منتديات حواطب الليل

منتديات حواطب الليل

فَوْضَى عارمة انتشرت في عالم الإنترنت العربي، فهذا عالمٌ افتراضي قد نَقَل من الواقع وانتقَل إليه، فهل أصبحت فيه كثيرٌ من المواقع والمنتديات كحواطب بليلٍ؟

ولقد أصبح من السهل إنشاء المواقع والمنتديات الإلكترونية بخطوات يسيرة، وبمبالغ زهيدة، ولكلِّ مَن أراد، على اختلاف الثقافات والأفكار، وهذا ليس بالسيِّئ مطلقًا، ولكن السيِّئ في الأمر أن التفاهة والانحطاط أصبحتَا ظاهرتين في هذه المواقع والمنتديات؛ فالأغاني، والخلاعة، والأفلام، والتفنُّن في أساليب جلب الزوار - كثيرة؛ فالمواضيع غالبًا ما تُسبَق بعبارات مدارها التشويق مع الدناءة: "لأصحاب القلوب القوية، حصريًّا، لم يُنشَر بعد، مُنِع من العرض، للكبار فقط، قنبلة المنتدى"، والكثير الكثير من العبارات المقززة، تسويقٌ رخيص لمحتوى أرخص وأرخص.

ولقد أصبح هذا من الفتن المنتشِرة وبكثرة، فاتَّقوا الله يا أصحاب المواقع من أن تفتنوا الناس في دينهم، كمثل أصحاب الأخدود، فتوبوا إلى الله.

قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10].

ومحركات البحث خير دليل، فالطامَّة ما يَظهر مباشرةً عند البحث عن محتوًى ما، وذلك بتكرار ظهور هذا المحتوى الرخيص عشرات الآلاف في نتائج البحث، وفي الصفحات العربية، بل ودون مبالغة تكشف محركات البحث هذه عن الملايين من المرات التي نُفِّذت فيها عملية البحث عن محتوى رخيص وانتشاره عبر المواقع العربية، فهل هذا المستوى الذي انحدر إليه مَن انحدر في استخدام الإنترنت، والتي قد تكون نعمة وبليّة في نفس الوقت.

كل هذا وزيادة؛ فقد أصبحت هذه المواقع مجالاً لاصطياد الفرائس، عبر ما يُدعَى بالرسائل الخاصة بين أعضاء هذه المنتديات، ومدعاةً للانجرار إلى الهاوية عبر التواصل (ببرامج المحادثة) والكاميرات، وما فيه كشف المستور، والباقي ما الله به عليم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال الله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، وما يزيد الأمر سوءًا استغلالُ ما يدعى بالأقسام الإسلامية في تلك المنتديات التي لم يلتزم الأعضاء المشاركين فيها بأقلِّ مستويات الأدب والخلق - إلاَّ مَن رحم ربي - فترى مشرف القسم الإسلامي أو مشرفته قد وضع صورًا لأهل الفسق والفجور، وترى مَن يشارك في هذه المنتديات التي حوَتْ أنواع الآثام، يأتي ويشارك في القسم الإسلامي فينشر الأغاني هناك ويأتي بالأناشيد هنا، ويأتي بالأفلام هناك ويأتي بالمحاضرات الدينية هنا، وينشر السوء ويقول: أنا أبرأ إلى الله ممَّا تصنعون، مقتديًا بأفعال الشياطين والعياذ بالله.

قال - تعالى -: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الحشر: 16].

وقد يسرق ما يسرق من المقالات الشرعية أو العلمية أو القصائد الشعرية والتي تُنشَر في المواقع المحترمة وينسبها لنفسه، وكأنه فقيه عصره أو أديبه أو مُحدِّثه، وتبدأ الردود المشجِّعة والتي غالبًا ما تحوي عبارات تُنْسَخ وتُلْصَق باستمرار: جزاك الله خيرًا، سلمت يمينك، وما أشبه ذلك، وحتمًا وقطعًا أن عقول هؤلاء الصغار لا تتحمَّل أصلاً أن تعي ما قد سُرِق من تلك المقالات، ولم يقرؤوا ما نُقِل أصلاً، ومَثَلُ هؤلاء كمثل الرُّوَيبِضَة التافه، فهو لا يعي ما يقول، أو ما ينقل.

قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن بين يدي الساعة سنين خدَّاعة؛ يُصَدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق، ويُؤتَمن فيها الخائن، ويُخَوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيبِضَة))، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((المرء التافه يتكلم في أمر العامة))[1].

ومَن أبدى التفاعل مع هذه المواضيع قد ردَّ لغايات، منها ما قد ينتهي بالتعارف عبر الرسائل الخاصة؛ حيث قد يُبدِي هذا العضو الاهتمام بالعضو الآخر وإنجازاته، حتى يُوقِعه في قائمة (زبائنه) في برامج المحادثة.

والأدهى والأمرُّ من هذا: الصور الشخصية والتوقيعات التي أُدرِجت في تلك الصفحات والمشاركات لهؤلاء الأعضاء، فترى "جزاك الله خيرًا" وبجانبها صورةٌ لعارية، وترى حديثًا نبويًّا شريفًا وبجانبه صورة لكبار أهل الفسق والفجور، وأبيات الحب والغزل، فأين الحياء؟! أليس الحياء من الإيمان؟!

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))[2].

قال البغا: (الحياء): صفة في النفس تحمل على فعل ما يُحمَد، وترك ما يُذمُّ عليه ويُعاب.

نعم، لقد أصبح الكثير من المواقع والمنتديات التي تعجُّ بها الشبكة العنكبوتية كحطبٍ بليل، وضررها في بعض الأحيان أكثر من نفعها.

لقد كانت تطلق هذه العبارة على جمع الغث والسمين، ولكن حتى هذه العبارة قد تعلي من شأن هذه المواقع، فهي أدنى من ذلك للأسف، بل هؤلاء ومن شدَّة جهلهم قد حطبوا بنهار، وما ميزوا بين السليم والسقيم، وكثيرًا ما قد تتحوَّل مواضيعهم إلى مناوشات ومهاترات بين مؤيِّد ومعارض في مواضيع ليس لهم فيها أدنى علم.

وحتى لا يُفهَم الأمر على عكس ما يُراد منه، فوجود الأقسام الإسلامية في المنتديات أمرٌ جيد عمومًا، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمرٌ واجبٌ شرعًا.

قال الله - تعالى -: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].

ولكن الإنكار على أصحاب العقول الازدواجية الذين يعملون على إرضاء الجمهور، فيجمعون بين الشيء ونقيضه.

ومدار ما سبق من القول لا يشمل العموم والإطلاق حتى لا يُظلَم أحد، فإنه لا يعني أحدًا بذاته، فالكثير من المواقع معروفة الهوية؛ كالمنتديات المتخصِّصة بالبرامج الحاسوبية وشروحاتها، والمنتديات التعليمية والثقافية والتربوية، والمنتديات العلمية الأكاديمية التي قد حقَّقت لنا الفائدة.

والشرعية الوسطية التي يسَّرت للناس كثيرًا في أمور دينهم ودنياهم، والتي يُشرِف عليها أهل الفضل والعلم والأدب، من خلال ما يُنشَر في مجالات مختلفة ويدقَّق من أهل الاختصاص، فلا يَبْخَس عاقلٌ فضلَ هؤلاء، فهنا يُقال: جزاهم الله خيرًا على معروفهم.

فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن صُنِع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء))[3].

أمَّا من قُصِد فيهم الكلام عينًا هم ممَّن حطبوا بالليل وبالنهار، فتلك المواقع والمنتديات التي لا يُعرَف لها هوية ويدعونها بالمنوّعة، فقد ضلُّوا وأضلوا - هداهم الله.

قد يقول قائل: لسنا مضطرِّين لزيارة هذه المواقع، نعم، فليس للكثير منَّا أدنى رغبة في تلك الزيارة، ولكن في الوقت نفسه لا يرغب الكثير في أن يكون هؤلاء ضيوفًا ثقلاء على بريده الإلكتروني، فأنتم يا أصحاب المواقع مَن تعرضون أنفسكم على الناس.

فاتَّقوا الله، فكم من الرسائل الدعائية المزعجة التي قد تقتحم البريد الإلكتروني للكثير، وتشمل على دعوة لزيارة مثل هذه المواقع والمنتديات، والتي تحوي عبارات تشدُّ عقول الصغار والجُهَّال فتشتِّتها لاحقًا، فلا تكسب إثمك وإثم مَن تبعك، واعلم بأن الله سيحاسبك.

وليتقِ الله أصحاب شركات الاستضافة التي تسمح لمثل هذه المواقع الإلكترونية وتسهِّل لها الانتشار، وليتقِ الله كلُّ مَن يُسهِم في نشر هذه المواقع، من مصمِّمين ومبرمجين، فكلهم في الإثم سواء.

فعن ابن جرير بن عبدالله عن أبيه قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سنَّ سنَّة خيرٍ فاتُّبِع عليها، فله أجره ومثل أجور مَن اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئًا، ومَن سنَّ سنَّة شرٍّ فاتُّبِع عليها، كان عليه وزره ومثل أوزار مَن اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئًا))[4].

وأخيرًا:

أذكِّر نفسي وإياكم بقول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37].

المراجع:

1- القرآن الكريم.

2- صحيح البخاري، دار ابن كثير، اليمامة - بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 - 1987؛ تحقيق: د. مصطفى ديب البغا.

3- السلسلة الصحيحة؛ محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف - الرياض.

4- صحيح وضعيف سنن الترمذي؛ محمد ناصر الدين الألباني.