأخبار الواردة عن خالد جميعًا، لما كان لذلك أثر ألبتة على الحكم الشرعي للمسألة؛ لأن الأدلة على جواز فعله قصاصًا وزجرًا كثيرة، سبق أن بين الشيخ خالد بعضها، ولو أردنا الاستقصاء لطال بنا المقام جدًا، لكن فيما ذكره الشيخ كفاية لمن تدبر، والله الموفق، لا رب سواه.
وقبل أن أختم كلامي أود أن ننصح أخانا السائل أن ينأى بنفسه عن دعاوي المنهزمين عَقديًا ونفسيًا أمام الغرب، الساعين في إعادة صياغة الإسلام وفقًا لما يُرضي الغرب عن المسلمين، لا لما ارتضاه الغربيون لأنفسهم؛ فإن النصارى واليهود، وغيرهم من أمم الكفر قد نجحوا إلى حد كبير في جعل المسلمين في القرن الهجري المنصرم في موقف المُدافع، الباغي لنفسه البراءة من العظائم التي تُلصق به، وهم يعلمون من أنفسهم ومن تاريخهم أن تلك العظائم إنما كانت سمة بارزة لتاريخهم الوحشي النكد.
وقد أفرز لنا الغزو الفكري للعالم الإسلامي شريحة من المثقفين، والمتمشيخين جعلوا الترقيع والتلفيق بين الإسلام ومبادئ الغرب جُلَّ همهم، ومبلغ علمهم، فضلوا ضلالًا بعيدًا، وأضلوا خلقوا كثيرًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان في طليعة أولئك المنهزمون تلك المدرسة الفكرية المسماة بالعقلانية، ويقوم بدورها في عصرنا الحاضر أذنابها من العصرانيين، دعاة الإسلام الأمريكي ـ إن صح التعبير ولا إخاله يصح ـ فليهنهم رضا الغرب عنهم؛ فإنه لن يملك لهم من الله شيئًا في الآخرة، ولن يرجع إليهم هويتهم وعزتهم السليبة في الدنيا.
أما الغربيون أنفسهم، فما ينبغي لهم أن يفتحوا فمًا بمثل هذه الأراجيف وقد امتلأت كتبهم المقدسة ـ زعموا ـ بما تشيب لهوله الولدان من أمر بالإحراق، والتخريب، والقتل لغيرهم من الأمم دون جريرة تُذكر، ولا ذنب يُقترف.
وأما حد الردة، والتغليظ فيه ـ وهو موضوعنا ـ فقد سبق لأخينا عبد الله الخليفي أن تناول حد الردة عند النصارى في المجلس العلمي على هذا الرابط
http://www.alukah.net/majles/showthread.php?t=5328
ولكنه تناول مختصر بعض الشيء،وإنما أراد ـ والله أعلم ـ ذكر بعض النصوص عندهم، وإلا فهي كثيرة جدًا
وانظر أيضًا هذا الرابط
http://www.ebnmaryam.com/web/modules.php?name=News&file=article&sid=104
والله تعالى أعلم، وهو سبحانه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
5- جواب على سؤال الأخ عبد الرحمن
خالد بن عبدالمنعم الرفاعي - مصر 20-01-2008 04:16 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد تقرَّر من نُصوص الكِتَابِ والسُّنَّة، وإجماعِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ المُرْتَدَّ حُكْمُه القتْل، ولا يُماري في هذا إلا جاهل، أو ضالّ مُفْتَر، وكنَّا قد ذكرْنا تفصيلَ ذلك والرد على شبهات المشككين في فتوى بعنوان "حرية الردة".
بَيْدَ أنَّنا سنشيرُ إلى ما جاء في سؤال الأخ عبدالرحمن منِ استشكالاتٍ بإجابة مُختصرة، فنقول وبالله التوفيق:
- استشكلَ السَّائِلُ وُرُودَ أخبارٍ عنِ الصَّحابةِ - رضِيَ الله عنهم - في حرْقِ المُرتَدِّينَ، بالرغم ممَّا جاء منَ النّصوص الشرعيَّة في النَّهي عن ذلك، وخشِيَ أن تكون تلك الأخبارُ ممَّا دَسَّه أعداءُ الإسلام؛ للطَّعن فيه.
وجوابًا على استشكاله نقول:
قد ثبت النَّهيُ عن التحريق في غير حديث عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - فمنها: ما أخرجه أحمدُ، والبُخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسولُ الله في بَعْثٍ، فقال: ((إن وجدتُم فلانًا وفلانًا - لرجُلَيْنِ - فأحْرِقُوهُما بِالنَّار، ثم قال حين أردْنا الخُروج: إنّي كنتُ أمَرْتُكم أن تُحْرِقوا فلانًا وفلانًا، وإنَّ النَّار لا يُعذّب بها إلا الله، فإن وَجَدتموهُمَا فاقْتُلوهُما))، وفي بعض ألفاظ الحديث: ((وإنه لا ينبغي لأحدٍ أن يُعَذّبَ بعذابِ الله)).
ومنها: ما رواه البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أنَّ أُناسًا ارتدّوا على عهد عليّ - رضي الله عنه - فأحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابنَ عبَّاس رضي الله عنه، فقال: "لو كنتُ أنا لم أحرقهم؛ لنَهْيِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تعذّبوا بعذاب الله)) ولَقَتَلْتُهم كَمَا قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم – ((مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ)).
- ثم إنَّ الإحراقَ بالنَّار يُعَدُّ نوعًا من أنواع التَّمثيل بالقتلَى، وهُوَ منهِيّ عَنْه في شريعتُنا المُطَهَّرة، وزَجَرَتْ عَنْهُ في نُصُوصٌ عِدَّة - لا يتَّسع المجالُ لاسْتِقْصائِها - فمنها: ما أخْرَجَهُ البُخاريّ من حديث عبدالله بن يزيد - رضي الله عنه – ((أنَّ النَّبيَّ - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - نهى عن النُّهْبة والمُثْلَة)).
والمُثْلَةُ: تكون بقَطْعِ أنفِ القتيل، أو أذنه، أو مذاكيره، أو شيْءٍ من أطْرافه، مما يُحْدِثُ تشويهًا لخِلْقَتِه، ومِنْ هُنا كان الإحراقُ بِالنَّار مِمَّا يندَرِجُ تحتَ المُثْلَة المنهيّ عنها؛ لما يتضمَّنُه من تشويهٍ لِجُثَّة القتيل.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنَّفه: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - وهو النخعي - قال: "كانوا يكرهون أن يُحرق العقرب بالنار، ويقولون: مُثلة".
فكيف إذًا يَقُومُ بعضُ الصحابة - رضي الله عنهُمْ - بِإِحْراقِ المُرتدّين بالنَّارِ وقد نَهَتْهُم تلك النصوص المتقدّم ذِكْرُ بَعْضِها عن ذلك؟
لا بد للإجابة عن ذلك من بيان عدة أمور:
أولها: أنَّ المُثْلَة التي نهى الشرعُ عنها إنَّما تكون ابتداءً فيما لا نصَّ فيه،
قال ابْنُ حزم في "المُحلَّى" (12/288): "المُثْلَة ما كان ابتداءً فيما لا نصَّ فيه، وأمَّا ما كان قِصاصًا، أو حَدًّا، كالرجْمِ للمُحْصن، أو كالقطع، أو الصلب للمحارب، فليس مُثلة" انتهى.
ثانيها: أنَّ المُثلة المحرَّمة إنَّما تكون بعد الظفر بالكافر، لا قبله؛
قال الحافظ ابنُ عبدالبر في "الاستذكار": "والمثلة محرَّمة في السُّنَّة المجمع عليها، وهذا بعد الظَّفَر، وأمَّا قبله، فلنا قتلُه بأَيّ مُثلةٍ أمكننا" انتهى.
وقال ابن عابدين في "حاشية الدر المختار" (4/131): "نُهينا عن المثلة بعد الظَّفَرِ، أمَّا قبله، فلا بأسَ بِها اختيارًا" انتهى.
وقد قَيَّد بعضُ أهل العلم ذلك بتعذّر إمكان قَتْلِهم - أي قبل الظفر - إلا بالمثْلة بهم، وذلك بتحريقهم، ونحوه. انظر: "شرح مختصر خليل" للخرشي (3/114).
ثالثها: أنَّ أهل العلم مخْتَلِفون في مَرْتَبة النَّهْيِ في تلك النصوص،
فمنهم من يراه نَهْيَ تحريم، ومنهم مَنْ يراه نَهْيَ تنزيه، بل منهم من يراه جائزًا
فهذا عليٌّ - رضي الله عنه – الخليفة الراشد لمَّا بلغه إنكارُ ابْنِ عبَّاس تحريقَ المرتدّين احتجاجًا بنهي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن التعذيب بعذاب الله تعالى، لم يُعَوِّل عليه، بل استمرَّ في تحريق الكفار حتى قبل موته، واستنكر عليٌّ - رضي الله عنه - قولَ ابْنِ عبَّاس حين بلغه بقوله: "ويح ابن عباس"؛ أخرجه الدارقطني في سننه (3/108) بإسناد صحيح، ولفظه عند أحمد في مسنده (1/282): "ويْحَ ابْنِ أُمِّ ابنِ عبَّاس".
وروى البيهقيُّ في سننه (6/254) بإسناد صحيح، عن أبي عُمَر الشيباني "أنَّ عليًّا أُتِيَ بِالمستورد العِجْلِيّ وقدِ ارتَدَّ، فقتله، فأعطاه النَّصارَى بِجِيفَتِه ثلاثين ألفًا، فأبى أن يَبيعَهُم إيَّاه وأحْرَقَه".
ورواه بإسنادٍ آخَرَ فيه ضعفٌ بنفس القِصَّة، وفيه: "فقال علي: "اقتلوه"، فتواطأه القوم حتَّى مات، فجاء أهلُ الحيرة، فأعطَوْا - يعني بجيفته - اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا فأبَى عليهم عليٌّ، وأمر بها، فأُحرقتْ بالنار".
وأخرج أحمد والدارقطني أنَّهُ لمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجِم عليًّا، قال علي: "افعلوا به كما أراد رسولُ الله أن يفعل برجل أراد قتله، فقال: ((اقتلوه ثم احرقوه)).
وهو قول معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري؛ ففي معجم الطبراني أنهما أمر بقتل مرتد "فأتي بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها " قال الحافظ في الفتح (12/274): "ويؤخذ منه أن كانا يريان جواز التعذيب بالنار وإحراق الميت بالنار مبالغة في إهانته وترهيبا عن الاقتداء به".
وقال بدر الدين العيني في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": " قال الداودي: إحراق علي رضي الله تعالى عنه الزنادقة ليس بخطأ؛ لأنه - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - قال لقوم: ((إن لقيتم فلانا وفلانا فأحرقوهم بالنار)) ثم قال ((إن لقيتموهما فاقتلوهما فإنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله)) ولم يكن يقول في الغضب والرضا إلا حقا قال الله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}"
قال الإمام الشوكاني في "نيل الأوطار" (7/271): "وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّحْرِيقِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمَا مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي سَبَبِ كُفْرٍ أَوْ فِي حَالِ مُقَاتِلٍ أَوْ فِي قِصَاصٍ، وَأَجَازَه عَلِيٌّ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَغَيْرُهُمَا، قال الْمُهَلَّبُ ليس هذا النَّهْيُ على التَّحْرِيمِ بَلْ على سَبِيلِ التَّوَاضُعِ وَيَدُلُّ على جَوَازِ التَّحْرِيقِ فِعْلُ الصَّحَابَةِ وقد سَمَلَ النبي أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ بِالْحَدِيدِ كما تَقَدَّمَ وقد أَحْرَقَ أبو بَكْرٍ بِالنَّارِ في حضرة الصَّحَابَةِ وَحَرَّقَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ نَاسًا من أَهْلِ الرِّدَّةِ وَكَذَلِكَ حَرَّقَ عَلِيٌّ كما تَقَدَّمَ في كِتَابِ الْحُدُودِ ".
وقال العَيْنِيّ في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري": "وأكثَرُ عُلماء المدينة يُجِيزون تَحْريقَ الحُصونِ على أهْلِها بالنار، وقول أكثَرِهم بتَحْرِيق المَرَاكِب، وهذا كُلّه يدلّ على أنَّ مَعْنَى الحديثِ على النَّدْبِ، ومِمَّنْ كَرِهَ رَمْيَ أهْلِ الشّركِ بالنَّار عُمَر وابْنُ عبَّاس وابْنُ عبدالعزيز، وهو قولُ مالِكٍ، وأجازَهُ عليٌّ وحرَّق خالدُ بنُ الوليد - رضي الله تعالى عنه - ناسًا منْ أَهْلِ الرّدَّة فقالَ عُمَرُ للصّدّيق: "انزَعْ هذا الذي يعذب بعذاب الله" فقال الصّدّيق: "لا أنزَعُ سيفًا سلَّهُ الله على المشركين"، وأجاز الثَّوْرِيُّ رمْيَ الحُصونِ بالنَّار. وقال الأوْزاعِيُّ: لا بأس أن يدخّن عليهم في المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المُقَاتِلَة ويُحرقوا ويُقتلوا كُلَّ قِتال، ولوْ لقِيناهُمْ فِي البَحْرِ رَمَيْنَاهُم بِالنّفط والقَطِران، وأجاز ابْنُ القَاسِم رَمْيَ الحِصْن بالنَّار، والمراكبَ إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط" انتهى..
والقول بالكراهة قد يُفهَمُ مِنْ أَمْرِه - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً بِتَحْرِيقِ رجُلين، ثم رجوعه عنه، وقوله: ((لا ينبغي لبشر أن يعذّب بعذاب الله)).
رابعها: أنَّ التمثيل على سبيل المُجازاة جائزٌ؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ولقوله تعالى: { الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فالجزاءُ من جنس العمل، ومَنْ عامل بالمثل فما ظلم، وإن كان الصَّبْرُ في حقّه أوْلى؛ ويدل على صحة هذا القول ما ثَبَتَ في الصَّحيحَيْنِ من حديث أنس - رضي الله عنه - ما فَعَلَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعُرنيّين لمَّا ارتدّوا، وقَتَلُوا راعيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وسمَلُوا عيْنَه - كما في بعض ألفاظِ صحيح مسلم - واستاقُوا الإبِلَ، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقطع أيديهِم، وأرْجُلِهم، وسَمْلِ أعيُنِهم. وفي رواية في الصحيحين ((سَمَّرَ )) أي: أحمى لهم مسامير الحديد ثم كحلهم بها.
فالنَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فعَلَ ذلك بهم على سبيل القِصاص، والمُجازاة، كما قال أبو الوليد الباجي المالكي، وابن الجوزي، والحافظُ ابْنُ كثير في "تفسيره" (2/57)، وقال الحافظ ابْنُ حجرٍ في "الفتح" (1/341) وهو يعدد فوائد الحديث: "وفيه المماثلة في القصاص وليس ذلك منَ المثلة المنهيّ عنها".
فإن قُلْنا: النهي عن التحريق والتمثيل للتحريم، فإنَّه عامّ مخصَّص بكونهما معاقبة بالمثل.
وكلام أهل العلم في المُجازاة بالمِثْلِ في هذا الباب كثيرة جدًا، وسنذكر طرفًا منه:
قال الإمام أحمد: "إن مَثَّلوا مُثِّل بهم" نقله ابن مفلح في "الفروع".
وقال البخاري في "صحيحه": "باب: إذا حَرق المشركُ المُسلمَ هل يُحرق؟".
قال ابن حجر في "الفتح" (2/447): "كأنَّه أشار بذلك إلى تخصيص النَّهْيِ فِي قوله: ((لا يُعذَّب بعذاب الله)) إذا لم يكن ذلك على سبيل القصاص".
وقال شيخ الإسلام في "الفتاوي" (28/314): "أمَّا التَّمثيل في القتل، فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين - رضي الله عنه -: ما خطبنا رسول الله خطبةً إلا أمَرَنَا بِالصدقة ونهانا عنِ المُثْلة، حتَّى الكُفَّار إذا قتلناهُم فإنَّا لا نمثِّلُ بهم ولا نجدِّع آذانَهم ولا نبقَرُ بطونَهم، إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل كما قال تعالى؛ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] قيل: إنَّها نَزَلَتْ لمَّا مثَّل المشركون بحمزةَ وغيرِه من شهداء أُحُد، فقال: ((لئن ظفرني الله بهم لأمثِّلن بضِعْفَيْ ما مثلوا بنا))، فأنزل الله هذه الآية، وإن كانت قد نزلت قبل ذلك بمكة... ثم جرى بالمدينة سببٌ يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل نَصْبِرُ)).
خامسها: أنَّ التمثيل بالكفار إن مثَّلوا بالمسلمين قد يُندب إن كان ثمت مصلحة أو كان فيه زجر لهم عن العدوان، وتنكيلاً بهم يكسر شوكتهم، وكبتًا لشَرّهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وتقوية لقلوب المسلمين.
قال ابنُ قدامة في "المغني" (20/262) - وهو يتحدث عن رمي رأس الكافر بالمنجنيق بعد قطعه -: "يُكره رمْيُها بِالمَنْجَنِيق، نصَّ عليه أحمد، وإن فعلوا ذلك لمصلحةٍ جاز؛ لما رُوّينا أنَّ عمرَو بْنَ العاص - رضي الله عنه - حين حاصر الإسكندرية ظُفِر بِرجُلٍ منَ المسلمين، فأخَذُوا رأسَهُ، فجاءَ قومُه عمرًا مُغضبين، فقال لهم عمرو: خذوا رجلاً منهم، فاقطعوا رأسه، فارموا به إليهم بالمنجنيق، ففعلوا ذلك، فردَّ أهلُ الإسكندرية رأسَ المسلم إلى قومه".
وقال صاحب "شرح منتهى الإرادات" (1/625): "وكره رمي الرأس بمنجنيق بلا مصلحة؛ لأنه تمثيل، قال أحمد: "ولا ينبغي أن يعذبوه"، فإن كان فيه مصلحة، كزيادةٍ في الجهاد، أو نكالٍ لهم، أو زجر عن العدوان، جاز؛ لأنه من إقامة الحدود، والجهاد المشروع، قاله تقي الدين - أي ابن تيمية".
وقال المَجْدُ ابن تيمية في "المنتقى" (3/321) في كتاب الجهاد: "باب: الكفّ عن المثلة والتَّحريق وقطْعِ الشَّجر وهدم العمران إلا لحاجة ومصلحة".
وقال ابن عابدين في "حاشيته" (4/131): "وقيّد جوازها - يعني المثلة - قبله - أي: قبل الظفر - في الفتح – "فتح القدير" - بما إذا وقعت قتالاً، كمبارز ضرب فقطع أذنه، ثم ضرب ففقأ عينه، ثم ضرب فقطع يده وأنفه ونحو ذلك، وهو ظاهرٌ في أنَّه لو تمكَّن من كافر حال قيام الحرب ليس له التمثيلُ به، بل يقتُلُه، ومقتضى ما في "الاعتبار" أن له ذلك، كيف وقد عُلّل بأنَّها أبلغ في كبتهم والإضرار بهم".
وقال السَّرَخْسِيّ في "شرحه لسير محمد بن الحسن" (1/137): "أكثَرُ مشايخنا - رحمهم الله - على أنَّه إذا كان في ذلك كبتٌ وغيظٌ لِلمشركين، أو فراغُ قلب للمسلمين، بأنْ كان المقتولُ من قُوَّاد المشركين، أو عظماء المبارزين فلا بأس بذلك".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوي" (5/545): "المثلة حقّ لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخْذِ الثأر، ولهم تركها، والصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد، ولا يكونُ نكالاً لهم عن نظيرها، فأمَّا إن كان في التمثيل الشائع دعاءٌ لهم إلى الإيمان، أو زجرٌ لهم عن العدوان، فإنَّه هنا من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القضية في أُحُد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل، فأمَّا إن كانتِ المثلة حقّا لله تعالى، فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار، ويحرم الجزع".
فظهر من تلك النقول أن الاحتِجاج بأحاديث النهي عنِ التَّحريق بإطلاق، ليس بمُسَلَّم.
والحاصِلُ: أنَّ أهلَ العِلْمِ قدِ اخْتَلَفُوا في تحريم الإحراق بالنَّار كما بيَّنَّا، وأنَّ القائِلَ مِنْهُم بالحُرْمَةِ قدِ اسْتَثْنَى حالاتٍ يَجُوزُ فيها ذلك، فلا شكَّ أنَّ ما أقدم عليه المُرْتَدّون كإياس بن عبد ياليل وغيرِه مِمَّنْ رُوِيَ أنَّهم حُرِّقُوا بالنَّار، يستحقّون ما فُعِلَ بِهِم من الإحراق.
فَجَزَى اللَّهُ خليفةَ رسول الله - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم - على غَيْرَتِه للإسلام خيرًا.
وجزى الله خيرًا سيفَ الله المسلولُ على قُوَى التخلّف والتعفُّن والشّرْكِ والتَّجبُّر والصَّلَف والبَغْيِ والعُدوان.
وليُعْلَم أنَّ الشريعةَ مَبْنَاها على تَحصيلِ المصالِح وتكميلِها، وتعطيلِ المفاسد وتقليلِها، وهذه من قواعِدِ الشَّرْعِ الكِبار فَمَنْ ترَكَ تِلكَ المُوَازَنَة فَقَدْ يَدَعُ واجباتٍ ويَفْعَلُ محرَّمات.
قال شيخ الإسلام: "أنَّ الشريعةَ جاءتْ بِتحْصيلِ المَصالح وتكميلِها، وتعطيلِ المَفاسدِ وتقليلها، وأنَّها ترجِّحُ خَيْرَ الخَيْرَيْنِ وشرَّ الشَّرَّيْنِ، وتحصيل أعظَمِ المَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أدناهُما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهُما".
وقال: "الشَّارع دائمًا يُرَجّح خَيْرَ الخَيْرَيْنِ بتفويت أدناهُما، ويدفع شر الشَّرَّيْنِ بالْتِزَامِ أدْناهُما، وهذا كَمَنْ معه ماءٌ في السفر هُوَ مُحتاجٌ إليْهِ لطهارَتِه، يؤمَرُ بأنْ يتطهَّرَ به، فإنْ أرَاقَهُ عَصَى وأُمِرَ بالتَّيمّم وكانت صلاته بالتيمّم خيرًا من تفويت الصلاة"
فإذا كانتِ المصلحةُ الشَّرْعِيَّة المُعْتَبَرة تقتَضِي حرْقَ المُرْتَدّينَ وأعداءِ الرُّسُل، أو كانت وسيلةً لِتَحقيق المصالح أو دَفْعِ المفاسد، أو غَيْرَ ذلك من إلقاء الرُّعْبِ في قلوب الكافرين، وكف أذاهم عن عباد الله المؤمنين، وشفاءِ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ-: جازَ التَّحْرِيقُ بالنَّار؛ نِكاية في الكافِرِين، وردعًا لمنْ تُسَوِّلُ له نفسُه التَّقَحُّمَ على حوزَةِ الدّين.
أما كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل مسيلمة الكذاب في حياته، فلأنه كان خارجًا عن سيطرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينه وبينه مفاوز ووهاد، فكان – قبحه الله - متحصنًا في اليمامة.
فلم يكن مسيلمة مجرد فرد سيطبق فيه حد الردة، وإنما يلزم لقتله إعلان حرب على دولة أخرى، والذي يظهر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يحيا بعد إعلان مسيلمة ردته الوقت الذي يمكنه من إعلان تلك الحرب أو الأمر بها؛ لأن أهل اليمامة من بني حنيفة – قوم مسيلمة - أَتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفوا مسيلمة في رحالهم، ثم انصرفوا، فلما قدموا اليمامة ارتدَّ عدو الله وتنبأ وقال إني أشركت في الأمر معه كما ذكره ابن إسحاق وقال: "وقد كان كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني أشركت في الأمر معك ... فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسيلمة الكذّاب سلام على من اتبع الهدى. قال ابن إسحاق: وكان ذلك في آخر سنة عشر". ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم – لم يعش بعدها إلا قليلًا.
وأما ما يقال: "إنه لا يوجد نص صريح في القرآن بقتل المرتد"، فمن المقرر عند أهل العلم، ومن المعلوم من الدين بالضرورة، أن أدلة الشرع ليست محصورة في القرآن الكريم وإنما هناك أدلة أخرى متفق على حجيتها كالسنة المطهرة والإجماع؛ فقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم – في أكثر من سبعين موضعًا، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ((ألا وإني أتيت القرآن ومثله معه))، وقال: ((ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله في القرآن))، وسبق في صدر المقال ذكر حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عند البخاري الدال على وجوب قتل المرتد، وفي الصحيحين عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَحِلُّ دَمُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّّ بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لدِينه، المُفارِقُ للجماعة))، وعن أبي بردة أن معاذ بن جبل لما قدم اليمن وجد رجلًا قد ارتدَّ فقال: "لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله، فقال له أبو موسى: اجلس نعم. قال لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات. فأمر به فقتل"؛ متفق عليه.
ونقل ابن قدامة وغيره إجماع أهل العلم المعتبرين عل وجوب قتل المرتد.

أما قولك: " والفتوحات بعد ذلك بدأت بسبب وصول أخبار إلى الخليفة باحتشاد الجيوش لمحاربتها...إلخ" فهذا الكلام خطأ محض ومخالفة صريحة للتاريخ والحقيقة فضلًا عن مخالفته للأدلة الشرعية ولإجماع أهل العلم على وجوب دعوة غير المسلمين وعلى وجوب جهاد الطلب، فهل فتح الصحابة والمسلمون من بعدهم مصر والشام وإفريقية وبلاد الأفغان والعراق وبلاد فارس، فضلًا عن الأندلس والبلقان وتركيا، وغيرها من بلاد المعمورة؛ خوفًا من احتشاد الجيوش لمحاربتهم؟!! اللهم لا. وإنما فتحوها نشرًا للدين الحق، وتبشيرا بالجنة لمن تبعهم، وإزاحة للطواغيت التي تستعبد شعوب تلك البلاد؛ ومن ثم لم يمض كثير من الوقت حتى دخل أهل تلك البلاد في دين الله أفواجًا ففتحوا القلوب والبلاد؛ كما هو الحال في مصر الذي كان أهلها - قبل مجيء السادة من الصحابة لفتحها - يعبدون الصلبان والصور والرهبان، فما أن وصلتهم الرسالة الحقة والدين القويم حتى خلعوا ربقة الكفر وتركوا عبادة الصلبان لعبادة الواحد الديان، وصار عامة أهلها مسلمون.
هذا؛ وتلك المسألة الكبيرة تستحق مزيدًا من البحث، وسرد للأدلة عسى الله الكريم أن ييسر لنا إفرادها ببحث مستقل،، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
4- رد على استفسار الأخ عبد الرحمن
د / أحمد عبد الحميد - مصر 14-01-2008 09:40 PM
مرحبا بك أخي أولا ، وبالنسبة لموضوع الحرق أخي فإنه كان عقوبة استثنائية ردا على الأفعال الوحشية التي قام بها هؤلاء ضد المسلمين وردعا لغيرهم حتى لا يتجرأ غيرهم على الاعتداء على المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم بتلك الوسيلة في وقت كان فيه كل من حول المسلمين يتربص بهم ، ولو كان أبو بكر في ظروف غير تلك ما كان يقدم على مثل تلك العقوبة ، وبالنسبة لمسيلمة وغيره من المرتدين فإن رسول الله قد أرسل إليهم من يقالتهم في حياته ، وقتل بالفعل الأسود العنسي ولكنه قبض قبل أن يقضي على فتنة الباقين ، وبالنسبة لقولك : إنه لا يوجد نص في القرآن بقتل المرتد فإني أقول لك يا أخي : إن رسول الله الذي نزل عليه القرآن هو الذي شرع قتلهم في قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " وأرسل من قاتلهم .
3- جزاكم الله خيرا ياأخ أنس
عبد الرحمن - lwv 13-01-2008 11:14 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيراً، إن كان قتل المرتد لحكمة وهي ان لايعبث احد بالدين وعليه ان يفكر قبل ان يتخذ قراره او يكتم عقيدته حتى لاتكون فتنة وليس من باب الإكراه فهذا جيد، ولكن هناك نقطة لم تصل لي وهي إن مسيلمة ارتد زمن الرسول ولم يامر بقتله الرسول عليه الصلاة والسلام هذه واحدة، ولقد قال النبي لرسل مسيلمة عندما عرضا عليه رسالة مسيلمة وقالا نشهد ان لاإله إلا الله وان مسيلمة رسول الله: لولا ان الرسل لاتقتل لقتلتكما او لأمرت بقتلكما،
وياليت الكاتب يكتب في الهامش أن التعذيب بالنار في الإسلام مكروه وإن أجازه بعض الصحابة، لان الحرب بالكلام الآن ضارية وجزاكم الله خيرا
2- إجابة على استفسار الأخ عبد الرحمن
أنس يوسف - السعودية 12-01-2008 10:42 PM
أخي الكريم: لقد قرأت المقالة كاملةً، وتعليقك كاملاً أيضاً:
ويٌفهم من استفسارك أن أبا بكر رضي الله عنه مع جيشه من المسلمين قد حرق المرتدين بالنار لسبب ردتهم، فسامحك الله وليتك وضحت السؤال، فهذا خلط عظيم وتشويش على القارئ، وأود أن أوضح لكِ التالي أخي العزيز:
ذكر الكاتب بعد النجاح الذي حققه خالد بن الوليد مع القوم الذين ذهب إليهم وجعلهم يعودون إلى رشدهم وطريقهم المستقيم؛ المقطع التالي:
" ولكنه لم يقبل من أحد منهم إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعَدَوْا على أهل الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم فأوثقهم وأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار؛ جزاء وفاقًا لما فعلوه بالمسلمين من قبل ليكونوا عبرة لغيرهم.."
أي أن خالد بن الوليد - رضي الله عنه – لم يقبل من أحد من المرتدين المبايعة إلا أن يخرجوا من بينهم الذين حرقوا ومثلوا بالمسلمين عندما كانوا مرتدين؛ وهذا قصاص يا أخي الفاضل، والعقاب بالمثل، وأظن أن هذا يدخل في بابا " السن بالسن والعين بالعين والجروح قصاص" فلا نخلط بين التعذيب والقتال بالحرق وبين القصاص وأخذ حق المسلم وحق الآدمي، وقد ورد أيضاً أن المرتدون كانوا أخطر من اليهود والنصاري والمشركين وذلك لخطرهم على الأمة الإسلامية ونفاقهم،

أما إن كنت تقصدين حادثة مقتل (مالك بن نويرة) في المقطع التالي:

((وحدثت خلافات في قتله، وذكر عوام القصاص في ذلك الأعاجيب، من ذلك أنه قتله وخلفه على امرأته دون أن تعتد، وأنه قطع رأسه وأوقد فيها النار حتى استوت عليها اللحم التي أعدها لطعامه..


فأظن أن الكاتب قد جاوب أصلاً وذلك من خلال قوله بعد المقطع مباشرةً :
( ومن العجب أن من يُسمُّون أنفسهم بالتنويريين في عصرنا صاروا يجمعون مثل تلك الروايات ليطعنوا بها في صحابة رسول الله، ولم يكلف الواحدُ منهم نفسَه ليُعمِل عقلَه في مثل تلك القصص، فأيُّ شعرِ رأسٍ هذا الذي تُوضع عليه اللحومُ فينضجها مهما كان كثيفًا؟! إننا لو أحضرنا قنطارًا من الشعر وأشعلنا فيه النار لاحترق قبل أن تنضج اللحوم التي توضع عليه، فما بالنا بفروة رأس؟!.. ))

وأخيراً أقول لك أخي الفاضل أن الكاتب قال:
(وعلى كل فإن أبا بكر الصديق قد عاتب خالدًا بعد عوده إلى المدينة؛ لأنه لم يتريث في قتلهم، فاعتذر لأبي بكر بأنه لم يصدر عنهم ما يدل على أنهم قد هموا بالإقدام على الإسلام فرضي عنه، ولم يكن أمام أبي بكر غير ذلك في مثل تلك الظروف، فالأمور مضطربة، والأحوال مختلة، والبعض يدعي ما ليس في قلبه)
ولم يقل أنه عاتب خالداً لأنه لم يتريث في حرقهم.

أما قول الكاتب ((فأمر بطرحه في النار بمنطقة البقيع اقتصاصًا لمن قتل من أبرياء الناس...)) فهذا شخص واحد وهذا أيضاً ليس معناه كما هو في سؤالك ((أن المسلمين حرقوا بعض المرتدين كما جاء في المقال؟ )) بل هو شخصٌ واحد فقط، والمسوّغ واضح جداً، فقد عثا الفجاءة إياس بن عبد ياليل في المسلمين فساداً وقتل منهم وأخذ أموالهم وكذب على أبي بكر الصديق واستغل إسلامه للسرقة، واستغل الحرب لمصالحه الشخصية من النهب والنصب والسرقة أيضاً.
وأخيراً أخي الكريم أعتقد أن الحرق هو شبيه الآن بالقتل بالقنابل أو المسدسات المتفجرة..
أما موضوع مسيلمة الكذاب يا أخي الكريم، فهو منافق ويحمل نفاقه في نفسه ولا شيء ظاهر يمكن معاقبته عليه، ولكنه كذاب والكذب يُعاقب عليه في الآخرة بما هو أشد وأخزى وتجب التوبة منه، ولو أمر رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام بقتله لقتلنا الناس على نياتهم وهذا محرّم شرعاً.

أما استفسارك "يُقال إنه لايوجد نص صريح في القرآن بقتل المرتد" فأعتقد أن أبا بكر عندما يأمر بقتل أحد فإنه يُطاع، وهذا واضح جداً في قوله صلى الله عليه وسلم:(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) وهو أول خليفة وهو الصدّيق رضي الله تعالى عنه.
وأيضاً يمكن الاستفادة من التالي:
((الرأي السائد في الفقه الإسلامي هو قتل المرتد عن الإسلام ـ رجلاً أو امرأة ـ مما قد يقال معه: أنه لا يتفق مع ما تقرر من حرية العقيدة الدينية وعدم الجبر على البقاء في عقيدة لا يؤمن بها صاحبها.
ونجيب عن ذلك بالجوابين التاليين:
أولاً: ، أن من الواضح أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الفكر في ذاته وتركه للدين الإسلامي، بدليل أن غير المسلمين من اليهود والمسيحيين الأصليين قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة وحمايتها، من غير إكراه ولا تضييق. ويتعين حينئذ أن يكون هذا القتل عقوبة على الخيانة الكبرى والمكيدة الدينية التي قام بها المرتد حين أدعى الدخول في الإسلام زوراً وبهتاناً ثم أعلن خروجه منه قصداً للإساءة إليه، والطعن فيه، وانضم إلى صفوف أعدائه الماكرين الذين يحاربونه بجميع الوسائل، ومنها الدعاية أو ما اصطلح على تسميته في العصر الحاضر بالحرب النفسية والمعنوية.
وهذا هو ما يقرره القرآن الكريم ويحكيه عن اليهود في صدر الدعوة الإسلامية، إذ كانوا يتخذون من إعلان الدخول في الإسلام، والانضمام ـ نفاقاً ـ إلى صفوفه، ثم المسارعة إلى الخروج منه، وسيلة للكيد والأضرار بالدعوة الإسلامية، ومحاولة لصد الناس عن الأيمان به، ولا خراج المسلمين منه ورجوعهم عنه.
يقول الله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، قل أن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم، قل أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (سورة آل عمران/ 72-73).
ويُروى في سبب النزول عن ابن عباس أن عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف، قال بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بها انزل على محمد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع، فيرجعون عن دينهم فأنزل الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون، وقالت طائفة من أهل الكتاب..) (سورة آل عمران/71-72).
كما يُروى أن بعض أهل الكتاب قالوا: أعطوهم الرضا بدينهم أول النهار واكفروا آخره فأنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنكم قد رأيتم فيها ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم.
ثم يُروى أن أحبار قرى عربية ـ وكانوا اثني عشر ـ قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا: نشهد أن محمداً صادق، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا أنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمداً كاذب وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا، فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكون فيقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم؟! بل أنهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند القول فقط، فقد روى ابن جرير أن بعض اليهود صلوا مع النبي صلاة الصبح وكفروا آخر النهار، مكراً منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم منا الضلالة بعد أن كانوا قد اتبعوا1.
يقول الإمام محمد عبده: هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر، وهي أن من علامة الحق ألا يرجع عنه من يعرفه، وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم، فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شئون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما دعاه إلى الإسلام: هل يرجع عنه من دخل في دينه، فقال أبو سفيان: لا. وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا: لو لا أن ظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه، بعد أن دخلوا فيه، وأطلعوا على بواطنه وخوافيه إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب فأن قيل: أن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ولا مكيدة كما كاد هؤلاء فماذا نقول في هؤلاء؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له، لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فأذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فانه يترك ذلك الشيء.
ثم يقول: ويظهر لي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فأنها قد تخدع الضعفاء كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم، وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له.. وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي..."2.
نعم لا يكاد يوجد مسلم حقيقي يرتد عن دينه بعد أن ذاق حلاوته وسمو مبادئه، سواء أكان إسلامه أصلياً أم طارئاً، واستقراء الحوادث قديماً وحديثاً يؤيد ذلك.
ولا تثور قضايا الردة ـ في العصر الحاضر ـ إلا بالنسبة لصورة أخرى من صور الخداع والتحايل، ففي بعض البلاد الإسلامية لوحظ أن بعض الناس يعلنون إسلامهم، لدنيا يصيبونها، أو امرأة يتزوجونها، أو يطلقونها، فيعلن أحدهم الإسلام حتى يطلق زوجته التي لا يسمح له دينه بطلاقها، أو رغبة في الزواج بامرأة لا يسمح لها دينها بالزواج منه مع البقاء على دينه، أو جريا وراء ميراث، حيث يعتبر اختلاف الدين مانعاً من موانعه بين المسلمين وغيرهم"
1- سؤال
عبد الرحمن - مصر 12-01-2008 03:22 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لو سمحت يادكتور بعد شكر حضرتك لي سؤال، هل صحيح ان المسلمين حرقوا بعض المرتدين كما جاء في المقال؟ لأنه يوجد نهي عن الحرق، وبعض الاحاديث الموضوعة تؤخذ على المسلمين، ولماذا لم يامر النبي بقتل مسيلمة الكذاب في حياته؟
يقال لايوجد نص صريح في القرآن بقتل المرتد، ويقال إن المرتد إذا لم يؤثر ويدعو من حوله لمذهبه ولايعلن ردته ولايتعاون مع اعداء المسلمين لايقتل، والمرتدون مما حكيت عنهم لم يرتدوا فقط وإنما كما يبدو من المقال كانوا يريدون استئصال الإسلام بعد مادخل في كل القبائل، وكانت في عنقهم بيعة ، فلقد عدا كل مرتد على المسلمين ويقال إن أهل مكة هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد......(السيرة النبوية لابن كثيرج 4) وكانت فتنة لايصلح لها إلا الحرب، والفتوحات بعد ذلك بدات بسبب وصول اخبار إلى الخليفة باحتشاد الجيوش لمحاربتهم،فالمسلمون لم يبدأوا بقتال كما هو منتشر بين الناس بأنهم كانوا يفتحون البلاد ويقولون إما الإسلام وإما الجزية، بدليل إنهم عندما تخلوا عن الجهاد بمعنى الرباط وحفظ الثغور ذبحهم المغول في الشرق والأوربيون في الاندلس،
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب