• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أوصاف القرآن الكريم في الأحاديث النبوية الشريفة
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    أفضل أيام الدنيا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    الحج وما يعادله في الأجر وأهمية التقيّد بتصاريحه ...
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    تفسير قوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    سمات المسلم الإيجابي (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    المصافحة سنة المسلمين
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    الدرس الثامن عشر: الشرك
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    مفهوم الموازنة لغة واصطلاحا
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (5)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    من نفس عن معسر نجاه الله من كرب يوم القيامة
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    خطر الظلمات الثلاث
    السيد مراد سلامة
  •  
    تذكير الأنام بفرضية الحج في الإسلام (خطبة)
    جمال علي يوسف فياض
  •  
    حجوا قبل ألا تحجوا (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    تعظيم المشاعر (خطبة)
    الشيخ محمد بن إبراهيم السبر
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

مقاصد سورة التوبة

مقاصد سورة التوبة
أحمد الجوهري عبد الجواد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/1/2018 ميلادي - 20/4/1439 هجري

الزيارات: 72496

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نور البيان في مقاصد سور القرآن


"سلسلة منبريَّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".

 

(9) سورة التوبة

الحمد لله رب العالمين، نحمدك ربنا ونستعينك ونستهديك ونتوب إليك ونستغفرك، ونعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فإنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وكان من آخر ما بلّغ عليه الصلاة والسلام ما أنزل الله تعالى في سورة التوبة، وخاصةً التنبيه الذي أرسل به علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العام التاسع من الهجرة وأبو بكرٍ على وفد الحج، لينادي هناك في مكة في الناس والعالمين: ألا لا يحُجَنَّ البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفنَّ بالبيت بعد هذا العام عريان[1]، حيث كانوا يطوفون في الجاهلية عرايا[2]، نشهد أن نبينا بلغ الرسالة وأدى الأمانة حتى تركنا على مَحَجةً بيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وما كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أمره الله بإبلاغه، صل يا ربنا وسلم وبارك على هذا النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وصلي علينا معهم بفضلك يا أكرم الأكرمين.

 

أما بعد:

أيها الإخوة الأحبة الكرام، فمع حديثنا الشيِّق حول مقاصد سور القرآن، حديثٌ عذب أخذ عذوبته من أنه حول كلام الرحمن، وبحثٌ عن مقاصد الله في سور قرآنه، فذلك مقصدٌ جليل، ومقصدٌ عظيم، والكلام فيه ذو شجونٍ وذو حلاوة وطلاوة، فنحمد الله على هذه الهداية ونسأله سبحانه وتعالى الفضل والمزيد.

 

وقد انتهينا بفضل الله تعالى من النظر في سورة الأنفال، ومعنا اليوم سورة التوبة، والتي عُرفت أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ألسنة أصحابه باسمين اثنين، براءة وهذا أكثرها شيوعاً، والتوبة وهذا أيضاً اسمٌ وارد[3]، والبراءة هي التبرؤ من الشيء[4]، وذلك لأن أول السورة فيه تبرؤٌ من الله ورسوله إلى المشركين الذي نقضوا عهودهم، يتبرأ الله منهم ويتبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، والمؤمنون يطيعون الله ويطيعون الرسول، ويقال لها سورة التوبة كذلك لما أنها اشتملت على دعوة المشركين والمنافقين إلى التوبة رغم ما فعلوا من إجرامٍ وظلمٍ وإيذاءٍ واعتداء على الإسلام والمسلمين ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وكان هذا في العام التاسع من الهجرة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنةٍ واحدة[5]، فقد كثر إجرامهم وطال إيذائهم وعظمت خطاياهم، ومع ذلك لو تابوا لتاب الله عليهم، ولأن السورة كذلك اشتملت على توبة الله على المؤمنين وخاصةً على الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فسميت سورة التوبة[6].

 

وأما ما ورد فيها من أسماء أخرى فإنها على سبيل الاجتهاد، كان المفسرون من لدن الصحابة يطلقون عليها أسماء من باب وصفها، من باب الإشارة إلى ما فيها من موضوعات عظيمة ليست في غيرها، فسموها بالمبعثرة، والمقشقشة، والحافرة، والمُنقِّرة، والفاضحة، كل هذه الأسماء تدور حول أمرٍ معين وموضوع خاص وهو أن هذه السورة حفَّرت ونقَّرت حول معرفة وإظهار جرائم المنافقين وأسرارهم وفضائحهم، التي طالما ستروها على الناس وخادعوا فيها من حولهم، هذه السورة جمعت لهم كل ذلك، كمن يحفِّر وراء فلان وينقِّر وينقب وراءه ليتعرف على مثالبه وسيئاته، ثم بعثرها ونشرها على الناس ليعرفها الجميع، فكانت الفضيحة الكبرى للمنافقين بهذه السورة، لما تفضحهم سورةٌ في القرآن كما فضحتهم سورة التوبة، وهذا لا ينافي سماحة الإسلام فقد صبر عليهم تسع سنوات لعلهم يرجعون، لعلهم يتوبون، لعلهم يَصْدُقُون، فما صَدَقُوا، وبعلم الله ما بقيت إلا سنةٌ واحدة وينتهي الوحي وينقطع، فلأن يفضحهم الله تعالى في العام التاسع من الهجرة وقبل انقضاء الوحي بسنة إن هذا لصبرٌ جميل، إن لحلم عظيم من الله عنهم، وليس في ذلك إساءةٌ لهم وإنما هم الذين يستحقون ذلك، فلو أنهم تابوا من بعد سنة من النفاق أو سنتين أو ثلاثة إلى ثمان سنوات إلى تسع سنوات، ولو تابوا بعد ذلك قبل موتهم لتاب الله عليهم وقبلهم، فسميت هذه السورة على سبيل الاجتهاد بهذه الأسماء للإشارة إلى الأمة أن هذه السورة تعرِّف بالمنافقين تعريفاً عظيماً، من أراد أن يعرفهم معرفةً شاملةً كاملة فليقرأ سورة التوبة، فضحتهم أكثر من سورة المنافقين نفسها[7].

 

ثم إنها في الأصل وفي الشرع تسمى سورة براءة وسورة التوبة، وهذا من تسمية الله تبارك وتعالى، هذه السورة ليس لها فضلٌ خاص يخصها لنقول مثلاً من قرأ سورة التوبة فله من الثواب كذا، وإن كان هذا ثابتاً في بعض السور كسورة البقرة، وآل عمران، وقل هو الله أحد، والكهف، والمعوذتين، وهكذا، إلا أنه لم يثبت شيء من ذلك لسورة التوبة، ولا ينقص ذلك من قدرها فهي كسورة مستقلة معجزة من معجزات الله يتحدى بها العالمين ليأتوا بمثلها وما هم بفاعلين ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾ [البقرة: 24]، فهي معجزة، من قرأ سورة التوبة فله بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشر أمثالها كما لو قرأ أية سورة من القرآن، فثوابها لا ينقص عن ثواب قراءة سورة البقرة أو الأنعام أو المائدة أو الإسراء أو ما إلى ذلك، كل القرآن من قرأه فله بكل حرفٍ منه حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا أقول ألف لام ميم حرف))[8] يعني لا أقصد بالحرف الكلمة ولكن أقصد بالحرف الحرف يعني ألفٌ حرف ولام حرف وميمٌ حرف.

 

سورة التوبة وسورة براءة، الاسمان لها، هي سورةٌ مدنيةٌ باتفاق العلماء[9]، يعني نزلت بعد الهجرة، ويرجح العلماء أنها نزلت كلها في العام التاسع من الهجرة، ولكن نزلت على مراحل في حدود ثلاثة أشهر أو أكثر من ذلك بقليل، أقصى ما قيل: نزلت في نصف سنة، في النصف الثاني من العام التاسع من الهجرة، كل آياتها نزلت هكذا، فهذا زمان نزولها، فكانت من أواخر السور نزولاً حتى قال عنها بعض العلماء: إنها آخر سورة أنزلت[10]، وخاصةً أنها كما قال البعض نزلت كاملةً جملةً واحدة، ولكن الراجح والأحسن والأثبت أنها نزلت على مراحل ولكنها مراحل متقاربة، في مدة نصف سنة فقط نزلت كلها، فهي سورةٌ مدنية لذلك تجدها تتحدث عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وتتحدث عن نقض المشركين لعهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي عليك يا محمد يا نبي الله أن تنقض عهودهم بنظامٍ معين، وفيها كذلك حديثٌ مطوَّلٌ كما عرفنا عن المنافقين والنفاق لم يكن إلا بعد الهجرة في مجتمع المدينة، وفيها حديثٌ عن غزوة تبوك وهي آخر غزوةٍ في الإسلام، كل هذا يدل على أنها سورةٌ مدنية كما قال العلماء رحمة الله تعالى عليهم.

 

تناولت هذه السورة من الموضوعات، أولاً تحديد الدستور الأخير في معاملة الكافرين ومعاملة المنافقين، يحدد الله فيها آخر نظامٍ يتعامل به المؤمنون مع الكافرين والمنافقين، لأن الله تعالى شرع ذلك كغيره من الأحكام على مراحل، كان يعذر المنافقين في البداية ويؤخر تعذيبهم ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم والإعراض عنهم وعدم المواجهة بالقتال، ليترك لهم فرصة ليتوبوا ويرجعوا ويفهموا ويعقلوا، فلما لم يفقهوا ذلك كانت آخر كلمة الأمر بالجهاد، ولكن لا يُقاتَل كل كافر، إنما يُقاتَل من يستحق القتال، وملخص ذلك أن الكافر المسالم له حق الحياة ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، عيشوا بدينكم ونعيش بديننا والحساب يوم القيامة، أما الكافر الذي يطغى بالصد عن سبيل الله، لمواجهة الإسلام بمعنى كلمة الحق أن تدخل البلاد ويسمعها العباد إن قبلوها أو رفضوها فهذا لابد أن يقاوَم، لأنه يمنع الإنسانية من وراءه حقاً عظيماً وهو حق اختيار العقيدة، يعمل على الناس تعتيماً إعلامياً سيئاً قبيحاً حيث يخبئ عنهم أعظم دينٌ وهو دين الحق، فيحرمهم من سماع كلمة الحق، فهذا يُقاوَم وعليه الحرب، وعلى المسلمين أن ينظموا قتالهم في مواجهته، بإمرة أميرهم كما نظم الله تعالى هذا الأمر.

 

تحدثت السورة عن أصناف الناس الموجودين في مجتمع المدينة فمنهم مؤمنون مخلصون، ومنهم منافقون يندسُّون في وسط المؤمنين، منهم أعرابٌ يسكنون الصحراء فيهم غلظةٌ وفظاظةٌ، منهم من آمن وكان إيمانه قويًّا، ومنهم من نافق وكفر فكانوا أشد كفراً ونفاقًا، لما فيهم من القسوة الفطرية بحكم طبيعة حياتهم، ومنهم قومٌ لا تعرف لهم هويّة يتقلبون كالحرباء لا يعرف لهم لون ولا هويّة ولا شخصيّة، فهم مرجون لأمر الله، منهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئًا تراه يفعل هذا ويفعل هذا، أصناف وأشكال مجتمع يموج بأصناف الناس، فحدد الله تعالى معاملة كل صنف ليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده إلى يوم القيامة، كل له معاملة، وهكذا يعطي الإسلام لكل ذي حقٍ حقّه، ويعامل كل إنسانٍ بقدره، ليست فيه عشوائية ولا همجيّة.

 

كما أنّ سورة التوبة ذكر ربنا سبحانه وتعالى فيها ذكراً طويلاً كما عرفنا يفضح به المنافقين فيقول: ومنهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم، في هذه السورة أوقع الله تعالى اللوم على المؤمنين الذين يتخاذلون عن الجهاد في سبيل الله، وعلمهم أن هذا الأمر وهذا السلوك إنما هو سلوك المنافقين الجبناء، كما علمهم أن النصر من عند الله فلا حاجة له سبحانه وتعالى فيكم ولا في خروجكم، ولو أراد الله نصر دينه بدونكم لنصره، ولكن يريد أن يتخذ منكم شهداء فيفتح لكم باب الشهادة، ويريد أن يعز منكم من يعز فينصره على رؤوس الأشهاد وعلى رايات الناس، وهكذا لله حكمة في تشريع الجهاد.

 

كما ذكرت أواخر السورة توبة الله تعالى على النبي والذين آمنوا، والتوبة على التائب زيادة الرضا عليه، وزيادة الرحمة له، وتاب الله على المؤمنين لأن بعضهم كان قد تخاذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصةً توبة الله تعالى على الثلاثة الذين تخلفوا عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة لما رأوا من شدة الحرّ ولجأوا إلى بيوتهم فرأوا الظلّ والماء البارد والطعام والنساء فأغراهم هذا الجوّ عن الخروج إلى تلك الغزوة مع يقينهم أن الله ناصرٌ رسوله صلى الله عليه وسلم[11]، فكان خاطرهم يقول لهم: ماذا تفعلون أنتم للنبي صلى الله عليه وسلم لو خرجتم، وماذا تخسرونه لو قعدتم، يعني لا فائدة فينا، عابوا أنفسهم، أننا كلٌّ يفكّر في نفسه، أنا واحد لو لم أخرج ما خسّرت المؤمنين شيئاً ولو خرجت ما زدتهم شيئاً، ولكن ينبغي أن يعلم كل فرد بمفرده أنه لو فكر كل إنسانٍ بهذا التفكير لقعد الجيش كله، وما خرج أحدٌ للقاء العدو، لذلك أعزم على الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم ونصرة دين الله تبارك وتعالى وأحتمل في نفسي أن غيري قعد، فلانٌ غالباً يحتمل أن يكون قد قعد وتخلف وأتخلف أنا أيضاً، لا، لا نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، وكلٌّ يفكر بهذا التفكير فيخرج لاحتمال أنّ غيره قعد في بيته ولم يخرج، ولهذا قال الله تعالى ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [التوبة: 120]، ما كان لهم أن يتخلّفوا ولا أن يؤثروا أنفسهم بالراحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في شغلٍ وفي عملٍ شاق في جهاد في سبيل الله، ونحن ننعم بالنساء والظلّ والرّاحة والطعام والشراب، لا يجوز لنا هذا، عتب الله عليهم في ذلك.

 

ختمت السورة بمنَّة الله تعالى على العالمين ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [التوبة: 128] أي بشرٌ مثلكم منكم يعرفكم وتعرفونه ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] صلى الله عليه وسلم، جزى الله نبينا على ما قدم لنا كل خير وضاعف له الجزاء والمثوبة، اللهم آمين.

 

أحبتي الكرام هذا استعراضٌ سريعٌ لموضوعات السورة، تعتبر الموضوعات الرئيسة في هذه السورة والتي تحدثت عنها سورة براءة، أما هدفها من وراء كلّ ذلك كما تعوّدنا نلتقط هذا الهدف من اسمها ومن أولها وآخرها، فاسمها براءة واسمها التوبة، وأولها: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1]، يعني أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يتبرءان من الذين عاهدتم من المشركين فنقضوا عهودكم، الله يتبرأ منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلن هذه البراءة ويشارك فيها أيضًا، آخر السورة أو من أواخرها يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123]، إذًا كأن هذه السورة جاءت ترسل رسالةً إلى الأمة وترسخ أساساً وقاعدة، يا مؤمنون تبرءوا من المشركين ومَن ماثلهم، وقاتلوا من يقاتلكم ولا تتوانوا عنه، وتوبوا واقبلوا التوبة ممن تاب، من عاد إلى دينكم أو دخل في دينكم فاقبلوه مهما كان قد فعل بعد ذلك، المهم أن يتوب توبةً صادقة وأن يعود عوداً حميداً إلى ساحة الإسلام، مرحباً به أخاً لنا وواحداً منا، هو ولينا ونحن أولياؤه ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71].

 

هذا الهدف المختصر نخرج به من هذه السورة لنعيش به في حياتنا، وننطلق به بين طوائف الناس، فنتبرأ من كل كافر، كل من كفر بالله ينبغي أن نتبرأ منه، والبراءة هذه يفهمها بعض الناس خَطأً، ويظن بها في الإسلام سوءاً، يظن أن الإسلام يدعو إلى الإرهاب، لا، البراءة بالقلب، لا أحبه من قلبي، لا أصحبه ولا أصْدُقه، فإنه عدو وهو يكنُّ لي العداء، ونقسم على ذلك لأنه لا قول بعد قول ربنا: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122] وهو قد قال سبحانه وتعالى وهو أصدق القائلين: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، إذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، هم الذين عايشوا دين الله قبلنا ونزل فيهم الوحي من قبلنا، فما بالنا بمن كفر بكل الأديان، من كفر بكل الشرائع، من كفر بالله، من كفر بالوحي، من كفر بوجود الملائكة، من كفر بالرسل كلهم؟ الكافرون، المشركون، هؤلاء العلمانيون الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، أولاد الشيوعيين، هؤلاء لا شك أنهم أشد عداءً لنا من اليهود والنصارى، وهذا أيضاً قاله الله، لا أقول من عند نفسي، قال الله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [المائدة: 82] العداوة عندهم بنسب مختلفة، العداوة عندهم تتجه إلينا بنسب مختلفة، فأشدهم عداوة ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82] هذان الاثنان معاً في درجة واحدة، ﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ﴾ [المائدة: 82] يا ترى هل يقولون إنا نصارى أو لا يقولون، فهكذا يبين القرآن لنا منهجاً نعيش به بقلوبنا، هو إنسانٌ له عليَّ حق، أعطيه حقه، أحفظ حياته، أحفظ ماله، أعدل معه في القضية والخصومة مهما كان بيني وبينه فله حق العدل، ولو كان الحق عليَّ فأعطيه حقه، ويحكم الحاكم المسلم على الرجل المسلم لصالح الرجل الكافر، طالما الحق هكذا والعدل هكذا ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، ولا أعتدي على حق من حقوقه بغير وجه حق، قال تعالى ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، إذاً له حقوقه يأخذها ولكن قلبي ليس له، إنما قلبي لإخواني المسلمين، اقتربوا مني أو بعدوا، في بلدي وخارج بلدي، اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10] ندعو لهم في أيامنا، وهكذا الأخوة الإيمانية هي أولى بقلوب المؤمنين ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71] هذه الولاية ينبغي أن تتحقق بين المؤمنين ولا حق للكافر فيها، لماذا تكرهونهم وتبغضونهم، ليس لأنهم يبعضوننا ويعادوننا، لا، ليس هذا هو السبب، إنما السبب الأساس أن الله يبغضهم، أن الله يتبرأ منهم، فنحن نؤمن بالله ونتبرأ ممن تبرأ الله منه، ثم بعد ذلك لأنهم يبادلوننا الشعور نفسه، شعور العداء والخوف والتخوف والتوجس والتربص ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الممتحنة: 2] وهكذا، لكن هذا كله كما قلنا لا يسمح لي أن أعتدي على جزء من حقوقه، لا يجوز لي ذلك، إنما براءتي في قلبي؛ لا أحب الكفر ولا أحب الكافرين، أما ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123] حين يستدعي الأمر قتالهم، فلا نأخذ آية واحدة ونرفعها، إنما نأخذها مع غيرها، من أراد أن يفهم طبيعة الجهاد في الإسلام فعليه أن يجمع كل آيات الجهاد والقتال في الإسلام ويضعها أمام عينيه وينظر إليها نظرةً شاملة ليأخذ منها الحكم الكامل، فمن سالم فله السلم ومن عاهد فله عهده يُتم إلى مدته، ومن نقض عهدًا نُقض عهده، ومن حارب حُورب، وهكذا كما كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فهذا هو هدف السورة، ومع ذلك ومع ما فعلوا بنا لو سمعنا يوماً أن أكفر كافريهم أعلن إسلامه، نطق بالشهادة على ملأ من الناس وتوثق الخبر فمرحباً به، نفتح له قلوبنا، كما نفتح له أذرعنا لنضمه إلى صدونا أخاً حبيباً في الله، وننسى له كل ما كان، فقد عفا الله عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام يَجُبُّ ما قبله))[12]، يعني يمسح ويمحو ما قبله من مآثم ومظالم وخطايا، فإذا كان الله الغني القوي يغفر له بإسلامه وجب علينا أيضاً أن نغفر لمن غفر الله له، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((التوبة تجُبُّ ما قبلها))[13]، ومقررٌ في الدين ومعروف أن من تاب تاب الله عليه بشرط أن يتوب توبةً صالحة، وأن يتوب قبل أن يأتيه الموت، فمن تاب كذلك تبنا عليه ورجعنا إليه وضممناه إلينا أخاً في الله حبيباً محبوباً مرغوباً فيه، ونرجو من الله تعالى أن يهدي قلوبهم للإيمان وأن يدخلوا جميعاً في الإسلام، ولن نأخذ من ورائهم شيئاً، ولن نخسر لهم شيئاً، إنما نرجو الخير للبشرية كلها، والخير فيما شرع الله، قال الله تعالى ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، فهذا الدين الذي رضيه الله واختاره هو أعظم دينٌ على الإطلاق.

 

أحبتي الكرام هذه سورة التوبة باسمها وفضلها ونزولها في المدينة في العام التاسع من الهجرة، وهذه موضوعاتها، وهذا هو هدفها المختصر الذي نخرج به من هذا الدرس، بقي أمرٌ واحدٌ فقط وهو أن هذه السورة خُصَّت من بين السور بشيءٍ غريب نلتقي معه إن شاء الله تعالى بعد جلسة الاستراحة.

 

نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عن عصيانه تعالى ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

أما بعد:

أحبتي الكرام فإن سورة براءة والتوبة خُصَّت من بين سورة القرآن الأربع عشرة بعد المائة بأنها لم تستفتح بالبسملة، هي السورة الوحيدة التي لم تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، ويقول المهرّجون وهذا لا يجوز في شأن القرآن ولا في شأن السنة ولا الدين، أنه كانت لها بسملة ولكن سرقتها النمل، لأن البسملة في أولها سورة النمل في أولها بسملة وفي وسطها بسملة، وهذا هَرَجٌ في الكلام، أما سورة النمل فبسملتها فيها كأية سورة في أولها، وأما ما في أثناء آياتها من بسملة بهذه بسملة سيدنا سليمان عليه السلام التي استفتح بها كتابه لبلقيس عليها رحمة الله، فقال: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 30، 31]، استفتح خطابه وكتابه بالبسملة كما هو معروف من استحباب البسملة في كل أمر وخاصة الأمور المهمة[14]، أما التوبة فأنزلها الله هكذا، وشاع في بعض الكتب وفي بعض الروايات أن رجلاً سأل سيدنا عثمان رضي الله عنه باعتباره هو الذي جمع ونسخ المصاحف، جمع القرآن في مصحف ونسخ المصاحف من ذلك، لِمَ لم تكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بين الأنفال والتوبة؟ فكانت إجابة عثمان رضي الله عنه معناها أننا نظرنا في السورتين فلم نجد فرقاً بينهما، موضوعهما واحد، هذه وتلك تتكلمان عن الجهاد ولم يبيّن النبي عليه الصلاة والسلام حتى مات أن هذه سورة مستقلة – سورة التوبة – أو أنها متممة لسورة الأنفال، فضممناهما إلى بعضهما وجعلناهما سورة، هذه الرواية ليست صحيحة[15]، وهذا الكلام لا يُعقل ولا يُقبل، حينما نرى دقة الصحابة في حفظ القرآن وفي كتابة القرآن، ودقة عثمان رضي الله عنه نفسه في جمع القرآن في مصحف ثم نسخه في مصاحف أخرى، وطريقة كتابة القرآن، وهذا كلامٌ قلناه منذ فترة طويلة، كانوا على دقة عجيبة واحتراز شديد، وتقديسٍ عظيمٍ لكلام الله تبارك وتعالى، مثل هؤلاء لا يكتبون شيئاً في المصحف ولا يفعلون شيئاً في القرآن بالظن هكذا، ظننا أنهما سورة واحدة!! وكيف يموت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبين سورةً من سورة، أكتم هذا الخبر؟ ما كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾ [التكوير: 24] فمتن الكلام نفسه، متن الرواية لا يُقبل عقلاً ولا ديناً وشرعاً، إنما لماذا أُنزلت سورة التوبة بدون بسملة؟ قال فيها العلماء أقوالاً ألطفها أن سورة براءة بدأت هكذا ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 1] يتبرأ منه، وبراءة الله من أحد من خلقه لعنٌ وعذابٌ وشقاء، وبسم الله الرحمن الرحيم كلها رحمة، فما كان لمن تبرأ أن يترحَّم، دخل الله عليهم مباشرةً بالبراءة فلا يحسن أن يقدم بين ذلك شيئاً من الرحمة، فالرحمة هنا بسم الله الرحمن الرحيم لو ذُكرت لخففت وهونت من شدة البراءة، وشدة فضيحة المنافقين وأسلوب الله العظيم في تهديدهم، فهنا لا يحسن أن يذكر الله بسم الله الرحمن الرحيم، حتى يزداد الأمر قوة وشدة في مواجهة الكافرين، لأنه غضب عليهم غضباً لم يغضب مثله من قبل، حتى تبرأ منهم وبرأ منه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدعو المؤمنين بذلك إلى أن يتبرءوا منهم، فلذلك لم يستحقوا عند الله أن يستفتح الكلام معهم ببسم الله الرحمن الرحيم التي تفيض بالرحمة، وهذا كلامٌ جيد[16].

 

وعندي كلامٌ آخر أضيفه إليه، عُرف في شأن الله تبارك وتعالى وفي خصوص أفعاله أنه يفعل الشيء ونقيضه، يفعل الشيء ومقابله، خلق الليل سكناً، خلق النهار معاشاً، خلق الليل مظلماً وخلق النهار مضاءً، خلق السموات فوق وخلق الأرض تحت، طبقات السماء متفاوتة بينها خلق، طبقات الأرض متلاصقة ليس بينها خلق، فقادرٌ على هذا وقادرٌ على هذا، ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ﴾ [النور: 45] أي ومنهم ما يمشي على أكثر بعد ذلك، قال تعالى ﴿ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [النور: 45]؛ ذلك ليثبت قدرته سبحانه وتعالى الكاملة، ليثبت طلاقة قدته وكمال قدرته وإرادته، خلق آدم من لا أبٍ ولا أم، ثم خلق ذريته من أبٍ وأم بعدما خلق حواء من آدم فكان لها بمقام الأب وليس لحواء أم، بقيت سورة رابعة كان ولابد أن تتحقق في شخص من ذرية آدم فكان عيسى نبي الله عليه السلام، جاء من أم بدون أب، وبهذا تكتمل قدرة الله تعالى، فليست هناك صورة في الخلق يعجز الله عنها، بناءً على ذلك أقول: أنزل الله كل سور القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم، فيقول أحد الصحابة ما كنا نعرف نزول سورة جديدة إلا حين تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فيعلمون أن هذه سورة جديدة استفتحت[17]، حتى جاء على آخر السور نزولاً في قول بعض العلماء أو على الأقل هي من أواخر ما نزل سورة براءة والتوبة، فأنزلها هكذا بدون بسملة، لئلا يظن أحد أن الله لا يستطيع أن ينزل سورةً بغير بسملة، حين يجعل القرآن كله ببسم الله الرحمن الرحيم، فلما فعلها في سورةٍ واحدة أثبت أنه يفعل ما يشاء ويختار، ينزِّل السورة ببسم الله، ينزلها بغير بسم الله، يفعل ما يشاء ويختار لا يمنعه أحد ولا يحجزه أحد سبحانه وتعالى.

 

بمثل هذا يقال في هذا المقام حكمة عدم إنزال سورة التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم لأن الله أنزلها هكذا، وأرادها هكذا، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد بيّن كل شيء قبل أن يموت، وحدّد لأصحابه سور القرآن، وعُرفت وسميت، وترتب القرآن آيات وسوراً، كل ذلك كان موجوداً، السنة محفوظة عند الصحابة مكتوبة في صحفهم قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، الدين اكتمل قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم، أنزل الله عليه في حجته الوحيدة في العام العاشر من الهجرة ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، كيف يكون الدين قد تم والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبيّن إن كانت سورة الأنفال تبع التوبة أو كل واحدة منهما سورة مستقلة؟ لا يُعقل هذا، فسورة الأنفال سورة مستقلة، وسورة التوبة سورة مستقلة ولم يكن فيها بسم الله الرحمن الرحيم إعلاناً على كمال إرادة الله وقدرته، أنه يفعل ما يشاء ويختار سبحانه وتعالى، وإيذاناً بعدم الرحمة والهوادة مع الكافرين فلم يقدم بين يدي كلامهم وبين يدي تعذيبهم والبراءة منهم كلمة فيها رحمة، فرفع من هنا بسم الله الرحمن الرحيم، ولله الحكمة البالغة، وما علينا إن كنا مؤمنين إلا أن نقول: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

 

أيها الأحبة الكرام، آخر الكلام أن سورة التوبة مع الأنفال متناسقة جدًّا كما عرفنا في الخطبة السابقة، أن الأنفال ذكر الله فيها قصة غزوة بدر وهي أول غزوة في الإسلام، وسورة التوبة ذكر الله فيها قصة غزوة تبوك وهي آخر غزوة في الإسلام، أما مع سورة هود[18] فاسمها سورة براءة وسورة التوبة، وكلمة هود من هاد يهود إذا تاب ﴿ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 156] أي: تبنا وعدنا إليك يا رب[19]، وسورة هود كما نعرفها، أو كما سنعرفها إن شاء الله تعالى فيها دعوة عريضة للتوبة على طول عمر الزمان من كل رسولٍ لأمته يدعوهم إلى التوبة إلى الله، فكان اسم هود عليها مناسباً ففيها دعوة للتوبة، وهذه سورة التوبة وكان في أواخرها توبة الله على المؤمنين وعلى الثلاثة الذين خلِّفوا، كذلك لما أمر الله في أواخر هذه السورة بمقاتلة الكافرين المقاتلين وعدم الهوادة معهم والغلظة عليهم، ذكر في سورة هود وهي سورة مكية كما سنعرفها إن شاء الله، ذكر فيها شأن كفار هذه الأمة وغلظة قلوبهم، وضرب لهم الأمثال بالكفار السابقين، وكأن الله تعالى يقول: ما أمرت بقتالهم إلا لأنهم استحقوا ذلك، كفروا بنا وطغوا على حقنا، فما لمثل هذا إلا أن يُقاتل ويُدافَع.

 

هذا وأسال الله تبارك وتعالى أن يقبل الصواب، وأن يعفو عن الزلل، فإن الله هو الغفور الرحيم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم افتح لنا من كنوز القرآن، وعلمنا من القرآن ما يقربنا إليك وما يرضِّيك عنا يا رب العالمين، اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء همنا وذهاب غمنا وحزننا، اجعله لنا في الدنيا رفيقاً وفي القبر مؤنسًا، وفي القيامة شفيعًا، وإلى الجنة قائدًا، وعلى الصراط مثبتًا، وعلى النار حجاباً مستورًا، إنك أنت الرحمن الرحيم، واغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، نحمدك اللهم على خزي الكافرين ونسألك أن تزيدهم خزياً على خزيهم يا رب العالمين، اللهم اخذل الشرك والمشركين، واخز الكفر والكافرين، وأهلك يا ربنا كل من عادى الدين، إنك على كل شيء قدير، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.

 

عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم.. وأقم الصلاة.



[1] أخرجه البخاري (1543).

[2] أخرجه مسلم (5496).

[3] انظر - مثلًا - ما أخرجه البخاري (4329) ومسلم (1618) عن البراء بن عازب قال: آخر سورة نزلت براءة، والبخاري (4600)، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، "ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لن تبقي أحدًا منهم إلا ذكر فيها ..."، ووقع هذان الاسمان معًا في حديث زيد بن ثابت، قال زيد: فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: لقد جاءكم رسول من أنفسكم، حتى خاتمة سورة " براءة "، أخرجه البخاري (4701).

[4] انظر: المصباح المنير (1/ 47).

[5] هذه السورة آخر السور نزولًا عند الجميع، نزلت بعد سورة الفتح، في قول جابر بن زيد، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن، وروي أنها نزلت في أول شوال سنة تسع، وقيل: آخر ذي القعدة سنة تسع، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: قبيل خروجه، والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال. أهـ التحرير والتنوير (10/ 97)، وانظر عمدة القاري، للعيني: (18/18).

[6] انظر حديثهم في: صحيحي البخاري (4156)، ومسلم (2769)، وانظر: فتح القدير، للشوكاني (2/378).

[7] انظر: التحرير والتنوير (10/ 97).

[8] أخرجه الترمذي (2910)، والبيهقي في شعب الإيمان (1831)، وصححه الألباني في الصحيحة (2/267).

[9] انظر: فتح القدير، للشوكاني (2 /378).

[10] أخرجه البخاري، (4364)، و(4605).

[11] أخرجه البخاري (4156)، ومسلم (2769).

[12] أخرجه مسلم (121)، بلفظ: "الإِسْلام يَهْدِم مَا كَانَ قَبْله".

[13] لا يعرف بهذا اللفظ، وعلى كل حال فالمعنى صحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، أخرجه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (3427). وانظر صحيح الجامع (6803)، (3008).

[14] دلت على ذلك نصوص كثيرة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 118]: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: 41].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخَمِّر إناءك واذكر اسم الله وأَوْكِ سقاءك واذكر اسم الله» أخرجه أبو داود (3731)، وصححه الألباني في الإرواء (39).

وقال: «لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللّهمّ جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا». أخرجه البخاري (6388) ومسلم (1434)، وغير هذين من الأحاديث، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستفتح بها رسائله كما في رسائله إلى الملوك والأمراء، انظر: الحاوي في تفسير القرآن الكريم، للشيخ عبدالرحمن القماش: (ص 98).

[15] توجه النظر في هذا الأثر إلى جهتين:، - الأولى: جهة الإسناد، - والثانية: جهة المتن.

أما جهة الإسناد، فهذا الأثر أخرجه ابن حبان والحاكم وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وأحمد والطبراني في الأوسط والطحاوي وابن جرير، - وفي الحق - فإن هذا الجانب من المسألة قد بسط أهل العلم من أئمة الحديث البحث فيه، فحصروا طرق الأثر ونقدوها وبينوا درجتها، وملخص كلامهم في سند هذا الأثر، أن مداره على يزيد الفارسي، وهذا الرجل قد اختلف فيه أهل العلم: هل هو ابن هرمز، أو غيره، فإن كان ابن هرمز - كما ذهب الإمام أحمد وابن مهدي - فهو ثقة، ومن الأئمة من فرق بينهما كالقطان وابن معين وغيرهما، وحكم بجهالة الفارسي، ومنهم من فرق بينما غير أنه حسن حديث الفارسي كما فعل أبو حاتم الرازي.

والأثر قد حكم ابن حبان والحاكم بصحته، وحسنة الترمذي وابن حجر، وممن صححه من المعاصرين الشيخ عبد الله الجديع في كتابه مقدمات أساسية، وانتصر له بقوة وأطال فيه، وذلك في بحثه في ترتيب الآيات والسور، وممن ضعفه من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر والشيخ شعيب الأرناؤوط والشيخ الألباني ومحققوا المسند رحم الله الجميع.

وفي الحق - فإني لم أجد - في ضوء ما وقفت عليه - عند المصححين لإسناده أو أولئك المضعفين له، ما يقوي قولهم ويسند رأيهم، ولذا أقف معهم - في هذا الجانب - حيث وقفوا، لأني لم أجد ما يرجح كلام أولئك أو أولئك.

الجهة الثانية: النظر في هذا الأثر من جهة متنه.

وهنا - مع الأسف - لا نجد البحث يأخذ العمق والقوة، كما رأينا في كلام أهل العلم المتعلق بإسناد الأثر، وأشير هنا إلى أنني كلفت عددا من الطلاب في الجامعة بدراسة سند الأثر ومتنه، فاقتصر كلامهم على ناحية الإسناد، لأن كلام أهل العلم توقف عند هذا القدر، ولذا فأنني أطرح هذا المسألة عليكم بارك الله فيكم، لنتدارس المسألة ولا سيما من ناحية المتن، فقد ظهر لي أن في المتن نكارة، توجب الحكم بضعفه، وغير خاف أن العلة والشذوذ - التي اشترط أهل العلم سلامة الأثر منها حتى يحكم بقبوله ويحتج به - لا تقتصر على السند، بل للمتن نصيب فيها، ولأهل العلم من أئمة الجرح والتعديل باع طويل في هذا، فرحمهم الله وأجزل لهم المثوبة

إن المتأمل في متن هذا الأثر سيلحظ أمرين مشكلين، فيهما دلالة على نكارته، مما يقوي القول بضعفه:

الإشكال الأول: جاء في الرواية قول عثمان وهو يرد على سؤال ابن عباس: (.. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم) وفي لفظ: (..وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال..) إن لفظ الروايتين يدل على ثلاثة أمور:

يدل أولا: على أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يبين نهاية الأنفال وبداية براءة.

ويدل ثانيا: على أن عثمان قد استشكل هذا الأمر، أي عدم بينانه صلى الله عليه وسلم لأول هاتين السورتين وآخرهما، حتى تردد رضي الله عنه في أمرهما لتشابه قصتهما.

ويدل ثالثًا: على أن عثمان لما رأى هذا التشابه بين السورتين، وعدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم لبدايتهما ونهايتهم، اجتهد فقرن بينهما واسقط سطر بسم الله الرحمن الرحيم.

إذا: فعثمان رضي الله عنه هو الذي قام بهذا الأمر - سواء باشره بنفسه أو كلف أحدا من الصحابة به - وهذا أمر مشكل حقا، فإننا نعلم يقينا وبإجماع، أن جمع القرآن الكريم مرّ بثلاث مراحل، جمع النبي صلى الله عليه وسلم وجمع أبي بكر ثم جمع عثمان رضي الله عنهما، ونعلم كذلك بإجماع أن جمع أبي بكر كان مرتب الآيات والسور، وهذه قضية عقلية لا نزاع فيها، لأن جمع السور في مصحف واحد يقتضي أن تكون مرتبة، وإذا صح هذا فهو يقتضي أن سورة براءة والأنفال كان لهما موضع في جمع أبي بكر رضي الله عنه قطعا، سواء على ما هما عليه الآن أو غيره، وهنا يرد علينا أمران:

إما أن يكون عثمان قد وافق أبا بكر في جمعه وترتيبه، ولم يكن الأمر من فعله وإنما هو من فعل أبي بكر وبأمره، وهنا يحق لنا أن نسأل لم نسب عثمان - في هذا الأثر - الأمر له في عدة مواضع: من حيث الاستشكال، ومن حيث تشابه القصة، ومن حيث القيام بالفعل ذاته بأن قرن بين السورتين ثم أسقط البسملة؟ وأرجو إعادة قراءة الرواية مرة أخرى، لقد كان عثمان رضي الله عنه في غنية أن ينسب الأمر له ويتحمله هو، مع أن الذي قام به غيره، ويتأكد هذا إذا علمنا أن ابن عباس قد سأله بصيغة لا تخلو من نوع إنكار قال: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى البراءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ ) أفلم يكن من الأسلم لعثمان رضي الله عنه أن ينسب الأمر لغيره وقد فعله سواه.

هذا الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني: أن يكون عثمان هو الذي قام بهذا الأمر إما مباشرة له أو أمرا به، والإشكال على هذا الاحتمال أكبر من سابقه، لأنه يدل على أن عثمان رضي الله عنه هو الذي استشكل عدم العلم بنهاية الأنفال وبداية براءة، مما حمله على أن يقرن بينهما ويسقط البسملة - كما تدل عليه ظاهر الرواية - وهنا يحق لنا أن نسأل: كيف كان الأمر قبل أن يتولى عثمان رضي الله عنه الخلافة ؟ كيف لم يستشكل أبو بكر والصحابة معه هذا الأمر؟ وكيف جمعوا الناس على مصحف واحد فرق بين الأمصار! وقرأه الناس في خلافة أبي بكر وخلافة الفاروق كلها وقد استمرت نحوا من عشر سنين، بل شطرا من خلافة عثمان، على اعتبار أن جمع عثمان كان بعد معركة أرمينيا.

الإشكال الثاني: نلحظ تعارضًا بين أول الرواية وآخر الرواية، ففي آخر الأثر كان كلام عثمان واضحا، في أن الأمر المتعلق بسورة الأنفال وبراءة كان مشكلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين آخر الأنفال ولا أول براءة، وكذلك لتشابه قصتهما، وهذا الذي حمله رضي الله عنه على أن قرن بينهما وأسقط البسملة، إذا فعثمان لم يكن يعلم إن كانت الأنفال مستقلة عن براءة أو لا، وهذا يتعارض مع كلام ابن عباس، لأن ابن عباس نص على تسمية براءة ونص على تسمية الأنفال، والنص على تسميتهما يقتضي العلم باستقلالهما عن بعضهما، بل زاد ابن عباس فبين أن الأنفال كانت معروفة التصنيف حيث ذكر أنها من المثاني، وأن براءة كانت أيضا معروفة التصنيف حيث ذكر أنها من المئين، إذا فابن عباس سما السورتين هذا أولا، وثانيا صنفهما، وهذا يقتضي قطعا أنهما معروفتان للناس لا يشتبه عليهم أمرهما، قال ابن عباس: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى البراءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ..وإذا صح هذا فقارنه بقول عثمان في آخر الرواية يظهر لك تعارض ما بين القولين.

وفي الحق فهذان الأمران فيهما إشكال يقوي القول بضعف هذا الأثر، على الأقل من جهة المتن، إن وقع الخلاف في إسناده.

وهناك إشكال ثالث مترتب على الأشكال الأول، حيث يلزم من هذه الرواية عن عثمان، أنه رضي الله عنه هو الذي قام بإسقاط البسملة بسبب المسوغات التي ذكرها له، ونحن نفهم من هذا أن البسملة كانت مثبتة في أول براءة في مصحف أبي بكر رضي الله عنه ثم أسقطها عثمان لما رأى ما بين السورتين من تشابه وعدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهما حيث يقول: ( ..فكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ) وفي لفظ: (وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فمن هناك وضعتهما في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم) وهذا يدل على أن عثمان رضي الله عنه خالف الأمر الذي اجتمع عليه الناس واستقر، وعثمان أجل وأورع من أن يفعل هذا. أهـ من بحث قيّم بعنوان، "دراسة نقدية لأثر عثمان رضي الله عنه في سبب سقوط البسملة من أول براءة، للشيخ ناصر الماجد، وفقه الله، منشورة بملتقى أهل التفسير، ويمكن الرجوع في المسألة لكتاب: فصل الخطاب في سلامة القرآن الكريم لمؤلفيه الدكتور أحمد السيد علي الكومي والدكتور محمد أحمد يوسف القاسم، وكتاب في علوم القرآن عرض ونقد وتحقيق للدكتور أحمد حسن فرحات، وكتاب إتقان البرهان في علوم القرآن، للدكتور فضل حسن عباس.

[16] انظر: الجامع لأحكام القرآن (8/3).

[17] أخرج أبو داود في سننه (788) والبيهقي (2206) عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة - وفي لفظ خاتمة السورة - حتى ينزل عليه َ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وانظر التفسير الصحيح، للدكتور حكمت بشير (1: 73).

[18] هذا خطأ، فالسورة التي تليها سورة يونس، لا سورة هود، وسيأتي في السورة التالية اعتذار شيخنا رحمه الله عن ذلك الخطأ غير المقصود.

[19] انظر: المعجم الوسيط (2/ 998).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • نفحات قرآنية .. في سورة التوبة
  • تفسير الربع الأخير من سورة التوبة كاملا بأسلوب بسيط
  • تأمل في آيات من سورة التوبة
  • تفسير سورة التوبة كاملة
  • علمتني سورة التوبة
  • مقاصد سورة إبراهيم
  • عصرة التوبة ولذة الإنابة إلى الله
  • {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور ...}
  • قوله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم .. }
  • خطبة: هدايات سورة التوبة
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة) الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين

مختارات من الشبكة

  • مقاصد الصيام (2) مقاصد التربية (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • مقاصد السيرة النبوية (1) مقاصد النسب الشريف للنبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بين (مقاصد الشريعة) و(مقاصد النفوس)!(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة التوبة من مقاصد الصوم(مقالة - ملفات خاصة)
  • مقاصد الشريعة الإسلامية في أحكام الأسرة والنكاح(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مقاصد العبادات في الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أنواع المقاصد باعتبار مدى الحاجة إليها(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من مقاصد الشريعة في المعاملات المالية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مقاصد الزكاة وأثرها في أحكامها الشرعية: مقصد المواساة أنموذجا (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • التحقيق المقاصدي للأعمال: نموذج تطبيقي على مقاصد تلاوة القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 14:30
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب