• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أسوة حسنة (خطبة)
    أحمد بن علوان السهيمي
  •  
    إذا استنار العقل بالعلم أنار الدنيا والآخرة
    السيد مراد سلامة
  •  
    خطبة: أم سليم صبر وإيمان يذهلان القلوب (2)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    تحريم أكل ما ذبح أو أهل به لغير الله تعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    الكبر
    د. شريف فوزي سلطان
  •  
    الفرق بين إفساد الميزان وإخساره
    د. نبيه فرج الحصري
  •  
    مهمة النبي عند المستشرقين
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (3)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    ماذا سيخسر العالم بموتك؟ (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    فقه الطهارة والصلاة والصيام للأطفال
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    ثمرة محبة الله للعبد (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    خطبة: القلق من المستقبل
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    فوائد وعبر من قصة يوشع بن نون عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    خطبة: المخدرات والمسكرات
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    {وما النصر إلا من عند الله} ورسائل للمسلمين
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الرزاق، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير آيات الصيام من سورة البقرة (PDF)

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

عدد الصفحات:17
عدد المجلدات:1

تاريخ الإضافة: 11/4/2023 ميلادي - 20/9/1444 هجري

الزيارات: 17990

 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تحميل ملف الكتاب

 

تفسير آيات الصيام من سورة البقرة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ﴾ فُرِضَ ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾،

وَهُوَ لَغَةً: الْإِمْسَاكُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَرْيَمَ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ [مريم: 26]؛ أَيْ: سُكُوتًا عَنِ الْكَلَامِ.[1]


وَأَمَّا الصِّيامُ في لِسانِ الشَّرْعِ فَهُوَ: التَّعَبُّدُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ[2].

﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مِنَ الْأُمَمِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ قَدِيَمةٌ.

 

﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّ الصَّوْمَ فِيهِ تَضْيِيقٌ لِمَسَالِكِ الشَّيْطَانِ وَيَكْسِرُ أَيْضًا الشَّهْوَةَ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ –رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" [3].

 

وَالْآيَةُ فِيهَا فَرْضُ الصَّوْمِ، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلاَمِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهُ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ"[4].وَكَمَا فِي حَدِيث جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَشْهُورِ الَّذِي خَرَّجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وفيه: "أَخْبِرنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا"[5].

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: أَنَّ الصِّيَامَ يُرَبِّي مَلَكَةَ التَّقْوَى فِي الْمُؤْمِنِ لِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

♦♦♦♦♦

 

﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 184].

 

﴿أَيَّامًا﴾ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّقْدِيرُ صُومُوا أَيَّامًا ﴿مَّعْدُودَاتٍ﴾؛ أَيْ: قَلِيلاَتٍ أَوْ مُؤَقَّتَاتٍ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَلَّلَهَا تَسْهِيلًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَهِيَ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ[6]، فَصَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ إِجْمَاعًا.[7]


﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ﴾ حِينَ شُهُوَدِهِ ﴿مَّرِيضًا﴾ مَرَضًا يَشُقُّ مَعَهُ الصَّوْمُ، ﴿أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ﴾؛ أَيْ: أَوْ كَانَ مُسَافِرًا سَفَرَ قَصْرٍ فَأَفْطَرَ ﴿فَعِدَّةٌ﴾ فَعَلَيْهِ عِدَّةُ مَا أَفْطَرَ ﴿مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾؛ أَيْ: غَيْرَ رَمَضَانَ إِذَا زَالَ عُذْرُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ.

 

﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾؛ أَيْ: يَسْتَطِيعُونَ الصِّيَامَ وَلَمْ يَصُومُوا ﴿فِدْيَةٌ﴾ هِيَ ﴿طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾؛ أَيْ: قَدْرَ مَا يَأْكُلُهُ فِي يَوْمِهِ. وَمِقْدَارُهُ -عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ- مُدٌّ مِنَ الْبُرِّ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ.[8].


وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ مَعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: أَرَى أَنَّ مُدًّا وَاحِدًا مِنْ هَذَا الْحَبِّ أَوْ الْقَمْحِ يَعْدِلُ مُدَّيْنِ مِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ[9]. وَالْمُدُّ: مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الْكَفَّيْنِ، وَالصَّاعُ: أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ.


وَالْقَوْلُ الثَّانِي-وَهُوَ الْأَقْرَبُ-أَنَّهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنَ الْبُرِّ أَوْ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ»[10]، وَكَانَوا مُخَيَّرِينَ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا وَيَفْتَدُوا ثُمَّ نُسِخَ التَّخْيِيرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فمَن شَهِدَ مِنكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رضي الله عنها- أَنَّهُ قَالَ:" لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ يَفْتَدِي، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا"[11]. وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ هُوَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالْمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لاَ يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا»[12].

 

﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ بِالزِّيادَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْفِدْيَةِ فَأَطْعَمَ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ ﴿فَهُوَ﴾؛ أَيْ: التَّطَوُّعُ ﴿خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾؛ أَيْ: الصِّيَامُ أَفْضَلُ وَأَوْلَى مِنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ، ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةٌ جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الصِّيَامَ خَيْرٌ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ.

 

وَفِي الْآيَةِ: أَنَّ الصِّيَامَ أَوَّلُ مَا شُرِعَ كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ لِتَوْطِينِ النُّفُوسِ عَلَيْهِ.

 

وَفِيهَا أَيْضًا: أَنَّ الْكَبِيرَ الْعَاجِزَ عَنِ الصَّوْمِ أَوِ الْمَرِيضَ مَرَضاً لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُلْحَقُ بِالْكَبِيرِ وَالْمَرِيضِ مَرَضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ: الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا فَقَطْ فَيُفْطِرَانِ وَيَفْدِيَانِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَيَقْضِيَانِ، أَمَّا إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَوَلَدَيْهِمَا فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمَا وَالْحَالُ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ، وَالْمَرِيضُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ[13]، وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

♦♦♦♦♦


﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185].

 

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: "تِلْكَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ".

 

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1]، وَقَالَ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [الدخان: 3]، ثُمَّ تَتَابَعَ نُزُولُهُ مُفَرَّقًا خِلَالَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، حَسَبَ الْوَقَائِعِ وَالْأَحْدَاثِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [الفرقان: 32-33]، ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ يَهْتَدُونَ بِهِ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].

 

﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾؛ أَيْ: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49].

 

﴿مِّنَ الْهُدَىٰ﴾ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾؛ أَيْ: الْمُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

 

﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قَوْلُهُ: ﴿شَهِدَ﴾؛ أَيْ: حَضَرَ، وَ"مَنْ" شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ وَهَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].

 

﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 185] تَقَدَّمَ مِثْلُهُ وكُرِّرَ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ مَنْسُوخَةٌ، كَمَا نُسِخَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.

 

﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾؛ أَيْ: يُحِبُّ اللَّهُ لَكُمْ التَّيْسِيرَ وَالتَّخْفِيفَ ﴿وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ الْمَشَقَّةَ، وَلِذَا أَبَاحَ لَكُمْ الْفِطْرَ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. ﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾؛ أَيْ: وَلتُتِمُّوا ﴿الْعِدَّةَ﴾؛ أَيْ: عِدَّةَ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضانَ ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾؛ أَيْ: تُعَظِّمُوهُ عِنْدَ إِكْمَالِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِ: "اللَّه أَكْبَرُ" لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيْومِهِ إِلَى صَلَاِة الْعِيدِ ﴿عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ﴾ أَرْشَدَكُمْ لِمَعَالِمِ دِينِهِ وَوَفَّقَكُمْ لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ اللَّهَ تَعَالَى بِقُلُوبِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ.

 

وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ مِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خِلَافًا لِلْمَعَتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾.

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: أَنَّ مَقْصَدَ الشَّارِعِ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ هُوَ هِدَايَةُ النَّاسِ وَإِرْشَادُهُمْ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَيْضًا فَارِقًا لَهُمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي كُلِّ شُؤُونِ الْحَيَاةِ.

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: أَنَّ الصِّيَامَ إِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ ثُبُوتِ دُخُولِ الشَّهْرِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

 

وَفِيهَا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ، وَلَمْ يَكُنْ أَفْطَرَهُ لِعُذْرٍ.

 

وَفِيهَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ الشَّهْرَ بَعْدُ,

وَفِي الْآيَةِ: أَيْضًا جَوَازُ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَلَوْ لَمْ يَجِدَا مَشَقَّةً.

وَفِي الْآيَةِ: وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

وَفِيهَا أَيْضًا: جَوَازُ الْقَضَاءِ مُتَتَابِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا؛ لِقَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ وهَذَا مُطْلَقٌ، لَمْ يُقَيَّدْ بِالتَّتَابُعِ.

 

وَفِيهَا أَيْضًا جَوَازُ تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ إِلَى رَمَضَانَ آخَرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ مَثَلًا فَلَا يَلْزَمُهُ سِوَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَكَرُوا بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ إِطْعَامٌ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.

 

وَفِيهَا أَيْضًا: وُجُوبُ إِكْمَالِ عِدَّةِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ، وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصوُلِيَّةِ الْكُبْرَى "الْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ",

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: دَلِيلٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ الْكُبْرَى: "الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ" لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾.

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: تَكْبِيرُ اللَّهِ وَشُكْرُهُ عَلَى مَا أَتَمَّ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَبِسَبَبِ هِدَايَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمَهُ.

♦♦♦♦♦


﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

سَبَبُ نُزُولِ الآيةِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أقريبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ؟ فَأَنزَلَ اللَّهُ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي﴾.[14] وَأَضَافَهُمْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهُمْ.

 

﴿عَنِّي﴾ عَنْ قُرْبِي وَبُعْدِي، فَقُلْ لَهُمْ: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ مِنهُمْ أَطَّلِعُ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوْاعَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ. يَا عَبْدَ اللَّه بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"[15].

 

وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تعالى:﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ أَنَّهُ فِي الْجَوَابِ لَمْ يَقُلْ: فَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي قَرِيبٌ، وَإِنَّمَا قَالَ:فَإِنِّي قَرِيبٌ تَنْبِيهًا عَلَى شِدَّةِ قُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ تَعَالَى فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ، وَلِهَذَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»[16].

 

﴿أُجِيبُ﴾ أَقْبَلُ ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ سَوَاءً دُعَاءُ عِبَادَةٍ كَالصِّيَامِ مَثَلًا فَأُثِيبُهُمْ عَلَيْهِ، أَوْ دُعَاءُ مَسْأَلَةٍ فَأُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا. ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾؛ أَيْ: فَلْيُطِيعُونِي بِامْتِثَالِ أَوَامِرِي، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِي ﴿وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ يُدَاوِمُوا عَلَى الْإِيمَانِ بِي وَبِوَحْيِي، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونََ﴾ يَهْتَدُونَ.

 

وَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي وَسَطِ آيَاتِ الصِّيَامِ، فَفِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصِّيَامَ مِنْ أَعْظَمِ أَوْقَاتِ الدُّعَاءِ وَمِنْ أَحْرَاهُ بِالْإِجَابَةِ، وَبِخَاصَّةٍ عِنْدَ الْإِفْطَارِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي دُعَاءِ الصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَهِيَ -مَعَ ضَعْفِهَا- إِلَّا أَنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا وَلاَ سِيَمَا مَعَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ.

 

وَفِي الْآيَةِ أَيْضًا: قُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِجَابَةِ دُعَائِهِمْ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِجَابَةِ لَهُ لِقَوْلِهِ: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ فَهُوَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ السُّؤَالَ وَالدُّعَاءَ بِالْقَبُولِ وَالْعَطَاءِ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيُغِيثُ الْمَلْهُوفَ إِذَا نَادَاهُ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَرْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ أَحِبَّائِهِ، وَكُلُّ الْخَلَائِقِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ، وَلَا قِوَامَ لِحَيَاتِهَا إِلَّا عَلَيْهِ، لَا مَلْجَأَ لَهَا مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾[الرحمن: 29]، فَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ تَصْمُدُ إِلَيْهِ وَتَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَمَعَ قُرْبِهِ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ قُرْبًا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَمَكَانَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ﴾[طه: 5[.

♦♦♦♦♦

 

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].


عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كانَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كانَ الرَّجُلُ صائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطارُ، فَنامَ قَبْلَ أنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولا يَومَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصارِيَّ كانَ صائِمًا، فَلَمّا حَضَرَ الإفْطارُ أتى امْرَأَتَهُ، فَقالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعامٌ؟ قالَتْ: لا ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَومَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْناهُ، فَجاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمّا رَأَتْهُ قالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمّا انْتَصَفَ النَّهارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ﴾ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، ونَزَلَتْ ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [17].

 

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا َيَقْرَبُونَ النِّسَاءَ، رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ؛ فَأَنزَلَ اللَّهُ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾[18].

 

﴿أُحِلَّ﴾؛ أَيْ: أَحَلَّ اللَّهُ ﴿لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ﴾ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ ﴿إِلَىٰ نِسَائِكُمْ﴾ زَوْجَاتِكُمْ. ﴿هُنَّ لِبَاسٌ﴾؛ أَيْ: سِتْرٌ ﴿لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ﴾؛ أَيْ: سِتْرٌ ﴿لَّهُنَّ﴾ وَالْعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ الْأَهْلِ بِالسِّتْرِ وَالِّلبَاسِ؛ لِأَنَّ كِلَا الزَّوْجَيْنِ يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ الْفُجُورِ وَيُغْنِيهِ عَنِ الْحَرَامِ، وَكَمَا أَنَّ الِّلبَاسَ سِتْرٌ لِعَوْرَةِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26] فَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا سِتْرٌ لِعَوْرَاتِ صَاحِبِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هُنَّ سَكَنٌ لَكُمْ وَأَنْتَ سَكَنٌ لَهُنَّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، وَفِي هَذَا التَّعْبِيرِ الْقُرْآنِيِّ الْبَدِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الَّلطَافَةِ وَالْأَدَبِ وَسُمُوِّ التَّصْوِيرِ لِمَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّصَالِ وَالْمَوَدَّةِ وَالتَّآلُفِ وَالتَّقَارُبِ وَاسْتِتَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ حَتَّى يُصْبِحَا كَجَسَدٍ وَرُوحٍ وَقَلْبٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ اجْتَمَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ لِلْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ مَا اسْتَطَاعُوا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ فِي أَبْلَغِ وَصْفٍ وَأَجْمَلِ مَعْنًى وَأَخْصَرِ عِبَارَةٍ فَتَأَمَّلْهُ حَقَّ التَّأَمُّلِ.

 

﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ﴾ تَخُونُونَ وَتَظْلِمُونَ ﴿أَنفُسَكُمْ﴾ بِالْجِماعِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ ﴿وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ﴾ إِذْ أُحِلَّ لَكُمْ ﴿بَاشِرُوهُنَّ﴾ جَامِعُوهُنَّ ﴿وَابْتَغُوا﴾ اُطْلُبُوا ﴿مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أَيْ: مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْوَلَدِ.

 

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَالْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ ﴿حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ﴾ يَظْهَرَ جَلِيًّا ﴿لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ﴾ نُورُ الْفَجْرِ الْمُمْتَدُّ فِي الْأُفُقِ كَالْخَيْطِ ﴿مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ سَوَادِ الَّليْلِ الْمُمْتَدِّ بِجَانِبِ بَيَاضِ النَّهَارِ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ بَيَانٌ وَتَوْضِيحٌ لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "أُنْزِلَتْ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ وَلَمْ يُنزِلْ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ وَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ، رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلَيْهِ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ، فَلَا يَزَالُ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا؛ فَأَنزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ فَعَلِمُوا أَنَّمَا يَعْنِي: اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ"[19].

 

وَلَهُمَا أَيْضًا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ﴾ عَمَدتُّ إِلَى عِقَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَسْوَدُ وَالْآخَرُ أَبْيَضُ، قَالَ: فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَا يتَبَيَّنُلي الْأَسْوَدُ مِنَ الْأَبْيَضِ، وَلَا الْأَبْيَضُ مِنَ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَقَالَ: "إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا ذَلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ"[20].

 

فَيَتَّضِحُ مِنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثيْنِ أَنَّ وَقْتَ الصِّيَامِ يَبْدَأُ إِذَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ وَذَلِكَ بِظُهُورِ النُّورِ الْمُسْتَطِيرِ الْمُنْتَشِرِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْفَجْرِ الصَّادِقِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ فَهُنَا يُمْسِكُ مَنْ أَرَادَ الصِّيَامَ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِآذَانِ الْمُؤَذِّنِ إِذَا كَانَ ثِقَةً عَارِفًا بِالْوَقْتِ وَأَذَّنَ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْفَجْرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ بِلاَلًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ»، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ[21].

 

﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ﴾ مِنَ الْفَجْرِ ﴿إِلَى اللَّيْلِ﴾؛ أَيْ: إِلَى دُخُولِ اللَّيْلِ، وَذَلِكَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»[22].

 

وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَةِ بِالْفُطُورِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ»[23].

 

﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ﴾؛ أَيْ: نِسَاءَكُمْ ﴿وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ﴾ مُقِيمُونَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ ﴿فِي الْمَسَاجِدِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿عَاكِفُونَ﴾ لَا بِقَوْلِهِ: ﴿تُبَاشِرُوهُنَّ﴾؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي الْمَسْجِدِ لَا تَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ وَلَا لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ، بَلْ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.

 

﴿تِلْكَ﴾ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾؛ أَيْ: مُحَرَّمَاتُهُ وَمَنْهِيَاتُهُ حَدَّهَا لَكُمْ لِتَقِفُوا عِنْدَهَا ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ فَضْلاً عَنْ أَنْ تَتَخَطَّوْهَا كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّه فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ".[24]


﴿كَذَٰلِكَ﴾ كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ مَا ذُكِرَ ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ أَحْكَامِهِ ﴿لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ مَخَالَفَةَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.

 

وَفِي الْآيَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: أَنَّ أُصُولَ الْمُفَطِّرَاتِ ثَلَاثَةٌ: الْجِمَاعُ، وَالْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَذَكَرَ الْمُبَاشَرَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ وَذَكَرَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾. وَذَكَرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث القدسي بِقَوْلِهِ: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ ‌مِنْ ‌أَجْلِي"[25]، وَالشَّهْوَةُ الْمَقْصُودُ بِهَا الْجِمَاعُ، فَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الْمُفَطِّرَاتِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ.

 

وَمِنْهَا: جَوَازُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَجْرُ، وَإِنْ شَكَّ: هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ أَمْ لَا؟ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ﴾ وَهُوَ أَكَلَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَيْضًا بَقَاءُ اللَّيْلِ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إِلَّا ِبَيقِينٍ أَوْ غَلَبَةِ ظَنٍّ، لَكِنْ لَوْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَفِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ خِلاَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ[26]؛ "لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَلَمْ يُتِمَّهُ، وقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي يَوْمِ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ» قُلْتُ لِهِشَامٍ -وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيث-: أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: فَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ»[27]، وَلِأَنَّهُ جَهِلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فَلَمْ يُعْذَرْ كَالْجَهْلِ بِأَوَّلِ رَمَضَانَ"[28].

 

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَهُ صَحِيحٌ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ[29]، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِأَنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ وَاجِبًا لَبَيَّنَ لَهُمْ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُجُوبَهُ، وَقَوْلُ هِشَامٍ "لَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ" هَذَا اجْتِهَادٌ مِنْهُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الْمُتَقَدِّمِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقَضَاءِ.

 

وَمِنْهَا: صِحَّةُ صَوْمِ مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْجِمَاعَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلِمَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ، وَيَصُومُ»[30] زَادَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيث أُمِّ سَلَمَةَ " وَلَا يَقْضِي".

 

وَمِنْهَا: ثُبُوتُ النَّسْخِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ وَهُوَ نَسْخٌ عَلَى بَدَلٍ أَخَفُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا نَسَخَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِبَدَلٍ أَوْ لِغَيْرِ بَدَلٍ، فَإِذَا كَانَ لِبَدَلٍ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْبَدَلُ مُسَاوِيًا لِلْأَوَّلِ أَوْ أَخَفَّ مِنْهُ أَوْ أَثْقَلَ، فَمِثَالُ الْأَوَّلِ نَسْخُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمِثَالُ الثَّانِي وَهُوَ كَثيِرٌ فِي شَرِيعَتِنَا الْآيَةُ الَّتِي مَعَنَا، وَهَذَانِ النَّوْعَانِ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالنَّسْخِ، وَمِثَالُ الثَّالِثِ الصِّيَامُ كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْمَالِ وَالصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾، ثُمَّ نُسِخَ التَّخْيِيرُ بِتَعْيِينِ الصِّيَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فمَن شَهِدَ مِنكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.

 

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ النَّسْخِ -أَعْنِي النَّسْخَ إِلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ- اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِهِ، قَالَ الْبَاجِي: "وَإِذَا جَازَ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّعَبُّدَ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ جَازَ أَيْضًا أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُمْ الْعِبَادَةَ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا"[31]. وَمِثَالُ النَّسْخِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ نَسْخُ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم-، قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 12، 13].


وَمِنْهَا: أَنَّ الِاعْتِكَافَ لاَ يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ[32].

 

وَمِنْهَا: أَنَّ الْجِمَاعَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ الِاعْتِكَافَ، وَهَذَا أَيْضًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، حَكَى الْإِجمْاَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ.



[1] انظر: تهذيب اللغة (12/ 182)، ومقاييس اللغة (3/ 323).

[2] انظر: المغني لابن قدامة (6/ 31).

[3] أخرجه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

[4] أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

[5] أخرجه مسلم (8).

[6] انظر: المجموع للنووي (6/ 250).

[7] كشف القناع للبهوتي (2/ 300).

[8] انظر: المغني لابن قدامة (3/ 150)، والشرح الكبير (3/ 21).

[9] أخرجه البخاري (1508)، ومسلم (985).

[10] أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (985).

[11] أخرجه البخاري (4507)، ومسلم (1145).

[12] أخرجه البخاري (4505).

[13] انظر: الإنصاف (7/ 381).

[14] أخرجه عبدالله ابن الإمام أحمد في السنة (522)، والطبري في تفسيره (3/ 223)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1667).

[15] أخرجه البخاري (6610)، ومسلم (2704).

[16] أخرجه مسلم (482).

[17] أخرجه البخاري (1915).

[18] أخرجه البخاري (4508).

[19] أخرجه البخاري (1917)، ومسلم (1091).

[20] أخرجه البخاري (4509)، ومسلم (1090).

[21] أخرجه البخاري (617)، ومسلم (1092).

[22] أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100).

[23] أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1098).

[24] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

[25] أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151).

[26] انظر: الإنصاف (7/ 439).

[27] أخرجه البخاري (1959).

[28] كشاف القناع (2/ 323).

[29] انظر: مجموع الفتاوى (25/ 216).

[30] أخرجه البخاري (1226)، ومسلم (1109).

[31] الإشارة في أصول الفقه، ص: 66.

[32] انظر: المغني لابن قدامة (4/ 461).





 نسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • تفسير آيات الصيام (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • صيام التطوع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تفسير آية الصيام في سورة البقرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • سورة البقرة (9) آيات الصيام (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • أحكام آيات الصيام (سورة البقرة: 183-187)(مقالة - موقع د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 18/11/1446هـ - الساعة: 8:24
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب