• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فصلٌ: فيما إذا جُهل حاله هل ذُكر عليه اسم الله أم ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    خطبة (المروءة والخلق والحياء)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    تساؤلات وإجابات حول السنة
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    الأيام المعلومات وذكر الله (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الدرس التاسع عشر: الشرك (2)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    الحذر من استبدال الأدنى بالذي هو خير
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    خطبة: اغتنام عشر ذي الحجة خير الأيام
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    إعلام النبلاء بفضل العلم والعلماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تفسير: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    التحذير من الإسراف والتبذير
    الشيخ صلاح نجيب الدق
  •  
    استحباب أخذ يد الصاحب عند التعليم والكلام والمشي
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    مفهوم الخصائص لغة واصطلاحا وبيان أقسامها
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    خطبة: عشر ذي الحجة فضائل وأعمال
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    علام يقتل أحدكم أخاه؟! خطورة العين وسبل الوقاية ...
    رمضان صالح العجرمي
  •  
    أحكام القذف - دراسة فقهية - (WORD)
    شهد بنت علي بن صالح الذييب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / روافد
علامة باركود

عوامل القوة في حياة الأمة

أ. د. عبدالحميد مدكور

المصدر: كتاب في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 1/11/2008 ميلادي - 2/11/1429 هجري

الزيارات: 87966

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عوامل القوة في حياة الأمة


تمهيد:

يؤكد كثيرٌ من المهتمين بفلسفة الحَضَارة والتاريخ على أهميَّة الدِّين في بناء الحَضَارة الإنسانيَّة، ومن هؤلاء جوستاف لوبون - مؤرِّخ الحَضَارة المشهور - الذي أوضح هذه الأهميَّة على نحو قاطع لا يحتمل لبسًا؛ فقد ذكر أن أهَمَّ المبادئ التي تَسير عليها الأمم، وتُعَد منار التاريخ، وعماد الحَضَارة تتَمثَّل في المبادئ الدِّينيَّة، التي كانت على الدَّوام أهم عنصر في حياة الأمم، ومن ثَمَّ كانت أهم عنصر في تاريخها؛ ولذا كانت أكبر حوادث التاريخ التي أنتجت أعظَم الآثار هي قيام الديانات وسقوطها.

 

وعندما أراد أن يشرح ويفسِّر سبب هذه المكانة العظمى للدِّين، أوضح أن الدِّين هو العامل الوحيد الذي تتوحَّد به - وقتًا ما - مدافع الأمة ومشاعرُها وأفكارُها، فيقوم المبدأ بذلك دفعَة واحدَة مَقام غيره من العناصر التي تتكون منها رُوح الأمة، والتي لا تنتج هذه النتيجة إلا على مدى طويل في التاريخ.

 

ولم يغِب عن بالِ هذا المؤرِّخ أن يؤكد فكرته عن أهميَّة الدِّين، بما يسجله التاريخ من أن قيام الأمم بأعظَم الأعمَال كان في عصر هذا التطور، الذي يحدثه الدِّين في نفوس أتباعه، وبسببه تأسَّست أكبر الممالك التاريخية البارزة، فإنه وجد أمامه تاريخ الأمة الإسلاميَّة، التي نشأت وتطورت على أساس تلك الفكرة الدِّينيَّة، التي اقتبستها من محمد صلى الله عليه وسلم فاستطاع هؤلاء الذين ينحدرون من بعض القبائل العربية أن يقهروا أممًا، كانت لا تعرف عنهم حتى الأسماء، وشادُوا تلك الدولة الكبرى [1].

ونجد مثل هذا الرأي - كذلك - لدى مؤرِّخ وفيلسوف كبير هو (أرنولد توينبي)، الذي يقرر أن للعقائد الدِّينيَّة دورًا خطيرًا للغاية في مُجرَيات التاريخ؛ حيث كانت البوذية سببًا في وجود حضارة الشَّرق الأقصى، وكانت العقيدة الهندوكية وراء ميلاد الحَضَارة الهندية، وكانت العقيدة المسيحيَّة سببًا في نشأة الحَضَارة المسيحيَّة الشَّرقيَّة والغربيَّة، وكان الإسلام هو المصدر الذي انبثقت منه الحضارتان: العربيَّة والإيرانيَّة، وهكذا كان للعقيدة أثرُها البارز في نشأة الحَضَارة الإنسانيَّة في عصورها المختلفة، وفيما كان للعقيدة أثرها البارز في نشأة الحَضَارة الإنسانيَّة في عصورها المختلفة، وفيما يتعلَّق بالإسلام خاصَّة، أشار توينبي إلى أن التوفيق الذي أصابته الدولة الإسلاميَّة - وهو توفيقٌ مذهِلٌ في رأيه - كان يرجع إلى العقيدة الإسلاميَّة وحدها [2].

ويتردَّد مثل هذا الرأي لدى فلاسفة آخرين ممن شُغلوا بفلسفة الحَضَارة، وبيان أثر الدِّين في نشأتها وازدهارها، ومن هؤلاء (هنري بِين)، و(هرمان دي كسلرلنج)، وغيرهما ممن لاحظوا ذلك الارتباط بين الدِّين والحَضَارة على نحو لا يمكن إغفاله أو إهماله، ومن ثَمَّ ينبغي أن نبحث في أيِّ حضارة من الحضارات عن أصلها الدِّيني الذي بعثها [3].

وينطبق هذا الرأي في العلاقة بين الدِّين والحَضَارة أكثر ما ينطبق على الإسلام، الذي قامت على أساسه وبتأثيره الأمة الإسلاميَّة؛ فالإسلام هو أصل نشأتها، ومصدر وجودها، وباعث نهضتها، وأساس حضارتها، وإليه ترجع عوامل ازدهارها وقوتها، وهو - بالنسبة لها - مثل جذرٍ للشجرة؛ فهو الذي يمدها بالحياة والقوة والنماء؛ ولذلك كانت دائمة الحاجة إليه، شديدة الاعتماد عليه، فإذا حيل بينها وبينه، أو أصابه الضعف والضمور في عقلها ووجدانها، كان ذلك نذيرَ عدمها وفنائها.

وإذا كانت الشجرة لا تقوم بالجذر وحده، بل بما ينتج عنه من ساق وأغصان وأوراق، وبما يترتب على ذلك كله من ثمرات - فإن الدِّين - كذلك - يثمر ثمرته في تلك العوامل المتكاملة التي أدَّت إلى قوة الأمة الإسلاميَّة، وحددت شخصيتها، وحققت مكانتها، وأسست حضارتها، وهي جميعًا ترجع إلى أصلها الأصيل وجذرها العريق: الإسلام.

من عوامل قوة الأمة الإسلاميَّة:

تضافرت عوامل عدَّة، كانت سببًا فيما تحقق للأمة الإسلاميَّة في عصرها الأول من قوة مادية ومعنوية:

1 - وتأتي العقيدة على رأس هذه العوامل جميعًا، لأنَّها تغَلغَلت في قلوب الذين آمنوا بها؛ ولذلك كانت حيَّةً قويةً مهيمنةً، وكانت إشعاعاتها مؤثرةً في الفكر والسُّلوك والحركة الفوارة المتجددة، وقد ترتَّب على قوة العقيدة - بمعناها الشامل - عدد من الآثار والعوامل، التي يمكن النظر إليها على أنها أشبه بفروع الشجرة للشجرة، فهي جميعًا ترجع إلى جذرٍ واحدٍ تعتمد عليه، وربما جاء بعض هذه الآثار متصلا بالفرد، وربما جاء بعضها متصلاً بالجماعة، وربما كان بعضها متعلقًا بقيمة أو مبدأ شرعه الإسلام، ولكنها - جميعًا - متحدة المنبع والمصدر؛ فهي وليدة هذا الدِّين، راجعةٌ بأصولها إليه معتمدةٌ في حياتها عليه، وهي قبَس منه، وثمَرة له، ومن أهم هذه الآثار والعوامل ما يأتي:

أ - يقَظة الوجدان والضَّمير، وقوة الشعور بالمسؤولية أمام الله عز وجل ويرجع ذلك إلى أن العقيدة لم تكن فكرةً نظريةً خاملة خامدة في زوايا الشعور، بل كانت قوة حيَّة تمنح الضَّمير أقصى درَجات اليَقَظة والشفافية والتأثير؛ لما يتَرَتب على الإيمان بالله تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى من الاستحضار لعظمته، وإحاطة علمِه، ونفاذ مشيئته، وكمال قدرته، وذلك يورِث المؤمنَ الذي يتغلغل الإيمانُ في أعماقه مشاعرَ الهيبةِ والإجلال لمقام ربه، ويمتلئ قلبُه بالمراقبة له والحياء منه، والإقبال عليه بما يرضيه، ومن شأن ذلك كله أن يؤدِّي إلى سمو الأخلاق ورقي السُّلوك، ورهافة الضَّمير الذي ينطلق إلى الخير، بوازع ذاتي داخلي يصعب خداعه أو التغرير به، ومن هنا فإنه يصاب بالقلق والتمزق والصراع النفسي إذا وقعت منه أدنى مخالفة، ويحرم عندئذ من سكينة الرضا وطمأنينة اليقين [4].

وقد كان من آثار تلك اليقظة للضمير، التي هي نتيجة لقوة العقيدة وهيمنتها على النفس - أن وجدنا من العصاة من يذهب إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم ليعترف على نفسه بأشد الجرائم، وهو يعلم أن هذا الاعتراف سيُنزِل به أشد العقاب، وقد كان يمكن له أن يستتر بستر الله له، ولكنَّه يُقْبِل على ذلك، ويصر عليه، ومع أن الرَّسول يراجعه أربع مرَّات، فإنه يتمسَّك باعترافه؛ لاعتقاده أن الله مطَّلِع عليه وناظِرٌ إليه، وأن عذاب الدنيا أهوَن من عذاب الآخرة [5].

وكان مِن آثار تلك اليقظة للضمير أن وجدنا من المحاهدين من يحرز المغانم الغالية دون أن يراه أحد، فيذهب بها إلى قيادته، ولعله يشكو عيلةً أو فقرًا، فيقال له: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما واللهِ، لولا اللهُ ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنًا، فقالوا: مَن أنت؟ فقال: لا، واللهِ، لا أخبركم لتحمِدُوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكنني أحمد الله، وأرضى بثوابه..." [6].

 

وكان من آثار تلك اليقظة للضمير أن وجدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يتقلَّب الليل في فراشه؛ لأنه يخشى من مساءلة الله له يوم القيامة عن دابَّة تتعثَّر في الطريق: لماذا لم يُسوِّ لها الطريق، وهكذا، وهكذا [7].

ب - ثم إن من الأمور المهِمة، التي تَتَرَتَّب على سلامة الاعتقاد، وتمكُّنِه من النفس - أن يكون الولاء للإسلام والانتماء إليه سابقًا ومقدمًا على ما سواه من أنواع الانتماء والولاء الأخرى، التي يمكن أن تكون للإنسان [8]، وأن تكون هذه الأنواع من الولاء خاضعة لأمر الله وحكمه، غير مناقضة لما شرعه، فإذا حدَث التناقُض - وهذا لا يكون، إلا أثرًا لشرك، أو كُفر، أو غفلة، أو هوًى - فإن المؤمن يقدم أمر الله على ما سواه؛ لأن من شأن المؤمن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وفي تقرير هذا المعنى يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ[9] وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 23، 24].

 

• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1].

وقد طبق جيل الصحابة الذين كان الإيمان في قلوبهم - كما يقول ابن عمر، رضي الله عنهما - أعظَم من الجبال[10]، هذا المبدأ تطبيقًا لا يكاد يوجد له نظير، حين جعلوا لأمر الله ودينه السبقَ والغلبة على كل شيءٍ، وافتدوا عقيدتهم ودينهم بكل غالٍ ونفيسٍ، وانتصروا على مشاعرهم النفسية المتغلغلة في أعماق القلوب، وقد أثبتوا ذلك - بطريقة عملية - منذ أن وضعوا موضع الاختبار؛ فعندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لملاقاة عِير قريش، ثم علم بخروج قريش لحماية العير وحرب الرَّسول صلى الله عليه وسلم  استشار النَّاس ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: "لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها ألاَّ تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شِئْتَ، وصِلْ حَبْل من شِئْت، واقطعْ حبل مَن شِئْتَ، وخذ من أموالنا ما شِئْتَ، وأعطنا ما شِئْت، وما أخذتٍَ منا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمرنا تبَع لأمرك، فوالله، لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنَسِيرَنَّ معك، ووالله، لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك" [11].

ولما وقع القتال ببدر قاتل الصحابة أقاربهم وإخوانهم وعشيرتهم من المشركين، ولم يخافوا في دين الله لومة لائم، فقتل أبو عبيدة بن الجراح أقرب النَّاس إليه [12]، وقال أبو بكر الصديق لابنه عبدالرحمن - وكان لا يزال على شِرْكه -: لو رأيتك ما صَدَفت عنك"[13].

 

وعندما قال عبدالله بن أبَيِّ بن سلول - وكان منافقًا - عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، وعلم بذلك ابنه عبدالله، ذهب الابن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبيِّ فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلاً فمُرْنِي به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله، لقد علمت الخرزج ما كان لها من رجلٍ أبرّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمُر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في النَّاس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر، فأدخل النَّار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا))[14]، وهكذا، وهكذا [15].

ولقد كان هذا الولاء للإسلام يُعطِي للأمة عاملاً من أهم عوامل قوتها، ويمدها بزاد متجدد من الصبر والاحتمال والقدرة على مواجهة الصعاب، ثم يعينها على خوض المعارك في ميادين الجهاد.

 

ولم تكن العقيدة تُحْدث أثرها في ضمير الفرد وسلوكه فحسب، بل إنها كانت تحدث آثارها كذلك في حياة الجماعة كلها وفي حياة الأمة جمعاء؛ ذلك أن الأمَّة الإسلاميَّة ذاتها كانت أثرًا من آثار الإسلام، فالإسلام هو الذي أقامها؛ لأنه هو الذي نقل العرب من العصبيَّة القبلية التي كانت سائدة قبل الإسلام إلى الوحدة القائمة على الإيمان، ثم وحد العرب وغيرهم من الشعوب الأخرى التي أقبلت على الإسلام، وجعل من الجميع أمَّة واحِدَة متكافئة، متماسكة كالجسد الواحد والبنيان المرصوص، ولقد كان هذا التَّوحِيد من الإعجاز الذي حققه الإسلام، الذي حقق لأول مرة ما وصف بأنه أمة الفكرة أو المبدأ، حيث أسقط العصبيات، وألغي التفاخر بالأنساب والأحساب، ورفض الاعتداد بكل مظاهر التميز التي لا صلة لها بجوهر الإنسان ومكوناته الذاتية؛ وقد نهى الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن العصبيَّة وعن الفخر بها، وبيّن أن النَّاس جميعًا أبناء آدم، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وقد أسقط ربا الجاهلية ودماءها في خطبة حجة الوداع وقال: ((قضي الله أنه لا ربا، وأن ربا عباس بن عبدالمطلب - وهو عمه - موضوعٌ كله، وأن كل دم كان في الجاهليَّة موضوع، وأن أول دمائكم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - وهو من عشيرته)) [16].

ومن أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن:

• ((كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان))[17].

 

• ((ليس منا من دعا إلى عصبيَّة، وليس منا من قاتل على عصبيَّة، وليس من مات على عصبيَّة)) [18].

 

• ((ومن قاتل تحت راية عميَّة يغضب لعُصبَة - أي: لعصبيَّة - لو يدعو إلى عصبيَّة، أو ينصر عصبة، فقُتِل فقِتْلَةٌ جاهلية)) [19].

 

• ((إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء)) [20].

والأحاديث كثيرةٌ في هذا المعنى، وهي تدعو إلى أخوةِ الإيمان التي تحدث عنها القرآن، وتسقط كل مظاهر التفرقة والتعالي الكاذب الذي لا يصح أن يكون بين المؤمنين، وقد شرع الإسلام أحكامًا لكي يتم ذلك:

أ - وقد انضم إلى هذه الأخوّة التي تؤلف القلوب، وتوحد الأمة: أن الإسلام يبني مجتمعه على بيان أن للناس فيه حقوقًا [21]، وأنه لا يقوم على فكرة الواجب وحدها، بل على فكرة الحق أيضًا، فهو يتحدَّث عن ذوى الميراث، وحقوق الضعفاء، وحقوق الجيران حتى ولو لم يكونوا مسلمين، كما تحدَّث عن حقوق للفقراء والمساكين والتيامى والأرامل وأبناء السبيل، والمرضى والأسرى والصغار والعاجزين، وقد أوصى بهؤلاء جميعًا خيرًا، وبيّن ما ينبغي أن يقوم به المجتَمَع من رعاية وتكريم لهم، ولم يترك ذلك للتطوُّع الذي قد تشح به النفس، ولا للنوايا الحسنة التي قد يعصف بها الطمع والهوى، ولكنه أثبت ذلك وأكده بالتشريع الملزم، فشرع في المال حقوقًا، ورغب في الصدقة والصلة والبِر الذي تزكو به النفس، ويرضى به الرَّب، وتتلف به القلوب، وأيقظ في الضمائر حبَّ الإيثار، وكرم العطاء وأريحيَّة السخاء.

واستقبل الصحابة ذلك كله بالاستجابة الكريمة، حتى إنَّ منهم مَن يتصدَّق بماله كله، ومنهم من يريد ذلك فينصحه الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأن يجمع بين العطاء والإبقاء؛ حرصًا على ورثته من ذل الحاجة ومَهانة السؤال.

ولعلَّ من الأمثلة الباهرة التي يزدهي بها المسلمون - مما لم يقع له مثيل - ما وقع عندما آخى الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته من مكة إلى المدينة - بين المهاجرين - الذين تركوا ديارهم وأموالهم؛ فداء لعقيدتهم - وبين إخوانهم من الأنصار، وكان لهذه الأخوة في الدِّين مقام الأخوة من النَّسَب، حتى لقد كان المسلمون يتوارثون بهذه الأخوّة قبل نزول أحكام المواريث، وقَبِل الأنصار ذلك كله بنفس راضية؛ بل إنهم آثروا إخوانهم المهاجرين على أنفسهم وقاسموهم أموالهم وديارهم، وعندما أفاء الله على رسوله من بني النضير، دعا الرَّسول صلى الله عليه وسلم الأنصار وشكر لهم صنيعهم مع المهاجرين على أنفسهم وقاسموهم أموالهم وديارهم، ثم قال: ((إن أحببتم قسمتُ ما أفاء الله عليَّ من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وحدهم وخرجوا من دوركم))، فقال سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين وحدهم، ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلَّمنا، يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم، ارحم الأنصار وأبناء الأنصار)) [22]، وقد أنزل الله عز وجل مدحهم في سورة الحشر: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر: 9].

ب - ثم كان مما فعله الدِّين لتأكيد وحدة الأمة: أنه أقام تشريعه على العدل الذي يستوي أمامه الكبير والصغير، والشريف والضعيف، والحاكم والمحكوم؛ ولذلك غضب الرَّسول صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد - مع ما له من المودة والمحبة عنده - لأنه تشفَّع لإسقاط الحد عن إحدى الشريفات من بني مخزوم، وقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!)) ثم قام فخطب، قال: ((يا أيها النَّاس، إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وَايْمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها)) [23]، وكان لعمر بن الخطاب في هذا الباب من إقامة العدل، وإقرار الحق، وتطبيق الشرع حوادث مشهورة، لعل من أشهرها حكمه على ابن عمرو بن العاص - والي مصر - بأن يقتص منه رجل من أهل مصر، جزاء اعتداء ابن عمرو عليه، فقد ذهب الرجل يشكو إلى عمر قائلاً: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقتُه، فجعل يضربني بالسَّوط، ويقول: أنا ابن الأكرمَينِ، فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالحضور وإحضار ابنه، فلما جاء أعطى السوط للمصريِّ ليضربه قائلاً له: "اضرب ابن الأكرمَينِ، قال أنس: فضرب والله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنَّيْنا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه، فقال عمرُ لعمرو: مُذْ كم تعبَّدْتم النَّاس، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني"[24].

وهكذا يأتي العدل؛  ليوثق روابط العلاقات في المجتَمَع، وليدفع عوامل الظلم التي تخلق الأحقاد والأضعان، وتمزق الصلات الاجتماعية، وتجعل المجتَمَع بعيدًا عن الاستقرار والأمن والطمأنينة، بل تجعله بعيدًا عن رحمة الله وعونه؛ فقد جاء في سنن ابن ماجه، عن جابر: أن المهاجرين إلى الحبشة لما رجعوا إلى المدينة، طلب منهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم أن يحدثوه عن أعجب ما رأوا في الحبشة، فذكروا له ما وقع لعجوز، كانت تحمل وعاءً على رأسها فدفعها شابٌّ فسقطت على ركبتها، وسقط إناؤها فانكسر، فلما قامت قالت "سوف تعلم - يا غُدَرُ - إذا وضع الله الكرسي، وجمع الله الأولين والأخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غدًا، قال جابر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدقتْ، صدقتْ: كيف يقدس الله أمة، لا يأخذ ضعيفها حقه من قويِّها، وهو غير متَعتَع؟))[25]، وقد استقر في يقينهم أن الظلم مؤذِنٌ بخراب العمران، كما عبر عن ذلك ابن خلدون.

ولا تقف مسؤولية الأمة والدولة في الإسلام عند حد إبعاد الظلم، وإقرار العدل، بل ترتفع إلى مستوى رفيع من الرحمة والرعاية للأفراد ومعاونتهم في مواجهة مشكلاتهم، فتساعد الفقراء بتهيئة وسائل الكسب والعيش لهم، وتساعد الغارمين في قضاء مغارمهم، وتعاونهم في تدبير ضرورات حياتهم من المأكل والملبس والمسكن، بل تساعد في تأثيث المسكن بالفرش والأثاث، وتساعد غير القادرين على الزواج، ونحو ذلك مما تحدَّث عنه الفقهاء على أساس من نصوص الشريعة وفِقهها، كما يظهر لدى ابن حزم وغيره [26]، ولم يكن شيءٌ من ذلك كله مألوفًا ولا معروفًا في الزمن القديم، بل إن أكثر الأمم لم تصل إلى مثله حتى الآن.

ومن المتوقع - في ظل هذه الرعاية - أن يزول أو يَضعُف على الأقل هذا الصراع بين الفرد والمجتَمَع كما يظهر في النظم الوضعية؛ لأن الفرد لا يحس بالضآلة والضياع والقهر إزاء المجتَمَع، بل يحس برعاية المجتَمَع له، ومن ثَمَّ يسعى - من جانبه - لحماية هذا المجتَمَع والإسهام في أسباب قوته، ولعلَّ ما نعرفه من "اهتداء" المسلمين إلى الأذان في عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم على هذا، حيث فكَّر المسلمون في وسيلة لتعريفهم بدخول وقت الصلاة، وقدمت مقترحات شتَّى لم تحظ بالقبول، وانصرفوا إلى بيوتهم، وهم مشغولون بالمسألة، حتى لقد رأى بعضهم في منامه أمرًا عرضه على الرَّسول صلى الله عليه وسلم فأقرَّه عليه، وجاء عمر بن الخطاب بمثل هذا أيضًا [27]، ومن الأمثلة كذلك ما فعله تميم الداري الذي كان أوَّل من أسرج المسجد، وكان هو الذي اقترح على الرَّسول صلى الله عليه وسلم وضع المنبر للخطابة عليه حتى يراه النَّاس [28].

وهكذا كانت وحدة المجتَمَع أثرًا من آثار العقيدة؛ لأنَّها ثمَرَة من ثمرات الإيمان بعقيدة التَّوحِيد، فالخالق المعبود واحد وهو الله تعالى، والنَّاس أمامه سواء لا يتفاضلون إلا بعمل صالح    [29]يتقربون به إليه، وقد كان المسلم - بمقتضى الإيمان وحده، ودون شروط أخرى - يكتسب ما يمكن أن نسمِّيَه: "حق المواطنة في المجتَمَع الإسلامي الكبير"، ويكون له بمقتضى هذا أن يتمتَّع بسائر الحقوق من العون والرعاية، وتحقيق الفرص للعلم والعمل والحركة الطليقة في كل بلاد الإسلام دون قيود أو عقبات، ومن المألوف في تراجم العلماء أن يولد الرجل في مكان من الأرض الإسلاميَّة، ثم يتعلم في بلد آخر، ثم يتولى القضاء أو الإفتاء، أو الإمارة أو الوزارة ونحوها في بلد آخر، وهكذا.

فالمسلمون أمَّة واحِدَة، وقد أسقط الإسلام دعاوي العصبيَّة والجاهلية، وجمع النَّاس على أساس من العقيدة، وهذا أمر يتميز به الإسلام على ما سبقه من النظم والحضارات التي لم تعرف هذه الوحدة، بل أقامت بناءها الاجتماعي على أساس طبقيَّة صارمة جامدة، تتفاوت فيها أقدار النَّاس تفاوتًا صارخًا، وقد ظهر ذلك في أقصى الشَّرق في الهند وفارس [30] ونحوها، كما يظهر لدى اليونان حتى عند كبار فلاسفتهم كأفلاطون وأرسطو، وظهر ذلك لدى الرومان وغيرهم، بل ظهر ذلك لدى أتباع بعض الديانات كاليهود الذين يؤمنون بفكرة التمييز العنصري، التي يُلْبسونها ثوبًا دينيًّا يتمثل في قولهم بالشعب المختار، ومن الغريب أن العالم لا يزال يشهد حتى الآن نماذج تثير الأسى من التفرقة العنصرية القائمة على اللون أو الجنس، وقد كان بعضها مطبقًا إلى عهد قريب في أمريكا، ولم يتخلص كثير من النَّاس فيها من رواسب هذه الفكرة العنصرية حتى الآن.

وقد كان ما أحدثه الإسلام في هذا الشأن يشبه المعجزة؛ لأن ذلك تم في سرعة ليس لها مثيل في التاريخ، مع أن ذلك يقتضي في العادة جهودًا طويلة وزمنًا طويلاً، كما يقول جوستاف لوبون الذي يذكر أن الأمة الفرنسية لم تتمكن من توحيد مشاعرها وأفكارها وإيجاد روح خاصَّة بها إلا بعد عشرة قرون كاملة، ومع ذلك لا يزال هذا التكوين ناقصًا جدًّا، وربما كان أهم أثر ترتب على الثورة الفرنسية - في رأيه - هو تعجيل هذا التكوين؛ لأنَّها أجهزت على الموانع الناتجة من تعدد الجنسيات الصغيرة في قلب الأمة، التي جعلت من الوحدة أمرًا متعذرًا، أو صعبًا بسبب ما بينها من اختلاف في المشاعر والأفكار [31]، ولكن العقيدة جعلت ذلك أمرًا مستطاعًا دون حاجة إلى هذا الوقت الطويل: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].

3 - ثم يأتي العلم ليكون عاملاً من عوامل قوة الدولة الإسلاميَّة، وليس يخفى على كل مَن له صلةٌ بمصادر الإسلام وتاريخه تلك المكانةُ التي جعلها الإسلام للعلم، على نحو لم يسبقه إليه دِين من الأديان ولا نظامٌ من النظم، بل إنه يمكن القول بأن العلم - بحسب نظرة الإسلام إليه، وإلى الخصائص التي يتميز بها فيه - يتبوَّأ مكانًا ليس له مثيلٌ في تاريخ الحَضَارة الإنسانيَّة، ومما يدل على تلك المكانة العليا التي للعلم: أن أعظَم الآيات والبراهين على صدق الرَّسول صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته إنما هي القرآن الكريم، فلم يكن برهان صدقه إذًا مقصورًا على المعجزات الحسية التي أيَّد الله بها أنبياءه السابقين؛ بل كانت معجزته العظمى التي ثبتت بها نبوَّته كتابًا خالدًا تتجدد بها الحجة على البشرية، لأنَّه دينها الخالد إلى يوم الدِّين.

وقد كان من الملائم لهذا البرهان العلمي أن يبدأ بالآيات الآتية، التي كانت أول ما نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وبها بدأ الإسلام ووضعت أساس دولته وحضارته:

• ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5].

والمتأمل لهذه الآيات الكريمة يمكن أن يجد يها بحارًا من المعاني، ومن هذه المعاني ما يلي:

أ - تبدأ الآية الأولى بالأمر بالقراءة، وهو أمر غريبٌ؛ لأنه نَزَل على نبيٍّ ليس له بالقراءة عهدٌ ولا صلةٌ، فلم يقرأ من قبل كتابًا، ولم يتردَّد على مُعلِّم، وهو أمرٌ غريبٌ أيضًا؛ لأنه يأتي إلى بيئةٍ أميَّةٍ يقل فيها الاهتمام بالعلم، ويندر الاهتمام بالكتابة والكتاب، وهذا الأمر في ذاته برهانٌ على أن هذا الكتاب من وحي الله إلى نبيِّه، نزل به الرُّوح الأمين على قلبه، وليس له فيه إلا التَّلَقي والبلاغ، والشرح والبيان، وهو إعلانٌ - منذ البداية - تدوِّي بهن جنبات هذه الصحراء؛ لكي تستقبل هذا العلم الذي اختصها الله به، لتجعل منه قبسًا هاديًا، وضياءً متجددًا، ولتعلم أن قيمتها عند الله، وبين النَّاس، على مدار الزمان مرهونةٌ بالقراءة والعلم والمعرفة والكتاب؛ لأن العلم في الإسلام، كرامةٌ وسيادةٌ وقوةٌ، وبه كرم الله الإنسان، بل أكرم الله به بعض الحيوان والطير؛ كما تدل على ذلك آيات الكتاب الكريم (انظر مثلاً الآيات: سورة البقرة: 31 - 32، المائدة: 4، النمل: 18، 22 - 26، 40).

ب - ثم تأتي القراءة موصولة باسم الرب - جل جلاله - لتكون إيذانًا بأن ينشأ العلم وينمو في رحاب الإيمان والتَّوحِيد، فلا يكون العلم طريقًا إلى الغرور والاستعلاء والتكبر على الله، كما حدث لبعض الأمم التي تحدث عنها القرآن، والتي اغترَّت بما أوتيت من العلم بأنعم الله ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [غافر: 83]، لكن العلم في الإسلام يشق طريقة منذ اللحظة الأولى؛ ليكون طريقًا إلى الهدى، وسبيلاً لاكتشاف ما في الكون من العظمة والإتقان والكمال؛ ولذلك جاء في القرآن ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، ولذلك لا يصطرع العلم والإيمان في الإسلام، بل يتفقان.

ج - ويتَّفِق مع هذا المعنى أن يأتي الرب الذي تُسْتَحضر عظمته عند القراءة موصوفًا بصفة من أعظَم صفاته - وكل صفاته وأسمائه موصوفة بأنها حُسْنى - وهي صفة الخلق، التي تَتبَدَّى آثارها في هذا الوجود بحيث لا تخفي آثارها على ذي عَينَينِ، وبحيث تدفع العقل - الذي يطلب الحق ويبرأ من الهوى - إلى أن يرى في الخلائق دليلاً على وجود الخالق الموصوف بالعلم الكامل والإرادة النافذة والقدرة المطلقة، والحكمة التامة والعناية الشاملة، والخلق كله مجال للنظر، فالسماء والأرض وما فيهما، وما بينهما هي من جملة ما خلق الله، وهو مطالبٌ بالنظر فيها جميعًا للاهتداء والاعتبار ثم للإنسان - خاصَّة - مكانة متفرِّدة، بين هذه الخلائق التي خلقها الله تعالى؛ ولذلك يأتي تخصيصُه بالحديث عنه وحده دلالة على عِظم مكانتِه، ثم يأتي - في الآية الثانيَّة - ما يشير إلى مرحلة من مراحل خلقه، وهي خلقه من عَلَق؛ لتكمل في القرآن من بعدُ سائر المراحل، وليكون الإنسان مدفوعًا إلى النظر في الإنسان والكون؛ ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].

د - ثم تتحدث الآيات الثلاث من الثالثة إلى الخامسة عن مَلمَح من ملامح العلم والقراءة في الإسلام، وهو أن العلم أثر من آثار الفضل والكرم الإلهي، وهو فضلٌ سِيق إلى الإنسان منذ آدم الذي علمه الله الأسماء كلها، ثم هو فضل متجدد لكل بني الإنسان، فقد أمدهم الله بالحواس والفطرة الصادقة، وزودهم بالعقل الذي تميّزوا به عما سواهم؛ ليكون طريقًا إلى العلم بالمجهول، وتراكم الخبرة، واقتناص المعرفة بالتأمل والاعتبار، ثم كان من فضل الله وكرمه أن أنزل الوحي هداية ونورًا، يستضيء بها العقل في المجالات التي تقصر ملكة العقل عن إدراكها، فهو نور الله الهادي؛ ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40].

وليس العلم في الإسلام إذًا مصادمةً لقدرة الله تعالى، ولا تمردًا على إرداته، كما هو الشأن في بعض الحضارات السابقة على الإسلام؛ كالحَضَارة الإغريقيَّة القديمة التي تتَمثَّل فيها المعرفة على أنها جاءت قهرًا عن إرادة [32] الآلهة، وقد تم ذلك على يد بروميثيوس الذي يوصف في الأساطير بأنه سارق النَّار المقدسة، التي لم يكن زيوس كبير آلهتهم قد أنعم بها على البشر خشية أن يصبح بنو البشر في غاية المهارة والمعرفة، فيظنوا أنفسهم مساوين للآلهة، ولكن بروميثيوس احتال للأمر حتى اقتبس النَّار من وهج الشَّمس، فتعرض بذلك لغضب زيوس الذي انتقم من البشر جميعًا؛ بسبب خديعة أحدهم له، فابتلاهم بالأمراض والهموم، ولكنه اختص بروميثيوس بأشد العقاب، حيث أمر بتقييده بسلاسل من الحديد إلى صخرة عظيمة، بحيث لم يكن يستطيع أن يحرك يدًا أو رِجلاً، ثم سلط عليه نسرًا ضخمًا يأتي إليه كلَّ صباح لينقر جسده، ويأكل كبده، الذي ينمو مرة أخرى في المساء، وتلتئمُ جراحُ جسدِه؛ لكي يأتيَ إليه النسر في الصباح الذي يليه، وهكذا تتجدَّد آلامُه وأحزانه كل يوم؛ بسبب سرقتِه للنار التي هي رمز للعلم والحياة في الأسطورة التي تكشف عن عقوبة الآلهة اليونانيَّة للإنسان، عندما حاول أن يكتشف المجهول، ويستقل بالعلم، في غفلة منها أو رغمًا عنها [33].

إن العلم في الإسلام ليس من هذا الباب، حيث التحدي والاحتيال والعقوبة القاسية المتجددة، وإنما هو فضل إلهي من الله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والذي خلق الإنسان علَّمَه البيان، وهو الذي يرفع أهل الإيمان وأهل العلم درجات؛ ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، ومن هذه الدرجات التي ينالونها أنهم:

• أهل الخشية لله ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

 

• أهل العلم بآيات الله، القادرون على فهم الأمثال، واستكشاف مواطن العبرة فيما خلقه الله.

 

• ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].

 

• ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].

 

• أنهم شهداء الله مِن خلقه على التَّوحِيد، لا يسبقهم فيه هذه الشهادة إلا الله تعالى وملائكته: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾ [آل عمران: 18].

• أن الله وعَد أهل التقوى بمزيد من العلم، تفضلاً منه وكرمًا، يتَّفق مع إخلاصهم العبادة لله تعالى، وتطهيرهم للقلوب من الخطايا التي تحجب القلب عن الاستزادة من نور الله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ [الحديد: 28].

 

فالعلم إذًا فضل من الله، لا يحجبه الله عن عباده، بل إن لكل إنسان منه قدرًا قليلاً أو كثيرًا، وليس على الإنسان حرج يمنعه من الاستزادة منه، بل إنه مطالب دائمًا بأن يفعل ذلك، وليس أكرم على الله من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بقوله: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].

 

وهكذا تتحدَّد بعض ملامح العلم في الإسلام، منذ الآيات الأولى من القرآن، وهي بمثابة إعلان مدوٍّ عن وضع لبنات دين جديد وحضارة جديدة مؤسَّسة على العلم، الذي هو موضع حفاوتها وتقديرها؛ لأنه سلاح من أمضى أسلحتها في الدعوة والإقناع بالحجة والبرهان، ولئن كانت هذه الحَضَارة قد سلكت فيما بعد طريق الجهاد وفتح البلاد، فإن ذلك لم يكن لقهر النَّاس على اعتناق الإسلام؛ لأنه ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256].

وإنما كان ذلك لتهيئة الظروف؛ لكي يعرف النَّاس هذا الدِّين، ويعرضوا أصوله على عقولهم؛ لأنه على ثقة من نتيجة الفهم النزيه، والبحث الأمين عن الحقيقة؛ ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 46]، وما دام الأمر كذلك فإن من المنطقي أن يكون للعلم والبرهان أعظَم مكانٍ في هذا الإسلام؛ لأن الحجة الصحيحة - كما يقول ابن حزم - أقوى في مواجهة الأعداء من السلاح الشاكي والأعداء الكثيرة؛ لأن الأعداء قد تُهزَم، أما الحجة فلا تهزم أبدًا [34].

ولئن كانت أول الآيات نزولاً في القرآن تحدد بعض ملامح العلم في الإسلام، فإن هذه الملامح سوف تزداد تفصيلاً وشمولاً فيما ينزل بعدها من القرآن [35]، حيث يتكرر الحديث عن العلم: أمرًا به، ودعوةً إليه، وبيانًا لمكانة أهله، وما يختصون به من فهم الآيات والأمثال.

 

ويمكن أن نشير إلى بعض خصائص العلم، التي جعلته من أسباب القوة للأمة الإسلاميَّة على النحو التالي:

أ - أن العلم في الإسلام لا ينظر إليه على أنه مجرد حرفةٍ أو مهنةٍ؛ بل إنه عبادةٌ يتقرب بها المؤمن إلى الله تعالى، وأنها طريق من الطريق المؤدية إلى طاعته ومرضاته، وليس أدل على ذلك من حديث أبي الدرداء، الذي أتى إليه رجل من مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ عنه حديثًا بلَغَه أنه يحدث به عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء: "وما جئت لحاجة؟ قال: لا، قال: ولا لتجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئت إلا لهذا؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتَها لطالب العلم، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض وكل شيءٍ، حتى الحيتانُ في جوف الماء، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)) [36].

ومن شأن هذه النظرة أن تعين المتعلم على تحمل مشاق طلب العلم، وأن تمنح النفس طاقة متجددة من الصبر على أعبائه، بل تجعل النفس فرحة مبتهجة بأنها تسلك طريق الجنة منذ خروجها لطلب العلم إلى أن ترجع، وأنها تكون موضع الحفاوة والتكريم والدعاء والاستغفار من أهل السموات والأرض، وأنها تأخذ بحظ كريم من ميراث النبوة يرفعها عند الله وعند النَّاس مقامًا عليًّا، ولا شك أن استحضار هذه المعاني عند التعليم يجدد العزم، ويقوي الاحتمال، ويحيط عميَّة التعلم بجو من الأخلاق الرفيعة التي تصون كرامة العلم وتجدد الرغبة في طلبه لدى المتعلم، وتقوي الحوافز المعنوية على الاستمرار فيه حتى ولو كانت الحوافز المادية من ورائه قليلة.

ومن أجل هذه النظرة إلى العلم على أنه عبادة وطاعة كان الصحابة ومَن بعدهم مِن التابعين يرحلون في طلب العلم مع ما في الرحلة - قديمًا - من المشاق والأعباء الجسام، حتى إن أحدهم ليسير شهرًا ذاهبًا وشهرًا راجعًا من أجل حديث أو كلمة حكمة يريد تعلمها [37]، وإن أحدهم يتحمل العناء في صبرٍ جميلٍ حتى يظفر بما يريد من العلم؛ فابن عباس - رضي الله عنهما - يبلغه أن رجلاً سمع من الرَّسول صلى الله عليه وسلم حديثًا فيذهب إليه فيجده مستريحًا في وقت القيلولة، فما كان منه إلا أن جلس أمام بيته ينتظر خروجه بينما الريح تثير الرمال في وجهه، والحَرُّ يلفحه بلهيبه، فلما خرج الرجل رآه على حالته هذه، فقال له: فهلا بعثت إليَّ حتى آتيك، فقال له ابن عباس: أنا أحق أن آتيك [38]، وقد كان من أقوى الدوافع إلى هذا التحمل نظرتهم هذه إلى العلم؛ بل إنه كان من أفضل العبادات لديهم؛ كما يقول سفيان الثوري: "ما من عمل أفضل من طلب العلم إذا صحت فيه النيَّة" [39]، وقال أبو هريرة من قبله: "لأن أجلس ساعة فأفقه أحبُّ إليَّ من أن أحيي ليلة إلى الصباح"، وكان مما يزيدهم فيه رغبة أن العالم والمتعلم مأجوران أخطأا أم أصابَا، ما داما قد بذلا أقصى جهدهما في طلب الحق؛ فمن أدركه نال أجرين، ومن عجز عن الوصول إليه بغير تقصير منه فله أجرٌ عند ربه، بسبب ما بذله من الجهد الذي لا يضيع عند الله تعالى، فإذا يَسَّر الله له علمًا صحيحًا نافعًا، فأدَّاه إلى النَّاس، فانتفعوا به، كان له أجر زائد، هو أجر الدعوة إلى الخير وهداية النَّاس إليه، فالدال على الخير كفاعله، فإن كَتَبَ هذا العلم، ثم انتفع به النَّاس في حياته أو بعد موته - فأجره موصول لا ينقطع: ((إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له))[40].

ب - إن العلم في الإسلام ليس ترفًا ولا نافلةً، ولكنه يرتفع إلى مقام الفرض الواجب الذي يكون المقصر فيه آثمًا، ويستند هذا الحكم إلى ما نسب إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم من قوله: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) [41].

 

وقد قسم العلماء هذا الفرض إلى قسمين: فرض عين، وفرض كفاية؛ فالأول هو الذي يجب على صاحبه وجوبًا عينيًّا، بحيث لا يقوم أحد مقامه فيه، فإذا أدَّاه نال أجره وأسقط الإثم عن نفسه، أما إذا قصر فيه، فإن عليه الإثم بسبب هذا التقصير، وأما الثاني، فهو الذي يجب على الجماعة أو المجموع، بحيث إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الجميع، وإذا لم يقم به أحد كان الجميع آثمين.

وينقسم كل واحد من القسمين إلى أقسام، ففرض العين ينقسم إلى أربعة أقسام [42]:

1 - العلم بأصول الدِّين وأركان العقيدة: كالإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، فلا بد لكل مسلم من العلم - ولو إجمالاً - بهذه الأصول التي لا يقوم الإيمان بغيرها، وليس يلزمه أن يعلم هذه الأشياء بأدلتها وبراهينها التفصيلية التي يلزم بها العلماء، ولكن عليه أن يسعى إلى العلم بها، وأفضل طريق إلى تعلمها يتأتى عن طريق النظر أو الاستماع، أو الفهم لما جاء عنها في الكتاب والسنة، اللَّذين منهما تؤخذ أصول العقيدة كما تؤخذ أصول الأحكام والأخلاق، وقد يسَّر الله تعالى القرآن للذكر، وسهل للناس سبيل العلم به تلاوةً وسماعًا، وعلى أهل الاختصاص بيان ذلك للناس بالتعليم والتأليف، والدعوة والإعلام؛ حتى لا يقع منهم تقصير في هذا الأمر الواجب، الذي قد يغيب وجوبه عن كثير من النَّاس.

2 - العلم بشرائع الإسلام: وخاصَّة ما يتعلَّق منها بأركان الإسلام، وعلى وجه أخص ما تتحقق شروطه فيه؛ كالصلاة بأن يعرف أحكامها وشروطها، وما يلزم لها من طهارة وتوجه إلى القبلة، ونحو ذلك من الأحكام، ثم عليه أن يعرف ويُقِرَّ بفرضيَّة باقي الأركان: كالزكاة والصوم والحج، وإن لم يلزمه العلم بتفصيلات أحكامها إلا إذا كان من أهلها: كأن يكون صاحب مالٍ فتجب عليه الزكاة، أو أن يكون قادرًا مستطيعًا لأداء الحج فيجب عليه، وعليه عندئذ أن يعلم أو أن يسأل عما يجب عليه من الأحكام؛ حتى لا يقع في مخالفة أو مخالفاتٍ تُبطل عبادته أو تنقص كمالها، وهكذا.

3 - العلم بأصول المحرمات التي حرمها الله في الشرع: كتحريم الزنا والخمر وقتل النفس بغير حقٍّ، ونحو ذلك من المحرمات: كالبغي والظلم، والرشوة وشهادة الزور، وأكل أموال النَّاس بالباطل، وخيانة الأمانة، والغدر بالعهود، وما أشبه ذلك من المحرمات، والعلم بحكم هذه الأشياء فَرضٌ على المسلم حتى لا يقع فيها؛ لأنَّها من المحرمات التي حرمها الله تعالى، وجعلها من كبائر الذنوب التي جعل لبعضها حدًّا شرعيًّا وعقوبةً مقدرةً، وجعل لبعضها عذابًا عظيمًا، إذا مات المؤمن من غير توبة منها، إلا إذا أدركته رحمة من الله.

4 - يتَّفِق المسلمون عامَّةً في العلم بهذه الأمور الثلاثة السابقة، ثم يجب على كل منهم أن يعرف أحكام الإسلام وما شرعه من الأداب للمهنة أو الحرفة التي يحترفها ويتخصص فيها: كالولاية والإدارة والقضاء والإفتاء، والتعليم والتجارة والزراعة والصناعة، على اختلاف أنواعها... إلى آخر المهن التي يقوم بها النَّاس، فإن وجد المسلم في الشرع أحكامًا أو وصايا تفصيلية، فعليه أن يبذل الجهد في معرفتها حتى يراعيَها في سلوكه وخُلُقه؛ ولئلاَّ يقع في مخالفة ما شرعه الله تعالى، وإن لم يجد أحكامًا تفصيلية، فعليه العلم بالآداب والأخلاق العامَّة التي شرعها الله ورسوله للمؤمنين جميعًا، وأن يطبِّقها على حرفته، وأن يعلم أنه - من قبل ومن بعد - تحت عين الله لا يفلت منه، وأن الله سائله عن كل فعل يفعله، ومحاسبه عليه، وما دام المسلم يعتقد بما جاء في الإسلام من أن شريعته شاملةٌ جامعةٌ، فإن له أن يتوقع أن يجد في كل باب من أبواب السُّلوك توجيهاتٍ ووصايا، وإذا خطر له أحيانًا أنه ربما لا يجد في الشرع أمرًا يتعلَّق بحرفته، فإن عيه أن يعلم أن ذلك يدل على مبلغ علمه أو جهله بالإسلام، ولكنَّه ليس منطبقًا على ما يتضمَّنُه الإسلام ذاته، وقد جعل الله في شريعته تبيانَ كلِّ شيءٍ، تفصيلاً أو تأصيلاً؛ كما تدل على ذلك آيات القرآن الكريم، وسنة الرَّسول صلى الله عليه وسلم واجتهادات العلماء [43] وأقوال المفسرين.

أما فرض الكفاية، فإنَّه ينقسم - بصفة عامة - إلى قسمين كبيرين:

أولهما: كل علم يعين على تعريف النَّاس بالعلوم السابقة أو ما يعين على تحقيقها، فتعلم النَّاس لأحكام الإسلام وعقائدة وحلاله وحرامه أمرٌ واجبٌ، ولكن لا يلزم أن يكون كل واحد من المسلمين قائمًا بهذا التعليم ولا متخصصًا فيه، وإلا لكان الأمر شاقًّا على النَّاس، وشريعة الله تقوم على اليسر ورفع الحرج، ومن هنا جعل العلم بهذه الأحكام والتفقُّه فيها واجبًا على طائفة من النَّاس لتقوم - بعد تعلُّمها - بتعليم النَّاس أمورَ دينهم؛ ﴿ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، والقضاء على سبيل المثال أمر واجِب لتوصيل الحقوق إلى أصحابها، ومنع المظالم، والأخْذ على يد الظالم وردعه، وليس من الممكن أن يكون كل النَّاس قضاة؛ ولذا يلزم أن يكون في المجتَمَع من يقوم بهذه الوظيفة لتؤدِّي هذه الأغراض الشرعيَّة الاجتماعية، ووظيفة القضاء إذًا فرض كفاية وهي واجبَة على سبيل فرض الكفاية؛ اتباعًا لتلك القاعدة التي تقول: "إن مالا يتم الواجب إلا به فهو اجب"، وهكذا.

أما القسم الثاني: من فروض الكفاية، فهو يتضمن العلم بكل ما يؤدي إلى تحقيق مصالح المسلمين [44]، ومن يدخل في عهدهم وذمتهم، بشرط ألا تتعارض هذه المصالح مع شريعة الله تعالى، وبعض هذا المصالح قد جاءت بها أوامر شرعيَّة؛ كالأمر بإعداد القوة في مثل قوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، فإذا كان إعداد القوة واجبًا فإن كل ما يؤدِّي إلى تحقيق هذا الواجب يُعَدُّ واجبًا، ويدخل في ذلك علوم الصناعات المدنيَّة والحربيَّة على اختلافها وكثرتها، ولا بد من إعداد العلماء المتخصصين في هذه الفروع العلميَّة، وإلا وقع المسلمون في التقصير الذي يؤدي إلى الإثم، وينطبق ذلك على أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي؛ لأن الله تعالى ((ما أنزل داء إلا أنزل له دواء))؛ رواه البخاري [45]، ولكي يتم تحقيق هذا الأمر يلزم إعداد الأطباء ومن يعاونهم في التمريض والعلاج، وإعداد الدواء ونحو ذلك من التخصصات، التي يلزم وجودها لتحقيق هذا الأمر النبوي، وهكذا كل علم يؤدي إلى تحقيق مصالح العباد، ما دامت لا تتعارض مع أحكام الشريعة ومقاصدها، فهذه العلوم كلها من فروض الضعف والعجز الذي لا يرضاه الله للمسلمين [46]، وقد نبَّه بعض علماء الإسلام كالغزالي وغيره إلى هذا من زمن بعيد، وجعلوا تعلُّم هذه العلوم من فروض الكفاية؛ لما يترتب عليها من تحقيق مصالح المسلمين [47]، ولم يَرَ بعضهم - كابن تيميَّة - بأسًا في تعلم هذه العلوم من غير المسلمين؛ لأن هذا من قبيل الانتفاع بآثار الكافرين والمنافقين في أمور الدنيا، وهذا جائز كالسكنى في ديارهم، ولبس الثياب واستعمال السلاح الذي يأتي من عندهم، وقد قاس ذلك كله على ما فعله الرَّسول صلى الله عليه وسلم من نحو استئجار عبدالله بن أريقط في رحلة الهجرة من مكة إلى المدينة، وكان مشركًا، إلا أنه كان ماهرًا أمينًا، ثم قال بعد أن ذكر أمثله أخرى من السنّة: "فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه (اتخاذه طبيبًا)؛ بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعيَّن من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة))[48].

وهكذا يكلِّف كل مسلم بتعلُّم قدر من العلوم الواجبة على سبيل فرض العين، ثم تكلف الجماعة بتوفير ما يجب تعليمه وتعلمه على سبيل فرض الكفاية، سواءٌ أكان متعلقًا بأمور الدِّين أم متعلقًا بما يحقق المصلحة من علوم الدنيا، ويهمنا أن نشير هنا إلى ما قاله ابن حزم منذ ما يزيد على تسعمائة عام في ضرورة تهيئة الفرصة للتعلم، وخاصَّة لعلوم فرض العين، ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا: إما بأنفسهم، وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم، وفرض على الإمام أن يأخذ النَّاس بذلك، وأن يرتب أقوامًا لتعليم الجهَّال"[49].

والعلم إذًا لا يصح أن يتجاهله مسلم، وإن تفاوتت فيه أقدار النَّاس: قلة وكثرة، وضيقًا واتساعًا، على قدر أفهامهم وأحوالهم، ولقد كان يساعد على تحقيق ما أوجب الإسلام من كون العلم فريضة أن الدولة والأفراد كانوا يتعاونون في توفير العلم لكل راغبٍ فيه مجانًا بلا تكاليف، بل كانت الدولة - في عصر ازدهارها - تمنح الطلاب من المال ما يعاونهم على طلب العلم من غير إثقال على أهليهم، ولا شغل لهم بطلب القوت، وكانت توفر لهم المسكن في أحيان كثيرة، وكان أهل الخير من المسلمين يوقفون الأوقاف للإنفاق منها على التعليم والمتعلمين، بحيث ينصرفون إلى طلب العلم دون انشغال بغيره، وقد كان هذا النظام مطبقًا في الأزهر إلى عهد قريب [50]، وما تزال توجد صور منه في بعض البلاد الإسلاميَّة، إدراكًا منها لأهميَّة العلم، ودوره في النهوض بالأمة وتيسيرًا منها على طلاب العلم بإعطائهم بعض ما يحتاج إليه العلم من إنفاق وأعباء.

ج- كان العلم قبل الإسلام منحصرًا في طائفة من النَّاس، وينطبق ذلك على الحضارات السابقة على الإسلام، والتي كانت تقوم في بنائها الاجتماعي - غالبًا - على أساس طبقي صارم، وكان العلم من نصيب الطبقة العليَا في المجتَمَع، بحيث لا يشاركها في التعلم أو المعرفة من دون هذه الطبقة من الطبقات الأخرى، وينطبق ذلك على الفرس والهند، كما ينطبق على مصر القديمة التي كان العلم يها محصورًا في طبقة الكهنة الذين كانوا يستأثرون بالعلم ويحتلون بسببه مكانةً عليا في المجتَمَع، وينطبق ذلك على اليونان حيث كان الفكر من نصيب الفلاسفة الذين كان لهم عند اليونان المكانة العليا كذلك؛ بل إن الكنيسة الكاثوليكية في أوربا جعلت قراءة الإنجيل وتفسيره حكرًا على البابا وكبار الأساقفة، ولم يكن من حق أحد أن يجتهد في ذلك، بل إن على الجميع السمع والطاعة للتفسيرات الرسميَّة الصادرة عن الكنيسة [51]، وظل ذلك مستمرًّا إلى أن قامت الحركة البروتستانتية بمقاومة هذا الأمر، عند نشأتها في أوربا في القرن السادس عشر الميلادي، ثم كان لاختراع الطباعة أثرٌ كبيرٌ في هذا المجال.

ولقد كانت هذه القلة التي تحتكر العلم تستخدم في كثير من الأحيان لغة خاصَّة لا يستطيع أن يفهمها عامة النَّاس، بل إن العبادات لدى بعض الطوائف الدِّينيَّة، كانت تؤدى بلغات غير مفهومة للجمهور ولا مستعملة، لكن الإسلام سلك طريقًا آخر، فأسقط احتكار العلم، وفتح كل الأبواب المؤدية إلى تحصيله، ولم يقف في وجه من يطلب العلم بسبب جنسه أو نوعه أو لونه أو مكانته الاجتماعية، ولقد كان المسلمون يحسون من قديم بهذا الفارق المهم الذي يميزهم عن غيرهم من الأمم، وممن أشار إلى ذلك أبو طالب المكي (386 هـ)؛ حيث ذكر أن من خصائص هذه الأمة: أن كل مؤمن من هذه الأمة يسأل عن علم الإيمان، وهو أعلى العلوم، وينطبق هذا على الأدنى من باب أولى، ويُسمع قوله، ويُؤخذ من رأيه وعلمه مع حداثة سنه، ولم يكونوا فيما مضى يسمعون العلم إلا من الأحبار والقسيسين لا غير من النَّاس"[52].

وأدت هذه السماحة الفكرية والتفتح العقلي إلى تنافس النَّاس في طلب العلم، حتى أصبح قيمةً عليَا يفتخر النَّاس بها، ويؤدي حصولهم عليها إلى رفع درجتهم الاجتماعية في المجتَمَع، حتى لو كانوا من أوساط اجتماعية متواضعة، وهكذا رَفع الإسلامُ بالعلم أقوامًا، ما كانوا ليرتفعوا لولا اتِّصافُهم بهذه الصفة، ومن ثَمَّ أقبل النَّاس على العلم، يجدون فيه رفعةً ومكانةً وشرفًا، وتفتَّحت في ظل الإسلام مواهبُ، وأثمرت عقولٌ، ما كان لها - قبل الإسلام - أن تُسهِم في أي إبداع فكري، أو إنتاج علمي، وينطبق ذلك على فئة الموالي، الذين لم يكونوا في كثير من الأحيان ذوي نسبٍ عريقٍ، ولا شرفٍ تليدٍ.

ويتضح الفرقُ بين موقف الإسلام من هؤلاء، وموقفِ غيره منهم، أن أمثال هؤلاء كانوا - في حضارة كالحَضَارة اليونانيَّة مثلاً - في الطبقة الدنيا: طبقة المنتجين من الزراع والصناع ونحوهم، وليس في إمكان هؤلاء - بحسب التقسيم الاجتماعي لدى فيلسوفٍ كأفلاطون - أن يغادروا طبقتَهم التي ينتسبون إليها بحسب ولادتهم، وليس بإمكانهم كذلك أن يشغلوا أنفسهم بفنٍّ راقٍ، أو فكرٍ رفيعٍ؛ لأن كل إنسان أسيرُ طبقتِه التي وُلد فيها[53]، وكان أرسطو ينظر إلى هؤلاء على أنهم أدوات إنتاج، لا فرق بينهم وبين الآلات، إلا في أن هؤلاء يتنفَّسون، ويتَّصفون بمظهر الحياة، وكان يقول: إن العبد آلة متنفسة، أما الآلة فهي عبدٌ غير متنفس؛ أي غير حي، وأمثال هؤلاء ليسوا جديرين بأن تتجه إليهم نفوسُ الأحرار بالمودة، وليس بإمكانهم أن يبدعوا فكرة أو شيئًا في العلم ذا قيمة[54].

أما الإسلام فإنه يكِّرم الإنسان في ذاته، ويُسقِط التفرقةَ القائمة على تلك المظاهرِ الشكلية، التي اصطنعها البشر أساسًا للتمييز فيما بينهم؛ كاللون، أو السلالة، أو العصبيَّة، أو الجاه، ونحو ذلك؛ ولذلك اتَّسع صدرُ الإسلام لهؤلاء الموالي، ولم يَحرِمهم حقَّهم في الكرامة والرفعة في المجتَمَع، ما داموا جديرين بها، وجعل الرَّسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء من المنزلة على قَدْر عِلمهم وفضلِهم، وقد جعل الرَّسول سالمًا مولى أبي حذيفة رابعَ أربعةٍ يؤخذ منهم القرآنُ، وكان الصحابة يقدِّمونه للصلاة، فكان يؤم المهاجرين وفيهم عمر بن الخطاب وغيره؛ "لأنه كان أكثرهم أخذًا للقرآن، وكان عمرُ يكثر الثناءَ عليه، حتى قال لما أوصى عند موته: لو كان سالم حيًّا ما جعلتُها شورى"[55].

ولم يكن الأمر وقفًا على سالمٍ هذا، وإنما كان موقفًا عامًّا وَقَفَه الإسلام من كل ذي علم، فوجدنا من أئمة الفقه والحديث والتفسير والنحو واللغة، وغيرهم - مَن ينتسب إلى هؤلاء الموالي؛ بل وجدنا كثيرين منهم يتصدَّرون حلقات الدرس ومجالس العلم، حتى لقد فزع من ذلك بعضُ أهل العصبيَّة للعرب؛ كعبدالملك بن مروان الخليفة الأموي، الذي نظر فرأى أن مدارسَ العلم بأكبر البلاد الإسلاميَّة في عهده، كان يتنازعها الموالي، فقال للزهري - وهو عربي من أئمة الحديث -: "والله لَتَسُودَنَّ الموالي على العرب، حتى يُخطَبَ لها على المنابر، والعرب تحتها، قال (الزهري): قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودِينه، مَن حفِظَه ساد، ومَن ضيَّعه سقط"، ثم بيَّن الزهري أن هؤلاء الموالي إنما سادوا، وتقدَّموا، وشَرُفوا بالديانة والعلم[56].

وهكذا لم يكن العلم محتكرًا في الإسلام؛ بل كان من وصايا الإسلام: الدعوة إلى نشر العلم، وإذاعته وعدم كتمانه، وقد جاء في القرآن قولُ الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187]، وفَهِم منها العلماء أنها نزلت - كما قال الحسن وقتادة -: "في كل مَن أوتي علمَ شيءٍ من الكتاب، فمَن عَلِم شَيئًا فلْيُعَلِّمْه، وإياكم وكتمانَ العلم؛ فإنه هلكة" [57]، وجاءت أحاديثُ كثيرةٌ في كتمان العلم[58]، وقال عمر بن عبدالعزيز: "ولْتُفشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم مَن لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرَّا"[59].

ولم يكن للعلم في الإسلام لغةٌ سريَّة لا يعرفها إلا خاصَّةُ الخاصَّة كما كان شأن بعض أهل الأديان قبل الإسلام؛ بل إن لغة العلم كانت هي اللغةَ العربيَّة، التي سادتْ أكثرَ بلاد الإسلام، وانتشرت انتشارًا مذهلاً، وحبَّبها الله إلى المسلمين من غير العرب، فاستعاضوا بها عن لغاتهم الأصلية، وكتَبُوا مؤلَّفاتِهم فيها، حتى إن بعض هؤلاء قدَّموها في مؤلفاتهم على لغاتهم الأصلية؛ بل إن بعض هؤلاء - وهو أبو الريحان البيروني - دفعَه حبُّ اللغة العربيَّة إلى أن يقول: "لأَنْ أُهجَى بالعربيَّة أحبُّ إليَّ من أن أُمدح بالفارسية"[60].

بل إن سماحة الإسلام، وذيوع اللغة العربيَّة، قد أسهما في أن تكون اللغة العربيَّة هي اللغةَ التي يَكتب بها، ويؤلِّف بها جماعاتٌ لم تكن مسلِمة، ولكنها وجدت أن الكتابة بالعربيَّة تؤدِّي إلى حفظ عِلمها، وإذاعته بين النَّاس، ويقرر ذلك جورج سارتون، أحد كبار مؤرِّخي العلم في العالم، حين وصف علاقة المسلمين بغيرهم بأنها كانت علاقة وديَّة، أو على الأقل لا عدوان فيها؛ "لأن المسلمين عامَلُوا رعاياهم بكل رحمة وسماحة، وبعنايتهم وتشجيعهم نُشِرت بحوثٌ كثيرة، وأعمَالٌ علميَّة باللغة العربيَّة، ألَّفها غير مسلمين، منهم صابئون، ونصارى، ويهود، وسامريون، وحتى نهاية القرن الثاني عشر كانت العربيَّة لغةَ اليهود الفلسفية والعلميَّة"[61]، وقد اختارها كذلك المسيحيون في الأندلس، حتى كان ذلك موضعَ الشكوى من أهل العصبيَّة فيهم، وهذا أحدهم - ويسمى الفارو - كان يشكو قائلاً: "يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمَّديِّين، لا لتفنيدها؛ بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق، إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز النَّاس مواهبَ، ليسوا على علم بأيِّ أدب ولا لغة، غير العربيَّة، فهم يقرؤون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتباتٍ كاملة، تكلفهم نفقات باهظة"[62].

وهكذا انتَقَل العلم - بسبب الإسلام - نقلة هائلة، لم تحدث من قبل، وأصبح الحصول عليه سهلاً ميسورًا، وأصبحت لغته مألوفة معروفة، ولم يحدث هذا - قط - قبل الإسلام، ويزداد هذا الأمرُ أهميَّة إذا لاحظنا كثرةَ الشعوب التي دخلت في الإسلام، وامتداد الرقعة التي استظلت به، وانتسبت إليه.

 

د - تُطلق كلمة العلم في الإسلام - أول ما تطلق - على العلم بالدِّين، عقيدةً وشريعة، وأخلاقًا وأحكامًا، وهذا العلم قد تضمنه كتابُ الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهما عند أهل الإيمان:

• مصدر العلم بالإسلام وأحكامه؛ ولذلك يجب الرجوع إليهما؛ للتَّعرُّف على حكم الله تعالى وحكم رسوله، فهُما موطنُ الاختصاص في هذا، ولا يصحُّ أن يُقدَّم عليهما شيءٌ غيرهما من أفهام العلماء، ومذاهب المجتهدين، ويصف البخاري منهجَ أئمة المسلمين في هذا الصَّدَد، فيقول: "وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناءَ من أهل العلم في الأمور المباحة، فإذا وضح الكتابُ أو السنة، لم يَتعَدوه إلى غيره، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم"[63].

• ثم هما المرجع عند الاختلاف والتنازع؛ ولذلك أمر الله تعالى بالرجوع إليهما في قوله: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [النساء: 59]، فما حَكَم به الكتاب والسنة، وشهدا له بالصحة، فهو الحق، وإلاَّ فهو باطل.

 

• ولذلك جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على فضل هذا العلم، الذي هو - في المقام الأول - العلم بالإسلام[64]؛ لما لذلك من أثر في تعريف النَّاس بالدِّين، حتى يكون عملهم به قائمًا على العلم، لا على الهوى، وعلى الاتباع، لا الابتداع، وعلى البصيرة والفهم، لا على مجرد التقليد دون بيِّنةٍ، وقد كان هذا من تعليم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108].

 

ولكننا نجد - بجانب هذا المعنى للعلم - حديثًا عن علوم أخرى؛ مثل تعلُّم الأنساب، التي قال عنها الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((تعلَّموا من أنسابكم، ما تَصِلُون به أرحامَكم))[65]، وتعلُّم كتاب يهود؛ أي: لغتهم، حيث أمر الرَّسول زيدَ بن ثابت قائلاً: ((يا زيد، تعلَّم لي كتابَ يهود؛ فإني واللهِ ما آمن يهودَ على كتابي))، قال زيد: "فتعلمت كتابهم، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب"[66].

كما نجد في حديث الرَّسول تحذيرًا مِن تناوُلِ مَن تناوَلَ بعضَ العلوم والحرف دون تعلُّم لها؛ لأن ذلك يؤدي إلى وقوع النَّاس في الضرر، الذي هو محرَّم في الإسلام، ومن هذا الباب قولُه صلى الله عليه وسلم: ((مَن تطبَّب، ولم يُعلم منه طِبٌّ، فقَتَل، فهو ضامن))[67]، ونجد في القرآن الكريم كذلك حديثًا عن علم المواقيت، وعلم السنين والحساب[68].

كما نجد فيه أمرًا عامًّا بمعرفة التاريخ، والاعتبار به، واستكشاف سننه وقوانينه، ثم بالنظر في خلق الإنسان وابتداء وجوده، وفي طعامه وشرابه، وفي الوجود من حوله، جمادًا ونباتًا وحيوانًا، وأرضًا وسمًاء، وبدءًا وانتهاءً، كما تدل على ذلك آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم.

ويمكن أن نَفهَم من هذا، أن العلم - حتى في عصر النبوة - كان يتَّسِع ليشملَ أنواعًا من العلوم التي ينبغي العلم بها، إلى جانب العلم بالقرآن والسنة.

 

ثم اتسع نطاق "العلم" على يد الصحابة، الذين وُضعتْ في عهدهم أسسُ العلوم الشرعيَّة الإسلاميَّة؛ كعلم الفقه والأحكام، وعلم السُّنن والآثار، وعلم السير والأخبار، ومسائل من علم أصول الفقه، وعلم التفسير، والنحو، وغير ذلك من العلوم[69] التي وُضِعت نواتها في عهد الصحابة، ثم أكملها التابعون مِن بعدهم، واتسعت كلمة العلم لذلك كله، خاصَّة وأن الغاية الدِّينيَّة كانت واضحة في العلوم الشرعيَّة، من حيث المعاونة على معرفة ضبط اللغة العربيَّة، التي بها نزل القرآن، وجاءت بها السنة، ومن ثَمَّ لم تكن هنالك غرابة في إطلاق اسم العلم عليها، والنظر إلى هذه العلوم على أن طلَبَها يكون عبادة لله تعالى وتقرُّبًا إليه، وأنها داخلة في نطاق العلم الذي ينال الإنسان أجرًا من الله عليه، وأن مَن أخذ بشيءٍ منها، فقد أخذ بحظ وافر، كما جاء في الحديث.

• ثم تُرجِم تراث الأمم الأخرى إلى اللغة العربيَّة، في حركة الترجمة المشهورة، التي شهدتْ أزهى عصورها في عهد الدولة العباسية، وخاصَّة في عهد المنصور والرشيد والمأمون، وترتَّب على هذه الترجمة نقلُ الفلسفة اليونانيَّة، بما تضمنته من طبيعيات، ورياضيات، وإلهيات، كانت تسمَّى علم ما وراء الطبيعة.

 

وعلى الرغم من وجود طائفة انتسبت إلى الفلسفة، وتسمَّت باسمها، ودافعت عنها، وعملت على التوفيق بينها وبين الدِّين، إلا أن الفلسفة - وبخاصَّة في الجانب الإلهي منها - قد شهدت معارضةً شديدةً، ونُظِر إليها لدى بعض الفقهاء وغيرهم على أنها نوع من الإلحاد، وأن الانتساب إليها والعصبيَّة لها خروج على الدِّين، وكان مما قيل في ذلك عن الكندي:

أَتَقْرِنُ   إِلْحَادًا   بِدِينِ   مُحَمَّدٍ ♦♦♦ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا يَا أَخَا كِنْدَةَ إدَّا[70]

وقيل عن ابن سينا:

قَطَعْتُ الأُخُوَّةَ مِنْ مَعْشَرٍ
بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ كِتَابِ الشِّفَا
فَمَاتُوا عَلَى دِينِ رِسْطَالِسٍ
وَمِتْنَا عَلَى مِلَّةِ المُصْطَفَى
[71].

وإذا كانت النظرة إلى الجانب الإلهي من الفلسفة، قد جاءت حاسِمة لدى هذا الفريق من علماء الشريعة، فإن النظرة إلى الجوانب الأخرى - التي كانت تندرج تحتها في ذلك الزمان، قبل استقلال العلوم عن الفلسفة فيما بعد - لم تكن موضع اتفاق، وينطبق ذلك على العلوم التي توصف بأنها علوم تجريبيَّة؛ كعلم الطب والصيدلة، وعلوم الحيوان والنبات والفلك ونحوها، كما ينطبق على علوم الرياضيات؛ كالهندسة والحساب ونحوها.

 

فقد أثير التساؤل حول هذه العلوم: هل تدخل في نطاق العلم الشرعي، الذي يؤجر صاحبُه عند الله، بحيث يكون طلب هذه العلوم، والانشغال بها - عبادةً، أو لا؟

وانقسم الرأي حول هذه العلوم، فذهب بعض العلماء إلى أن العلم ينحصر في العلوم الشرعيَّة وحدها، ولا ينطبق على سواها، واستدل هؤلاء ببعض الأحاديث النبوية، ولكن ابن عبدالبر - الذي روى رأي هؤلاء العلماء، دون أن يَذكُر أسماءهم - يلاحظ أن هذه الأحاديث ضعيفة؛ بسبب وجود بعض الرواة الضعفاء فيها، ثم إن هذه الأحاديث يمكن تفسيرها بأن علوم الشرع تأتي في الدرجة العليا، ثم يأتي غيرُها فيما دون ذلك من الدرجات، دون أن يكون الانشغال بها مكروهًا أو محرَّمًا؛ بل إن بعض هذه العلوم - كالحساب - لا يكاد يُستغنَى عنه؛ بسبب الحاجة إليه في التِّجارة وغيرها، وفي معرفة مقادير الزكاة، وتقسيم المواريث ونحوها، وكعلم الطب، الذي يُعَدُّ ضروريًّا لدراسة الأمراض، ومعرفة طبائع الأبدان، وما يطرأ عليها من الآفات، وكيفية علاجها، وإعادة الأجسام إلى حال الصحة والسلامة، وكعلم الفلك، الذي يستعان به في معرفة مواقع الأفلاك، ومعرفة الأوقات والأماكن، ومعرفة الكسوف والخسوف، وعلاقة الكواكب والنجوم والرياح بنزول الأمطار، والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر، ونحو ذلك.

بل إن ما هو أدنى[72] درجة من هذه العلوم، يحتاج إليه النَّاس في معاشهم؛ كالصنائع والحِرَف والمهن اليدوية، التي تحتاج إلى تدريب وخبرةٍ؛ ليتحقق للناس ما فيها من فائدة[73].

 

ويمكن القول بأن الاتجاه الثاني، الذي يوسع نطاق العلم الشرعي الذي يثاب صاحبه، ليشمل هذه العلومَ الطبيعية والكونيَّة ونحوها - يُعَدُّ أصحَّ فهمًا لمدلول النصوص الشرعيَّة، وأقربَ إلى تمثُّل موقف الإسلام من العلم بصفةٍ عامةٍ، كما أنه يعد أكثرَ فهمًا للواقع، الذي لا يتجاهله الإسلام؛ بل إنه أمر بالنظر والتفكر فيه، والاعتبار بما فيه من سننٍ وقوانينَ مطردةٍ، تدل على حكمة خالقه وعِلمه.

ومن الأدلة التي يمكن أن تساق تأييدًا لهذا الرأي ما يلي:

1- أن الإشادة بالعلماء قد جاءت في بعض الآيات القرآنيَّة، التي تتحدث عن علوم طبيعيةٍ كونيَّةٍ، وعلوم تتعلَّق بالإنسان والحيوان والنبات، من حيث كمال الخلق، ودقة الصنع، واطراد النظام.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 27، 28].

ومن الواضح أن الآيتين تتحدَّثان عن بعض آثار قدرة الله - عزَّ وجل - في الوجود، الذي لا تحكمه طبيعةٌ ماديةٌ صماءُ، أو قانون يعمل في الكون بطريقة آلية؛ بل إنه وجود يحكمه علمٌ وإرادةٌ، ويتجلى فيه قدرة وحكمة، ولذلك ينزل الماء واحدًا من السماء، ولكن الله يُخرِج به ثمراتٍ مختلفًا ألوانُها، كما قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ﴾ [الرعد: 4]، ثم بيَّن القرآن أن هذا الاختلاف - مع وجود ما يؤدي إلى الاتِّفاق - ليس موجودًا في النبات وحده؛ بل إنه يوجد في الجبال، التي تختلف ألوانها؛ بل تختلف درجات اللون الواحد فيها، كما يوجد الاختلاف في النَّاس والدواب والأنعام، ولا شك أن التعمق في معرفة هذه المجالات المتعلقة بالنبات والجبال والإنسان والحيوان - يزيد المرءَ شعورًا بعظمة الخالق - جل جلاله - فيسجد له، ويحس تجاهه بالرهبة والخشية والتعظيم، وعندئذ يكون العلم طريقًا إلى الإيمان واليقين، وتكون الملاحظات والتجارِب التي يقوم بها العلماء، وسائلَ لمعرفة شيءٍ مما أودع الله تعالى في هذا الوجود من إحكام وإتقان وأسرار: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88].

ومن الآيات كذلك قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22]، وهي تتحدث عن أن الكون مخلوق، وأنه ليس أزليًّا، ولا أبديًّا كما كان يظن ذلك بعضُ الفلاسفة القدامى، وبعض العلماء المحدَثين، وقد تقدَّمَت أبحاث العلم في شتَّى فروعه، حتى أصبحت تقرر هذه الحقيقةَ التي أثبتها القرآن، ورأينا العلماء يتوصلون في مجالات العلم المختلفة إلى ما يثبت أن الكون مخلوق بعد أن لم يكن، وأنه محتاج إلى خالق هو الذي خلَقَه، وهو الذي يَحفَظه ويَرعَاه، وأن ما في الكون من مظاهر الإحكام والإتقان، يدل على العلم والإرادة، والقدرة والعناية[74].

كما تَتحَدَّث الآية عن اختلاف الألسنة والألوان، ولا شك أن التعمُّق في الدراسات اللغويَّة، وعلوم الجغرافيا البشريَّة، وعلم الإنسان - يُقدِّم من الحقائق ما يبرز القدرةَ في مجال من أعظَم مجالاتها؛ ولذلك يجعل الله تعالى من هذه النتائج المستخلصة من هذه العلوم، آياتٍ للعالمين.

 

2 - تضمَّن القرآن الكريم آياتٍ كثيرةً، تَدخل فيما يُسمى بالإعجاز العلمي، وهي تحتوي على إشاراتٍ إلى ظواهرَ وحقائقَ لم تكن معروفةً لأحدٍ من البشر عند نزول القرآن، لا عند العرب، ولا عند غيرهم من الأمم التي كانت تسبقهم في مجال العلم والحَضَارة، وهذا من أعظَم الأدلة على أن القرآن كتابُ الله تعالى وأنه ليس من قول بشر، ومن هذه الآيات على سبيل المثال:

• ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47].

 

• ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].

 

• ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 40].

 

• ﴿ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5].

 

• ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ﴾ [الأنعام: 125].

 

• ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذاريات: 49].

 

• ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾[الواقعة: 71، 72].

 

• ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ﴾ [الزمر: 6].

وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهي تحتاج في استخلاص دلالاتها، والمعرفة بحقائقها، إلى أن يقوم العلماء بجهود كثيرة مخلصة؛ لبيان أوجه الإعجاز فيها، وإذا استحضر العلماء هذا المعنى في دراساتهم، فإنهم يؤدُّون للبشرية خدمةً جليلة، يتحول بها الكون إلى محراب من محاريب العبادة؛ حيث تتجلى فيه آيات الحكمة والقدرة والإعجاز، ومن ثَمَّ يكون عملهم وسيلة من وسائل بيان آيات الله في الآفاق والأنفس: ﴿ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].

3 - أن معنى العبادة في الإسلام ليس محصورًا في أداء أركان الإسلام؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، كما أنه ليس محصورًا في تطبيق الآداب والأخلاق التي أوصى الشرع بامتثالها، إن ذلك يمثل أهم أركان العبادة والطاعة في الإسلام،  ولكنه لا يمثل العبادة في مجموعها وجملتها؛ بل إن مفهوم العبادة في الإسلام  يتسع حتى يشمل كلَّ عمل صالح يُبتَغى به وجهُ الله تعالى ويؤدِّي إلى مرضاته، ويدل على ذلك أحاديثُ كثيرةٌ، منها حديث "الصدقة" المشهور، الذي ذهب فيه الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقولوا له: إن الأغنياء قد ذهبوا بالأجور دونهم؛ لأنهم يشاركون الفقراءَ في الصلاة والصيام، ويتميَّزون عنهم بالصدقات التي يتصدَّقون بها، فقال لهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((أوليس قد جعل لكم ما تتصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة))[75]، وجاء في بعض روايات الحديث أنواعٌ أخرى من الصدقات: كعزل الأذى عن طريق النَّاس، وكعمل الإنسان بيديه لينفع نفسه ويتصدق، وإعانة ذي الحاجة الملهوف، والعدل بين النَّاس، وإعانة راكب الدابة بحمله عليها، أو وضع متاعه عليها، والكلمة الطيبة، ونحو ذلك من الصدقات[76].

ومن الأحاديث ما جاء من أنه مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فرأى الصحابةُ عليه علائمَ القوةِ والنشاطِ والجلَدِ، فقالوا: "يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟"، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً، فهو في سبيل الشيطان)) [77].

وينطبق على العلم بالعلوم الطبيعية والكونيَّة والإنسانيَّة، ما ينطبق على غيره من الأعمَال التي تكون عبادة، إذا قصد بها وجه الله - تعالى.

 

4 - أن بعضَ هذه العلوم قد جاءت فيها أوامرُ شرعيَّةٌ؛ كالأمر بالتداوي، وبعضها يحقق مصلحة شرعيَّة؛ كالعلم بالمواقيت التي تتعلَّق بها الفرائض؛ كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأداء النذور، والعلم بالجهات التي يترتب عليها معرفة اتجاه القِبلة، والعلم بالحساب الذي يُحتاج إليه في معرفة نصاب الزكاة، وتقسيم التركات على الورثة، ونحو ذلك، ثم إن بعض هذه العلوم يؤدِّي إلى تحقيق مصلحة للعالِم به، والمسلمون أولى النَّاس بأن يحققوا هذه المصالح؛ فالله تعالى قد ملأ الوجود بالآيات الباهرة التي جعلها آياتٍ لأولي الألباب ولأولي الأبصار، وجعل منها آيات لقوم يعقلون، ولقوم يتذكرون، ولقوم يتفكرون، والمؤمنون هم أحق النَّاس بهذه الصفات المبنيَّة على التفكر والنظر، واستكشاف أسرار الوجود، وهم أولى بمعرفة ذلك كله من أهل العقائد الباطلة، وإذا أهمل المسلمون في معرفة هذه العلوم، فإنهم سوف يكونون عَالَة على غيرهم، وسوف يكون غيرهم في موضع القوة، القائمة على احتكار العلم ونتائجه، التي تؤدي إلى أن يكونوا في موضع الغلبة والسيادة إزاء المسلمين، ولن يتمكن المسلمون عندئذ من الإفادة من هذه القوة العلميَّة، إلاَّ إذا قدموا تنازلات يدفعون ثمنَها باهظًا من أموالهم، ومن كرامتهم، وهذا موقف ينبغي أن يتنَزَّه عنه المؤمنون، الذين أمرهم الله تعالى بأن يستعدوا بكل أسباب القوة، التي تليق بكونهم مؤمنين بخاتم الأديان وأكملها.

ومن ثَمَّ يمكن القول بأن العلم بهذه العلوم: إما واجب شرعيٌّ صريح أو ضمنيٌّ، يدخل في نطاق "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وإما سد للذرائع، وإما تحقيق للمصالح، التي هي مقصدٌ من مقاصد الشريعة، وهو مطلوب في كل الأحوال.

 

ويترتب على ما سبق كله، أن يكون الاشتغال بالعلوم التجريبيَّة والرياضية، من العلوم الضرورية الواجبة، التي يتطلبها الإسلام، وهي جديرة بأن تكون مؤدِّية إلى مَرضاة الله تعالى مثلها في ذلك مثل العلوم التي سميت بالعلوم الشرعيَّة، بشرط أن تلتزم في موضوعاتها ووسائلها، وغاياتها ومقاصدها، بأحكام الإسلام وآدابه، ولعلَّ مما يؤكد ذلك أن كثيرًا ممن اشتغلوا بهذه العلوم من العلماء المسلمين، كانوا يخصصون بعض جهودهم لمعالجة مسائلَ تتعلَّق بالشريعة، فالبيروني مثلاً يكتب عن إيضاح الأدلة على كيفية سمت القبلة، ويكتب عن آراء الأئمة في أوقات الصلاة، وما يضطر إليه في تحقيقها، ويُكثِر من الاستشهاد بالآيات القرآنيَّة فيما يتناوله من موضوعات علميَّة[78].

وعبداللطيف البغدادي الطبيب، يكتب رسائلَ في الفقه، وعلم التَّوحِيد، وفي الطب من الكتاب والسنة، وفي غريب الحديث، وفي تفسير سورة الإخلاص[79].

 

وابن النفيس المتخصص في الطب والتشريح، يكتب في اللغة والحديث والسيرة النبوية، كما يكتب في الفقه، ويتولى تدريسه، حتى ليترجم له السبكي في "طبقات الشافعية"[80].

وابن رشد الذي اشتهر بالفلسفة، يكتب في الطب، ويبرع في الفقه، حتى ليتولى القضاء في قرطبة، وهكذا وهكذا.

 

وقد كان اهتمام هؤلاء بالدراسات الشرعيَّة يُلقي على دراساتهم في العلوم مسحةً دينية واضحة.

 

فالعالم الرياضي الطبيعي أبو عبدالله محمد بن سنان البتاني الفلكي المشهور، يذكر أن علم النجوم يوصل الإنسان إلى برهان على وحدانيَّة الله تعالى وإلى معرفة حكمة الله فيما خلق[81]، وابن رشد يقول: "مَن اشتغل بعلم التشريح، ازداد إيمانًا بالله"[82].

 

والبغدادي يؤلِّف رسالة في المعادن وإبطال الكيمياء، يقول فيها: "ولعلَّ الله - سبحانه وتعالى - يَهدي بكتابي واحدًا من النَّاس، فلي ثوابه"[83].

 

وابن الهيثم يكتب في علم الطبيعة، مستمدًّا العونَ من الله في جميع الأمور[84].

ثم تأتي الوصية إلى هؤلاء مِن العلماءِ بالشريعة، بضرورة مراقبة الله تعالى في القيام بوظائفهم، وانظر إلى ما كتبه أحدُهم في الوصية إلى الأطباء البيطريين، حين يبيِّن وظيفة أن البيطرة أصعبُ من وظيفة الأطباء البشريين: "لأن الدواب ليس لها نطق تعبِّر به عما تجد من المرض والألم، وإنما يُستدلُّ على عللها بالجس والنظر، فلا يَتعاطى البيطرةَ إلا مَن له دين يصده عن التهجم على الدواب بفَصْدٍ، أو قطع، أو كيٍّ، فيؤدي إلى هلاك الدابة أو عطبها"[85].

ونخلص من هذا كله إلى أن العلم في الإسلام وعند المسلمين لم يكن محصورًا في علوم الشريعة، وإن كان لهذه الأولوية، ولكن العلم كان عندهم شاملاً لعلوم الشريعة والعلوم الأخرى: الطبيعية، والرياضية، وغيرها، وإن هذا الشمول للعلم قد دفع بالبحوث العلميَّة دفعةً كبرى، أحدثت تلك النهضةَ العلميَّة الكبرى التي شهدها العلمُ على يد المسلمين، وشَمِلت النَّهضةُ تلك العلومَ التي تأسَّست عند المسلمين حول مصادر الإسلام؛ كعلوم القراءات والتفسير، وعلوم الحديث وما وضعوه فيها من مناهجَ لتوثيق الأخبار ونقد الرجال، وكعلوم الفقه والأصول، وهما يبحثان في استنباط الأحكام الشرعيَّة، وقواعد هذا الاستنباط، وكعلوم السيرة والتاريخ، وما أضيف إلى ذلك كله من علوم مساعدة، تبحث في اللغة، وقواعد النحو، وعلوم البلاغة، ونحوها، مما كان موضع اهتمامهم؛ بسبب حرصهم على اللغة العربيَّة، التي هي لغة القرآن والسنة، وبسبب رغبتهم في بيان إعجاز القرآن الكريم، الذي لا يداني إعجازَه بيانٌ.

وشمِلت النهضة كذلك تلك العلومَ التي انتقلت إلى اللغة العربيَّة بالترجمة: كعلوم الطبيعة والكيمياء، والفلك والطب ونحوها، وقام المسلمون في هذا المجال بجهد كبير، شهد لهم به مؤرِّخو العلم، الذين أثبتوا أن تقدُّم العلم عند المسلمين كان أشبه بالطفرة، ومن هؤلاء زيجريد هونكه التي قالت: "إن هذه الطفرة العلميَّة الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء، من العدم، من أعجب النهضات العلميَّة الحقيقيَّة في تاريخ العقل البشري، وإن الإنسان ليقف حائرًا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة التي لا نظير لها، إن هذه المنزلة التي بلغها العرب أبناء الصحراء، لم تبلغها شعوب أخرى كانت أحسن حالاً، وأرفع مكانةً"[86].

 

ويقول محمد أسد: "إن التاريخ يُبرهِن وراء كل إمكان للريب، أنه ما مِن دين أبدًا حثَّ على التقدم العلمي كما حثَّ الإسلام، وإن التَّشجيع الذي لقيَه العلم والبحث العلمي من الدِّين الإسلامي، انتهى إلى ذلك الإنتاج الثقافي الباهر في أيام الأمويين والعباسيين، وأيام دولة العرب (أي: المسلمين) في الأندلس، وإن أوربَّا تعرف ذلك حقَّ المعرفة؛ لأن ثقافتها - هي نفسها - مَدِينةٌ للإسلام بتلك النهضة"[87].

وأدَّت هذه النهضة إلى نشر العلم والمكتبات على نحو ليس له نظير، من حيث عدد المكتبات، وكميَّة الكتب التي تحتويها[88]، كما أن العملاء كانوا كثيرين كثرةً ملحوظةً، جعلت "ديورانت" يقول: إن الإسلام قد بلغ ذروة حياته الثقافية في القرون من الثامن إلى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، "ولم يكن العلماء في آلاف المساجد المنتشرة في البلاد الإسلاميَّة من قرطبة إلى سمرقند، يَقِلُّون عن عدد ما فيها من الأعمدة، وكانت طرقات الدولة لا تخلو من الجغرافيين والمؤرِّخيين وعلماء الدِّين، يسعون كلهم إلى العلم والحكمة، ولم يكن أحد يجرؤ على جمع المال دون أن يعين بمَالِهِ الأدبَ والفنون"[89].

 

ثم ترتب على ذلك أيضًا هذا الإسهام الكبير في نهضة العلوم، ووضع مَناهِجِها، وإضافة أفكار وعلوم جديدة إليها، مما يمكن الرجوع إليه في الكتب الخاصَّة بمناهج العلوم[90].

وهكذا كان العلم عند المسلمين عاملاً من عوامل قوَّتهم، وسببًا من أسباب نهضتهم، حين جمعوا فيه بين عوامل الدِّين وعلوم الدنيا، وجعلوا للاجتهاد والبحث في سائر المجالات نصيبًا مفروضًا، فانضم إلى عوامل القوة التي تحدثنا عنها من قبل: قوة العقيدة، وتقديم الولاء لها على كل ولاء، ووحدة الأمة المبنيَّة على الإيثار والعدل، والعلم بهذا المفهوم الذي عرضنا له من كونه عبادةً وفريضةً، ومن كونه ذا مفهوم شامل عامٍّ، يشترك في بنائه ونهضته كلُّ من تيسَّرت له الأسباب من المسلمين، وغيرهم ممن أظلهم الإسلام بسماحته، واتَّسَعت لُغتُه لفكرهم وإسهامهم العلمي.

4 - كان المسلمون على وعيٍ بأنَّهم أمة ذات رسالةٍ عظيمةٍ، يجب عليهم نشرُها وإبلاغها إلى النَّاس؛ لأنَّها رسالة عالميَّة جاءت للبشرية جمعاء، فلم تكن مقصورة عليهم، ولا خاصَّة بهم، وهي ليست محصورة في جنس من الأجناس، ولا في لون من الألوان، ولا في زمن من الأزمنة، وقد تعلَّم المسلمون ذلك من القرآن الكريم، منذ عهد الإسلام الأول، وبشَّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وأصحابه في مكة يتعرضون للإيذاء والتنكيل، والحصار والمقاطعة، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعراف: 158]، ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1].

وقد كانت هذه الرسالة التي جاء بها الإسلام، رسالةً إنسانيَّةً أخلاقيَّةً، تتضمن الدعوة إلى الخير العام، وتعمل على تحقيق كرامة الإنسان، وإعلاء شأن العدل، وتحرير الإنسان من الظلم والعبودية والاستبداد والخضوع لغير الله تعالى ومما يدل على ذلك من القرآن قوله تعالى:﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148].

• ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 104].

• ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90].

• ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].

• ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، إلى آيات كثيرة أخرى.

وقد سلك المسلمون كل سبيل إلى نشر هذه الرسالة، وإبلاغها إلى النَّاس في مشارق الأرض ومغاربها، وقد كان الجهادُ إحدى الوسائل التي سلكوها لإبلاغ الدعوة، وكان ذلك وسيلة من وسائل تطبيق عالميَّة الإسلام، كما كان متفقًا مع عقيدة ختم النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم.

 

وقد شرع الجهاد في سبيل الله لغايات وأغراض متعددة، تتعلَّق بالظروف التي عاشها المسلمون، كما تتعلَّق بالغايات التي يهدف الإسلام إلى تحقيقها، ومن أهم هذه الغايات ما نشير إليه - بإيجازٍ شديدٍ - فيما يأتي:

أ - دَفع الظلم ورَفع الأذى عن المسلمين، الذين تعرَّضوا في مكة للظلم والأذى من المشركين، حتى أُخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى الحبشة أولاً، ثم إلى يثرب التي أصبح اسمُها المدينةَ؛ ولذلك أَذِنَ الله لهم في مقاتلة هؤلاء المشركين: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج:39، 40].

ب - الدِّفاع عَن المظلُومين المضطهدين، الذين لا يَستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولا يستطعيون أن يهاجروا من أرض الشِّرك إلى بلاد الإسلام: ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ﴾ [النساء: 75].

 

ويرتبط بهذا السبب ارتباطًا وثيقًا، حمايةُ المسلمين من القهر والبغي الذي يؤدي إلى الفتنة في الدِّين، التي هي أشَد من القتل وأكبر منه؛ ولذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193] ويقول: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، ولذلك شرع الله القتال، حتى ولو كان في الأشهر الحُرُم التي يَحرُم فيها القتال؛ لأن قتال المسلمين، وفتنتَهم عن الدِّين، وإخراجهم من ديارهم - أشدُّ إثمًا، وأعظَم جرمًا من القتال في الأشهر الحرم: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [البقرة: 217].

ج - مجاهدة الكافرين وقتالهم إذا بدؤوا المسلمين بالقتال: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

 

ويرتبط بهذا السبب ارتباطًا وثيقًا، نقضُ المشركين وغيرهم لعهودهم التي قطعوها على أنفسهم للمؤمنين: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ [التوبة: 12] [91]، فإذا وفَّوا بالعهود، واستقاموا في تعاملهم مع المسلمين، فإن المسلمين مكلَّفون بمعاملتهم بالمثل:﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7، وانظر الآية 4 أيضًا].

د - بذل الجهد لإبلاغ كلمة الله إلى النَّاس، وتحقيق عالميَّة الرسالة، التي هي من خصائص الإسلام كما سبق القول: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33][92].

وبسبب هذه المهام الجليلة التي يقوم بها الجهاد في الدفاع عن الإسلام، والعمل على نشره - كان للجهاد مكانة عظمى؛ فهو ((ذروة سنام الإسلام))، كما وصفه الرَّسول صلى الله عليه وسلم[93] وكان القائمون به من المجاهدين والشهداء في الدرجات العلا عند الله تعالى كما تدل على ذلك الآيات والأحاديث الكثيرة[94].

ولقد كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم يبايع النَّاسَ على الإسلام والجهاد، كما كانت الأنصار تقول يوم الخندق:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ♦♦♦ عَلَى الجِهَادِ مَا حَيِينَا أبَدَا [95].

 

كما كان الصحابة يتعلَّمون سورة الأنفال، التي كانوا يسمونها سورة الجهاد، وكانوا يستحضرونها في المواقف العصيبة؛ لتَقْوى عزائمُهم، وتمتلئَ قلوبُهم بالثقة والسكينة والرجاء في نصر الله تعالى فعندما كان المسلمون يتهيَّؤون لخوض معركة القادسية ضد الفرس، صلَّى سعد بن أبي وقاص الظهرَ بالنَّاس، ثم أمر الغلام الذي أرسله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إليه، وكان مِن قُراء القرآن وحفَّاظه - أمره أن يقرأ سورة الجهاد، "وكان المسلمون يتعلمونها كلهم، فقرأ على الكتيبة الذين يلونه سورةَ الجهاد، فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب النَّاس وعيونهم، وعرفوا السكينة مع قراءتها"[96].

وقد كانت تلك الروح البطولية الفدائية التي تحلى بها المسلمون - سببًا في ذلك الانتشار السريع الكاسح للإسلام في شرق الأرض وغربها، وقد تمَّ ذلك على نحو مذهل، تحطمت فيه عروش أقوى الدول في ذلك الوقت، بحيث ارتفعت راية التَّوحِيد على كثير من بقاع الأرض المعمورة في أقل من قرن من الزمان، ويهمنا أن نوضح أن تلك الروح البطولية كانت أثرًا من آثار العقيدة، ونتيجة لها، وأن هذا الجهاد لم يُقصَد مِن ورائه سلبٌ، ولا نهبٌ، ولا تسلُّطٌ، ولا علوٌّ في الأرض ولا فسادٌ، وأن الجهاد الإسلامي يتميز بأنه كان يرمي إلى توصيل الدعوة التحريرية العظمى، التي تحملها مبادئُه في توحيد الله، وتحرير البشر من الطغيان، وإضفاء طابَع الكرامة على الإنسان، وإسقاط الحواجز التي تَحُول بينه وبين الدِّين الصحيح الذي جاء خاتمًا للأديان، ووارثًا للوحي، ومهيمنًا عليه، ولذلك كان المجاهدون حملةَ هداية ورحمة تتعلَّق برسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعبَّر عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه - عن ذلك بقوله: "إن الله بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم هاديًا، ولم يبعثه جابيًا".


• ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157] ولقد نجد مِن بين مؤرِّخي الحضارات مَن يعترف بأثر العقيدة في جهاد المسلمين، ومِن هؤلاء جوستاف لوبون، الذي يقول: "إن للاعتقاد قوةً لا يقابلها إلا قوةُ اعتقاد مثلها، وكانت شدة إيمان العرب تزيد قوَّتَهم العددية عشرةَ أمثالها"[97].

فالعقيدة المستكنة في القلوب كانت هي المحرك الأعظَم للجهاد والفداء والاستشهاد، ويتضح هذا الأثر للعقيدة في جوانبَ متعددةٍ، من أبرزها جانبان:

أ - أن الإيمان بالآخرة، وما أعده الله للشهداء في الآخرة من عظيم الثواب والكرامة - قد نزع من قلوبهم خوفَ الموت، وحبَّب إليهم الشهادةَ، وجعلهم يتدافعون ويتسابقون إليها، حتى لقَد كان الذي لا يفوز بالشهادة يغبط مَن فاز بها، فعندما استشهد زيد بن الخطاب، الذي كان يحمل راية المسلمين في موقعة اليمامة في قتال مُسيلمة الكذاب، قال عمر بن الخطاب: "رحم الله زيدًا، سبقني أخي إلى الحسنيين: أسلم قبلي، واستشهد قبلي"[98]، وكان مَن لم يدرك الشهادة منهم يتحسَّر على حرمانه منها، وكان مِن هؤلاء خالد بن الوليد، الذي قال عندما حضرتْه الوفاةُ: "لقد شهدت مائةَ زحف أو زهاءها، وما في بدني موضعٌ إلا وفيه ضربة، أو طعنة، أو رميَة، وهأنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"[99].

ولقد كانوا ينظرون إلى الشهادة على أنها منحة إلهيَّة لا ينالها كل أحد، فهي ترجع إلى نوع من الاصطفاء الإلهي، الذي يختار الله تعالى له مَن يشاء، كرمًا منه وفضلاً؛ ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140][100].

 

ولكن الصحابة كانوا يتخذون ما في طاقتهم من الأسباب ليفوزُوا بهذا الاصطفاء، وكان بعضهم يُعرِض عن المغانم - مع النصر - طلبًا للشهادة، وعندما غنم الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم  المغانم من خيبر قَسَم لأحد الصحابة قَسْمًا، فقال الرجل لمن حمل إليه نصيبَه: ما هذا؟ قالوا: قَسْم قسَمَه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما على هذا اتَّبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمَى هنا - وأشار إلى حلقه - بسهم، فأموت، فأدخل الجنة"، فقال: ((إن تَصدُقِ اللهَ يصدقْك))، فدخل المعركة وقتل، فقال الرَّسول: ((صدق الله فصدقه))[101].

ولم تكن المسارعة إلى الجهاد والاستشهاد وَقفًا على الكبار من الرجال؛ بل إن الشباب كانوا يسارعون إلى ميادين الجهاد؛ لينالوا شرف البطولة، وكرامةَ التضحيَّة والبذل في سبيل الله والفداء لرسوله صلى الله عليه وسلم[102] وإن أحدهم لَيرغبُ في الجهاد ويحرص عليه، مع أنه لا يطيق حمل السلاح، وإن أحدهم لَيُرَدُّ عن الجهاد بسبب صِغره، فيَبكي، فيؤذَن له، وإن أحدهم ليتوارَى عن الرَّسول؛ حتى لا يَرُدَّه لصغر سنِّه، مع أنه يبتغي الشهادة، فيرزقه الله إياها وهو ابن ست عشرة سنة[103].

كذلك طالبَت النساء بنصيبهن منه، فبيَّن لهن الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - أن طاعة الزوج والقيام بحقَِّه، تعدل ذلك، ولكنهن لم يقنعن بذلك؛ بل كن يشتركن في بعض الغزوات، ويقمن ببعض الواجبات التي يستطعنها؛ كعلاج المرضى، وصنع الطعام، وحمل الماء إلى المقاتلين، ومناولتهم السلاح؛ بل شارك بعضهن في القتال الفعلي في أشد المواقف حرجًا، مثلما قاتلتْ نسيبةُ بنت كعب دفاعًا عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحُد بعدَما انهزم المسلمون، وفي ذلك تقول: "فلما انهزم المسلمون، انْحَزْتُ إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقمتُ أباشر القتال، وأذبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خَلَصَتِ الجراحُ إليَّ"[104]؛ بل إن إحداهن - وهي أسماء بنت يزيد - قتلتْ تسعةً يوم اليرموك[105].

وهكذا كان للعقيدة هذا الأثرُ الحاسم في غرس تلك الروح البطولية الفتاكة، التي وصفها خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في دعوته أهلَ فارس إلى الإسلام، بأنهم: قوم يحبُّون القتل في سبيل الله، كما تحب فارس الخمرَ، وبأنهم قوم يحبون الموت، كما يحب أعداؤهم الحياة[106]، وقد وصفهم بذلك أعداؤهم حين وصفوا الصحابة بأن: كل واحد منهم يحب أن يموت قبل صاحبه، أما أعداؤهم فإن كل واحد منهم يَوَدُّ أن يموت صاحبُه قبلَه[107].

 

ب - أن تمكُّن الإيمان من قلوب الصحابة، كان يجعلهم ذوي يقين لا يتزعزع بأن ما وعدهم به الله ورسوله من النصرِ، وفتحِ البلاد، وانتشارِ الإسلام - واقعٌ لا محالة؛ لأن وعد الله لا يتخلف، ولأن رسوله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، ولقد كان وعدُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، يأتي أحيانًا في ظروف محنةٍ وشدةٍ؛ كما حدث في غزوة الخندق، التي بشَّرهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيها بفتح البلاد في المشرق والمغرب[108]، واستهزأ المنافقون بهذه البشارات النبوية، ولكن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا ذوي يقينٍ وتسليمٍ بضرورةِ تحقيق وعد الله تعالى لهم: ﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].

وقد رأى الصحابة بأنفسهم تحقُّقَ بعض هذه البشارات، فكان ذلك زيادةً ليقينهم، وتثبيتًا لإيمانهم بصدق ما وُعِدوا به، ومن هؤلاء عدي بن حاتم، الذي تحدَّث عن دعوة الرَّسول له إلى الإسلام، وألاَّ يصدَّنَّه عن الإيمان ما يراه من ضعف المسلمين، وكان مما قاله له: ((أمَا إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام؛ تقول: إنما اتَّبعه ضعَفَةُ النَّاس، ومَن لا قوة له، وقد رمتْهم العربُ))، ثم يقول له الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((أتعرف الحيرة؟))، قلت: لم أرَها، وقد سمعتُ بها[109]، قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((فوالذي نفسي بيده، ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينةُ (المرأة) من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتُفتَحن كنوز ابن هُرْمُزَ))، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((نعم، كسرى بن هرمز، وليُبذَلَنَّ المالُ حتى لا يقبله أحد))، قال عدي بن حاتم: "فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمَن فتح كنوزَ كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها"[110].

وقد كان بعض الصحابة - ثقةً منهم بتحقق وعد الله - يطلب إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم له نصيبًا من بلادٍ لم يتم فتحُها بعدُ، ومن هؤلاء تميم الداري، الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله مُظهِرك على الأرض كلها، فهبْ لي قريتي من بيت لحم في فلسطين - ولم تكن قد فتحت بعد - فوهَبَه الرَّسول صلى الله عليه وسلم إيَّاها، وكَتَب له بذلك، فلما فُتحت جاء بالكتاب إلى عمرَ، فأقطعه إياها"[111] ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].

وكان هذا اليقين يملأ قلوبَهم شجاعةً وجرأة وإقدامًا، ويمدهم بقوة معنوية غلاَّبة، كانت تمكنهم من مواجهة الدول العظمى التي كانت تحيط بهم دون خوف ولا تردد، ولم تكن هذه الجرأة على مَن حولهم إلا أثرًا من آثار العقيدة التي آمنوا بها، فلم يكن للعرب بين هذه الدول شأنٌ ولا مكانةٌ، ولم يكونوا موضعَ رغبة ولا رهبة؛ بسبب ما كانوا عليه من الضعف والتفرق، وبسب ما كانت عليه بلادهُم من فقر في الموارد، وقلة في الخيرات، وعندما دخل العرب في الإسلام، وأسلَموا لله نفوسهم، وطلبوا الجنة، وحرَصوا على الشهادة، لم يكونوا قد ازدادوا عددًا، ولا عدَّة مادية، ولكنهم كانوا قد تزودوا بمدد لا يُقهر، وزادٍ لا ينفد من التضحيَّة والفداء، والثقة بالله، والتوكل عليه، والرجاء في نصره وتحقيق وعده؛ ولذلك انقلبت الموازين، وأصبح الضعفاء الفقراء يمشون على بساط الملوك في قوة وجرأة، وينذرونهم بالهزيمة وانتهاء الملك، على نحو يثير الدهشة والاستغراب؛ بل يثير - عند غير المؤمنين - السخطَ والاستنكار، وعندما بعث سعد بن أبي وقاص إلى رستم قائد الفرس - عددًا من سادات الصحابة؛ ليدعوه قبل القتال إلى الدخول في الإسلام - وقد كان هذا مبدأً علَّمهم إياه الرَّسول صلى الله عليه وسلم كما فعل مع علي بن أبي طالب في يوم خيبر[112] - قال لهم رستم: "ما أقدمكم؟ فقالوا: جئنا لموعود اللهِ إيانا: أخْذ بلادكم، وسبْي نسائكم وأبنائكم، وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك"[113].

وفي مرة أخرى دخل عليه رِبْعِيُّ بن عامر بثياب متواضعة، وسيف وترس، وفرس قصيرة ظل يمشي بها إلى أن داس على طرف بساطه، ثم نزل وربطها ببعض الوسائد، ثم أقبل عليه يحمل سلاحه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا، وإلا رجعتُ، فقال رستم: ائذنوا له، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال قولاً يدل على وعيه العميق بتلك الغاية التحريرية العظمى، التي هي هدف من أهداف الجهاد، قال ربعي: الله ابتعثنا لنُخرِج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فمَن قَبِل ذلك قَبِلنا منه، ورجعنا عنه، ومَن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال مَن أبى، والظفر لمن بقي"[114].

وطلب رستم مهلةً طويلة للمشاورة، ثم ذهب إليه المغيرة بن شعبة؛ ليعرف ما انتهى إليه أمرُه، فحاول أن يغريَه ببعض متاع الدنيا، لقاءَ انصرافِهم عن الحرب، فقال له المغيرة: "أَبَعْدَ أن أوهنَّا ملكَكم، وضعَّفنا عزَّكم، وستصيرون لنا عبيدًا على رغمكم؟"[115]، ولم يكن هناك مفر من اللقاء، ولم يكن لدى أهل الإيمان شك في عاقبته، وإن كثرت فيه التضحيات، وكانت العاقبة هي النصر المبين للمؤمنين؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

وهكذا كان الجهاد من أقوى عَوامل القوة للأمة الإسلاميَّة، وكان سلاحًا من أمضى أسلحتها، وظل يحملها - بفضل الله وعونه - من نصرٍ إلى نصرٍ، ومِن فتحٍ إلى فتحٍ، إلى أن دانت لهم البلاد شرقًا وغربًا، ورفرفت راية الإسلام خفاقةً في العالمين.

 

على أن من المهم الإشارة هنا إلى أن تلك المكانة الكبرى التي جعلها الإسلام للجهاد - لم تكن تعني أن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة لنشر الإسلام، أو إبلاغه إلى النَّاس، كما أنها لا تعني أن الجهاد كان وسيلةً لإكراه النَّاس على الدخول في الإسلام، أو قهرهم على اعتناقه، كما يدَّعي ذلك بعض الدارسين للإسلام من المستشرقين، أو من غيرهم.

فلقد كانت الدعوة إلى الإسلام بالكلمة هي الوسيلةَ الأولى التي بدأت بها هذه الدعوةُ، وقد جمع الرَّسول صلى الله عليه وسلم النَّاسَ منذ بدء رسالته في مكة وخطبهم، ودعاهم إلى الله، وذهب إليهم في مجالسهم ومواطن اجتماعهم، وخرج إلى الطائف داعيًا، والتقى بالقادمين من المدينة، وكان سلاحه الوحيد في هذا كله، وطوال الفترة المكية، وفي أوائل عهده بالمدينة، هي كلمة الحق التي أمره الله تعالى أن يصدع بها، وقد كتب بها إلى الملوك والحكام في عصره: كقيصر، وكسرى، والمقوقس، والنجاشي وغيرهم.

وقد انتشر الإسلام في المدينة المنورة، التي هي قاعدة الإسلام، والعاصمة الأولى له، عن طريق الدعوة التي حملها إليها مصعبُ بن عمير وبعض معاونيه، وفي ذلك يقول ابن قيم الجوزية: "إن مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إنما فُتحت بالقرآن، ولم تفتح بالسيف"[116]، وكذلك فُتحت اليمن في عهده صلى الله عليه وسلم ودخلها الإسلام صلحًا، لا حربًا.

وعندما ذهب الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ووجد بها ومِن حولها طوائفَ مِن اليهود، لم يكرههم على الإسلام؛ بل عقد معهم معاهدة المدينة، التي جاء في نصوصها ما يؤكِّد حريةَ هؤلاء في البقاء على ما هم عليه من دين، دون منازعة لهم فيما يعتقدون، أو إجبار لهم على تركه، وقد جاء نصارى نجران إلى المدينة لمجادلة الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيما خالفهم فيه الإسلامُ من أصول عقائدهم، فأَذِنَ لهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم أن يقيموا بمسجده، كما أذن لهم أن يؤدُّوا صلواتهم فيه، ثم جادلهم بالبرهان الناصع، والحجة البيّنة، كما تدل على ذلك الآيات من أوائل سورة آل عمران (الآية 58 وما بعدها)، وانتهى أمر المجادلة إلى أن يَقبل منهم الرَّسول صلى الله عليه وسلم البقاء على دينهم، مع إرساله أحد أصحابه ليكون حكمًا فيما بينهم، بناء على طلبهم.

وتدلنا هذه الشواهد الكثيرة على سماحة الإسلام في نظرته إلى الآخرين ممن لم يؤمنوا به، ويتأكد هذا الموقف بعدد من المبادئ والأصول المهمة، ومن بينها:

• أن من أصول الإسلام أنه: لا إكراه في الدِّين، وقد تقرَّر هذا الأصل في آية قرآنيَّة، يقول الله تعالى فيها: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ ﴾ [البقرة: 256]، وهذا نص عام محكم، ليس بمنسوخ ولا مخصوص، فلا حاجة للإكراه على الدِّين بعد أن ظهرت الدلائل، ووضحت البينات، وهذا ما قاله المفسرون المحققون: كالطبري، والرازي، وابن كثير، وأبي حيان وأمثالهم، وقد عبَّر ابن تيميَّة عن ذلك قائلاً: "جمهور السلف على أن الآية ليست بمنسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عامٌّ، فلا نُكرِه أحدًا على الدِّين، ولا يقدر أحد قط أن ينقُلَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أحدًا على الإسلام، لا ممتنعًا، ولا مقدورًا عليه، ولا فائدة من إسلام مثل هذا، لكن مَن أسلم قُبِل منه ظاهر الإسلام"، ثم أضاف ابن تيميَّة: أنه من الثابت المقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسَر من المشركين، فمنهم مَن فداه، ومنهم مَن أطلق سراحه، ولم يُكرِه أحدًا على الإسلام، والقرآن خيَّر المسلمين - حين يُثْخِنون في الأعداء - بين المنِّ على الأسرى، والفداء[117].

ولا إكراه إذًا في الدِّين، وهذا ما يؤكده بعض الباحثين المنصِفين من غير المسلمين، الذين يشهدون بأنه لا يوجد في تاريخ المسلمين إكراهٌ على الدِّين؛ بل إن التسامح هو الطابع العام لعلاقة المسلمين بغيرهم، ويستدل هؤلاء بأن وجود كثيرين جدًّا من الفرق والجماعات المسيحيَّة وغيرها، في الأقطار التي ظلت قرونًا في ظل الحكم الإسلامي - لَدليلٌ ثابت على ذلك التسامح الذي نعم به هؤلاء[118].

 

يؤمن الإسلام بعالميَّة رسالته، ولكنه يبيِّن أنه سيكون مِن النَّاس مَن لا يستجيب لدعوته، وسيتَّسع العالم لمن يؤمنون بديانات أخرى؛ بل سيتَّسع لمن لا يؤمنون بدين أصلاً؛ ومما يدل على ذلك قول الله تعالى:﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116] وقوله: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103].

وقد دعا الإسلامُ أتباع الأديان السابقة إلى الدخول فيه، ولكنه لم يُكرِههم على ذلك؛ بل إنه جعل في تشريعه ما يتناسب مع استمرارهم على دياناتهم، وكان من تشريعه أنه أحلَّ أكل طعامهم، وأباح للمسلمين أن يتزوجوا منهم (انظر الآية 5 من سورة المائدة)، وحرَّم العدوان عليهم، وفي ذلك يقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن قَتَل معاهَدًا له ذمة الله وذمة رسوله، لم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وريحُها من مسيرة سبعين عامًا))[119]، وقد نهى الإسلام عن جدالهم، إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم (انظر: العنكبوت: 46)، كما دعاهم إلى كلمةٍ سواء، يتفقون فيها مع المسلمين على توحيد الله وحده، وعبادته دون سواه، وألا يَتَّخذ بعضُهم بعضًا أربابًا من دون الله (انظر: آل عمران: 64)؛ بل إنه دعا إلى برِّهم والإقساط إليهم، إذا لم يحاربوا المسلمين، ولم يفتنوهم عن دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم (انظر: الممتحنة: 8، 9).

وإذا كان الإسلام قد شَرَعَ الجهادَ، بوصفه وسيلةً من وسائل نشر الدعوة وإبلاغها إلى النَّاس، فقد ظل للدعوة بالكلمة والتعريف والإعلام دورُها الفعال قبل تشريع الجهاد، وأثناءه، وبعده؛ بل كان من آداب تشريع الجهاد أن يبدأ المسلمون بعرض الإسلام على خصومهم من المحاربين قبل بدء القتال، وقد كان مِن هدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش، يوصيه بتقوى الله في خاصَّة نفسه، وبمَن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: ((إذا لقِيتَ عدوَّك من المشركين، فادْعُهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها، فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم وكف عنهم))[120]، وهكذا يظل للكلمة دورُها الفعال، في نشر الإسلام؛ لما لها من قدرة على مخاطبة العقل وإقناعه، ودفعِ ما قد يتراءى له من شبهاتٍ، ويعبِّر ابن حزم عن ذلك تعبيرًا قويًّا فيما ذَكَره من أن الحجة الصحيحة أقوى في مواجهة الأعداء من السلاح الشاكي والأعداد الكثيرة؛ لأن الأعداد قد تُهزم، أما الحجة فلا تُهزم أبدًا[121].

وبهذا تتكامل وسائل نشر الدعوة، فالكلمة في موضعها، والجهاد في موضعه، وهو في الإسلام مقرون بآداب ووصايا، وتشريعات إنسانية وأخلاقيَّة ليس لها نظير، وقد كان من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمجاهدين: ((اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، اغزوا ولا تَغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تمثِّلوا، ولا تَقتلوا وليدًا)).

 

وقوله: ((انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملَّة رسول الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً، ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلُّوا، وضُمُّوا غنائمَكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين))[122].

وليس الجهاد إذًا تخريبًا، ولا ظلمًا، ولا عدوانًا، كما يدَّعي ذلك بعضُ الباحثين من غير المنصفين في القديم وفي الحديث.

 

وهكذا تجتمع عواملُ الإيمان، والدعوة، والعلم، والجهاد؛ لتكُون من عوامل قوة الأمة الإسلاميَّة ونهضتها، حتى أصبحت من أكثر الأمم ازدهارًا وحضارة، وأصبحت موئلَ العلم والفكر، إلى أن بدأت تخضع - من بعض جوانب حياتها - لما خضعت له الأمم والحضارات - من قبلها ومن بعدها - من ضعفٍ وتراجعٍ.

 


[1] انظر: جوستاف لوبون: "سر تطور الأمم"، تعريب: أحمد فتحي زغلول، طبع المطبعة الرحمانية، ط2 / 1921 ص 155، 158، 159، وتوجد نصوص تؤيد هذه الفكرة في صفحات أخرى مثل 156، 195.

[2] انظر: محمد فؤاد شبل: "توينبي مبتدع المنهج التاريخي الحديث"، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص 48، 49، 79.

[3] انظر: مالك بن نبي: "شروط النهضة"، ترجمة عمر مساقوي، د/ عبدالصبور شاهين، دار الفكر، سوريا، ط2 / 1969 ص 83 - 86، ولمالك بن نبي نفسه حديث عن أهمية الدين في بناء الحضارة، انظر: المرجع نفسه، صفحات 66، 74، 75، 88، وسيأتي بيان مفصل لآرائه، فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

[4] سنورد لكل عامل من هذه العوامل بعض النماذج العملية تحقيقًا لعدة أهداف، منها: بيان واحدة من خصائص المجتمع الإسلامي الأول، وهي عدم الفصل بين الإيمان والعمل؛ فالإسلام يضع المبدأ أو الحكم أو التوجيه، والمؤمنون يسارعون إلى التطبيق بإخلاص شديد، وإقبال عظيم، دون تكاسُل أو مراوغة، ومنها بيان أن هذه المبادئ والأسس والقيم التي دعا إليها الإسلام لم تكن تحليقًا في الخيال، ولا جريًا وراء المثال النظري المجرد، بل كانت سموًّا بالإنسان إلى أقصى ما يمكن أن يرتفع إليه الإنسان، وكان الناس - في الوقت نفسه يرتفعون - بنُبْل عظيم فيهم، وإيمان صادق في قلوبهم - إلى هذه المستويات الرفيعة التي يريد لهم الإسلام أن يرتفعوا إليها، ثم إن تلك النماذج التي سنشير إليها تقدم لنا مُثُلاً رفيعة للاقتداء بها والأسوة، ولا شك أن التربية عن طريق القدوة تعد من أعظم الوسائل التربوية نجاحًا.

[5] ورد الحديث بروايات متعددة في البخاري، انظر: "صحيح البخاري"، طبعة الحلبي وبهامشه حاشية السندي، كتاب: المحاربين من أهل الكفر والردة: باب: رجم المحصن، وباب: لا يرجم المجنون والمجنونة، وباب: هل يقول الإمام للمقر، والباب الذي بعده، 4/ 176، 177، 178.

[6] انظر: "تاريخ الطبري"، تحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، 1977، ج 4 / 19.

[7] من المهم الانتباه إلى أن يقظة الضمير التي هي أثر من آثار قوة العقيدة في النفس المؤمنة لا تنحصر آثارها في نطاق العلاقة بين الإنسان وربه، بل إنها تمتَد لتشمل كل علاقات المؤمن بما حوله، وبمن حوله، أي: إن لها آثارها الاجتماعية أيضًا، وهذا مرتبط بالفهم الصحيح لحقيقة ومضمون "الإيمان" كما ورد في القرآن والسنة؛ حيث يأتي العمل الصالح جزءًا منه، أو على الأقل ثمرة ضرورية، وشرطًا لازمًا لقبوله، وسنوضح هذه النقطة - إن شاء الله - عند الحديث عن عوامل الضعف فيما بعد.

[8] ليس معنى هذا أن يتجرد الإنسان من أنواع الانتماء الأخرى كمحبة الإنسان لأهله أو وطنه أو نحو ذلك، فقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية (أي: هل من العصبية الممقوت شرعًا) أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم))؛ "سنن ابن ماجه"، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي حديث رقم 3949 - 2/ 1302 وجاء في الحديث عن الزهري، قال: قدم أصيل على رسول الله من مكة، فسألته عائشة (وكان ذلك قبل أن يضرب الحجاب): كيف تركت مكة؟ فوصفها بأوصاف تهيج الأشجان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حسبك، يا أصيل، لا تحزنِّي))، وفي رواية قال: ((ويهًا، يا أصيل، دع القلوب تقر))، راجع: "كشف الخفاء للعجلوني"، 1/ 414، مؤسسة الرسالة ط 3/ 1983.

[9] يتضح من هذه الآية والآيات التي بعدها أن التعارض واقع بين إيمان وكفر بما يترتب عليه من محاربة لله وعداوة له - جل جلاله - وللمؤمنين.

[10] انظر: "حلية الأولياء"، لأبي نعيم الأصبهاني، 1/311.

[11] ابن قيم الجوزية: "زاد المعاد في هدي خير العباد"، المطبعة المصرية ومكتبتها دون تاريخ 2/ 86.

[12] يتضح في الأمثلة التي سنوردها هنا ما اتضح في الآيات السابقة من أن الحديث عن عداوة المشركين المحاربين لله ولرسوله، وللمؤمنين وترك موالاتهم، وخاصة إذا كانوا محاربين، أما الأباء فإن الله قد أوصى بحسن رعايتهم حتى ولو كانوا مشركين ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 15].

[13] انظر: "حلية الأولياء"، 1/ 101.

[14] "السيرة النبوية"، لابن هشام، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا وآخرين، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي طـ 2 / 1955 مجلد 2/ 293.

[15] انظر: "الحلية" 1/ 152، و"البداية والنهاية"، لابن كثير، تحقيق د/ أحمد أبو ملحم وآخرين، دار الكتب العلمية - لبنان - ط3 / 1987 ج3/ 172، 4/ 279.

[16] "سيرة ابن هشام"، 2/ 603، 604.

[17] "الجامع الصغير"، للسيوطي، طبعة عبدالحميد حنفي، وبهامشة "كنز الحقائق"، للمناوي 2/ 59، وهو حديث حسن.

[18] السابق: 2/ 138.

[19] "صحيح مسلم"، بتحقيق عبدالله أبو زينة، طبعة الشعب، كتاب: الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن 4/ 515، 516 و"مسند أحمد"، طبع الحلبي 3/ 306، 488.

[20] "مسند أحمد"، 3/ 361، 524.

[21] وردت في هذا كله آيات كثيرة وأحاديث نبوية توضح أنواع هذه الحقوق وما تؤدي إليه من إشاعة الرحمة والمودة والتضامن الاجتماعي، ولكن تفصيل ذلك يحتاج إلى مقام آخر.

[22] انظر: "تفسير القرطبي"، طبعة الشعب 6502، 6503، وانظر: "نماذج لإيثار الأنصار إخوانهم من المهاجرين في صحيح البخاري"، كتاب: "مناقب الأنصار"، باب: إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 2/ 309، 310، و"البداية والنهاية"، 3/ 226، 227.

[23] "صحيح البخاري"، كتاب: الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد، إذا رفع إلى السلطان 4/ 173، وأورده باختلاف في اللفظ في اباب الذي قبله.

[24] "منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال"، للمتقي الهندي بهامش مسند الإمام أحمد 4/ 420.

[25] "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف"، لإبراهيم بن محمد كمال الدين. تحقيق وتعليق د/ حسين هاشم، دار الكتب الحديثة 2/ 98.

[26] انظر: د/ فتحي عثمان، "آراء تقدمية من تراث الفكر الإسلامي"، سلسلة الثقافة الإسلامية، رقم 33، ص 8 - 12.

[27] "سيرة ابن هشام"، 1/ 508، 509 والصحابي المذكور في القصة هو عبدالله بن زيد بن ثعلبة.

[28] انظر: شمس الدين الذهبي، "تاريخ الإسلام"، نشر مكتبة القدسي 1368 هـ ج2 / 191 و"الأوائل"، لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد السيد الوكيل، طبع المدينة 1385 هـ ص 185.

[29] للعمل الصالح مفهوم شامل واسع سنتحدث عنه قريبًا.

[30] لمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى كتاب: أبي الحسن الندوي: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 8 / 1984 ص 49، 41، 40 - 52، 6ذ، 62 إلخ.

[31] انظر: لوبون: "سر تطور الأمم"، 16، 17.

[32] لا يبتعد عن هذا التصور كثيرًا عما جاء في التوراة التي بأيدي الناس عن سبب خروج آدم من الجنة، حيث تذكر أن أكله من شجرة معرفة الخير والشر كان سبب هذا الخروج؛ لأنه قد زاحم الربوبية في علمها، فخشى الرب أن يأكل من شجرة الخلود أيضًا "وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن"، "سفر التكوين"، إصحاح 3/23، 22، فكأن إخراجه كان عقوبة له على تلك المعرفة التي نالها عندما أكل من الشجرة.

[33] انظر: بيترلن، "قصص من اليونان القديمة"، ترجمة ج/ سمير عبدالحميد، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966 ص 11 - 15.

[34] انظر: ابن حزم، "الإحكام في أصول الأحكام"، تقديم د/ إحسان عباس، نشر دار الآفاق الجديدة، بيروت ط2 / 1983، مجلد 1، ج1 / 20.

[35] وفيما جاء من السنة كذلك.

[36] ابن عبدالبر، "جامع بيان العلم وفضله"، دار الأرقم، ط2 / 1978 ج1 / 36، وانظر: 1/ 35 - 36، وقد أخرجه أبو داود في سننه، نَشْر الشيخ محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، كتاب: العلم، باب: الحث على طلب العلم، 3/ 317 وابن ماجه في سننه، نَشْر الشيخ محمد فؤاد عبدالباقي، "المقدمة"، باب: فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 81، و"الترغيب والترهيب"، للمنذري، طبع فطر 1985 ج1/ 94.

[37] انظر مثالاً: "جامع بيان العلم وفضله"، باب: ذكر الرحلة في طلب العلم، 1/ 92 - 95.

[38] السابق 1، 85/ 86.

[39] السابق 1/ 25، و"الإحياء"، للغزالي، وبهامشه "المغني عن حمل الأسفار"، للحافظ العراقي، طبع الحلبي، 1/ 19.

[40] "الترغيب والترهيب"، 1/ 102.

[41] اختلف العلماء في إثبات هذا القول، فبعضهم يجعله حديثًا يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كابن ماجه والمنذري والسيوطي، انظر: "سنن ابن ماجه"، طبعة محمد فؤاد عبدالباقي 1/ 81 حديث رقم 224 و"الترغيب والترهيب"، 1/ 96 وبعضهم يتعقب أسانيده التي تصل لدى ابن عبدالبر مثلاً إلى ثلاثة عشر إسنادًا، ولكنه روي عن بعض أئمة الحديث أن طلب العلم واجب، ولكن لم يصح يه الخبر، وفسر ذلك بأن كل إسناد من أسانيده فيه مقال لأهل العلم بالنقل، ولكن معناه صحيح عندهم، انظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 1/ 7 - 9 وانظر كذلك: "كشف الخفاء"، للعجلوني 1/ 56، 57 وهو ذكر عددًا من أئمة العلماء الذي لم يثبت لديهم هذا الحديث، لضعف إسناده كالإمام أحمد والبيهقي وابن الجوزي، وابن الصلاح وغيرهم، وكذا ضعفه النووي، انظر: "سنن ابن ماجه" في الموضع السابق.

[42] انظر: "مفتاح دار السعادة"، لابن قيم الجوزية، بتصحيح الشيخ محمود حسن ربيع، مكتبة حميدو، ط3/ 1979، وانظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 1/ 10 - 13.

[43] انظر: شيئًا من أقوال العلماء والمفسرين في تفسير الآيات: 38 من سورة الأنعام / 111 من سورة يوسف، 89 من سورة النحل، إلى آيات أخرى.

[44] مصالح المسلمين دينية ودنيوية فلو أردنا العدل وفَّرنا له سبله حتى يقام، وإذا أردنا الصحة وفَّرنا لها مستشفيات مجهزة، ولا عيب في الاستعانة بغيرالمسلمين في ذلك كله ما دام لا يتعارض مع الدين، د/ مدكور.

[45] "صحيح البخاري"، أول كتاب: في الطب 4/ 8، والحديث عند مسلم بلفظ: لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله، كتاب: السلام، باب: لكل داء دواء، واستحبب التداوي 5/51 وفي الباب أحاديث أخرى.

[46] انظر: "مفتاح دار السعادة"، 1979، وانظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 1/ 10 - 12.

[47] انظر مثلاً: "إحياء علوم الدين"، للغزالي 1/ 27، 28، 75، 76، و"مجموع الفتاوي"، لابن تيمية، طبع الرياض 4/ 114، 115.

[48] "مجموع فتاوى ابن تيمية"، في الموضع السابق.

[49] ابن حزم: "الإحكام في أصول الأحكام"، مجلد 3 ج 5/ 122.

[50] انظر: "الوقف ودوره في التنمية"، د/ عبدالستار الهيتي، طبع قطرط، 1/ 1998 ص 127، وما بعدها، وكذلك "الوقف ودوره في تنمية المجتمع الإسلامي"، د / محمد الدسوقي، طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ط 1/ 2000، الجزء الثاني ص11 وما بعدها، و"مذاهب فكرية معاصرة"؛ للأستاذ محمد قطب، دار الشروق، ط4/ 1988ص 245.

[51] انظر: د/ قاسم السامرائي، "الاستشراق بين الموضوعية والانفعالية"، دار الرفاعي، الرياض ط1/ 1983 ص 27.

[52] أبو طالب المكي، "قوت القلوب في معاملة المحبوب"، طبعة الحلبي، 1961 ج1/ 280.

[53] انظر: مقدمة د/ فؤاد زكريا لترجمة كتاب: "الجمهورية"، لأفلاطون، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985 ص 87، 88.

[54] انظر: أرسطو، "الأخلاق"، ترجمة إسحاق بن حنين، تحقيق: د/ عبدالرحمن بدوي، طبع وكالة المطبوعات، الكويت ط1/ 1979 ص 297.

[55] انظر: عز الدين ابن الأثير، "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، طبعة الشعب، بتحقيق: د/ محمد إبراهيم البنا وآخرين، 2/ 307، 308.

[56] انظر: ابن الصلاح: "المقدمة في علوم الحديث"، دار الكتب العلمية بيروت، 1978، ص 199.

[57] "تفسير القرطبي"، في تفسير الآية 187 من سورة آل عمران ص 1546.

[58] انظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 1/ 304، وانظر: "سنن أبي داود"، كتاب: العلم، باب: كراهية منع العلم، وباب: فضل نشر العلم 3/ 321، 322، و"سنن ابن ماجه"، المقدمة، باب: من سئل عن علم فكتمه 1/ 96 - 98.

[59] "صحيح البخاري"، كتاب: العلم، باب: كيف يقبض العلم 1/ 30.

[60] انظر: "مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية"، طبع المكتب العربي للتربية بالخليج - الرياض 1985 ج2/ 30.

[61] سارتون: "تاريخ العلم والإنسية الجديدة"، ترجمة: الأستاذ إسماعيل مظهر، دار النهضة العربية 196ذ ص 161، وانظر: روزنتال: "علم التاريخ عند المسلمين"، ترجمة: د/ صالح العلي، مؤسسة الرسالة، بيروت ط2/ 1983 ص 46.

[62] جوستاف جرونيباوم: "حضارة الإسلام"، ترجمة: الأستاذ عبدالعزيز جاويد، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب 1994 ص 81/82.

وانظر: بالنثيا: "تاريخ الفكر الأندلسي"، ترجمة: د/ حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية 485، 486.

[63] "صحيح البخاري"، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38]، 2/ 272.

[64] يمكن الرجوع إلى مادة "علم" في "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، وإلى كتاب العلم في كتب الحديث النبوي، كما يمكن الرجوع إلى كتاب: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبدالبر، وكتاب: العلم من "إحياء علوم الدين" للغزالي، الجزء الأول، بتخريج الحافظ العراقي، وكتاب: "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة" لابن قيم الجوزية، وهكذا.

[65] "مسند أحمد"، 2/ 374.

[66] "مسند أحمد"، 5/ 186.

[67] "سنن أبي داود"، كتاب: الديات، باب: فيمن تطبب بغير علم 4/ 195.

[68] راجع الآيات: 182 من سورة البقرة، 5 من سورة يونس، 12 من سورة الإسراء.

[69] انظر: "المقدمة"، لابن خلدون، طبعة الشعب 400، 401، و"قوت القلوب"، للمكي 1/ 339.

[70] انظر البيت الخاص بالكندي: د/ أحمد فؤاد الأهواني: "الكندي، فيلسوف العرب"، سلسلة أعلام العرب ص 38، وللبيتين الخاصين بابن سينا: السيوطي: "صون المنطق والكلام"، تحقيق: د/ علي النشار، وسعاد عبدالرزاق، طبع مجمع البحوث الإسلامية، ط 1970 ج1 / 37.

[71] رسطالس: هو أرسطوطاليس، وكتاب "الشفا": هو كتاب مِن أشهر كتب ابن سينا.

[72] يقسم ابن عبدالبر هذه العلومَ إلى علم أعلى، وهو علوم الدين، وإلى علم أوسط، وهو علوم الدنيا؛ كعلم الطب والهندسة، وعلم أدنى، وهو علم الحرف والصناعات، انظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 2/ 37 وما بعدها.

[73] انظر: "جامع بيان العلم وفضله"، 2/ 37، 24، 22 - 40، و"الإحياء"، للغزالي 1/ 76، 75، 28، 27.

[74] يمكن الرجوع هنا إلى بعض الكتب العلمية، مثل: "الله يتجلى في عصر العلم"، و"العلم يدعو للإيمان"، و"العلم في منظوره الجديد"، وهو من الكتب الحديثة في هذا الموضوع، كما يمكن الرجوع إلى كتاب: "الإسلام يتحدى" لوحيد خان.

[75] "صحيح مسلم"، كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، 3/ 43، 44.

[76] "صحيح مسلم"، في الباب السابق نفسه 3/ 44 - 46.

[77] "الترغيب والترهيب"، 3/ 63، وقال المنذري في تخريجه: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.

[78] انظر: د/ محمد جمال الفندي، د / إمام إبراهيم أحمد: "البيروني" سلسلة أعلام العرب، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1968، ص 31، 72، 74، 102.

[79] انظر: د/ بول غليونجي: "عبداللطيف البغدادي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985، ص 42، 44، 50، 51.

[80] انظر: د/ بول غليونجي: "ابن النفيس"، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1، د. ت، 104 - 108.

[81] انظر: روجيه جارودي: "الإسلام دين المستقبل"، ترجمة عبدالمجيد بارودي، دار الإيمان، بيروت، دمشق 1983 ص 94.

[82] انظر: ص: د من مقدمة "فصل المقال"، المطبوع مع "مناهج الأدلة"، وهما لابن رشد، طبعة صبيح، د. ت.

[83] انظر: د/ بول غليونجي: "عبداللطيف البغدادي"، مرجع سابق ص 56.

[84] انظر: أحمد سعيد الدمرداش: "الحسن بن الهيثم"، دار الكاتب العربي 1969 ص 37.

[85] عبدالرحمن الشيزري: "نهاية الرتبة في طلب الحسبة"، نشرة السيد الباز العريني، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1946 ص 80.

[86] زيجريد هونكه: "شمس الله تشرق على الغرب"، ترجمة: د/ فؤاد حسنين علي، دار المعارف ط2 / 1969 ص 238.

[87] محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق"، ترجمة د/ عمر فروخ، دار العلم للملايين، بيروت ط9/ 1977 ص 70.

[88] هونكه: "شمس الله تشرق على الغرب"، 266.

[89] ول ديورانت: "قصة الحضارة"، ترجمة الأستاذ/ محمد بدران، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط3 / 1974 مجلد 4 ج 2/ 171.

[90] يمكن مراجعة هذه الفكرة في كتب كثيرة؛ منها: "أثر العرب في الحضارة الأوروبية"، للعقاد، "دور العرب في تكوين الفكر الأروبي"، د/ عبدالرحمن بدوي، "تاريخ الحضارة الإسلامية"، بارتولد، ترجمة حمزة طاهر، "تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه"، د/ عبدالحليم منتصر، "عبقرية العرب في العلم والفلسفة"، د/ عمر فروخ، "شمس الله تشرق على الغرب"، زيجريد هونكه، ترجمة د/ فؤاد حسنين، "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، د/ محمد إقبال، "في الفكر الإسلامي"، د/ إبراهيم مدكور، "حضارة العرب"، جوستاف لوبون، "مناهج البحث عند مفكري الإسلام"، د/ علي النشار، "مناهج البحث في العلوم الإسلامية"، د/ مصطفى حلمي، "منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية"، د/ جلال موسى، إلخ.

[91] اقرأ الآيات بعدها كذلك.

[92] وكذا آية 28 من سورة الفتح، وآية 9 من سورة الصف، وآية 193 من البقرة، 39 من الأنفال.

[93] "مسند أحمد"، 5/ 231، 237.

[94] راجع: كتاب الجهاد والسير في الصحاح؛ كالبخاري ومسلم ونحوهما، وهي تفيض بالأحاديث الكثيرة الدالة على تلك المكانة العظيمة، التي يجعلها الله تعالى للمجاهدين والشهداء.

[95] "صحيح البخاري"، كتاب: الجهاد، باب: البيعة في الحرب ألا يفروا، 2/ 163.

[96] "تاريخ الطبري"، 3/ 536.

[97] "سر تطور الأمم"، 144، 145.

[98] "أسد الغابة"، لابن الأثير 2/ 286.

[99] السابق 2/ 111.

[100] يقول ابن هشام في تفسيرها: وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة، انظر: "سيرة ابن هشام"، 2/ 110.

[101] "البداية والنهاية"، 4/ 193.

[102] انظر ما رواه البخاري عن عبدالله بن عوف، فيما حكاه عن غلامين من الأنصار، سأله كلٌّ منهما عن أبي جهل، حيث عزم كل منهما على قتله؛ لأنه بلغَهُما أنه كان سبَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم فلما رآه دلهما عليه، فاشتركا في قتله، "صحيح البخاري"، كتاب: الجهاد والسير، باب: من لم يخمس الأسلاب 2/ 197، طبعة الحلبي.

[103] انظر "كنز العمال"، 5/ 270، و"حياة الصحابة"، للشيخ محمد بن يوسف الكاندهلوي، طبع دار القلم، دمشق ط 2، 1983 ج1/ 599.

[104] "سيرة ابن هشام"، 2/ 81، 82.

[105] انظر في خروج النساء للجهاد مع المجاهدين: "حياة الصحابة"، 1/ 590 - 598.

[106] انظر: "تاريخ الطبري"، 3/ 345، 346، 348.

[107] انظر: "حياة الصحابة"، 3/ 693.

[108] "سيرة ابن هشام"، 2/ 619، وانظر: "تفسير ابن كثير"، طبعة الشعب في تفسيره للآية 33 من سورة التوبة 4/ 78، 79.

[109] الحيرة: بلد بجانب الكوفة، ومحلة معروفة بنيسابور، انظر: "لسان العرب"، مادة: حير، ولم تكن الحيرة قد فتحت بعد.

[110] "تفسير ابن كثير"، 4/ 79.

[111] "تاريخ الإسلام" للذهبي، 2/ 189.

[112] "صحيح البخاري"، كتاب: الجهاد والسير، باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة 2/ 161.

[113] "البداية والنهاية"، لابن كثير 7/ 40، 41.

[114] "تاريخ الطبري"، 3/ 520.

[115] "البداية والنهاية"، 7/ 41، 42.

[116] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، المطبعة المصرية ومكتبتها، دون تاريخ، ج1 / 48.

[117] انظر لهذه الفكرة: د/ وهبة الزحيلي: "العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث"، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1/ 1981 ص 14، 15، والمصادر المذكورة بها.

[118] انظر: "الدعوة إلى الإسلام"، سير توماس أإرنولد، ترجمة: د/ حسن إبراهيم حسن وآخرين، مكتبة النهضة المصرية ط3/ 1970 ص 461، 462 وما بعدها.

[119] "سنن ابن ماجه"، كتاب: الديات، باب: من قتل معاهدًا 2/ 896 وفي الباب أحاديث أخرى، وفي الباب الذي بعده، وارجع إلى "مسند أحمد"، 2/ 186، 4/ 237، 5/ 369، 474.

[120] "سنن أبي داود"، طبعة الشيخ محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت، كتاب: الجهاد، باب: في دعاء المشركين 3/ 37، وانظر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في غزوة خيبر، في "صحيح البخاري"، كتاب: المغازى، غزوة خيبر 5/ 67، 77.

[121] ابن حزم: "الإحكام في أصول الأحكام"، نشرة د/ إحسان عباس، دار الآفاق الجديدة، بيروت طبعة 1983، مجلد 1 ج 1 ص 20.

[122] "سنن أبي داود"، في الموضع السابق 3/ 37، 38.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • خطبة عيد الأضحى 1429هـ
  • صرخة في ضمير أمتي (قصيدة)
  • تنويمة لوجه الذل (قصيدة)
  • استراتيجية النهوض والسبيل إلى التقدم
  • أشكو لربي (قصيدة)
  • شتاء أمة
  • اجتماع الكلمة ومفهوم الأمة
  • صناعة العزة والكرامة
  • القوة الخفية
  • الخروج من التيه
  • اليوم خمر وغدا خمر!
  • خصائص الأمة الإسلامية
  • غثاء كغثاء السيل
  • سبل النهوض بالأمة
  • خط بياني في مسار الأمة
  • لماذا هذا المقال؟ ولمن؟
  • الأمة المسلمة
  • من أسباب تسلط الأعداء

مختارات من الشبكة

  • عوامل قوة الأوطان(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • عوامل الحياة كامنة في المرأة؟؟(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • نزع الخافض دراسة في عوامل النصب في التراث النحوي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • النصر والهزيمة بين العوامل الذاتية والعوامل الغيبية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القرآن أكبر عوامل توحد المسلمين(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • عوامل تحقيق الأهداف (مستوحاة من سيرة سيد البشر)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عوامل تربوية مؤثرة في البيوت(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • عوامل نجاح الأمم.. في الدنيا والآخرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عوامل الاستقرار للعقد القابل للإبطال (PDF)(كتاب - موقع أ. د. محمد جبر الألفي)
  • عوامل انتشار الدين الإسلامي(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
5- تعليق على النص
luza bondok - egypt 03-11-2016 12:42 AM

من أجمل ما قرأت نفعنا الله بما نقرأ وجعله للكاتب في ميزان حسناته

4- تعليق على النص
luza bondok - egypt 02-11-2016 03:42 PM

من اجمب ما قرأت نفعنا الله بما نقرأ وجعله للكاتب في ميزان حسناته

3- شيخي
أبوشمس الدين الدرعمي - مصر 29-06-2010 12:04 AM

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد :
فإنني أعلق على هذا المقال بمجرد نظرتي العامة له
لكنني لم أقرأه، ولكن تعليقي نابع من ثقتي في علم الدكتور حفظه الله ونفع الأمة بعلمه، وعندما وقعت على المقال سعدت وكأنما وجدت كنزا، بل هو أغلى من الكنوز، لأن الحديث عن العلم بالله تعالى هو الموصل إلى الجنة، وكذلك العلم بالله لا يأخذ إلا من أهل العلم به وأحسب الدكتور مدكور منهم ولاأزكي على الله أحدا
تلميذك الدرعمي أبوشمس الدين

2- توجد روافد أخرى لأستاذي.. فانتظر!
Ibrahim El Shafey - Egypt 17-12-2008 12:39 PM
السلام عليكم

إلى أخي أحمد، الأستاذ الدكتور عبد الحميد مدكور من أعظم المفكرين الدرعميين معتدلي الفكر، يحب طلابه ويحبه طلابه، وقد درس لي في الفرقة الرابعة الفكر الإسلامي المعاصر، وله كتابات رائعة..

وأعرف أن في يد إخواننا في إدارة الألوكة مقالات للدكتور عبدالحميد مدكور إلا أنها الآن في حيز اللجنة الشرعية لإقرارها وسوف تنشر قريبا..

فانتظروها جميعا.. ففيها أفكار لأمتنا رائعة رائعة..

أتمنى التوفيق للجميع، ولإدارة الألوكة الشكر، وللقراء النفع..
1- من أروع ما كتب في الموضوع
أحمد - مصر 09-11-2008 01:02 AM
هذا البحث من أروع ما كتب وفتح الله على كاتبه وجعله في ميزان حسناته
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب