• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحافظة على صحة السمع في السنة النبوية (PDF)
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    اختيارات ابن أبي العز الحنفي وترجيحاته الفقهية في ...
    عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد التويجري
  •  
    القيم الأخلاقية في الإسلام: أسس بناء مجتمعات ...
    محمد أبو عطية
  •  
    فوائد من حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ...
    محفوظ أحمد السلهتي
  •  
    لم تعد البلاغة زينة لفظية "التلبية وبلاغة التواصل ...
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    البشارة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    حديث: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    خطبة: شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    تفسير سورة الكافرون
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (4)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    من مائدة الفقه: السواك
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أهمية عمل القلب
    إبراهيم الدميجي
  •  
    أسوة حسنة (خطبة)
    أحمد بن علوان السهيمي
  •  
    إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا والآخرة
    السيد مراد سلامة
  •  
    خطبة: أم سليم صبر وإيمان يذهلان القلوب (2)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    تحريم أكل ما ذبح أو أهل به لغير الله تعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

الاستهزاء بالرسل والرسالات سنة الجاهلين في كل عصر

الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/2/2015 ميلادي - 14/4/1436 هجري

الزيارات: 47221

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الاستهزاء بالرسل والرسالات سنة الجاهلين في كل عصر


بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين


في رحاب سورة الأنعام:

الاستهزاء بالرسل والرسالات سنَّة الجاهلين في كل عصر

قال الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 8 - 12].

 

عندما يَعيب الوحي على الكفار غباءهم وقصور عقولهم عن استيعاب ما نزل إليهم من ربهم بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، أو ينكر عليهم غلبة أهوائهم وجراءتهم على اقتحام الآخرة محمَّلين بأوزارهم وأوزار أتباعهم بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ﴾ [النازعات: 45]، أو يعرِّض بكفرهم بالغيب، وإصرارهم على إنكاره وجحوده في قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ [يونس: 20] - فإنما ذلك لإعراضهم عن استماع الوحي واستيعابه، وتمسُّكهم بما لديهم من معتقدات فاسدة، وأوهام وتصوُّرات ضالة، والنفوسُ المريضة الجاهلة إذا ما استشعرت القوةَ والاستغناء شابها العُجْبُ؛ فاستكبرت وبغَتْ، وإن فشِلت في تحقيق مرادها حقَدت وعاندت واستبدَّت بها الجهالة، فتمسكت بالباطل تنصره على الحق الأبلج الواضح، واشتطَّت في المغالبة والمغالاة والعدوان، وجحود مقتضى الحكمة والمنطق السليم، لا تعِفُّ عن فُحش، ولا تتحاشى كذبًا صِرفًا، ولا بهتانًا بحتًا، أو فجورًا خالصًا، أو مكابرة بسفاسف التعلَّات، أو مماراة ومجادلة بغبيِّ الشبهات، ورَدِيِّ الشهوات، وغاب عنها أن صرعةَ الحق ولو بَدَتْ ضعيفةً أسرعُ نيلاً من الباطل وأهله، وأشدُّ استئصالاً لحجج المبطِلين ومغالطاتهم، تلك آفة العزة الجوفاء إذا ما استندت إلى الغباء الأصم، والجهل بحقائق الأشياء ومآلات الأفعال والأقوال، والجاهل عدو نفسه، يُرْديها من حيث يريد إسعافها، ويضرها من حيث يرى نفعها.

 

هذا حال المشركين من قريش وهم يواجهون دعوة الإيمان، كما بينت ذلك الآيات السابقة من سورة الأنعام، أعرَضوا عن سماعها أولاً، ثم كذبوا بها ثانيًا، ثم استهزؤوا بفحواها، وإذ ثبَت الرسولُ صلى الله عليه وسلم عليها، وأصرَّ على تبليغها، وتكاثر حوله المؤمنون - أخذوا يعاجزونه بمطالبَ ليس لهم بها من علم، ولا بما يترتب عن تحققها من مخاطر أو مفاسد، لا رغبة منهم في المعرفة والفهم والاقتناع، ولكن إيثارًا للمغالبة والمكابرة واللَّجاج الأجوف العنيد، واللهُ تعالى في كل أحوالهم هذه يبيِّن لهم ويستدرجهم بلُطفه إلى الإيمان، ويمهِّد لهم طريقه بالشرح والتذكير والبيان، رحمةً لمن يهتدي، وإقامةَ حُجةٍ على من يجحد ويعتدي، وإذ أجاب الله مطلبهم بآية انشقاق القمر، قالوا: هذا سِحر مستمر، ثم ازدادوا عتوًّا واستكبارًا وتحديًا بالرفض والعناد: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ﴾ [الإسراء: 90 - 93].

 

ثم لما أعيَتْهم حِيل المراوغة والحرب النفسية على الرسول صلى الله عليه وسلم، حاولوا تَيْئِيسَه بطلبِ ما لا يستقيمُ ونظامَ الكونِ وأفعالَ العقلاءِ، فقالوا: "يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتابٍ مِن عند الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله"، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 7]، ثم كان منهم تمامُ الجهل ونهاية الغباء وهم يظنون بأنفسهم العلمَ والفهم والذكاء، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ﴾ [الأنعام: 8] يشترطون لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلَ معه مَلَك يزكِّيه لهم، ويؤكد لهم أنه مبعوثٌ من الله تعالى؛ كما في قوله تعالى في الآية السابعة من سورة الفرقان: ﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 7]، وكان كفار قريش كلما حَزَبَهم أمرُ الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفحمَتْهم حُجَج القرآن الكريم، وإعجازُه وبيانه - تَتَرَّسوا بمثل هذه المطالب التي هي مجردُ غطاء لتمرُّدهم وعنادهم وتصميمهم على التمسُّك بالجحود والكفر، ولئن ظنوا أنهم بهذا المطلب يُعجِزون الرسولَ صلى الله عليه وسلم ويكونُ لهم ما أرادوا من الاستهزاء به - فإنهم لم يكشفوا به إلا عن جهلهم المُطبِق بثلاث حقائق لا تخفى على العقلاء؛ أولها: جهلُهم بحقيقة الملائكة، وثانيتها: جهلهم بحقيقة ما يقومون به، وثالثتها: جهلهم بحقيقة ما ينالهم إذا ما نُزِّل الملائكةُ عليهم وهم على الكفر والمعاندة والجحود.

 

أما جهلهم بحقيقة الملائكة فلأنهم يتصورونهم على غيرِ ما خلقهم الله عز وجل عليه، فيعُدُّونهم إناثًا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ﴾ [النجم: 27]، ويحسبونهم بناتٍ للهِ - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا -، كما في قوله سبحانه: ﴿ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ﴾ [الزخرف: 16]، وقوله: ﴿ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الصافات: 149 - 152]، وقوله: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا ﴾ [الإسراء: 40]، وما دام المشركون بهذه التصورات الضالة عن الأنوثة المزعومة للملائكة، وجنسُ الإناثِ مُذمَّم لديهم، ليس له عندهم إلا الوَأْد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9] - فإن المَلَك لو نُزِّل عليهم لوُجِد فيهم مَن يستمر على معاندته بدعوى أنه لا يرضى بشَهادة الإناث.

 

ويتصورون المَلَك خَلقًا ماديًّا كجميع ما يعرفون من المخلوقات الأرضية التي تمكن رؤيتها، والحال أنه نُوراني، لا سبيل لطبيعتهم البشرية إلى رؤيته أو التعامل معه إلا إذا تمثَّل لهم بشَرًا، ولو تمثَّل لهم بشرًا لاستخفُّوا به، ولَبَّسوا أمره بالتأويلات المُغرِضة، والتخمينات الغبية، ومحاولة طمس حقيقته الملَكية بالأوهام، ولقلَب الله تعالى تلبيسَهم عليهم، وأركسهم فيه، جزاءً بما كذبوا بآيات الله وجحدوها.

 

إن الملائكة جنس جعله الله من الغيب، ونحن لا نؤمن بهم إلا لأن الله الذي آمنَّا به أخبَرَنا بأن له ملائكة من الغيب الذي استأثر بعلمه، وهو ركنٌ مِن أركان الإيمان، لا يكون مسلِمًا مَن أنكره أو جحده؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 2، 3]، وقال صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الإيمان: ((أن تؤمن باللهِ، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، إلا أن الإيمان بالغيب ليس سائبًا يتصوره المرء كما يشاء، أو كما تُمليه عليه أهواؤه ورغباتُه وموروثه الخرافي، بل هو منضبط بالكتاب والسنَّة، ليس له مِن مرجع إلا عالِم غيب السموات والأرض، وليس له من مصدر إلا كلام الله تعالى في كتابه، والصحيح من سنَّة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وكما أن الإنسان مخلوق طيني نفخ فيه من الرُّوح، والشيطان والجان مخلوقات نارية - فإن الملائكة مخلوقاتٌ نورانية؛ كما ورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خُلِقَتِ الملائكةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ ممَّا وُصِف لكم))؛ أي: مِن الطين، ولم يبين لنا أي نور خُلِقت منه الملائكة، فبقي ذلك من الغيب الذي لا نستطيع اكتناهَه، ولا ينبغي الخوض فيه.

 

أما صفاتهم فقد ورد عنها في القرآن الكريم أنهم غِلاظٌ شدادٌ، وعباد مُكرَمون، مطيعون للإرادة الإلهية طاعةً مطلقة، فقال تعالى: ﴿ مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 26 - 28].

 

وأما حقيقة أعمالهم فجوهرُها الطاعة المطلَقة، والعبادة الخالصة لله تعالى؛ قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، وقال: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20].

 

ومن تصاريف طاعتهم هذه في عالم الغيب أنهم - عليهم السلام - يحمِلون العرش، ويستغفرون للذين آمنوا: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وأنهم يحفُّون مِن حول العرش مسبحين: ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الزمر: 75]، وأن منهم خزَنة الجنة وخزنة النار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً ﴾ [المدثر: 31]، وقال: ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 71 - 73].

 

أما علاقة الملائكة بالإنسان، فقد بدأت منذ خلَقه الحقُّ سبحانه، وخاطبهم في أمره بقوله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 30 - 36].

 

ومنذ أُهبط آدمُ وذريته إلى الأرض، ظل الملائكة يتعاملون معهم - طاعةً لله تعالى - في صور شتى:

منهم مَن يبلغ رسالات الله إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ قال تعالى: ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ﴾ [النحل: 2]، وقال: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 97].

 

ومنهم الحفَظة على الناس، متابعة ومراقبة لأعمالهم، يسجِّلون خيرها وشرها ليوم الحساب: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17، 18]، ومنهم ملائكة الموت ورُسلها إلى الخَلْق؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، فيبشِّرون المؤمنين الطيبين عند الوفاة بالجنة: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، وينذِرون الظالمين عند الموت بالعذاب وسوءِ المصير؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50].

 

ومنهم مَن يتنزل إلى الأرض لتبشير المؤمنين بالجنة، أو لنُصرتهم وتثبيتهم على الحق؛ قال عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، وقال: ﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾ [آل عمران: 124، 125]، وقال: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12].

 

كما أن مِن تصاريف طاعتهم لله تعالى في الأرض أنهم إذا أُنزِلوا إلى الكافرين فإنما يُنزَلُون ليدمِّروهم، لا ليبلِّغوهم؛ لأن التبليغَ مهمة الأنبياء، والتدمير للعصاة مهمة الملائكة، من ذلك ضيف إبراهيم عليه السلام من الملائكة المرسَلين لتدمير قوم لوط عليه السلام، في قوله عز وجل: ﴿ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 81 - 83]، وقوله تعالى: ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ * فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الحجر: 57 - 64].

 

إن جهل المشركين بطبيعة الملائكة وحقيقةِ مهامهم في عالَمي الغيب والشهود جعلهم يسألون دمارهم بغير قصدٍ وهم يحاولون معاجَزةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإغاظته، والاستهزاء برسالته؛ ولذلك اقتضى اللُّطف الإلهي والاستدراج الرحيم بهم: أن يوضح لهم تعالى عاقبةَ ما سألوا، ومقتضى ما طلبوا، فقال عز وجل:

﴿ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ﴾ [الأنعام: 8] لو استجاب الله تعالى لسؤالهم هذا فأنزل ملَكًا وهم مصرُّون على الكفر، لانتهى أمر دعوتهم، وعجل لهم العقاب؛ أي: لَمَا كان للمَلَك - كما هو عمله في العصاة والكفرة - إلا أن يعجل بدمارهم وعذابهم من غير أن يُنْظَروا أو يُمهَلوا أو تؤخَّر عقوبتهم رجاءَ توبتهم؛ قال قتادة في: "لو أنزلنا مَلَكًا ثم لم يؤمنوا، لعجل لهم العذاب، ولم يؤخَّروا طرفةَ عين"، وهذه سنَّة الله تعالى في كثير من الأمم التي سألت الآياتِ ثم أصرَّت على الكفر بعد مجيئها فلم تُمهَلْ، وعُجِّل لها بالنقمة؛ قال تعالى: ﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ﴾ [الحجر: 8]، وقال: ﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [الفرقان: 22].. وفي حديث ابن عباس عن قتال يوم بدر قال: بينما رجلٌ من المسلمين يومئذٍ يشدُّ في إثر رجلٍ من المشركين أمامه، إذ سمع ضربةً بالسَّوط فوقه، وصوت الفارس فوقه يقول: أقدِمْ حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه، وشق وجهه كضربة سوطٍ، فاخضرَّ ذاك أجمع، فجاء الأنصاري فحدَّث ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((صدقتَ، ذلك من مدَد السماء الثالثة))، فقتَلوا يومئذٍ سبعين، وأَسَروا سبعين.

 

ولِمَا علمه تعالى من عاقبة أمر مشركي مكة مستقبلاً، وما قدره لهم من الإقبال على الإسلام في نهاية المطاف أفواجًا؛ كما قال عز وجل: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]، وما اقتضته حكمته تعالى ولُطفه بهم - بيَّن لهم ما جهلوه من طبيعةِ الملَك المتعارضةِ مع طبيعتهم، وحذرهم العاقبة في حال نزوله وهم على الكفر، فقال عز وجل:

﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا ﴾ [الأنعام: 9]؛ أي: ولو جعلناه ملَكًا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، لعجَزوا عن رؤيته على هيئته الحقيقية؛ لأنهم لا يستطيعون النظرَ إلى الملائكة، ولجعلناه في صورةِ رجل آدمي؛ كي تتيسرَ مخاطبته، والانتفاع بالأخذ عنه؛ كما هو شأن جبريلَ - عليه السَّلام - إذ تمثَّل لمريم عليها السلام بشرًا في قوله تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسَه لم يرَه على حقيقته الملائكية إلا مرتين؛ كما ورد في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم: (رَأَى جِبرِيلَ عليه السَّلام في صُورتِه مرَّتينِ)[1]، وفي غيرهما كان يتمثل له في صور شتى، منها: صورة دحيةَ الكلبيِّ[2]؛ وذلك لأن الملائكة جنسٌ جعلهم الله من الغيب، ونحن لا نؤمن بهم إلا لأن الله الذي آمنَّا به أخبرَ بأن له ملائكة، وكان جميع الرسل يرونهم في صورة بشر؛ كأضياف إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الذاريات: 24، 25]، وأضياف لوط عليه السلام في قوله عز وجل: ﴿ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 33]، وكالذين تسَوَّروا المحراب في قوله سبحانه: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 21، 22].

 

إن مِن بليغ حكمته تعالى وبديعِ صُنعه ودقة تدبيره: أن يجعل لكل شيء ما يناسبه ويؤدي إلى الغايةِ التي خُلِق لها، وأن يرسلَ لكل صِنف من الخلائق رسلاً منهم؛ كي ينتفع بعضهم من بعض، ويسهُلَ الخطابُ والتفاهم فيما بينهم، يرسل للملائكة ملَكًا، ويرسل للإنسان إنسانًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4]، وقال عز وجل يمتن على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ [آل عمران: 164]، وقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فإذا أراد أن يرسل للبشر ملَكًا جعله في شكل بشَر مثلهم؛ كي تأنَسَ به القلوب؛ كما في قصة المَلَكَيْنِ هاروتَ وماروتَ في قوله تعالى[3]: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ﴾ [البقرة: 102]، وليس في إنكار المشركين لبشرية الرسل أو اشتراطِهم الملَكيةَ فيهم إلا الجهلُ والتعنُّت؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 94، 95].

 

كل ذلك مقيَّد بما قسمه الحق سبحانه للناس من هداية أو ضلال؛ لأن قضية الإيمان والكفر معلَّقة بالإرادة الإلهية، والعبرة بالقسمة المقدَّرة في الغيب، وما يُغني البيانُ لدى فاقد البصر والبصيرة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ﴾ [الأنعام: 111].

 

ثم بيَّن عز وجل ما يؤُول إليه أمر المشركين المعاندين إن أُرسِلَ إليهم مَلَكٌ على صورة رجل آدمي فقال:

﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 9]؛ أي: لكان لهم في الملَك الذي ينزل إليهم على صورة بشر جدالٌ وتلبيسٌ وتخليطٌ؛ بغيةَ التشكيك فيه، ودحض حجيته، وتبرير تمسكهم بالكفر، ولانتحلوا شبهاتٍ أخرى يمليها عليهم عنادُهم وتعنُّتهم؛ كقولهم مثلاً للمَلَك إن رأوا منه معجزة: "إنها بقدرته الملَكية، ولو كنا مثلَك لفعَلْنا ذلك أيضًا"، أو لشكَّكوا في ملائكيَّته، أو نسبوه إلى الجن، أو وصَموه بالسِّحر، أو قالوا: "إنما هو بشرٌ لا مَلَك"، إلى غير ذلك من أوجه التلبيس الشيطانية، التي يُموِّهون بها على أنفسهم وأتباعهم، ويستُرُون بها عجزهم وعنادَهم، ولكان عاقبة ذلك منهم أن يغضَبَ الله عليهم، ويُركِسَهم في شبهاتهم، ويُلبسهم إياها، ويَكلهم إليها، ويدَعهم فيها إلى يوم القيامة، وتلك سنَّة الله تعالى في المصرِّين على الكفر، والمعتزين بالجحود والإنكار، نسأل اللهَ العفوَ والعافية.

 

إن هذه الردود السلبية، والشبهات المتهافتة التي دأب المشركون على مواجهةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بها كلما جاءهم بحجَّة قاطعة أو آية بيِّنة - كانت تترك أثرَها في نفسه، فيضِيق صدره، وينال منه الحزن والأسى؛ كما قال تعالى في الآية 12 من سورة هود: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12]؛ لذلك بعد أن بيَّن له الحقُّ سبحانه وتعالى سنَّته في دحضها، وعقابه لقائليها إن أُعطُوا ما سألوه لَجاجًا ومماحَكة ومحاولة سخريَّة به - ذكَّره بما لقيَه الرسلُ والأنبياء عليهم السلام قبله، وما واجَهَهم به أقوامهم من المجاهَرة بالخصومة والتكذيب والاستهزاء، وما كان من عقابهم على ذلك، فقال عز وجل:

﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10]، وهذه الآية الكريمة تعزيةٌ من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وتخفيفٌ عنه، وتسلية له عما يلقاه من تكذيب قومه؛ إذ جعل أسوتَه بالأنبياء قبله، ووعيدٌ في نفس الوقت للمستهزئين بالعذاب الذي حَلَّ بمن فعَلوا فِعلهم من قبلُ، وقد قُرِئت الآية عند حمزةَ وعاصم وأبي عمرو بكسر الدالِ في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ ﴾ على قاعدة التقاءِ الساكنينِ، وقرأها الباقون بالضمِّ: ﴿ وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ ﴾ على الإتباعِ، ولم يبالوا بالساكنِ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حصين.

 

ولفظ "الهُزُء" بضم الهاء والزاي، أو بضم الهاء وسكون الزاي هو السُّخريَّة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ [الفرقان: 41]، والاستهزاء: تعاطي الهزء والقيام به، أما قوله تعالى: ﴿ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ﴾ [الأنعام: 10] فحرف "الفاء" هنا للسَّببية؛ أي: بسبب هذا الاستهزاء نزَل ما نزل بالمستهزئين من العذاب، وأحاط بهم ﴿ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأنعام: 10]؛ أي: أحاط بهم عقابُ استهزائهم بالرسل، وسخريَّتِهم بالآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة التي رأوها وجحدوها، وطوَّقهم العذاب الذي حُذِّروا منه فاستهانوا به وسخِروا منه، وأُخِذوا في الدنيا بجرائمهم دون إمهالٍ أو إنظارٍ، كما كان شأن قوم صالح والناقة، وقوم نوح والطوفان، وما أصاب قوم شعيب وقوم هود...

 

إن ظاهرة السخريَّة والاستهزاء بالعقيدة الإسلامية ودعوتِها مطَّردةٌ في كل عصر، يرتكبها مجرمو كل قوم بُعِث فيهم رسول أو نبي، أو عُرِضت عليهم دعوة الإسلام، وقد حفل القرآن الكريم برصدها والتنديد بها، وتحذير المؤمنين من التأثر بها أو الضعف في مواجهتها، في آيات كثيرة منتثرة حسب سياقها وظروفها على مدار الفترتين المكية والمدنية، دليلاً على معاناة الرسول صلى الله عليه وسلم وصبرِه عليها طيلة حياته، وشَهادةً على جرائم أعدائه وأذاهم، وتربيةً لورَثة الأنبياء من العلماء والدعاة على الصبر والتحمُّل مهما تطاول بهم الزمان وبعُدت المسافات، أو عظُم البلاء واشتدت المحن؛ إذ ما دامت دعوةُ الإسلام حيةً فاعلة فلن ينقطع المكرُ بهم، أو السخريَّة برسولهم، أو الاستهزاء بعقيدتهم وتعاليمِ دينهم، وما عليهم إلا أن يصبِروا ويصابروا ويصدَعوا بالحق أينما كانوا، وحيثما حلُّوا أو ارتحلوا، غيرَ عابئين بالكارهين والمستهزئين؛ قال تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 94، 95]، وحسبُهم إن اشتدَّت بهم المِحن أن سنَّةَ الله في انتصار الحق وانزهاق الباطل ماضيةٌ لا تنقطعُ إلى يوم القيامة؛ قال عز وجل: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا * أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 43، 44]، ولهم المثَل فيما رُوي عما أصاب المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خمسةً من رؤساء أهلِ مكة، وهم:

الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب بن أسد أبو زمعة، والأسود بن عبديغوث، والحارث بن الطلاطلة من خزاعةَ، أهلَكهم اللهُ جميعًا قبل غزوة بدرٍ، في يوم واحد، كانوا يستهزئون برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويغمِزونه، فأتاه جبريلُ عليه السلام، فوقف به عند الكعبةِ وهم يطوفون به، فمر به الأسود بن عبديغوث، فأشار جبريلُ إلى بطنه، فاستسقى بطنُه فمات منه حَبَنًا[4]، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهِه بورقةٍ خضراء فعَمِي، ومر به الوليدُ بن المغيرة فأشار إلى جُرح في كعب رِجله كان قد أصابه قبل ذلك بيسير، فانتقض به فقتله، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمَص رِجله، فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شُبْرُمة[5]، فدخَلت في أخمَص رِجله شوكةٌ مات منها، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحًا[6] فقتَله، وفيهم أنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95].

 

لذلك كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مطمئنًّا إلى وعدِ الله بأنَّه سيَكفيه المستهزئين، فلم يحاولِ النَّيلَ منهم باليدِ أو اللِّسان، ولم يبعَث مَن ينتقم منهم أو يقطع ألسنتهم، بل وَكَلَهم إلى التفاعل العقدي والفكري مع آيات القرآن الكريم المُنزَّل؛ لأن الله كفاه شرهم أولاً، ولأن الإكراهَ في الدِّين طعنٌ في إيمان المُكْرَهِ عليه ثانيًا، بل كان صلى الله عليه وسلم يسارع لمساعدة المحتاجين ممن شتَموه أو هجَوْه أو حاولوا الاعتداء عليه، وقد روى الواقدي في مغازيه أن: (مغنِّية نوَّاحة تدعى سارة كانت مولاة لعمرو بن هاشمٍ بمكة، فيلقي عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغني به، وكانت قد قدِمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلب أن يصِلَها، وشكَتِ الحاجة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما كان لك في غنائك ونياحك ما يُغْنِيك؟!))، فقالت: يا محمد، إن قريشًا منذ قُتِل مَن قُتل منهم ببدرٍ تركوا سماع الغناء، فوصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقر لها بعيرًا طعامًا، فرجعت إلى قريش وهي على دِينها، وكذلك الحال في أمر عبدالله بن خَطَل، الذي ارتدَّ بعد إسلامه بعد أن ابتعثه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقةِ إلى قومه لدعوتهم صحبةَ رجلٍ مسلم من خزاعة، فقتله وارتد وساق ما أخذ من الصدقة إلى مكة، واتخذ في بيته مغنيتين يُلقي لهما بالهجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغنيانه، ويدخل عليه وعلى المغنيتين المشركون فيشربون الخمر، وتغنيان بهجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرسِلْ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن يكفُّهم ولو بكلمة، إلى أن قتل ابن خطل وإحدى المغنيتين وهما يحاربان مع المشركين في فتح مكة، أما المغنية الثانية فاستؤمن لها، ثم آمنَتْ وعاشت حتى كُسِر ضلع من أضلاعها زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقضى فيها عثمان ثمانية آلاف درهم، ستة آلاف ديتها، وألفين تغليظًا للجرم.

 

ولئن كانت السنَّة المطَّردة في المستهزئين والمكذبين أن يحيقَ بهم عقابُ استهزائهم وتكذيبهم، فقد أمر الحقُّ سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم بأن ينبهَ مشركي قريش مِن غفلتهم، ويوضح لهم عاقبة تصرفاتهم النَّزِقة، وأعمالهم الطائشة، واعتزازهم بالإثم والعدوان، فقال تعالى:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 11]؛ أي: قل - يا محمد - للمكذبين والمستهزئين من قومك: استعرضوا أخبار الأمم والشعوب قبلكم، في ظَعْنِهم وإقامتهم، وفي آثارهم وأخبارهم؛ لتطلعوا على مصارعِهم، ودمار ديارهم، وعاقبة أمرهم في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة.

 

فإذا استوعبوا ما نبَّهْتَهم له، فتدرَّجْ بهم إلى الإيمان والتوحيد خطوة ثانية بسؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ على نسيانهم ربهم الذي خلق السموات والأرض وما فيهن: ﴿ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 12]، فإن تلجلجوا في الجواب فذكِّرهم بما نسُوا أو تناسَوْا، وقرِّر لهم مِلكِيَّةَ ذلك كله لله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 12]، كل ذلك لله؛ خَلْقًا ومِلكًا وتدبيرًا ورعايةً وعنايةً وتقديرًا وحِفظًا وتسخيرًا، وهذا يقتضي من العقلاء إفرادَه تعالى بالألوهية والربوبية، والولاء والعبادة، والتعلُّقَ به؛ محبةً ورغَبًا ورهَبًا ورجاءً وتوكُّلاً، والتوجُّهَ له بجميعِ أعمال القلوب التي هي المقصودُ الأعظم والرُّكن الأكبرُ من الدِّين.

 

ثم تدرَّجْ بهم خطوة أخرى إلى استشعارِ رحمةِ الله الشاملةِ، والاطمئنان إليها، وأخبرهم أن الله: ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 12]، كتَبها سبحانه وتعالى على نفسِه بإرادته ومشيئته واختياره، فضلاً منه ونعمة، وجعلها تسبق غضبَه، وتسَعُ العالَمين؛ فقال: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وبشَّر بها المُذنِبين من عباده المؤمنين فقال: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشِه: إِنَّ رحمتي سَبَقَتْ غَضَبي))، وفي حديث البخاريِّ ومسلمٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن للهِ مائةَ رحمةٍ، أنزَل منها رحمةً واحدةً بين الجِنِّ والإنسِ والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطَفونَ، وبها يتراحمُونَ، وبها تعطِفُ الوحشُ على ولَدِها، وأخَّرَ اللهُ تِسْعًا وتسعينَ رحمةً، يرحَمُ بها عبادَه يوم القيامةِ))، فما أشقى مَن لم تسَعْه هذه الرَّحماتُ!

 

ثم تدرَّجْ بهم إلى الإيمانِ باليوم الآخر، وحساب يوم القيامة، والتحذير منه، بقولك لهم: ﴿ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [الأنعام: 12]؛ أي: إنه تعالى إذ كتَب على نفسه الرحمة، كتب أيضًا على نفسِه رحمةً أخرى، هي البعثُ والحشر؛ إذ البعثُ بعد الموت رحمةٌ منه تعالى؛ لأنه إعادةٌ للحياةِ بعد الموت، تدلُّ على قدرتِه عز وجل، واستحقاقِه الألوهيةَ والربوبيةَ والعبادةَ؛ قال تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 28]، والحشر كذلك رحمةٌ، يُقام به العدلُ بين الناس وفيهم؛ كيلا يتظالَموا في الدنيا، ولا يعتَدُوا بشِرْكٍ أو كفرٍ أو عدوان، وكي ينال المحسنُ أجرَه، والمسيءُ جزاءَه، تحت مظلة عدلٍ لا يضِيعُ به عمَلُ عامل، ورحمةٍ تجزي الحسنةَ بعَشْر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، ولا تجزي السيئة إلا بمثلِها، والله يتجاوزُ عمن يشاء.

 

ثم تدرَّجْ بهم خطوة أخرى إلى التخويفِ مِن الخسران يوم القيامة، وبيِّنْ مَن وُجِّهَ إليهم هذا التحذيرُ والوعيد، وهم: ﴿ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 12]؛ أي: إن التحذيرَ والوعيدَ في الآيات السابقة موجَّهانِ لكل الذين أشركوا فخسِروا أنفسهم وغبَنوها باختيارهم طريقَ جهنَّمَ، وأعظمُ مِن خسرانِ أنفسهم خسرانُ رحمةِ ربهم؛ لأنها إن كانت في الدنيا لجميع الناس، فإنها في الآخرة لِمَن لم يُشرِك بالله شيئًا.

 

لقد استوعبت هذه الآياتُ الكريمة - على وجازتها - منهجًا رصينًا لدعوة غيرِ المؤمنين إلى الإيمان بالله تعالى وحده، والتعلُّق به وحده؛ موالاةً ورهَبًا ورغَبًا وخوفًا ورجاءً وتوكُّلاً وطمَعًا، وإلى محبته خالقًا رحيمًا ومالكًا حليمًا ومدبِّرًا للكون حكيمًا، ومُهَيمنًا عليه قديرًا قاهرًا، وحاكمًا بين الخَلْقِ يوم القيامة بعدلِه وعزَّته ورحمتِه، فلله الحمدُ في كل حالٍ وحين، له الحمد إذ خلَق ورزَق وآوى، وكسا وأطعَم ورحِم، وأغنى بعد فقرٍ، وآمَن بعد خوف، وشفَى بعد مرَض، وقوَّى بعد ضعفٍ، وعفا عن ذنب، وتجاوز عن إساءة، وهَدَى بعد ضلالة، وأعزَّ بعد ذِلَّة، وثبَّت على الحق إذ أبلَغَنَاهُ نبيُّه وصفيُّه محمدٌ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم.



[1] رآه المرة الأولى على الصورة التي خلَقه الله عليها، له ستمائة جَناح، بالبطحاء في مكة المكرمة، فغُشِي عليه، وهي المذكورة في قوله: ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 5 - 10]، وأما الثانية فكانت في السماء ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 13 - 18].

[2] دِحيَة بن خليفة بن فروة بن فَضالة الكلبي، صحابي جليل، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومبعوثه رسولاً إلى القيصر، كان يُضرَب به المثَل في حُسن الهيئة وجمال الصورة، وكان جبريل عليه السلام ينزل أحيانًا على صورته، قالت أم سلمة رضي الله عنها: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحدِّث رجلاً، فلما قام، قال: ((يا أم سلمة، من هذا؟))، فقلت: دِحية الكلبي، فلم أعلَمْ أنه جبريل حتى سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث أصحابه ما كان بيننا، وعن أنس رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((يأتيني جبريلُ في صورة دِحيةَ))، ويقول: ((أشبهُ مَن رأيت بجبريل: دحيةُ الكلبي)).

بعد مشاركة دحيةَ رضي الله عنه في معركة اليرموك، اتخذ من المزَّة قرب دمشق مقامًا له إلى أن وافَتْه المنية في خلافة معاوية رضي الله عنه، وقد كانت سكناه وإقامته في المزَّة، وكانت قرية صغيرة من ضواحي مدينة دمشق، ثم صارت اليوم جزءًا منها، مما يرجح صحةَ نسبة القبر المنسوب إليه فيها بمنطقة الشيخ سعد بالمزَّة.

[3] يرجع إلى شرح قضية هاروت وماروت إلى تفسيري لسورة البقرة المجلد الأول.

[4] الحَبَن: انتفاخ البطن وامتلاؤُه بالماء الأصفر.

[5] الشُّبْرُمَة: نبات حجازي له شوك، ضرب من الشيح.

[6] امتخط: سال منه القَيْحُ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الاستهزاء بالدين
  • الاستهزاء بالدين وأصحابه
  • بين الاقتداء والاستهزاء
  • الاستهزاء بالله أو بشرعه أو برسله
  • قصص من عقوبات المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم
  • إني أعظك أن تكون من الجاهلين

مختارات من الشبكة

  • خطورة الاستهزاء وصور من عقوبة المستهزئين بالسنة وأهلها ( قصص )(مقالة - ملفات خاصة)
  • الاستهزاء بالرسل (أتواصوا به)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستهزاء بالدين(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • خطر الاستهزاء بالدين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستهزاء بالدين ردة عنه، وغيبة المؤمنين نقص فيه (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستهزاء بالحجاب(استشارة - موقع د. صغير بن محمد الصغير)
  • الاستهزاء وأثره في الأطفال(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الاستهزاء والسخرية (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التزامي الديني سببا في الاستهزاء بي(استشارة - الاستشارات)
  • الاستهزاء بالدين(استشارة - الاستشارات)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 19/11/1446هـ - الساعة: 13:49
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب