• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    تفسير: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    الإسلام أمرنا بدعوة وجدال غير المسلمين بالحكمة ...
    الشيخ ندا أبو أحمد
  •  
    أسباب الحقد والطرق المؤدية له
    شعيب ناصري
  •  
    خطبة: أشبعوا شبابكم من الاحترام
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    وثلاث حثيات من حثيات ربي
    إبراهيم الدميجي
  •  
    ذكر الله يرطب اللسان
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    خطبة: الذكاء الاصطناعي
    د. فهد القرشي
  •  
    الجمع بين حديث "من مس ذكره فليتوضأ"، وحديث "إنما ...
    عبد السلام عبده المعبأ
  •  
    ألا إن سلعة الله غالية (خطبة)
    ساير بن هليل المسباح
  •  
    خطبة المولد
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    خطبة: فضل عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    النهي عن التشاؤم (خطبة)
    أحمد إبراهيم الجوني
  •  
    التقوى خير زاد
    د. عبد الرقيب الراشدي
  •  
    روايات عمرو بن شعيب عن جده: دراسة وتحقيق (PDF)
    د. غمدان بن أحمد شريح آل الشيخ
  •  
    الحمد لله (3) حمد الله تعالى نفسه
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    المؤمنون حقا (خطبة)
    الشيخ الحسين أشقرا
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية عشرة - الأخيرة) الإيمان خير ما بعث به الأنبياء، وخير ما ينفع الأمم

تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية عشرة - الأخيرة) الإيمان خير ما بعث به الأنبياء، وخير ما ينفع الأمم
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 20/8/2025 ميلادي - 26/2/1447 هجري

الزيارات: 184

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين

تفسير سورة يونس (الحلقة الثانية عشرة/ الأخيرة)

الإيمان خير ما بعث به الأنبياء، وخير ما ينفع الأمم

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، الإيمان خير ما بُعِث به الأنبياء، وخير ما ينفع الأمم.

قال الله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ * قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [يونس: 98 - 109].

 

سورة يونس بأسلوبها الواضح البين، وحبكتها اللغوية الصارمة، ومعانيها القاطعة، وبشاراتها النيرة ونذاراتها الحاسمة المرعبة، تعكس الجو الذي كان يعيشه الرسول صلى الله عليه وسلم بين المشركين، وهم يتحينون فرص التضييق عليه وعلى دعوته، وإرهاب المؤمنين بما أنزل عليه من الوحي، أو يحاولون التخلص منه بقتله أو حبسه أو إخراجه؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51]، وقوله عز وجل: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال: 30]، بينما هو مطمئن إلى ربه، بصير بعاقبة أمره ومصائر مكذبيه، لايستفزه اعتراضهم ولا يرهبه عدوانهم، يسير لما رسمه الله له بخطوات متزنة ثابتة، في طريق يعرفها، حدد له ربُّه معالمها، في ثنايا سورة مفصلية هي سورة يونس، أعذر فيها لمن رأى آياته بينة واضحة في السموات والأرض، وآياته محكمة في الوحي، قرآنًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكشف للناس فيها حقيقة الدنيا وحقائق الآخرة، وسبيل أهل الجنة وسبل أهل النار، وحقائق أخرى من العقيدة ينبغي استجلاؤها وتجليتها، والاستمساك بعُراها والعمل بمقتضاها، جعلها لهم فلاحًا ونجاحًا وولاية له سبحانه، في جنة عرضها السموات والأرض، وحذر فيها من موبقات مركسة في الشقاء الدائم والعذاب المقيم، لا يصح معها إيمان ولا يقبل بها عمل، وضرب المثل لكفار قريش في ذلك كله بأقوام سابقين غضب الله عليهم فدمرهم تدميرًا، منهم قوم نوح بقوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، ومن بعدهم قوم عاد وثمود وغيرهم، وقد فوتوا على أنفسهم فرص الإيمان وقال عنهم تعالى: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [يونس: 74]، فما كان لهم من مآل إلا عذاب الاستئصال ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 8]، وختم التذكير والتحذير لمشركي قريش بأمتين كانتا أشد عتوًّا على الخلق وضلالًا عن الطريق، وكفرانًا وخسرانًا، فقال عن أولاهما من قوم فرعون وملئه: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ [يونس: 75]، وكانت عاقبة أمرهم الاستئصال بالغرق وقول الله تعالى لزعيمهم: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]، وقوله عز وجل عن قومه: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 29]، وقال عن الأمة الثانية وهي أمة بني إسرائيل، إذ ختم لهم بالشتات والمسخ والسبي واللعن بعد الغلبة والعز والعمران والسلطان: ﴿ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [يونس: 93]، وبين أسباب لعنهم واستبدالهم بقوله تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79]، وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ﴾ [النساء:51- 52]، ثم استبدلوا بالنبوَّة الخاتمة، برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى لهم: ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴾ [البقرة: 41].


إن من سنن الله في بقاء الكائن الحي واستمراره في الدنيا أن تبقى فيه بذرة الحياة سليمة، أو قابلة للشفاء إن أصابها السقم، كما في حبة القمح إن سلم جنينها نمت وأخرجت سنابلها واستمر عطاؤها، وإن فسد جنينها لم تصلح إلا للطحن والأكل، وفي فطرة الإنسان كذلك، إن كانت سليمة أو قابلة للانصلاح صلح صاحبها أو كان قابلًا للانصلاح، وإن مُسخت تُوُدِّعَ منه، كذلك حياة الأمم، إن عمها الفساد وانسلخت من معالم الرشد كان مصيرها مصير هذه الأمم التي ضرب الله المثل بفسادها البالغ وتدميرها الأبلغ، ولو كانت فيها بذرة رشد وقابلية حياة إيمانية ما استؤصلت، كما استؤصل قوم ثمود بالصيحة؛ إذ قال تعالى: ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [هود: 67]، وقوم عاد قبلهم بقوله عز وجل: ﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة: 6 - 8]، وكما استؤصل قبلهم قوم نوح بالطوفان، وبعدهم فرعون وقومه بالغرق، وقد كانت بذرة الإيمان مفتقدةفي مجتمعاتهم؛ لذلك عقب سبحانه وتعالى على ذلك تعريضًا بكفار قريش وهم يتباطؤون عن الإيمان، ويتواطؤون للتخلص من المؤمنين؛ فحضهم على الإيمان وحذرهم من مصير الأمم قبلهم بقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ [يونس: 98].


وحرف "لولا" في هذه الآية حين يدخل على جملة اسمية كقولنا مثلًا: "لولا عناية الله لهلكنا"، تفيد أن امتناع هلاكنا كان بسبب وجود العناية الإلهية بنا، وحين يدخل على جملة فعلية كما في هذه الآية ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ﴾ [يونس: 98]، تكون أداة للتحضيض والحَثّ؛ لذلك قرأها أُبَيٌّ وابن مسعود: "فهلا"؛ أي: حبذا لو..، أو: ألَا ﴿ كانَتْ ﴾؛ أي: وجدت من بين تلك القرى التي هلكت ﴿ قَرْيَة آمَنَتْ ﴾ قرية واحدة أو طائفة واحدة آمنت، كما في قوله تعالى: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63]؛ أي: هلا نهاهم أحبارهم عن قول الزور وأكل الربا، ولكنهم لم ينهوهم، وقوله عز وجل: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 77]؛ أي: هلا أخَّرت عنا فريضة القتال في سبيل الله ولكن الله لم يؤخرها عنهم وكتبها عليهم.


والفاء في أول الآية استئنافية، و"لولا" حرف امتناع للوجود؛ أي: حبذا لو وجدت من بين تلك القرى قرية واحدة أو طائفة واحدة آمنت برسولها قبل نزول العذاب، وائتمرت بأمره، وانتهت بنهيه، وبشَّرت ببشارته، وأنذرت بنذارته، ونشرت دعوته، وورثتها للأجيال بعده ﴿ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ فنجت بإيمانها هذا من عذاب الاستئصال الذي نزل بها، ولكن لم تكن من بين تلك القرى قرية واحدة آمنت فحق القول عليها واستؤصلت، وهي إشارة واضحة لسنة الله السارية في دعوة أي أمة إلى الإسلام، إن بلغتها دعوته، وائتلفت حولها طائفة تحملها وتدعو بها، وتدافع عنها، وتبلغها، وتورثها لمن بعدها، نمت وأثمرت، وإن افتُقِدت هذه الطائفة أو عجزت أو تولت ذهبت ريحها وانفرط عقدها.


لذلك حضَّ القرآن الكريم المسلمين في كل أرض وفي كل عصر على أن تتفرغ من بينهم جماعة للدعوة إلى الإسلام عقيدةً وشريعةً وخلقًا حميدًا، فقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، وقال عز وجل: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم لَتَدْعُنَّهُ فلا يستجيب لكم))؛ بل وهدد تعالى صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستبدال إن تولوا ولم تبق فيهم مثل هذه الطائفة بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، وأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم التهديد بقوله: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب مِنْ شَرٍّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، فسألته زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث))، وأكَّد القرآن الكريم هذه المعاني كلها بقوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116، 117].


إن القرآن في نزوله المنجَّم كان يسير بسير دعوة الإسلام بين الناس، حذو القُذَّة بالقذة[1]، يرقب الأحداث والأحوال فيوجهها ويرشدها ويقومها، لذلك في الوقت الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه وهم مستعصون يتآمرون والقرآن ينزل تباعًا، بلاغًا وبشارةً ونذارةً، وهم في غيِّهم سادرون، ويضرب لهم المثل بقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وقد ذهبت ريحهم، فتح لهم باب الأمل في النجاة بقوم آخرين تابوا ونجوا من العذاب بفضل ما انبعث فيهم من بقية إيمان في طائفة تذكرت ما قال رسولها فندمت وتابت ونجت بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ ﴾، وحرف "إلا" في هذا السياق استثناء منقطع بمعنى "لكن"؛ أي: لكن قوم يونس لم يسيروا بسيرة القرى التي هلكت من قبل؛ لأنهم ﴿ لَمَّا آمَنُوا ﴾، لما ندموا على ما سبق من عصيانهم رسولهم وتابوا وأسلموا ﴿ كَشَفْنا عَنْهُمْ ﴾ رفع الله عنهم ﴿ عَذابَ الْخِزْيِ ﴾ والخزي لغةً: منتهى القهر والإذلال، من خزا الرجلُ الرجلَ يخزوه خزوًا إذا أذلَّه وقهره؛ أي: عفونا عنهم من العذاب المذل القاهر الذي كاد ينزل بهم ﴿ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ﴾ قبل الممات ﴿ وَمَتَّعْناهُمْ ﴾ في الدنيا ﴿ إِلى حِينٍ ﴾ إلى انقضاء أجلهم.


ويونس في هذه الآية الكريمة من أنبياء الله تعالى كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إذ آذاه قومه في مكة وذهب إلى الطائف يدعو أهله للإسلام فآذوه أيضًا ورموه بالحجارة حتى دميت قدماه فجلسَ قريبًا من حائط بستان فرآه صاحبا البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة وما لقي من السفهاء؛ فتحركت له رحمهما، ودعوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خُذْ قِطْفًا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله، إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((ومنْ أهل أيِّ البلاد أنت يا عدَّاس، وما دينك؟))، فقال: "نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى"؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى))، فقال له عدَّاس: "وما يدريك ما يونس بن متَّى؟"، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((ذاك أخي كان نبيًّا وأنا نبي))، فأكبَّ عدَّاس على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُقبِّل رأسه ويديه وقدميه.


وقوم يونس هم أهل نينوى، قرية من الموصل في العراق، وقد بعث فيهم يونس بن متى عليه السلام، فدعاهم إلى الإيمان بالله عز وجل، فكذبوه وبالغوا في التمرد عليه وإغضابه، فأنذرهم حلول عاجل العذاب بهم ثم ذهب عنهم مغاضبًا، وركب سفينة كما قال تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88]، وقال: ﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 141 - 144]، فلما رأى قومه بعد غيابه عنهم نذر العذاب رياحًا وعواصفَ تذكروا ما أنذرهم به يونس عليه السلام؛ فندموا وتابوا، فتاب الله عليهم، ورفع عنهم ما كاد يصيبهم، ونجوا من عذاب الخزي الذي حلَّ بغيرهم.


واكتفى السياق القرآني من قصتهم بذكر خاتمتها المقصود الاعتبار بها، وترك تفاصيلها الأخرى لتذكر في سياقات أخرى مناسبة من سور أخرى كسورة هود والأنبياء والقلم وغيرها.


ثم توجَّه الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويُخفِّف عنه ألم إعراض المشركين بقوله عز وجل: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يؤمن جميع قومه في مكة، مع أن الأمر ليس لأحد غير الله، الأمر معلق بمشيئته سبحانه، والقلوب بيده عز وجل يقلبها كيف يشاء، وقد خاطبه في آيات كثيرة بهذه الحقيقة الإيمانية تذكيرًا بها وتأكيدًا عليها رحمةً به وتخفيفًا عنه، كما في قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]، وذلك أن الله تعالى قد خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها، وهو الفعَّال لما يريد، مشيئته المتحكِّمة في الخلق والمحكَّمة بينهم، وما على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يواصل تبليغ رسالته، مطمئنًّا لما يكتبه ربُّه من أمر قومه المترددين بين الكفر والإيمان؛ لأن ذلك بيده عز وجل، لو شاء لجعلهم كلهم بشرًا مؤمنين أو ملائكة يفعلون ما يؤمرون كما قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾ [الزخرف: 60]، ولكن إرادته سبحانه أن يبتليهم بإعطائهم حرية الاختيار، ويضع في طريقهم سبل الخير والشر في الحياة الدنيا؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، ويبتليهم بالشيطان وأوليائه والأهواء وغلوائها، والدنيا وزينتها، تمييزًا للطيب فيهم من الخبيث، ولأهل الجنة من أهل النار، فتتجلَّى عدالة الله ورحمته وعزته فيهم يوم القيامة، ثم عاتبه ربُّه رحمة به، فقال سبحانه: ﴿ أَفَأَنْتَ ﴾، يا محمد ﴿ تُكْرِهُ النَّاسَ ﴾، بإلحاحك على قومك في مكة ﴿ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ كي يتحولوا من الكفر إلى الإيمان، والهمزة في أول قوله تعالى: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ ﴾ استفهام إنكاري للإكراه على الإيمان مطلقًا، وضمير المخاطب ﴿ أنْتَ ﴾ مبتدأ خبره الجملة الفعلية بعده ﴿ تُكْرِهُ النَّاسَ ﴾ من الفعل وضمير الفاعل والمفعول به.


إن الله يختار للإيمان من يشاء من عباده، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلحُّ على إسماع المشركين قراءته للقرآن في الحرم وفي الأسواق، وكلما التقى بهم أو سألوه شيئًا، ويجهد نفسه في دعوتهم إلى الإيمان بما كانوا يؤولونه محاولةً منه لإكراههم عليه؛ لذلك نهاه سبحانه وتعالى عن إجهاد نفسه من غير طائل؛ لأن طبيعة الإيمان لا تقبل أن يفرض على الناس، والاهتداء إليه من أمر الله ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ وحكمتِه وإرادتِه واصطفائِه لخيار خلقه، لا سيما وحقيقته انعقادُ قلب المرء على الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإعلانُه ذلك بلسانه حرًّا مختارًا غير مكره، ثم امتثالُه لما يقتضيه من العمل بالأحكام العملية الشرعية الخمسة وجوبًا وندبًا وإباحةً وكراهةً وتحريمًا، وهو بذلك تصوُّر اعتقادي ينشأ بإذن الله في قلب المؤمن بدون إكراه يتبعه عمل بمقتضاه؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، وهو تعالى أعلم بالقلوب المؤهلة له، والقلوب منها ما يحتفظ بفطرته السليمة العاقلة المميزة، ومنها ما ختم عليها بما أتلفه أصحابها من فطرتهم، فاختلَّ تفكيرهم، وأظلمت نفوسهم، فلا تجهد نفسك يا محمد بأكثر مما لا تطيق وبما ليس بيدك، بلغهم آيات الله وحقائق الإيمان وأحكام الإسلام، ثم دَعْهُم بيد خالقهم، فإنه أعلم بهم، يعلم داءهم ودواءهم، ﴿ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ ﴾، والرجس هو القَذَر والمستقذَر من كل شيء، والتصرف المستنكَر والمحرم من كل عمل، من الفعل "رجس"، فيقال: رجُس الرجل رجاسةً، ضد طهُرَ طهارةً؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33]، والرجس في هذه الآية هو الرجز في التعبير القرآني مطلقًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ [الأعراف: 135]؛ ويعني شديد العذاب وسوء المصير، يجعله ﴿ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ الذين أفسدوا فطرتهم فاختلَّت عقولهم واستسلموا لأهوائهم.


ثم رده تعالى إلى صميم دعوته الإيمانية تبليغًا وبشارةً ونذارةً بقوله عز وجل: ﴿ قُلِ ﴾ يا محمد لمشركي قريش ﴿ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ من الآيات الدالة على الله تعالى خلقًا وتدبيرًا وتنميةً وتدميرًا وإحياءً وإماتةً ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ ﴾، ولكن هذه الآيات كلها ﴿ وَالنُّذُرُ ﴾ ومعها ما أنذر الله به عباده وحذرهم منه، وما ذكرهم به من مصائر الأقوام الكافرة، لا تعفي أحدًا أو تنجيه من عذاب الله إن كفر، كما لا تكفي أحدًا للتخلُّص من العقاب كلما كان القضاء والسؤال يوم القيامة ﴿ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ عن مآل قوم عطلوا عقولهم، وأفسدوا فطرتهم، وأصرُّوا على الشرك، فغضب الله عليهم عقابًا لهم وعدْلَ قضاءٍ فيهم، ثم بين تعالى حتمية هذا المآل منبهًا له ومحذرًا منه ومهددًا به بقوله: ﴿ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾؛ أي: إذا كان الأمر أيها الرسول مثلما قصصناه عليك من سنتنا في الذين ظلموا، فإن قومك لا ينتظرون في مستقبل أيامهم إلا مصير الأمم التي سبقتهم إلى الكفر، واستعصت مثلهم على الإيمان وضرب الله بهم مثلًا لهم في قوله تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾ [الفرقان: 37 - 39].


ثم ختم الوحي لهم القول الفصل متحديًا استعصاءهم بقوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد منذرًا ومهددًا: ﴿ فَانْتَظِرُوا ﴾ عقاب الله إن أصررتم وكفرتم ﴿ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ﴾ له واثقًا به وعلى بينة من وقوعه، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾، كما نجَّينا من قبل نوحًا ومن معه في السفينة وموسى وقومه من بطش فرعون وغيرهما من رسل الله وعباده الصالحين، وكما ننجي محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه من عدوانكم، وقد قرأ الجمهور: "نُنَجِّي المؤمنين" بفتح النون الثانية وتشديد الجيم، في حين قرأ الكسائي وحفص عن عاصم: "نُنْجِي المؤمنين" بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم من الإنجاء والمعنى واحد، ﴿ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ كما هي سنتنا في إنجاء الرسل وأتباعهم من المؤمنين.


لقد كان لازمًا لتمام التبليغ والبشارة والنذارة وإقامة الحجة بعد هذه الآيات البينات والعبر البالغات والأحداث الثابتات التي عرضتها سورة يونس، وتوجتها بإعلان سنة الله الأبدية في نصرة المؤمنين، أنى كانوا وأينما وجدوا، من التذكير بأصل العقد الذي بمقتضاه ينجيهم الله تعالى، وتحديد القضية التي عليهم الوفاء بها إذ قال لهم: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، وهي القضية المركزية المصيرية في حياة الإنسان، قضية تعبيد العباد لخالقهم، وردهم عن عبادة المخلوقين؛ ولذلك أمر الحق تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب قومه مسلمهم تثبيتًا وتعليمًا، وكافرهم تبصرةً وإحياءً لقلوبهم بقوله: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ في مكة، وفي أي زمان أو مكان يبلغه النداء ﴿ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ﴾ الذي هو الإسلام، فإني لا أشك فيه، موقن به، لا أتزحزح عنه، ولا أتأثر بمحاولاتكم صرفي عنه ولا عن الدعوة إليه ﴿ فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ﴾ فلن أعبد من دون الله ما تعبدونه من الأصنام والأوثان والأرواح أو الجن أو الإنس أو الملائكة أو غير ذلك من الأوهام والخيالات ﴿ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ ﴾ وحده ﴿ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ بالموت، ثم يحاسبكم يوم القيامة، ﴿ وَأُمِرْتُ ﴾ وقد أمرني ربي ﴿ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ من زمرة المؤمنين المسلمين، معهم لا أفارق صفَّهم ولا أخذلهم، في السراء والضراء وحين البأس.


بهذا النداء الرباني اتضحت أول مفردة في الإسلام علمًا وعملًا في الدنيا وحسابًا وجزاء في الآخرة، وهي العبادة التي نفى النبي صلى الله عليه وسلم بادئ ذي بدء عن نفسه التوجه بها لغير الله، وجعلها خالصةً له سبحانه، لا غبش فيها لا غموض ولا لبس، تغطي علاقته بربِّه في كل أحواله.


والعبادة لغةً من فعل "عبد"، وله معنيان، أولهما: يدل على قوة وصلابة أو غضب شديد، فيقال: عبِد يعبَد، على وزن سلِم يسلَم، ومنه ما ذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال: "عبِدت فصمَتُّ؛ أي: غضبت فسكتُّ، وثانيهما: يدل على لين وذل، ومنه تعبيد الطرق؛ أي: جعلها لينةً يسهل السير فيها، والفعل منه: عبَد يعبُد، وعَبَدَ اللَّهَ يَعْبُدُه عِبادَةً: أطاعه وخضع له معتقدًا أنه ربُّه وخالقه ومن بيده الأمر كله، والعبادة بذلك هي فعل العبد بما يأمره به معبوده، و"العبد" مطلقًا في المفهوم الإسلامي هو الإِنسان، حُرًّا كَانَ أَو رَقِيقًا؛ لأنه مَرْبُوبٌ لله تعالى، وجميع ما في الكون عباد له سبحانه لقوله تعالى: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، ومنه العبودية، وتعني في الإسلام للمرء اليقين التام بأنه عبد لله، والتصور الواضح للخضوع الاختياري الرضائي والانقياد التام الناجز للمولى عز وجل، من اتصف بها هو العبد الحق لله تعالى، ومن تسمى بها فقد عرف قدره ولزمه ونال حُسْنى الدارين؛ لذلك لا يجوز أن يقول الرجل لغيره: عبدي أو أَمَتي، لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبدِي وَأمتِي، كلكُمْ عباد اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ))، كما لا يجوز أن يدعو المرء نفسه بغير ما سمَّاه الله به، وهو بذلك دائمًا، عبد الله وهو المسلم وهو المؤمن؛ لقوله تعالى: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((فَادْعُوا بِدَعْوَى الله الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله))، كما يستحب أن يتسمَّى المرء أو يسمي ولده بما ينسبه لعبودية الله تعالى؛ لما رواه مسلم وغيره أنه قال: ((أحَبُّ الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن)).


ثم ثنَّى الحق تعالى بالمفردة الثانية التي لا تقبل بدون عبودية، ولا تقبل عبودية بدونها في التصور الإسلامي السليم، وهي الإيمان في قوله تعالى: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي مؤمنًا مع كل من آمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا، منهم وفي صفهم مغنمًا ومغرمًا في الحياة وفي الممات.


ولفظ الإيمان من الفعل "أمن"، وهو من الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان كما قال ابن فارس في معجمه، أولهما: الأمانة ضد الخيانة، والثاني: التصديق من قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ﴾ [يوسف: 17]؛ أَيْ: بمُصَدِّقٍ لَنَا، والمؤمن بذلك هو من صدق بالله ربًّا وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم رسولًا خاتمًا، وصدق بما أخبر به من الغيب بدون ريب أو تردُّد، وحيًا في القرآن وأحكامًا من السنة وأخبارًا عن الدنيا والآخرة كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15] وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15]، وفي حديث جبريل عليه السلام أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: (الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُؤْمِنٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نَعَمْ)).


ثم توجَّه الوحي الكريم إلى تجلية العبادة إيمانًا بالقلب وعملًا بالجوارح، واقعًا حيًّا على الأرض وتطبيقًا عمليًّا في الحياة، فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ﴾؛ أي: انهض بنفسك وبكامل طاقتك للقيام بأحكام الدين والدعوة إليه ﴿ حَنِيفًا ﴾ من الحَنَف، وهو عيب في رجلي المرء بميل إحداهما إلى الأخرى من جهة الإبهام، وإقبال كل منهما على الأخرى، فيقال له: رَجُلٌ أَحْنَفُ، ورِجْلٌ حَنْفاءُ، ومنه ميل المرء أو إعراضه عن الشيء، أو عن الطريق، فيقال للمقبل على عبادة الله المعرض عن عبادة غيره: "حنيف"؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]؛ أي: معرضًا عن مِلَل اليهود والنصارى وعبادة الأوثان ﴿ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ الذين يشركون بالله في معتقداتهم أو عباداتهم، أو معاملاتهم، وبدأ بأبرز معالم الشرك في حياة المرء؛ وهي التوجُّه بالدعاء لغير الله، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ﴾ والدعاء لغةً هو الرغبة إلى الغير، وأن تُميل أحدًا إليك، أو تسأله شيئًا، بصوت أو بكلام أو إشارة، تصريحًا أو تعريضًا، وهو في كل الأحوال شبهة افتقار الداعي إلى المدعو، لجلب منفعة أو دفع مضرة، ولا جالب لمنفعة أو دافع لمضرة إلا الله؛ لذلك كان الدعاء عبادة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))، وقال: ((أفضل العبادة الدعاء))، وقال: ((إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء))، ثم زاد تعالى أمره بعدم دعوة ما لا ينفع ولا يضر بيانًا في سياق آخر فقال: ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، فنزَّه المؤمن عن دعاء غيره، وأمره ألا يدعو في جميع حالاته إلا الله، في حالات الضعف أو الافتقار أو الخوف أو المرض؛ لأنه سبحانه القوي الغني المؤمن القادر المقتدر، بيده مقاليد الدنيا والآخرة، ولأن الدعاء استغناء بالمدعو عن غيره فهو استغناء بدعاء الله عن دعاء غيره، وتمجيد لربه وثناء عليه واستعلاء به على غيره؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139]، ولأنه من العبد تعهد بالصلاح والتزام بالإصلاح ونبذ للعدوان والظلم، فقد قال تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55، 56]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه علي رضي الله عنه: (أكثر دعاء الأنبياء قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير)، ثم حذر تعالى من مخالفة أمره بدعاء غيره فقال: ﴿ فَإِنْ فَعَلْتَ ﴾، فدعوت غير الله ﴿ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: فقد ظلمت نفسك بالافتئات على الله، ونسبة القدرة على النفع والضرر لغيره، ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ ابتلاءً واختبارًا، ﴿ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ﴾؛ لأنه سبحانه القادر على رفعه لا غيره ﴿ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ ﴾ تفضلًا وإنعامًا ﴿ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ﴾ فلا معترض على إرادته، ولا رادَّ لعطائه، ولا مانع لما حبا به عباده ﴿ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾؛ لأن مشيئته تعالى مطلقة، وهو الفعَّال لما يريد، النافع الضار، يبتلي بالخير والشر من يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ وفي كل أحوال عطائه ومنعه وأحوال عباده في تلقي عطائه ومعاناة بلائه يغفر ذنوبهم، ويرحم ضعفهم.


ثم توجَّ سبحانه وتعالى هذه المبادئ الأساسية في الإسلام عقيدةً وعملًا، تصورًا إيمانيًّا وسعيًا عمليًّا في الحياة بعنوانها العريض، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ قم يا محمد في الناس مشركين في مكة، وأجمعين في كل عصر إلى يوم القيامة وقل لهم: ﴿ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ قد أبلغتكم من الله الدين الحق تصورًا إيمانيًّا سليمًا وعبادة صحيحة وسعيًا في الأرض مأجورًا ﴿ فَمَنِ اهْتَدَى ﴾ للحق ﴿ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ﴾؛ لأنه يجني ثماره سعادةً في الدنيا ونعيمًا في الآخرة ﴿ وَمَنْ ضَلَّ ﴾ عن الحق وأعرض عنه ﴿ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾؛ لأن وبال ضلاله راجع عليه ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ لأجبركم على الهدى أو أحميكم من غضب الله وعقابه.


وختمت هذه السورة المباركة بالتوجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يثبته ربه سبحانه على الحق في مواجهة اعتراض المشركين ومحاولاتهم التشكيك فيما جاءهم به من الوحي؛ كما في مستهل هذه السورة المباركة بقوله تعالى: ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ﴾ [يونس: 1، 2]، تمهيدًا لما يعدونه في الخفاء للتخلص منه صلى الله عليه وسلم بالقتل أو الاغتيال أو الحبس والاعتقال، وقد أرسل بعض أصحابه مهاجرين إلى الحبشة، وسأل ربه عز وجل الإذن بالهجرة إلى المدينة، فقال لهيطمئنه ويثبته: ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الحق في القرآن ﴿ وَاصْبِرْ ﴾ على ما أصابك أو يصيبك من المشركين ﴿ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ في أمر دعوتك ومسار سعيك بين قومك ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ خير من يحكم في أمرك وأمر أُمَّتك والخلائق أجمعين.



[1] القُذَّةُ: هي الرِّيشةُ التي يُراشُ بها السَّهْمُ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة الأنفال (الحلقة الثامنة) سياسة السلم والحرب والعهود وفاء أو نقضا أو نبذا
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثامنة) نشأة النفاق في المجتمع الإسلامي الأول
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الحادية عشرة) المنافقون حسدة بخلاء لمازون
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية عشرة) منافقون ذوو طول سفهاء وأعراب حول المدينة جبناء
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة) حكمة الوحي وتصنيفه للمجتمع الإسلامي في آخر عهد النبوة
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الرابعة عشرة) الجهاد جهادان، بالقرآن وبالسنان
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة عشرة - الأخيرة) بالقرآن يتميز الصادق عن المنافق
  • تفسير سورة يونس (الحلقة السابعة) ثلاث حقائق من الإيمان بدونها ينتقض
  • تفسير سورة يونس (الحلقة الثامنة) مأدبة الله لأوليائه في الدنيا بين الشاكرين والجاحدين
  • تفسير سورة يونس (الحلقة التاسعة) رسالتا نوح وموسى: دعوة واحدة بظرفين ومنهجين مختلفين
  • تفسير سورة يونس (الحلقة الحادية عشرة) مسيرة بني إسرائيل عظة لأمة الإسلام فهل تتعظ؟

مختارات من الشبكة

  • 57 متسابقا يشاركون في المسابقة الرابعة عشرة لحفظ القرآن في بلغاريا(مقالة - المسلمون في العالم)
  • المحطة التاسعة عشرة: الصبر(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • برينجافور تحتفل بالذكرى الـ 19 لافتتاح مسجدها التاريخي(مقالة - المسلمون في العالم)
  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التسبيح في سورة (ق) تفسيره ووصية النبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من مائدة التفسير: سورة الكوثر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مائدة التفسير: سورة الماعون(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار...)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بعد ست سنوات من البناء.. افتتاح مسجد أوبليتشاني في توميسلافغراد
  • مدينة نازران تستضيف المسابقة الدولية الثانية للقرآن الكريم في إنغوشيا
  • الشعر والمقالات محاور مسابقة "المسجد في حياتي 2025" في بلغاريا
  • كوبريس تستعد لافتتاح مسجد رافنو بعد 85 عاما من الانتظار
  • 57 متسابقا يشاركون في المسابقة الرابعة عشرة لحفظ القرآن في بلغاريا
  • طلاب هارفارد المسلمون يحصلون على مصلى جديد ودائم بحلول هذا الخريف
  • المعرض الرابع للمسلمين الصم بمدينة دالاس الأمريكية
  • كاتشابوري تحتفل ببداية مشروع مسجد جديد في الجبل الأسود

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 27/2/1447هـ - الساعة: 9:48
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب