ديناميكية الحدث والحركة الاجتماعية في القرآن الكريم

ديناميكية الحدث والحركة الاجتماعية

في القرآن الكريم

القرآن ليس كتاباً فلسفياً جافاً أو كتاباً في العلوم البحتة لا يلامس واقع الناس، بل هو كتاب اجتماعي من الطراز الأول، وهو يرصد جميع التحركات الاجتماعية وملابساتها، وهو يتحرك في حياة الناس بأبعادها المختلفة، فكأنه يمشي معهم ويساكنهم في بيوتهم، ويلازم واقعهم، وهو كذلك سجل حافل لقصص الأنبياء مع أقوامهم وما رافق تلك القصص من عناء ومشقة في رحلة الدعوة إلى الله تعالى، وحين يعرض للأحداث التاريخية يذكرها كأنها حية، ويذهب عنها غبار التاريخ لتبدو وكأنها أحداث تتحرك أمام عيوننا، وسنذكر على سبيل المثال لا الحصر ما يؤكد ذلك في ما يلي:

أولا: سجل القرآن الكريم مواقف من الحياة الخاصة للنبي عليه الصلاة والسلام:

فذكر يتمه وطفولته، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]. وذكر حيرته وهداه وهذا وصف لحياته النفسية، قال تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ﴾ [الضحى: 7]، وذكر فقره وغناه وهذا وصف لحياته الأسرية، قال تعالى: ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 8]. وذكر أميته وهذا وصف لحالته الثقافية، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ الأعراف: من الآية157]. وذكر عشيرته، قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وذكر قبيلته، قال تعالى: ﴿ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ﴾ [قريش: 1]، وذكر بلده، قال تعالى: ﴿ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴾ [البلد: 1-2]، وذكر زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾ [الأحزاب: 37]. وليس ثمة شيء ذا بال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ونجد له ذكرا في القرآن الكريم.

ثانيا: رصد القرآن الكريم أحداث الصراع بين النبي عليه السلام وكفار مكة:

فأشار إلى سؤالهم للنبي عليه الصلاة والسلام عن القرآن، قال تعالى: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]، وذكر استهزاءهم بالنبي عليه السلام عند رؤيته، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 36]. وأشار إلى إكراههم بعض أصحابه ومنهم عمار بن ياسر كي يسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]. وذكر هجرته من بين أظهرهم ونصرة الله تعالى له، قال تعالى: ﴿ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

ثالثا: رسم القرآن الكريم بناء دولة المدينة وما رافقه من أحداث:

ابتداء أشاد الله عز وجل بالأنصار الذين استقبلوا إخوانهم المهاجرين أحسن استقبال، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. وذكر أهم الغزوات مثل بدر، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123]. وذكر تغرير الشيطان بالمشركين في معركة بدر، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]. وذكر أحد وما فيها من انتكاسة، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 165]. وذكر غزوة الأحزاب قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 22]، وذكر غزوة حنين قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25]. وذكر فتح مكة، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ [الفتح: 27]. وتحدث عن طابور المنافقين الذي هم بإخراج المهاجرين من المدينة، قال تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8]. وهنالك أحداث كثيرة مذكورة في القرآن رافقت نمو الدولة الإسلامية وتطورها في المدينة المنورة حتى بلغ نورها مشارق الأرض ومغاربها.

رابعا: سجل القرآن الكريم الحوار التعليمي بين الرسول وأصحابه وما تخلله من أسئلة وأجوبة في شتى ضروب المعرفة وقضايا الحياة:

فمن ذلك سؤالهم عن الأهلة، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة: من الآية189]، وكذلك سألوا عن الأشياء التي ينفقونها، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [البقرة: من الآية215]. وسألوا كذلك عن القتال في الأشهر الحرم، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: من الآية217]. وسألوا عن الخمر والميسر، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]. وسألوا عن ما أحل الله لهم من الأطعمة، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [المائدة: 4]. وسألوا عن موعد القيامة، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187]. وسألوا عن الأنفال، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1]. وسألوا في المواريث، قال تعالى: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176]. وسألوا حتى عن الحيض، قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]. هكذا كانت أسئلتهم تشمل عالم الغيب والشهادة ومشكلات الواقع وقضايا الدين جميعا، ولم يكونوا يخجلون من طرح أسئلتهم على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو مرجعيتهم الأولى والأخيرة، وهو الهادي لهم في شئون حياتهم كلها صغيرها وكبيرها صلى الله عليه وسلم.

خامسا: سجل القرآن الكريم الحوار الدعوي بين الرسول والمشركين وبينه وبين أهل الكتاب:

فمن ذلك ذكره لموقف أحد المشركين المنكرين للبعث وهو أبي بن خلف الجمحي، الذي [أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويقول: يا محمد، أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، ويبعثك، ويدخلك جهنم] [1]. قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴾ [يّس: 78]. ومن ذلك دعوته بني إسرائيل إلى إحضار توراتهم لإثبات كذبهم، قال تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 93]. ومن ذلك دعوته نصارى نجران للمباهلة، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]. ومن ذلك حواره لأهل الكتاب في شأن إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبراهيم وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة في هذا الصدد، مما يدل على حيويته وملامسته لواقع الناس الديني والفكري.

سادسا: سجل القرآن الكريم جوانب من الحياة الخاصة لبعض المؤمنين:

فمن ذلك حوار أسماء بنت عميس للنبي صلى الله عليه وسلم بشأن زوجها، قال تعالى: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1]. ومن ذلك إشارته إلى صهيب الرومي الذي قدم ماله كي تسمح له قريش بالهجرة، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207]. ومن ذلك إشارته لأبي بكر الذي كان ينفق على مسطح الذي قال بالإفك فآلى أبو بكر أن لا ينفق عليه بعدها، قال تعالى: ﴿ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]. وأثنى الله تعالى على عبد الله بن سلام وهو من أحبار اليهود وقد أسلم، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 199]. وأثنى على صفات الأبرار من عباده، قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ [الإنسان: 8]. قال الزمخشري في سبب نزولها: [كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه. فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام، ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه] [2] وفي دراسة أسباب النزول نجد كثيرا من الآيات قد نزلت بسبب بعض المؤمنين، ولكن القرآن لا يذكر الأسماء على عادته، فالعبرة بالعمل والحادثة بغض النظر عن صاحبها، وهذا من ديناميكة القرآن حتى تعم ألفاظه كل من وافق ذلك العمل أو تلك الحادثة.

سابعا: سجل القرآن الكريم الحياة الاجتماعية للمجتمع المسلم:

قال تعالى بشأن الأعراب من جفاة بني تميم الذين يجهلون أبسط الآداب العامة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [الحجرات: 4]. وقال يحض المؤمنين على الأدب في بيت النبوة، وضرورة الانصراف بعد تناول الطعام: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 53]. وقال تعالى يذكر حادثة الإفك بالمدينة وما سببته من فتنة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]. وقال تعالى يرد على اليهود بشأن عملية التناسل وهي أخص خصوصية في العلاقات الزوجية: ﴿ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 223]. وقد روي [أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته وهي مجيبة من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت اليهود، ونزلت] [3]، وقال تعالى بشأن من تخلفوا عن غزوة تبوك: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81]. وإنك لن تجد كتابا يصور الحياة الاجتماعية بأدق تفاصيلها لمجتمع المدينة مثل القرآن الكريم، فهو كتاب الله إلى الناس، يتحرك معهم وبهم، ويعايشهم في حاضرهم ومستقبلهم، لأنه كتاب حياة وجد لكي يوحد الصفوف وينقذ المجتمعات ويقيم الأمة، لا ليوضع فوق الرفوف ويهجر كما فعل المتأخرون.

ثامنا: سجل الحياة الثقافية والعقدية والاجتماعية لكفار مكة والمدينة:

العرب أمة وثنية، لا تؤمن بالبعث ولا الرسالات، وقد ذكر الله بعض آلهتهم التي كانوا يعبدونها، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ﴾ [النجم: 19-20]. وقد نعى الله عليهم عبادة أوثان جامدة لا تتحرك ولا تشعر ولا تدرك ولا تتألم، فهي خالية من أي معنى من معاني الحياة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ ﴾ [لأعراف: 194-195]. وذكر الله عز وجل عقيدتهم بالملائكة، فزعموا أنها بنات الله سبحانه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ﴾ [النجم: 27]. وأنكروا البعث، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [سبأ: 7].

والإبل أموال العرب، وكانوا يتصرفون بها على غير ما يرضي الله تعالى، قال تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 103]. وكان كفار مكة [يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكور وإناثا، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون حرمها الله، فأنكر ذلك عليهم] [4] قال تعالى: ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْأِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 143-144]. ووصف الله تعالى نفور بعضهم من الإناث، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [النحل: 58]. ووصف سلوك المنافقين بالمدينة، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76]. وإنك لن تجد مثل القرآن كتابا أمينا وسجلا حافلا لأحوال المشركين والمنافقين النفسية والخلقية والعقدية والاجتماعية من جميع جوانبها، بل ربما نقل أقوالهم كما هي، قال تعالى: ﴿ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴾ [قّ: 2-3]. وهو باب واسع يدل على حيوية القرآن وقدرته على التعاطي مع الآخر أيا كانت عقيدته ووجهته، وهذه غاية العدل والإنصاف في التعامل مع الأشياء.

تاسعا: سجل القرآن الكريمة الحياة الاجتماعية للأمم والشعوب التي أبيدت أو مازالت آثارها باقية حتى نزول القرآن:

فقد ذكر القرآن قصص خمسة وعشرين نبيا، وأشار إلى ستة عشر منهم في موضع واحد، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 83-86]. وقد ذكرت قصصهم بالتفصيل، من ذلك ذكر الله تعالى قصة نوح مع قومه، قال تعالى: ﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ [الذريات: 46]. وقصة إبراهيم وبناء الكعبة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]. وقصة لوط مع قومه، قال تعالى: ﴿ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 80]. وكذلك قصة شعيب، قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85]. وذكر عادا ونبيهم هودا عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]. وذكر مدينتهم الفخمة المتميزة إرم، قال تعالى: ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ﴾ [الفجر: 7].

وقال تعالى يذكر معاناة بني إسرائيل مع فرعون: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49]. وقال تعالى يذكر طغيان أحد المترفين من بني إسرائيل: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾ [القصص: 76]. وذكر الله تعالى قصة هاروت وماروت ببابل، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]. وذكر قصة عيسى ورفعه إلى السماء، قال تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ﴾ [النساء: 157]. وقل أن تجد من خصائص الأنبياء أمرا ذا بال لم يذكره القرآن، ولم يحتفل له، ومع هذا فهنالك من الأنبياء والرسل من لم يذكرهم القرآن، فالقرآن كتاب هداية أولا وأخيرا وليس كتاب تاريخ، وهو يستخدم من القصص ما يخدم غرضه في تحقيق الهداية للناس، قال تعالى: ﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾ [النساء: 164]. والقرآن لا يهتم بالتفاصيل المملة، ولا التواريخ الميتة، وإنما يهتم بروح الحدث، وهذا ما ينفع الناس، وهو جوهر التاريخ ولبابه.

وخلاصة القول هنا:

إن مراعاة البعد المكاني، والتحامه مع البعد الزماني في وحدة عضوية يؤازرها وحدة الحدث يجعل الكون بما فيه من أحداث وأمكنة وأزمنة مختلفة وكأنه خشبة مسرح أمام القارئ المتأمل لكتاب الله، فهو يقرأ قصة البشرية بما فيها من مأساة وملهاة، وخير وشر، من عهد آدم إلى قيام الساعة، ومن شرق الأرض إلى غربها، في وحدة واحدة وكأنها ماثلة أمام ناظريه، وهذا بحد ذاته أعظم الأدلة على ديناميكية القرآن، وأنه كتاب حياة، فهو يجعل التاريخ الماضي حيا، والمستقبل المجهول شاخصا، ويبدع الحياة ويهذبها ويوجهها ويجددها ويبعثها، كتاب فيه شيء عن كل شيء وفيه كل شيء عن أشياء كثيرة، وهذا مما يؤكد صلاحية هذا القرآن لكل زمان ومكان وإنسان، فهو بحق كتاب الهداية المطلق، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: من الآية9].