• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

تفسير خواتيم سورة البقرة

تفسير خواتيم سورة البقرة
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 6/8/2014 ميلادي - 9/10/1435 هجري

الزيارات: 254863

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير خواتيم سورة البقرة

الآيات (285 - 286)


قال تعالى: ﴿ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 285، 286].


اختار الله سبحانه وتعالى أن يختم هذه السورة المباركة بما يناسب موضوعها العظيم من أصول الإيمان التي أخذ بها المتقون وزل عنها من سواهم ليسجل الله شهادته للمؤمنين ويلقنهم ضراعة الأبرار بدعوات لها من الحكمة ما سنذكره إن شاء الله.


وفي هاتين الآيتين فوائد عظيمة:

أولها: شهادة الله من فوق سبع سماوات لرسوله والمؤمنين بكمال الإيمان الذي هو تصديق إذعان واطمئنان وتطبيق عملي لأركان الإيمان وشعبه، تطبيقاً ظهرت آثاره على نفوسهم الزكية وهممهم العلية، ولا شيء أكبر من شهادة الله لهم. فعلى كل مسلم مؤمن أن يقتدي بهم ويسلك آثارهم متخلياً من أغراضه النفسية، ومفضلاً مرادات الله لا مرادات النفس كما فعلوه، لينال حظاً كريماً من هذه الشهادة الإلهية، فإنها خير من جميع الشهادات المدرسية والجامعية ملايين المرات وملياراتها وبلايينها، بل لا تقاس بها أبداً، إذ الشهادات الدراسية لا يحصل صاحبها إلا على نفع مادي محدود وموقوت، وأما شهادة الله لأهل الإيمان بالإيمان فإن أهلها يحصلون على سعادة الدنيا والآخرة، حظهم في الدنيا نصر من الله وفتح قريب، ينالون به القيادة والسيادة والعز والتمكين، وحظهم في الآخرة جنة عرضها السماوات والأرض، فيها نعيم مقيم وفوز عظيم، كما قال تعالى في الآية (11، 12، 13) من سورة الصف وغيرها كسورة آل عمران والتوبة.


فاحرص أيها المسلم المؤمن على تحصيل الشهادة الإلهية باقتفاء آثار المؤمنين واللحوق بركبهم وموكبهم الصالح المصلح، ولا يصدنك الشيطان ويولعك بالمادة المحدودة الزائلة، فتخسر صفقة عمرك وتكون مغبوناً.


إن الشهادة الإلهية لا تعدلها الدنيا ثمناً ولا أضعاف أضعافها، فلتكن غايتك تحصيل تلك لتربح الجميع، تربح الدنيا والآخرة، وإن قصرت همتك على تحصيل الشهادات المادية دون أن تغطيها بشهادة الرحمن الرحيم، كنت والعياذ بالله ممن ﴿ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [الأنعام: 70].


فلا ترخص نفسك الغالية جرياً مع غرور الشيطان وأمانيه.


ثانيها: تكرمة الله المؤمنين حيث يصفهم مصف رسوله صلى الله عليه وسلم، وينعتهم بما نعته به من الإيمان، فإن هذه مكرمة لها وقع عظيم في نفوس المؤمنين، وهذه مكرمة لا يحس بها إلا من تعمق في معاني القرآن وعرف أن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه شيء بديهي لا يحتاج إلى ذكر، فيدرك أن الفائدة من ذكر إيمانه مع المؤمنين هي أن يقفهم معه مرة في صف واحد في ميدان الإيمان العظيم.


فحسبك أيها المؤمن شرفاً وغبطة أن يقيمك الله مع نبيه في مصف واحد، وقد جعل الله أيضاً المؤمنين في الدار الآخرة في معية النبيين والشهداء كما هم في الدنيا في معية رسولهم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].


ثالثها: إبلاغ الكافرين على اختلاف مللهم وطبقاتهم ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وممن أتوا ويأتون بعده إلى يوم القيامة أنه صلى الله عليه وسلم ليس كالانتهازيين الذي يدعون لما لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم، فإن الانتهازيين والدجالين يعرفون حقيقة باطلهم، وهم يدعون إليه ويتحمسون له ويدافعون عنه بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعلم تمام العلم أن ما عنده وحي من الله ليس فيه حرف واحد من تلقاء نفسه، فهو مؤمن بما أنزل إليه من ربه قبل أن يدعو إليه وبعدما دعا إليه.


والله العليم الحكيم يعلم أن بعض الكفار في القديم والحديث يقولون بعدم إيمانه بما يدعو إليه، وهذا من خبث مكرهم، وقد تولى الله الذب عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فبدأ هذه الآية الكريمة بتقرير إيمان الرسول إزهاقاً لباطلهم وكشفاً لحقيقة سريرة رسوله صلى الله عليه وسلم المخالفة لما عليه الدجاجلة والانتهازيون، وقد تراجع بعض فلاسفة الكفرة وقرر هذه الحقيقة، والمسلم لا يحتاج إلى إقراره لاستغنائه بوحي الله.


رابعها: تقرير الوحدة الكبرى والطابع الخاص لدين الله الإسلام الذي هو دين البشرية من الله جمعاء، وهو الإيمان بالله إيماناً صحيحاً خالصاً يحصل صاحبه على العمل والتنفيذ لجميع الأوامر والأحكام، ثم الإيمان بملائكته الذين بعضهم سفراء بين الله وبين رسله، ينزلون بالوحي على قلوب الأنبياء ويكون الإيمان بهم جملة وتفصيلاً دون زعم عداوة بعضهم كما تزعم اليهود مما أسلفنا تفنيده في تفسير الآية (97، 98) من هذه السورة، فقد كلفنا الله الإيمان بهم جميعاً لأنهم من عالم الغيب. وأما البحث عن ذواتهم وصفاتهم فهذا مما لم يأذن الله به، ثم الإيمان بجميع الكتب السماوية والرسل الإلهية دون التفريق بين أحد منهم.


وهذه هي الميزة العظمى لدين الله والطابع الخاص لأهله، لأن الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية أساس الوحدة الإنسانية المنشودة. أما التفريق بينهم بالإيمان ببعضهم والكفر ببعض فهو أصل الفتنة ومنشأ الشقاق، كما أسلفنا إيضاح ذلك في تفسير الآية (137) من هذه السورة.


فبالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وما أنزل إليهم تحصل الوحدة والاتحاد لاتفاق العقيدة التي لا تبقي تنافراً في القلوب، أما على خطة النصارى ومن نحا نحوهم ممن يؤمن بنبيه فقط ويكفر بما سواه فإنه تحصل الطائفية والفرقة والشقاق البعيد الذي يجر إلى الفتن والحروب مما تزداد به العداوة وتنافر القلوب.


وما أكذب القوميين الذي يزعمون أن تأسيس الحياة على الدين مدعاة للطائفية والفرقة حتى صاروا ينادون برفض جميع الأديان في الظاهر وإقامة الحكم والحياة على أساس علماني مبتعد عن الدين ومبعد لهم وهم في الباطن يقصدون إقصاء دين الإسلام الذي هو دين الحياة.


وقد أكثروا من دجلهم وتحريفهم للتاريخ توطئة لمذهبهم الإلحادي، ولكن جميع مزاعمهم مفضوحة عند من يرجع إلى القرآن وإلى سنة الله في التاريخ الصحيح، فإن منشأ الطائفية هو الافتراء على الله وليس دين الله الحق.


نعم منشأ الطائفية من المفترين على الله الذين يفرقون بين رسله ولا يؤمنون إلا ببعضهم ويكفرون بما وراء ذلك، كاليهود الذين لا يؤمنون إلا ببعض أنبيائهم ويكفرون بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وكالنصارى أفراخ الدجاجلة الذين لا يؤمنون إلا بعيسى ويكفرون بموسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، مع أن عيسى جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة ومبشراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكلهم مكذب بنبيه مهما ادعى الانتساب إليه، لأن كل نبي أرسله الله ينص كتابه على الإيمان بمحمد، بل العهد مأخوذ عليه وعلى أمته أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وينصروه، فخطتهم الأثيمة افتراء على الله، بعيدة عن دينه كل البعد، فدين الله يؤلف بين القلوب ويحشوها بالمحبة، ولكن معاكسة الدين بأنواع الافتراء على الله هي التي تفسد القلوب وتزيد من تنافرها حتى تحصل الطائفية ويحل الشقاق، ولم تجر الطائفية والشقاق حتى بين طوائف اليهود والنصارى إلا بسبب تبديلهم لدينهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما أخبر الله عنهم فخطتهم الانتهازية التي هي افتراء على الله وابتعاد عن دينه هي سبب الطائفية والشقاق، وهي التي جرت الويلات والحروب المدمرة للمدنية والفاتكة بالحياة، فالحروب الصليبية سببها الافتيات على دين المسيح رسول السلام وطابعها طابع النقمة والوحشية لا طابع الدين وإن اتسمت باسمه ظاهراً لخداع الجماهير واللعب على عقولهم، وقبلها حروب التتار الفظيعة لا تحمل شيئاً من طابع الدين بل ولم تتسم به قطعاً ثم الحروب التي بين أهالي (أوروبا) والحروب التي بين (أوروبا وروسيا) القيصرية ووصية (بطرس الأكبر) أحد ملوكهم.


كل هذا لا يحمل طابع الدين حتى في الاسم والمظهر وإنما يحمل طابع الوطنية والمصالح الاقتصادية والأطماع التوسعية.


وكذلك الحربان العالميتان اللتان حدثنا في خلال أربعين سنة دمرت فيهما مدن عظيمة بكاملها وحصلت فيهما مجازر بشرية بلغت عشرات الملايين.


لم يكن سببها الدين ولم يحملا طابع الدين قطعاً، وإنما سببهما المصالح الوطنية والأطماع التوسعية.


وكذلك ما يحصل الآن من التسابق في التسلح وغزو الفضاء للتغلب الحربي، فالتاريخ يكذب مزاعم القوميين ويفضح باطلهم.


ثم إنهم باطراحهم الدين وتبني القومية، زاعمين الحصول على الوحدة بذلك، هل حصلوا الوحدة المنشودة؟ أو زاد شقاقهم وتنافرهم وتناحرهم؟ لقد زاد شقاقهم وتناحرهم كما توعدهم الله بذلك ﴿ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 34].


والعجب أن النصارى المتحمسين للقومية والمتشدقين بالوحدة انقلبوا أعداء للوحدة في (سوريا، ولبنان، والعراق) وحتى أقباط مصر.


والتربية القومية التي أفسدت قلوب أبناء المسلمين على عقيدتهم لم تؤثر في أولاد النصارى والملل الأخرى، فنصارى (دمشق) في (حي القصاع) أظهروا السرور والابتهاج بإشعال أنوار الزينة الهائلة عشية احتلال (إسرائيل) لمنطقة الجولان.


والدول القومية صامتة على صنيعهم ومغضية عنهم؛ لأنهم نصارى ليسوا بمسلمين مغضوب عليهم، وكذلك اتضح أن كثيراً من كنائس النصارى أوكار للتجسس الإسرائيلي في العراق وسوريا ولبنان والأردن. والعجب أنهم ينحازون مع اليهود الذين عذبوا عيسى وعزموا على قتله، وقالوا فيه وفي أمه بهتاناً عظيماً ضد المسلمين الذي أبرزوا كرامة عيسى وأظهروا براءة أمه حسب نصوص القرآن، وما هذا إلا لفساد العقيدة والتصور. فجميعهم يعتبر غير مؤمن بنبيه ما دام قاصراً إيمانه عليه دون ما سواه.


قال الله تعالى في الآيات (150، 151، 152) من سورة النساء: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾. فهذه الآيات من سورة النساء تنص على أن الذي لا يؤمن بجميع المرسلين كافر بهم جميعاً مهما ادعى الإيمان ببعضهم.


خامسها: مدلول هذه الآية الكريمة يستلزم أن يكون الدين لله والوطن لله وكل شأن من شئون الحياة مرجع الحكم فيه إلى الله سبحانه، عكس ما يزعمه العصريون من أفراخ الماسونية اليهودية الذين يقولون: الدين لله والوطن للجميع. ومقصودهم بذلك أن الدين لله في المسجد ولا علاقة له بشئون الحياة، والوطن للجميع، جميع الطوائف الكافرة والملحدة، ويحكم من أجلهم بحكم علماني طاغوتي مخالف لشريعة الله، وهذا لا يبقي من الإيمان حبة خردل، فإن من أجرى شئونه السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية على خلاف وحي الله وشرعه المنزل لم يكن مؤمناً بما أنزل الله، كإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنين، ولم يكن من المسلمين المؤمنين الذين قالوا ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ بل يكون من ورثة اليهود الذين قالوا ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾.


ولما كانت المبادئ والمذاهب العصرية التي يتلفقها القوميون ناشئة من تأسيس اليهود كان أهلها من أبعد الناس عن أهل الآية وتحقيق مدلولاتها العظيمة، وكانوا ألصق باليهود وإن حاربوهم بحجة (الصهيونية)، وادعوا معاداتهم، فإنهم بإعراضهم عن وحي الله، وتعطيلهم حدود الله، وحكمهم على خلاف شريعة الله، وتمردهم على أوامره، قد قالوا بلسان حالهم ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ الذي هو شعار اليهود، وكثيراً ما يصرحون بما هو أخبث من ذلك إذا تم لهم الأمر وخشوا العاقبة، كتصريح بعضهم بتعطيل فريضة الصيام وإباحة المحرمات، وتسمية العقوبات الشرعية (وحشية قاسية)، كأنهم أرحم وأعلم وأحكم من الله، وكذلك طعن بعضهم في أمانة المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث زعموا أنه يجعل من القرآن ما ينقله من أخبار البادية، كعصا موسى، وقصة أصحاب الكهف، مما سنتكلم عليه في موضعه بإشباع إن شاء الله، وبعضهم يزعم تناقص القرآن مستدلاً بما يعلن عليه أن دماغه متعفن وأنه في غاية السفاهة، والجهل حتى في اللغة العربية.


أما شعار المؤمنين الذين شهد الله لهم الإيمان فهو قولهم: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ يعني سمعنا القول الذي بلغناه سماع وعي وفهم وانقياد وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان واستسلام.


وهذه الجملة من الآية تحمل الفرق الصحيح بين إيمان الإذعان والإيمان التقليدي الموروث، فالأخير لا يحمل الاعتقاد الحقيقي الباعث على العمل، أما الأول فهو الصحيح لأنه يحمل إذعاناً ينبه النفس دائماً إلى تنفيذ أوامر الله، ويبعثها دائماً إلى العمل، ويزجرها عن اقتراف مساخط الله، ولهذا عطف الله ﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ على ﴿ سَمِعْنَا ﴾.


ولما كان المؤمنون المذعنون المخلصون يراقبون قلوبهم ويحاسبون أنفسهم على التقصير الذي تأتي به العوارض والعوائق الطارئة ومطالبتها بالكمال في الطاعة كان من شأنهم الضراعة إلى الله بطلب المغفرة من التقصير، فهم يقولون خلال العمل وبعده: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾. سائلين مولاهم أن يغفر لهم ما حصل من التقصير الذي عاقهم عن نيل درجات الكمال، حتى لا تنقص حظوظهم عند الله، إذ بتحصيل الغفران يحصل لهم الستر في الدنيا وجبر النقص في الآخرة.


وقوله سبحانه في الآية 286: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.


التكليف: هو الإلزام بما فيه كلفة، والوسع: هو ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر، وهو ما يكون دون مدى طاقته، والمعنى أن من رحمته وحكمته سبحانه إجراء سنته الدينية أن لا يكلف عباده ما لا يطيقونه حتى لا يعنتهم ولا يحرجهم ولا يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.


وقد علم الله عباده في هذه الآية ضراعة الأبرار، وأوضح عدم وقوع تكليف ما لا يطاق، وإن كان جائزاً على الله، ولكن رحمته اقتضت أن لا يكلف نفساً إلى وسعها ولا يحاسبها على غير ما كلفها به، وبهذا التقرير يتضح عدم وقوع النسخ المزعوم وأن فيها تخصيصاً بغفران ما أخفوه في أنفسهم ولم يبرزوه بالقول أو العمل، فلم يظهر تأثيره في المعاملة أو السلوك.


وفي هذه الجملة من الآية وجهان: هل هي ابتداء خبر من الله باستجابته لعباده ما طلبوه من غفران التقصير ورجاء التيسير لما قد يشتمّ في الآية السابقة من التعسير، أو هل هي داخلة في قول المؤمنين: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾. وأنهم بعد سؤالهم الغفران قد أذن لهم أن يصفوه سبحانه بهذا النوع من الرحمة والرأفة بهم، الأمر يحتمل الوجهين، ولكن الأرجح هو الوجه الأول، من أنه ابتداء خبر من الله يحمل البشارة للمؤمنين.


وقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ يعني أن لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها عقاب ما اكتسبت من الشر، ولم يفرق الواحدي رحمه الله بين الكسب والاكتساب في اللغة، ولكن الزمخشري أوجد فرقاً ملحوظاً وهو أن الفرق بينهما كالفرق بين عمل واعتمل، فكل من لفظة اكتسب واعتمل يفيد الاختراع والتكلف، وأن الآية تشير أو تدل على أن فطرة الإنسان مجبولة على الخير، وأنه يتعود الشر بالتكلف والاقتداء.


وللعلماء كلام طويل في أصل فطرة الإنسان وطينته، هل هو مجبول على الخير أو الشر؟ فمنهم من قال إنه مجبول على الخير، ومنهم من قال إنه مجبول على الشر ولا يصرفه عنه إلا اتباع الدين الإسلامي الذي اختاره الله له، والذي يشهد له الحس والوجدان أنه مجبول على الخير ولا ينحرف عنه إلا بسوء التربية، وأن الشر من الطوارئ العارضة التي يهتف أمامه الهاتف الفطري بالنهي عنه، فإن الإنسان في أصل فطرته لا يرى إلا الخير، ولا يميل إلا إليه، ولا يألف الشر أبداً إلا بسوء التربية المفسدة لفطرته وتصوراته الأصلية، وكذلك بالانحراف بالتقليد ممن ينشأ بين قوم فسدت فطرتهم وقبحت أفعالهم، كالمجتمعات الأوروبية وما شاكلها في هذا الزمان من المجتمعات المتفرنجة الفاسدة لفساد تصوراتها وسوء اتجاهاتها. ومن أراد التوسع في البحث فليرجع إلى تفسير أبي حيان (البحر المحيط وتفسير المنار) وغيرهما ممن أطنبوا في مسألة الخير والشر، فإني اخترت الاختصار على الفائدة فقط.


ولما بين الله حقيقة المؤمنين الذين سمتهم السمع والطاعة وطلب المغفرة لما يلمون به أو يتهمون أنفسهم من التقصير، وأبان فضله وإحسانه علينا بعدم تكليفنا ما ليس في وسعنا أخذ يعلمنا ما هو من ضراعة الأبرار من الدعاء الصالح لديننا ودنيانا، كي ندعوه به ونضرع إليه وأوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾.


والمؤاخذة هي المعاقبة، لأن من يراد عقابه يؤخذ بيد القهر، فلهذا نسأله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا ﴾ لفعلنا شيئاً من نواهيك أو تركنا شيئاً من أوامرك نسياناً وغفلة ﴿ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ فجئنا بالشيء على غير وجهه الصحيح خطأ منه. وهذا يدل على أن من شأن الخطأ والنسيان العقوبة عليهما لولا فضل الله على هذه الأمة.


وللعلماء خلاف ونقاش في ذلك. فمنهم من قال: إن الخطأ والنسيان لا مؤاخذة فيهما؛ لأن الناسي والمخطئ لا إرادة لهما فيما فعلاه نسياناً أو خطأ. وقد غصت كتب الأصول بهذا النقاش الهائل عليه. ومنهم من قال: بل عليهما المؤاخذة، لأن الإنسان إذا رجع إلى نفسه وتأمل بحد ذاته علم أن الناسي تصح مؤاخذته، فيقال له لم نسيت؟ لأن النسيان لا يكون إلا من عدم العناية والاهتمام، فلو أجال فكره في أحكام الله ورددها في نفسه لتستقر في ذاكرته فتبرز عند الحاجة إليه لما حصل النسيان فالإنسان من طبيعته نسيان ما لا يهمه وحفظ ما يهمه، فإذا كان النسيان غير اختياري فسببه اختياري، ولهذا يؤاخذ الناس بعضهم بعضاً بالنسيان خصوصاً نسيان الأدنى لما يأمر به الأعلى.


والحق الحقيق بالقبول أن كرم الخالق سبحانه فوق كرم المخلوق، وأن النسيان والخطأ لا يسقط التكاليف بالكلية، وإنما يسقط وجوب المبادرة إليهما، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها))[1] ومن أكل أو شرب ناسياً وهو صائم وجب عليه الكف ساعة ذكره، وأن لا يبتلع ما في فمه بعد ذكره وصومه صحيح، أطعمه الله وسقاه))[2]. كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن فعل حراماً يحسبه حلالاً مخطئاً في حسابه وجب عليه الكف ساعة علمه بحقيقة الأمر، ومن ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام ناسياً وجب عليه اجتنابه ساعة ادكاره وهكذا القواعد الشرعية في الخطأ والنسيان[3].


وينبغي لكل من الناسي والمخطئ الندم على فعله ومراقبة الله في المستقبل حتى لا يتكرر فيكون من المتهاونين المفرطين في جنب الله، وأن يكثر من الاستغفار ويدرب نفسه على الاهتمام بأحكام الله، فلعل إيراد الشرط بـ (إن) للإيذان بأن الخطأ والنسيان خلاف ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن وأنه لا يقع إلا قليلاً.


وقد علمنا الله سبحانه أن ندعوه بأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وذلك من فضله علينا وحسن تربيته في هدايتنا، لأن هذا الدعاء يذكرنا بما ينبغي علينا من العناية والاحتياط والتفكر والتذكر، لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، فيقل وقوعهما منا ويكونان جديرين بالعفو والمغفرة، وينبغي أيضاً لكل من الناسي والمخطئ التوبة والاستغفار مما حصل منه في غفلته حتى لا يقسو قلبه بالتهاون في ذلك، وهذا من بعض شكره لله على عفوه عن ذلك.


ومن أنواع الضراعة التي علمنا الله أن ندعوه بها قوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ والإصر: هو العبء الثقيل، لأنه يحبس صاحبه عن المشي به لثقله، والمقصود بهذا التعبير التكاليف الشاقة التي حملها الله من قبلنا، كاليهود الذين يقرضون موضع النجاسة من الثوب أو يبدلونه بالكلية لقسوة شريعتهم في الطهارة والحيض وغير ذلك من سائر الأوامر والأحكام.


وفي تعليم الله لنا هذا الدعاء بشارة منه سبحانه وتعالى أنه لا يكلفنا ما يشق علينا كما صرح في الآية السادسة من سورة المائدة بقوله: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]. وهذا يتضمن الامتنان علينا والإعلام لنا بأنه يجوز أن يحمل علينا الإصر كغيرنا، وحكمة الدعاء بذلك هو استشعار النعمة وشكر الله عليها.


وفسر بعضهم الإصر بأنه العقوبة على ترك الامتثال وعدم حمل الشريعة على وجهها، فطلب منا أن ندعوه بأن لا تكون عقوبتنا على ذلك كعقوبة الأمم السابقة التي أنزل الله بها ألواناً من العذاب المدمر حتى هلكوا هلاكاً حسيّاً أو هلاكاً معنوياً بتضعضعهم وضياعهم، ولعل الإصر يحتمل الأمرين، فأكرمنا الله بتعليم الدعاء لرفعه عنا برحمته سبحانه وتعالى.


والنوع الثالث: من ضراعة الأبرار التي علمنا الله إياها قوله: ﴿ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ من الشرائع الثقيلة أو من العقوبات والبلايا والفتن والمحن وما فيه كلفة شديدة والأولى أن يفسر الإصر بالتكاليف الشديدة تفادياً للتكرار، وأن يفسر ما لا طاقة لنا به بالعقوبة العاجلة على عدم الامتثال.


وهذا الدعاء يتضمن نفي سبب العقوبة، ربنا لا تحمل علينا ما يشق من الأحكام، بل ارحمنا بتحميل اليسير السهل علينا، ووفقنا للنهوض بحمل ما كلفتنا إياه على ما تحبه وترضاه حتى لا نستحق بمقتضى سنتك أن تحملنا ما لا طاقة لنا به من عقوبة المفرطين في أوامرك، المتبعين لأهوائهم.


والرابع: من ضراعة الأبرار التي علمنا الله إياها قوله سبحانه ﴿ وَاعْفُ عَنَّا ﴾ يعني تسامح عن زلاتنا بمحوك أثر ما نلم به من تقصير فلا تعاقبنا عليه.


والنوع الخامس: قوله سبحانه: ﴿وَاغْفِرْ لَنَا ﴾ والغفران يكون بستر الذنوب في الدنيا وعدم الفضيحة والخزي عليها مع التجاوز عن عقوباتها في الدار الآخرة.


والنوع السادس من الضراعة: قوله سبحانه: ﴿ وَارْحَمْنَا ﴾ أي أنزل علينا رحمتك بالتوفيق والتسديد الذي نقدر به على إقامة دينك وأخذ وحيك بقوة، أنزل علينا من رحمتك ما نقدر به على الصبر والمرابطة، فإننا بحاجة إلى عونك وتوفيقك ورفدك الحسي والمعنوي. وفي قول الضارع: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ اعتراف به بأنه مولى جميع الكائنات ومدبرها ومصرفها وأنها لا تخرج عن سلطانه قيد شعرة، وأنها محتاجة فقيرة إليه، وهو الغني عنها دائما وأبداً.


والضراعة السابعة قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ وفيها طلب النصر الذي هو غاية الأماني، نصراً بجميع أنواعه، بالحجة والبيان، فقد ختم الله ضراعة الأبرار التي علمهم إياها بطلب النصر على القوم الكافرين الذين اتجهوا إلى غير الله، وعبدوا سواه من مخلوقاته، ولم يجتنبوا الطاغوت بجميع أنواعه، فهم أعداء للمؤمنين، لا تفتر عداوتهم ولا تفيض، فمن أكبر مدد الله للمؤمنين أن ينصرهم نصراً حسياً ونصراً معنوياً كما وعدهم ووعده الحق.


وقد يكون النصر بالحجة والبيان أعلى درجات النصر، لأنه نصر على الروح والعقل، أما النصر بالقوة والسيف فهو نصر على الجسد، وقد يكون في بعض الأحوال أعلى وأفضل لما يحصل فيه من إذلال الباطل وأهله ورفع رءوس أهل الحق، والله ينصر عباده المؤمنين بما شاء من هذا أو هذا حسب حكمته ورحمته، أو ينصرهم بالجميع، وقد لا يحصل النصر بالحجة إلا بعد قمع الرءوس وإزالة كبريائها المانع لها من قبول الحق، كما قال تعالى: ﴿ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ ﴾ [غافر: 56].


وهاهنا فوائد:

أحدها: أن الله أخبرنا عن عباده الأبرار في كل ملمة أنهم لا يبتدئون دعاءهم بطلب النصر، وإنما يبتدئون دعاءهم بطلب العفو عن ذنوبهم وإسرافهم في أمرهم، أدباً مع الله واستيقاناً بأن الذنوب من أخطر العوائق التي تحول بينهم وبين النصر وتحرمهم من مدد الله، فإنها يجب أن تكون أخوف ما يخافون لأنها كالسلاح الذي يمدون به أعداءهم على أنفسهم، ولهذا تجدهم لا يطلبون من الله ثواباً ولا جزاءً دنيوياً ولا أخروياً، لأنهم ينهضون بمهمتهم من حقيقة الإيمان، ولا يسألون إلا غفران الذنوب الذي هو أكبر استفتاح لباب النصر فعلينا أن نعتبر فيما رسمه الله لهم لنسير عليه.


ثانيها: طلب المؤمنين من الله النصر على الكافرين يفيد معاداتهم ويستلزم بغضهم والنفرة منهم وعدم الالتقاء معهم في أي شأن من شئون الحياة، وأن يكونوا دائماً في حربين: حرب فكرية عقائدية، وحرب دامية لإعلاء كلمة الله وتحكيم شريعته، وقمعهم عن الافتراء عليه، عكس ما عليه العصريون أفراخ التربية الماسونية في هذا الزمان من موالاتهم ومسايرتهم والتحبب إليهم باسم القومية أو الوطنية أو المادة الفلانية، فإن هذا ضلال مخالف لدين الله من الأساس، وصاحبه إن طلب النصر فهو يلعب على نفسه، لأنه منهزم في عقيدته وقرارة نفسه أمام تيار مكرهم، فكيف يطلب النصر في الخارج من هو مهزوم في الداخل؟ إن صدق الإيمان بالله يقتضي بغضهم وعداوتهم وحمل الغيظ السرمدي ضدهم والامتياز عنهم في كل شيء والتصميم على حربهم للأهداف التي ذكرناها قريباً، فمن عكس الأمر فليس من الله في شيء إلا في حالة غريبة تلجئه إلى التقية وقلبه صافٍ لله.


ثالثها: إن الله سبحانه وتعالى لم يعلمنا هذا الدعاء وغيره من الأدعية لنلوكها بألسنتنا ونحرك بها شفاهنا، كما يفعل أهل الأوراد والأحزاب الذين لعبت عليهم الشياطين، بل إنه سبحانه علمنا إياه لندعوه به مخلصين له الدين، عاملين بما يحبه من بغض أعدائه وعداوتهم، لاجئين إليه بعد أخذ كتابه بقوة والعمل به على حسب الطاقة، واستعمال ما يصل إلى علمهم وكسبهم من الوسائل لنصرة الدين، وهناك يحصلون على الاستجابة في الحقيقة إذا حققوا الاستجابة والسمع والطاعة، كما في هذه الآية والآية [186] من قوله تعالى: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾. فمن دعا بلسان مقاله ولسان حاله فالله يستجيب له بدون شك، ومن لم يعرف من الدعاء إلا حركات اللسان مع التمادي في المخالفة فإنه كالساخر بنفسه وبربه والعياذ بالله، فلا يستحق إلا المقت والخذلان، والمسلمون هم اليوم الجناة على أنفسهم وعلى العالم كله بإعراضهم عن هداية القرآن وعدم توزيعها على الناس، ولا ينالون إجابة الله ونصره ومدده إلا بالعودة لحمل الرسالة وتحقيق الأمانة، وإلا فهم لم يحققوا السمع والطاعة حتى يكونوا مقبولي الضراعة.


رابعها: هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات في سورة البقرة تعترف بالإنسان كإنسان، لا حيواناً ولا شيطاناً ولا ملكاً، بل تعترف بإنسانيته على ما فيها من ضعف وقوة ونوازع جسدية وتفكيرات عقلية وروح ذات أشواق، وتفرض عليه من التكاليف ما يطيقها ليتربى على الجهاد النفسي الداخلي الذي يستطيع به حمل أعباء خلافة الله في الأرض ليكون أسداً جوالاً في عقيدته وليثاً صائلاً للدفاع عنها، فتهديه كل شعيرة من شعائر الدين إلى تحقيق القيام بوظيفة الله الكبرى وواجبه الأسمى الذي يقول الله فيه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾ [التوبة: 111]. ومن لم ينتفع بالتكاليف والتشريعات يتردى إلى مستوى الحيوان، وينحط بإنسانيته في مكان سحيق.


خامسها: أهل الاستنصار والنصر على القوم الكافرين هم المؤمنون حقاً الذين يقاتلون الكافر لأجل إعلاء كلمة الله وقمع المفتري عليه، ليقيموا في البلاد المفتوحة حكم الإسلام، ويرفعوا منار الحق، دون مبالاة بأي قوة من قوى البشر، كما قال تعالى في الآية [40] من سورة الحج: ﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]. وقبلها قوله: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].


فأهل الاستنصار والنصر هم الذين يقاتلون في سبيل الله ليحكموا الأرض والأمم المفتوحة بحكم القرآن، فالله ينصرهم بما شاء من أنواع النصر الستة التي فصلتها مراراً في مباحث الجهاد والقتال، أما الذين يقاتلون لأجل عروبة الأرض أو قومية الجنس ليحكموها لو فتحوها بحكم علماني كافر يباح به ما حرم الله من الخمور والمراقص والفواحش الخبيثة، ويحكمون فيها حكم الطاغوت بدلاً من حكم الإسلام، فهؤلاء ليسوا من أهل النصر والاستنصار لموافقة أهدافهم أهداف الكافر الذي يقاتلونه، والله لا يفضل الكفر الفلاني على الكفر الفلاني، بل الكفر عنده ملة واحدة، فينبغي ملاحظة ذلك بعين الاعتبار.


سادسها: تتضمن هذه الآية وجوب قتال الكفار، وأنهم أعدى الأعداء، وأن هدف المسلمين الأوحد هو قتالهم لإرغامهم على قبول الشريعة والاستسلام لحكم الإسلام، وإن لم يسلموا، لأن الغاية من الجهاد ليست للإكراه على الدين كما مضى توضيحه.


قال البقاعي رحمه الله في قوله: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ فتضمن ذلك قتال الكافرين، وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256] ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة، فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام.


سابعها: اختلفوا في قوله سبحانه: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ هل هذا ابتداء خبر من الله، أو هو حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا ﴾. فكأنه سبحانه وتعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح، وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.


وفي كيفية النظم قال الرازي: إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع أنه سبحانه لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا، فإذا كان هو بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين طائعين.


وإن قلنا إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا، ثم قالوا بعد ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾ دل ذلك على أن قولهم ﴿ غُفْرَانَكَ ﴾ طلب المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير على سبيل العمد فلما كان قولهم ﴿ غُفْرَانَكَ ﴾ طلباً للمغفرة في ذلك التقصير لا جرم خفف الله عنهم وقال: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾. والمعنى: إنكم إذا سمعتم وما تعمدتم التقصير فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم بقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾.


وإن في هذه الكريمة مدحاً لهم، أي للمؤمنين بكونهم شاكرين لله في تكليفه حيث يرونه أنه لم يخرج عن وسعهم، وقال البقاعي: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوقاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك، وخوفاً أن يكلفوا بما لله تعالى أن يكلف به بالوساوس لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.


قلت: إن وصفه سبحانه نفسه بالرحمن الرحيم كما تكلمت على طرف صالح من معانيهما غاية الإيضاح في تفسير الآية [163] ينافي أن يكلف عباده المؤمنين ما يعنتهم، ولا يطيقونه ولقوله تعالى أيضاً: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 34].


فقول البقاعي رحمه الله مرتكز على القواعد التي قعدها أهل الكلام في الكتب التي سموها بكتب التوحيد، والتوحيد منها براء، فإن فيها: إن لله أن يكلف العباد ما لا يطيقون وأن يتركهم عبثاً وهملاً بلا تكليف، وهذا شيء نزه الله ذاته العلية عنه حيث قال في الآيتين (115، 116] من سورة المؤمنون: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115، 116].


أي تقدس عن فعل العبث من ترك بني الإنسان سدى وهملاً بلا أمر ولا نهي ولا مرجع يؤاخذهم بما كسبوا، فلا يليق بجلال الله وجنابه العظيم، كما لا يليق برحمته ورأفته أن يكلف المؤمنين بما لا يطيقون. وقد اعتمدوا في قواعدهم هذه وغيرها كعقوبته لهم بلا إجرام على أنه سبحانه: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].


وهذا لا يقتضي منه صدور الظلم الذي نزه عنه نفسه العلية ولا الإهمال المنافي لمدلول الألوهية، ولا تحميل الآصار والإحراج المنافي لمعنى رحمته ورأفته سبحانه وتعالى.


قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]. وقال: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]. ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ [غافر: 31]. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44]. فالقرآن يهدم ما قعده أهل الكلام.


ثامنها: قال بعض المحققين: لعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن من له صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم، ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم، ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله لهم جزاء على قولهم: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ فجازاهم بذلك أن لا يحاسبهم على حديث النفس المجرد، فانتفى عنهم ما شق عليهم من قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ بخلاف ما قابل الله به بني إسرائيل إذ قالوا: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾ [البقرة: 93] من الآصار والحرج الشديد في الدنيا والآخرة كما ينص عليه (سفر الخروج في الإصحاح الثاني عشر والحادي والعشرين والثالث والعشرين والرابع والثلاثين) وما في (سفر العدد في الإصحاح الخامس عشر والتاسع عشر والخامس والثلاثين).


وما جاء في (سفر التثنية في الإصحاح الخامس عشر والحادي والعشرين والثاني والعشرين والرابع والعشرين) وما جاء في (سفر اللاويين في الإصحاح الرابع والخامس والسادس، والحادي عشر والثاني عشر) من تحريم بعض الطيور والشدة في أحكام النفساء. وفي الخامس عشر تشديدات عسيرة على ذوي الجراحات مما فيه أفظع الآصار، وكذلك في أحكام الحيض ونجاسة الحائض، وكذا في الإصحاح السابع عشر والتاسع عشر والخامس والعشرين.


من راجع هذه الأسفار اتضح له فضل الله على الأمة المحمدية وإكرام الله لها نتيجة قول أسلافنا ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ خلافاً للنتيجة التي حصل عليها اليهود لما عكسوا الأمر، فالمرسل عن الصحابي الذي في البخاري والذي يقول فيه الصحابي عن هذه الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ إنها نسختها الآية التي بعدها، يريد أنها أزالت ما تضمنته من الشدة، وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به، لكنه لا تقع المؤاخذة به كما قاله الطبري وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التخصيص، فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيراً، والمراد بالمحاسبة على ما يخفيه الإنسان ما يصمم عليه ليشرع فيه دون ما يخطر له ولا يستمر عليه.


تاسعها: في قوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ تفريق بين الكسب والاكتساب، فإن معنى الكسب تحصيل الشيء على أي وجه كان والاكتساب تحصيل الشيء بالمجهود والاعتمال فيه.


وفي هذه الجملة من هذه الآية تنبيه على لطف الله بالمؤمنين، حيث أثبت لهم ثواب الفعل على أي وجه كان، ولم يثبت عليهم عقاب الفعل إلا على وجه مبالغة واعتمال فيه.


قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه الأنفس، وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله، وصفت بما لا دلالة عليه على الاعتمال والتصرف. اهـ


وبالجملة ففي الآية إيذان أن أدنى فعل من أفعال الخير يكون للإنسان تكرماً من الله على عبده، بخلاف العقوبة فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جد فيها واجتهد، فللمؤمن ما حصل من الثواب بأي وجه اتفق حصوله، سواء كان بإصابة مجردة أو تحصيل، وعليه جزاء ما سعى فيه لا ما حصل من غير اختيار وسعي، فالثواب حاصل له بكل صفة، وأما العقاب فلا يكون إلا بالقصد والتحصيل.


عاشرها: أولع كثير من المفسرين بالتساؤل عن فائدة طلب العفو عن الخطأ والنسيان، مع أنه معفو عنهما بالحديث الذي لم يبلغ درجة الصحة: ((عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه))[4]. ومعفو عنهما بمدلول هذه الآية الكريمة: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾.


ومن ألطف الأجوبة وأبعدها عن التناقض والمعارضة ما قاله صاحب (المدحة الكبرى) وهو: "لما كان طالب العفو هو الرسول والأنصار والمهاجرون ومن كان على شاكلتهم فكأنهم يعدون النسيان من العصيان والخطأ من الخطيئة، كقوله تعالى في الآية (60) من سورة المؤمنون: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]". اهـ


وقيل في معنى الآية: لا تعاقبنا إن تركنا أمرك أو اكتسبنا خطيئة عن ذهول ونسيان لا عن تساهل بحدودك على أن يكون النسيان من الترك والخطأ من الخطيئة.


وقد تقدم تفصيل أنواع الخطأ والنسيان المعفو عنهما، وأنه ليس كل خطأ ولا نسيان، ولطف الله بالمؤمنين وتيسيره لهم طريق الوصول إليه بالتخفيف من سيئاتهم وتكفيرها، ومضاعفة حسناتهم وتكثيرها أمر مشهور تضافرت عليه النصوص، فإذا تدرع المؤمن بتقوى الله انضبط خطؤه ونسيانه فيما يعفوه الله، فليحرص المؤمنون على الاستقامة المطلوبة.


وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان في شأن هذه الآيات أن الله لما أنزل: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ قال: قد فعلت، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ قال: قد فعلت، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ قال: قد فعلت[5].


حادي عشرها: كما يقتضي مدلول هذه الآية الكريمة بغض الكفار وعداوتهم، وحمل الغيظ السرمدي لهم، والعزم والتصميم على محاربتهم ومطاردتهم حتى يخضعوا لحكم الله، فتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وأن غاية هدف المؤمنين هو الجهاد المتواصل لتحقيق ذلك، وأن أهل النصر والاستنصار هم المؤمنون حقاً، الصادقون في جهادهم ومقاصدهم لإعلاء كلمة الله وتحكيم شريعته وإقامة حدوده، لا الذين يقاتلون عصبية أو وطنية بحيث لو نجحوا لأقاموا حكماً علمانياً يباح فيه ما حرم الله، ويحكم فيه بحكم الطاغوت الوضعي، وترتفع به رءوس الملاحدة من كل مذهب فإنهم ليسوا من أهل النصر ولا الاستنصار كما قدمنا جميع ذلك.


فإن مدلول هذه الآية يقتضي أيضاً عدم طلب النصر من غير الله وتحريم الاستنصار بأي كافر، أو رجاء العزة من طريقه.


نعم، يجوز استعارة السلاح ووسائل الوقاية منهم، كما استعار النبي صلى الله عليه وسلم الدروع من أمية بن صفوان، كما يجوز شراء السلاح منهم، مع أخذ الحذر والاحتياط في عاقبة (قطع الغيار) ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال لإمام المسلمين وقائدهم أن يستنصر ببعض الدول الكافرة أو يجعل له منها ولياً يلجأ إليه، بل يحصر ولايته لله واعتزازه بالله واستنصاره بالله ولا يحتقر قوته أو عدته، فالله ناصره وحسيبه ووليه ومعزه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 40]، ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 45]، ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160].


وقال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 10، 11].


فالذي لا مولى له كيف يتخذه مدعي الإسلام والإيمان ولياً يستنصر به؟ لهذا كانت موالاة الكافرين والاعتزاز بهم سمة من سمات المنافقين ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139].


وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته تعليماً فعلياً على عدم الخوف من الكفار وعلى عدم التراخي في دعوتهم وقتالهم لانتظار المزيد من العدد والقوة كما يزعمه المهزومون في هذا الزمان هزيمة نفسية، فلقد كاتب أعاظم الملوك قبل فتح مكة وإسلام العرب مخاطباً لكل واحد منهم بمنطق التهديد ((أسلم تسلم))[6] كما أرسل سرية لقتال الروم في (مؤتة) قبل الفتح، تعليماً لأمته على الاعتزاز بالله وحده.


انتهى تفسير سورة البقرة. فلله الحمد والمنة على توفيقه وتسديده. وقد جاء في فضلها أحاديث صحيحة، كما جاء في الحث على قراءتها وقراءة أختها آل عمران أحاديث صحيحة أيضاً. منها ما روي في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرءوا سورة البقرة فإن قراءتها بركة وتركها حسرة ولا تطيقها البطلة))[7].


وهذا الحديث ينبغي الوقوف عنده والتمعن فيه لعظيم أهميته عند من يعقل وحي الله. فالسنة هي وحي الله الثاني. وقد أضفت على قراءتها البركة ووصفتها بها، والبركة من أعلى وأغلى ما يطلبه المسلم. وإذا كانت متحققة في قراءة سورة البقرة كانت قراءتها لها شأن عظيم ينبغي للمسلم أن لا يهمل حقه منه، ولا يسمح لشياطين الإنس لصوص القلوب بالتلصص على وقته وحرمانه من هذه البركة العامة الشاملة لجميع نواحي الحياة.


ثم إن السنة المطهرة قررت الحسرة وفرضتها على من ترك قراءة سورة البقرة، وهذا وعيد فظيع، والحسرة لها ما لها من المعاني المخيفة، وإطلاقها في هذا الحديث يقتضي شمولها لجميع النواحي، والمسلمون منذ قرون متطاولة وهم يعانون من أنواع الحسرة ما جعلهم سبة بين الناس حتى انعكست أحوالهم، وانقلبت فكرة الناس عنهم وكأنهم ليسوا هم المسلمون الذين نزل فيهم القرآن، وما ذلك إلا لتعطيلهم أحكامه، وعدم اهتمامهم بقراءته وتدبره، وإلا فهذه السورة المباركة التي ندب إلى قراءتها هذا الحديث تكفيهم نبراساً بل سراجاً وهاجاً.


هذه السورة لو اعتنى المسلمون بقراءتها وتدبر معانيها وما فيها من خالص اللباب الذي لا قشور فيه كعادة القرآن لعرفوا حقيقة واجبهم المقدس في هذه الحياة، وعرفوا سنة الله في المتنكبين عن وظيفته والمفضلين غيرها عليها، وشمخوا برءوسهم عن تقليد بني إسرائيل في الشئون السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وأخذوا منهم درساً عظيماً يفتح لهم نوافذ الحياة على الكون، ويجعلهم ربانيين كالصحابة والتابعين هذا لو عمرت بيوتهم بقراءة تلك السورة ولم تنقلب حالتهم إلى الحسرة والحسرات إن في هذه السورة خير متبصر لهم وأقوى مندفع يعيدون به سيرتهم الأولى.


أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تطيقها البطلة)). فالبطلة أنواع كثيرة منهم السحرة، ومنهم البطالون الذين عطلوا أعمالهم، منهم أهل اللهو والمجون، وكثير من أهل الخرافات، فكلهم لا يطيقون سورة البقرة لأنها تصرعهم وتصعقهم. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما))[8]. ولا شك أن فيهما نوراً معنوياً للملازم قراءتهما، ونفعاً حسياً ملموساً.


وأخرج الإمام مسلم والترمذي والإمام أحمد والبخاري في تاريخه، ومحمد بن نصر عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران)). قال: وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: ((كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما))[9].


وفي بعض حديث أخرجه ابن أبي شيبة والإمام أحمد والدارمي والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر أيضاً عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف))[10]. قال ابن كثير: وإسناده حسن على شرط مسلم.


وأخرج الإمام مسلم والإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة))[11].


وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعاً كما أخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر في تاريخه عن أبي الدرداء نحوه أيضاً مرفوعاً. وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم وصححه من حديثه بنحوه.


وأخرج أبو يعلى وابن حبان والبيهقي والطبراني عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل شيء سناماً وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشطان ثلاثة أيام، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله الشيطان ثلاث ليال))[12].


وأخرج الإمام أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً، واستخرجت ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ من تحت العرش فوصلت بها))[13].


وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن، آية الكرسي))[14].


وأخرج الإمام مسلم عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهو في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها. قال: ﴿ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾ [النجم: 16] قال: فراش من ذهب. قال: فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر له لمن لم يشرك بالله من أمته المقمحات[15].


وأخرج البخاري في صحيحه تعليقاً والإمام أحمد وأبو عبيد والنسائي والإمام مسلم عن أسيد بن حضير قال: بينهما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده، إذ جالت الفرس، فسكت، فسكنت. ثم قرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت. فانصرف إلى ابنه يحيى كان قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلا السماء فإذا الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها. فلما أصبح حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدري ما ذاك؟)). قال: لا يا رسل الله، قال: ((تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم))[16]. ولهذا الحديث ألفاظ.


وأخرج البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن الصلصال بن الديهمسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً)). قال: ((ومن قرأ سورة البقرة في ليلة توج بتاج في الجنة))[17].


وأخرج أبو عبيد عن عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ المدينة حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح. قال: ((فلعله قرأ سورة البقرة)). قال: فسئل ثابت. فقال: قرأت سورة البقرة. وهذا الحديث صحيح إلا أنه في حكم المرسل[18].


وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل سورة البقرة أعرضنا عنها اكتفاء بالصحيح والمشهر، ولكن لا يعزب عن بالك أن سورة الفاتحة أفضل منها وما ورد في فضلها، فإن الفضل منه مطلق ومقيد كما قرره المحققون.


ولا شك أن سورة البقرة لها من الفضل ما لها، لما فيها من اسم الله الأعظم وآية الكرسي وخواتيمها، وذكر منشأ البشر وما جرى لأبيهم آدم من الامتحان، ثم الإخبار عن دفائن نفوس بني إسرائيل وفضيحتهم التي فضحتهم بها هذه السورة بين الأمم، ثم تشريع القصاص والجهاد والصيام والحج وتوضيح محاضن أولاد المسلمين مما يسمى بـ (الأحوال الشخصية)، وبيان طرف من حقوق النساء وإبراز كرامتهن، والحض على الصدقة وتحريم الربا والإرشاد إلى ضبط الحقوق مما هو كرامة من الله لهذه الأمة لم يحظ بها غيره من الأمم، ولم تصل التشريعات الحديثة إلى مستواها على طول التجارب.


ومن المهمات العقائدية في هذه السورة المباركة أن الله بعد ذكره فيها لمخازي بني إسرائيل أعقبها بذكر ملة إبراهيم الحنيفية الإسلامية التي كان عليها يعقوب المسمى بـ (إسرائيل) مع التنويه بشأنها، وبيان أن اليهود أبعد الناس عن إبراهيم وأكذبهم بالانتساب إليه ثم إتمام كرامته علينا بتحويل قبلتنا عن قبلتهم حتى لا نلتقي معهم ولا نتابعهم في أي شيء بل نتمسك باستقلالنا الديني والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في كل ميدان، ولا نستورد شيئاً منهم ولا من أذيالهم النصارى، بل نكون نحن أمة التصدير لا أمة الاستيراد فلله الحمد والمنة التي أكرمنا بها، وله الشكر العملي في كل أوان.


قال ابن القيم في فوائده:

تأمل خطاب الله تجد ملكاً له الملك كله، أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، وموردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويحيي ويميت ويقضي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجدها ويحمدها، ينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه ومواهبه، ويذكرهم بها، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمته، ويذكرهم بما وعدهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنيعه في أوليائه وأعدائه وكيف كان عاقبة هؤلاء وهؤلاء ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأوصافهم ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبهات أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار الجحيم دار البوار ويذكر عذابها، وقبحها وآلامها، ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنه لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويخبرهم بغناه عنهم وعن جميع المخلوقات، وأنه الغني بنفسه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بحكمه وفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر إلا بعدله وحكمته، وتشهد القلوب والأسماع من خطابه عتابه لأوليائه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومصلح فسادهم، وهو المدافع عنهم والحامي لهم والناصر لهم، الخاذل لأعدائهم، وهو الكفيل لمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق ومؤيدهم، وناصرهم على أعدائهم فنعم المولى ونعم النصير.


وإذا شهدت القلوب من القرآن ملكاً عظيماً جواداً رحيماً جميلاً هذا شأنه فكيف لا تحبه وتتنافس في القرب منه؟ وكيف لا تفنى أنفاسها في التردد إليه؟ وكيف لا يكون أحب إليها من كل ما سواه؟ وكيف لا تفضل رضاه عن رضا كل ما سواه؟ وكيف لا تلهج بذكره؟ وكيف لا يصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقدته فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟


انتهت هذه الفائدة من فوائد ابن القيم بتصرف بسيط. والله الموفق، اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياءً ولأبصارنا جلاءً ولذنوبنا ممحصاً يا أرحم الراحمين.



[1] أخرجه البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسى الصلاة، [597]، ومسلم [684]، وغيرهما.

[2] أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً [1933].

[3] ويجب التنبيه إلى أن هناك نوع مؤاخذة على بعض الأخطاء التي تصدر في حق الغير، وذلك ككفارة القتل الخطأ، وديته، فهو وإن لم يعاقب بالقصاص منه إلا أنه لم يرفع عنه الحرج كلية، وهي مسألة تحتاج مزيد تفصيل ليس هذا محله.

[4] سبق تخريجه، وبيان علته.

[5] أخرجه مسلم، سبق تخريجه.

[6] وذلك كما في حديث أبي سفيان، عندما كان عند هرقل حينما وصل دحية رضي الله عنه بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فكان فيه: ((من محمد عبد الله، ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم...)) الحديث أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، [7]، ومسلم [1773].

[7] أخرجه مسلم [804].

[8] أخرجه مسلم [804].

[9] أخرجه مسلم [805].

[10] أخرجه أحمد [5/384]، والدارمي [2/543] [3391].

[11] أخرجه مسلم [780].

[12] أخرجه ابن عدي بالكامل [7/24]، والعقليي بالضعفاء [2/6] وانظر مجمع الزوائد [6/311، 312].

[13] أخرجه أحمد [5/26]، وذكر الهيثمي في المجمع [6/311].

[14] لم أقف عليه في سنن سعيد بن منصور، والحمد لله على كل حال. وذكره محمد بن أبي بكر بنقد المنقول [1/102]، وصححه.

وذكره محمد بن أبي بكر الحنبلي الدمشقي في المنار المنيف [18114] [228].

[15] أخرجه مسلم [173].

[16] أخرجه البخاري تعليقاً، كتاب: فضائل القرآن، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، [5018]، ومسلم [796].

[17] أخرجه البيهقي في الشعب [2384].

[18] ذكره ابن كثير في تفسيره [1/34]، وقال: وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاماً ثم هو مرسل، والله أعلم.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (278 - 281)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (283)
  • تفسير سورة البقرة .. الآية (284)
  • خواتيم سورة البقرة
  • تفسير خواتيم سورة البقرة
  • قراءة الآيتين من خواتيم سورة البقرة سبب لطرد الشيطان

مختارات من الشبكة

  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة تفسير بعض من سورة البقرة ثم تفسير سورة يس(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل (34) تفسير سورة قريش (لإيلاف قريش)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب