• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    نعمة الماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تدبر خواتيم سورة البقرة
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    تحريم الإهلال لغير الله تبارك وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    مشاهد عجيبة حصلت لي!
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (2)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الدرس السابع عشر: آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    خطبة: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    سورة الكافرون.. مشاهد.. إيجاز وإعجاز (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

بديع اللف والنشر في الأسماء الحسنى المقترنة في القرآن الكريم

بديع اللف والنشر في الأسماء الحسنى المقترنة في القرآن الكريم
د. محمود عبدالجليل روزن

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/4/2014 ميلادي - 27/6/1435 هجري

الزيارات: 81562

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بديع اللفِّ والنشر

في الأسماء الحسنى المقترنة في القرآن الكريم


(1)

اللفُّ والنشرُ من ألطفِ أنواع المحسِّنات البديعية المعنويَّة، ويُسمَّى أيضًا الطيّ والنشر، وهو كما عرَّفه القزويني: «ذكر متعدِّد على جهة التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكلِّ واحد من غير تعيينٍ؛ ثقةً بأنَّ السامع يردُّه إليه»[1].

 

وهو يأتي على أنواعٍ؛ فقد يكون اللفُّ مفصلًا، وقد يكون مجملًا، ثمَّ إنَّ للمُفصَّل مع النشر ضربين:

الضربُ الأول: النشر المرتَّب على ترتيب اللّفِّ؛ ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73].

 

والمعنى: ﴿ جعل لكم الليل والنهار ﴾ أي: خلق هذا وهذا ﴿ لتسكنوا فيه ﴾ أي: في الليل، كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ﴾ [الأنعام: 96]، وقوله ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ [يونس: 67]، وقوله: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ﴾ [غافر: 61]. وقوله:﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾ أي: في النهار بالأسفار والترحال، والحركات والأشغال، كما في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 11]، فَنَشَرَ بعد لَفٍّ.

 

ومثاله أيضًا؛ قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29].

 

أي: فتقعدَ إن بخلتَ مَلومًا، يلومُك الناسُ ويذمُّونك ويستغنون عنك. ومتى بسطتَ يدك فوق طاقتك، قعدتَ بلا شيءٍ تنفقُه، فتكون كالحسير، وهو: الدابة التي قد عجزت عن السير، فتعايتْ وأُحْصِرَت.

 

ومنه قول امرئ القيس:

كأنَّ قُلُوب الطَّير رَطْبًا ويابسًا
لدى وَكْرها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي

 

والمعنى: كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ: العُنَّابُ، واليابسَ منها: الحَشَفُ.

 

ومثاله أيضًا قول ابن الرومي:

آراؤكم ووجوهُكم وسيوفُكم
في الحادثاتِ إذا دَجَوْنَ نجومٌ
فيها معالمُ للهدى ومصابحٌ
تجلو الدُّجى والأخرياتُ رجومٌ

 

أي: في آرائكم معالمُ هدايةٍ، وفي وجوهكم مصابيحُ، وفي سيوفكم رجومٌ.

 

وله من غريب اللفِّ والنشر؛ على ما فيه من طرافة[2]:

أَفنى وأعمى ذا الطبيبُ بطبِّه
وبكُحله الأحياءَ والبصراءَ
فإذا مررت رأيتَ من عميانه
أممًا على أمواته قرَّاءَ

•••


والضرب الثاني: النشر المعكوس على ترتيب اللفِّ.

ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112].

 

والمعنى: أنَّ مُكتسبَ الخطيئة يحمل من وزرها إثمًا مبينًا، فإن رمَى بها بريئًا فقد بهَتَه؛ إذ ليس في الـمُفترى عليه ما ادَّعاه الـمُفترِي الرامي مما هو فيه.

 

ومنه قوله تعالى:﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18].

 

فالمُصعِّر خدَّه فخورٌ، والماشي في الأرض مَرَحًا مختالٌ.

 

ومنه قول الفرزدق:

لقد خُنتَ قومًا لو لجأتَ إليهم
طريدَ دمٍ أو حاملًا ثقل مَغرمٍ.
لألفيتَ فيهم مُعطيًا أو مطاعنًا
وراءك شزرًا بالوشيج المقوم.

 

فالعطاءُ للمغرم، والطعانُ لمجالدة المطارِد والذّبّ عن المطارَد.

ويلحق به النشر غير المرتَّب، وذلك أن يكون اللفِّ على أكثر من شيئينِ ثمَّ يأتي نشرها لا على ترتيبها ولا على عكسه، ومثاله قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 6 - 11]. على قول مَن قال إنَّ السائل هنا سائل المعروف والصَّدقة، وهي على طريقة اللفِّ والنشر المرتب لمن قال: إنَّ السائل المقصود به سائل العلم[3].

•••


وأمَّا اللّفُ المجمَل؛ فصورته أن يُجمِلَ المسنَدَ إليهِ ويُفصِّل ما لكلِّ واحدٍ من أجزائه من غير تعيينٍ؛ ثقةً بأنَّ السامعَ يردُّه إليه.

 

ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، فاليهود يدَّعون اقتصار دخول الجنَّة عليهم وحدهم، وكذا النصارى، وكلُّ طائفةٍ تُكذِّبُ أختها، فيصير المعنى: وقالت اليهود لن يدخل الجنَّة إلا من كان يهوديًّا، وقالت النصارى لن يدخل الجنَّة إلا من كان نصرانيًا. وإنَّما سوَّغ الإجمال في اللف ثبوتُ العناد بين اليهود والنصارى؛ فلا يمكنُ أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنَّةَ، فوُثِقَ بالعقل في أنَّه يرُدُّ كلَّ قولٍ إلى فريقه لأمن اللبس[4]. وفيه من إثارة الفكر، ومن الإيجاز شيءٌ بديع.

•••


والأمثلة في القرآن الكريم على اللفِّ والنشر بكلِّ صُوَرِه كثيرةٌ، حاولتْ بعض الدراسات استقصاءها[5]؛ غير أنَّ من يروم الاستدراك فالمجال مفتوح، ومعين القرآن لا ينضب. وسيتضح لنا من خلال هذا المقال ما يدلُّ على ذلك إن شاء الله.

•••

 

(2)

إنَّ المُتدبِّر لكتاب الله - عزَّ وجلَّ - يجد التناسبَ التامَّ بين سياق الآيات وما خُتِمَت به من أسماء الله الحسنى. وصدق الله القائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

 

ولا يقتصر الجمال البلاغيُّ في هذه الآيات على ذلك التناسب، وإنَّما يأتي ختام الآياتِ على الغاية من البديعِ بضروبه المختلفة، ومنها اللفُّ والنشرُ.

 

إنَّ المزاوجةَ بين اسمينِ من الأسماء الحسنى في ختام الآيات هو النمطُ السائد في القرآن، وقد يكون هذانِ الاسمانِ من بابٍ واحدٍ؛ كالرحمن والرحيم، والغفور والرحيم، والسميع والبصير، والعليم والخبير... ونحو ذلك، وقد يكونانِ من بابينِ مختلفينِ كالعزيز والرحيم، والواسع والعليم، والتواب والحكيم، والعفوّ والقدير... ونحو ذلك.

 

ولا شكَّ أنَّ كلَّ اسمٍ منها يختصُّ بمعنىً فارقٍ لا يؤدَّى بغيره إلا بنوعٍ من التوسُّع في العبارةِ؛ فإن اقترَنَا تأكَّد المعنى الكليُّ الذي يؤديانِه؛ كدلالة اقتران الرحمن والرحيم على الرحمةِ، ونحو ذلكَ، غير أنَّ هذا الاقترانَ يأطِرُ الألباب الذكيَّةَ على طلب الفروق الدقيقةِ بينهما، والبحثِ عن مناسبةِ الآية والسياق، ثمَّ الترقِّي في تأمُّل حكمةِ تقديم أحد الاسمينِ على الآخرِ، وإن كانا من بابينِ مختلفينِ كان من السهل بيان انصراف كلِّ اسمٍ لمعنىً، ولكنَّ نسبة ذلك إلى مرجعه ومحلِّه من السياقِ قد يخفى على غير المُتدبِّر المتفكِّر.

 

ثم ينظر: هل لم يقترنا إلا تقدَّم أحدهما دائمًا؟ كالعليم والقدير وردا مقترنين أربع مراتٍ تقدَّم فيها اسم (العليم) دائمًا، أم هل يتقدم أحد الاسمين تارةً والآخر تارةً؟ كالعليم والحكيم؛ اقترنا ستًّا وثلاثين مرة؛ تقدمَّ اسم (العليم/عليمٌ/عليمًا) تسعًا وعشرين مرة، وتقدَّم اسم (الحكيم/حكيمٌ) سبع مرات.

 

وحين يكثر اقترانُ اسمين على صورة معينة من الترتيب ثمَّ ينفرد موضعٌ واحدٌ بعكس هذا الترتيب؛ فإنَّ ذلكَ يستوجبُ مزيدًا من التدبُّر والتأمُّل، وأوضح مثال على ذلك تقدُّم اسم الرحيم على اسم الغفور في موضع واحدٍ من جملة اثنين وسبعين موضعًا اقترن فيها الاسمان، وسيأتي بيانُ ذلك إن شاء الله خلال هذا المقال.

 

والبصرُ بعلم المناسباتِ وضروب البلاغة وفنون البديع مع التضلُّع من علوم اللغةِ؛ يُفيدُ فائدةً عظيمةً في الارتياضِ بتدبُّر باب الأسماء الحسنى في القرآن الكريم، وهو - على كثرة ما كُتِبَ فيه - ما زالَ غير مطروقٍ في كثيرٍ من أنحائه، وما زالت مناهجُ البحث وأساليبه في هذا الباب قاصرةً عن الوفاءِ بما يتوجَّب على المتدبِّرين فيه.

 

ويقترح الباحثُ الاهتمام بجملة أمورٍ:

(1) الإحصاءُ، كمعرفة عدد مرات ذكر الاسم، وما أتى منها فاصلةً، وما أتى منها في غير الفاصلة، وكم مرةً أُفرِدَ وكم مرةً جاء مقترناً، وما الأسماء التي اقترنَ بها؟ وما ترتيب ورودهما مقترنينِ؟ وكم جاء بسور العهد المكيِّ؟ وكم جاء بسور العهد المدنيِّ؟ وما دلالة هذه الإحصاءات؟

 

(2) الدراسة الموضوعية: من خلال إبراز الارتباطِ بينَ موضوع السورةِ وورد الاسم إجمالًا أو وروده مقترنًا باسم معيَّن، أو ورودهما في الاقتران على ترتيبٍ معين، أو ورودهما في الاقتران مع موضوع معيَّن؛ كورودهما في آيات الأحكام أو الآيات الكونية، أو القصص، أو الأمثال أو نحو ذلك... كورود (العزيز العليم) مع الآيات الكونية في أربعة مواضع من جملة ستَّة مواضع في القرآن اقترنَ فيها الاسمانِ، لم تأتِ إلا بتقدُّم اسم (العزيز)، ولم تأتِ إلا بـهذه الصورة (العزيز العليم). ومنه كذلك: اختصاص سورة واحدة باسمينِ؛ كسورة الشعراء التي جاء فيها اسم (العزيز) مقترنًا باسم (الرحيم) في تسعة مواضع من جملة ثلاثة عشر موضعًا في القرآن كله، ومن جملة عشر مواضع في السورة جاء بها اسمان مقترنان، والموضع العاشر هو قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 220]. ومما يَسوغُ افتراضًا أنَّ أكثر الأسماء ورودًا في آيات الأحكام ما دلَّ على الحكمة وما دلَّ على المغفرة؛ كأسماء: الحكيم والغفور والرحيم. ومن خلال الدراسة الموضوعية يمكن تأكيد صحَّة هذا الافتراض أو تفنيدها. ومن خلال الدراسة الموضوعية - كذلك - يمكن تحليل المواضع التي تبدو متشابهة موضوعيًا وقد خُتِمتْ بأسماءٍ مختلفة، وتهتمُّ الدراسة الموضوعية - كذلك - بالإجابة على مُشكل الفواصلِ المختومة بأسماءٍ حسنى وتوجيهها، كما في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الممتحنة: 5]، وعلى لسان عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، وفي قوله تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]، ونحو ذلك[6].

 

(3) الدراسة البلاغية: وتهتمُّ بإبرازِ أساليب البيان والبلاغة والبديعِ في ختم الآيات بالأسماء الحسنى، وهي - في تقدير الباحث - لم تحظَ بما تستحقُّه بعدُ.

 

(4) ربط الأسماء الحسنى بالجوانب التربوية والسلوكية: وذلك مبنيٌّ على الدراسةِ الموضوعيَّةِ. وهذا الجانب السلوكيُّ هو أفضل ما يُحقَّق به توحيد الأسماء والصفات. ومن أمثلة الموضوعات المقترحة في هذا الشأن: أثر الإيمان بالأسماء والصفاتِ في غرس خُلُقِ العفاف من خلال سورة النور– تحقيق توحيد الأسماء والصفات من خلال خُلُقِ الإنفاقِ: الحزب الأخير من سورة البقرة نموذجًا.... ونحو ذلك.

 

ولا شكَّ أن كثيرًا من الدراسات اهتمَّتْ ببعض هذه الأمورِ على تفاوُتٍ، وتحكُّمٍ في نطاق الدراسة وحدودها، غير أنَّ الدراسةَ التي تهتمُّ بكلِّ تلك الجوانبِ في نطاق القرآن الكريم كلِّه لم تكتبْ بعدُ. والله أعلم.

•••

 

(3)

يتبوَّأُ اللفُّ والنشرُ مكانةً واضحةً بين ضروب البديعِ في ختام الآيات الكريمة بالأسماء الحسنى المقترنة. ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّ تطبيق مُصطلح اللفِّ والنشر يتفاوت فيه المفسِّرون؛ ولا يطَّردُ للمتوسِّعين في إيراده منهجٌ يدلُّ على حدود واضحةٍ لعبارة اللفِّ والنشر، ويلاحظ أنَّ بعض الأمثلة التي يُمثَّل له بها قد لا يتحقق فيها الإسنادُ أو التعلُّق بين الملفوف والمنشور بوضوحٍ؛ بل يمكن أن يستغني الكلام الأوَّل عن الآخر، ألا ترى أنَّ أكثر الآياتِ التي مثَّلوا بها لهذا النوع هي قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [القصص: 73]. والنشر قائمٌ فيها مقام المفعول له؟ وهذا منسجمٌ كلَّ الانسجام مع ما مثَّل به البلاغيُّون والبديعيُّون.

 

ثمَّ ترى البقاعيَّ يتوسَّع في إطلاق اللف والنشر؛ فيقول عند حديثه عن التناسب بين سورتي يوسف والرعد: «لما ختم التي قبلها [سورة يوسف] بالدليل على حقيقة القرآن، وأنه هدى ورحمة لقوم يؤمنون بعد أن أشار إلى كثرة ما يُحسُّونه من آياته في السماوات والأرض مع الإعراض، ابتدأ هذه بذلك على طريق اللف والنشر المشوش لأنَّه أفصح للبداءة في نشره بالأقرب فالأقرب»[7].

 

فيشير البقاعيُّ إلى أنَّ قوله تعالى ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1] راجعٌ إلى قوله تعالى في خاتمة سورة يوسف: ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، وتفصيله لبعض الآيات الكونية في الأرض والسماء في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [الرعد: 2 - 4] يرجعُ إلى قوله تعالى قبل خاتمة سورة يوسف بستِّ آيات: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105].

 

وفي تقديري أنَّ العبارة عن هذا التناسبِ باللفِّ والنشر هي نوعٌ من التوسُّع.

 

ثمَّ ترى أنَّ العلّامة ابن عاشور وَصَف مثل هذا النوع من التناسب بـ( شِبْه اللفِّ والنشر)؛ إذ يقول عند تفسير قول الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾ [الزمر: 19] «وكلمة العذاب: كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة، ومعنى (حَقَّ) تحقَّقت في الواقع، أي كانت كلمة العذاب المتوعد بها حقًا غير كذب، فمعنى (حَقَّ) هنا: تحقَّق، وحقّ كلمة العذاب عليهم ضدّ هُدى الله الآخرين، وكونهم في النار ضد كون الآخرين لهم البشرى، وترتيب المتضادين جرى على طريقة شبه اللف والنشر المعكوس؛ نظير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 6، 7]؛ بعد قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 4، 5]؛ فإن قوله: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [البقرة: 7] ضدٌّ لقوله: ﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ وقوله: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7] ضد قوله: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ »[8].

 

وقوله (شبه اللّفّ والنشر)؛ وإن لم يكن من قبيل الاصطلاح؛ فإنَّه يدلُّ على ما يُحسُّه ابن عاشورٍ من أنَّ هذا النوع من التناسبِ منشورٌ وَفْقَ ترتيبٍ معيَّنٍ يشبهُ ما هو موجودٌ في اللَّف والنشر، وإن لم يكن هو هو اللفّ والنشر الذي عَنوه، ومثَّلوا له بما مثَّلوا من القرآن والشعر.

 

ثم طبَّقَ ابن عاشور هذا المسلك عند تفسير قول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]؛ فقال: «وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وَفْقِ ترتيب إجماله الذي في قوله: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ [النجم: 30]؛ على طريقة اللفِّ والنشرِ المرتَّبِ»[9].

 

وهذه المناسبةُ المرتَّبةُ دعتْه عند تفسير قول الله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 27، 28]؛ ليقول: «والجمعُ بين الإخبار عنهم باتِّباعهم ما أسخط اللهَ، وكراهتِهم رضوانَه؛ مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر؛ للإيماء إلى أنَّ ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسبٌ لإقبالهم على ما أسخط الله، وأنَّ ضربهم أدبارهم مناسبٌ لكراهتهم رضوانه؛ لأنَّ الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار، ففي الكلام أيضًا محسن اللف والنشر المرتب»[10].

 

فاللفُّ والنشرُ إذًا ضربٌ من التقسيمِ؛ يتناسب فيه أجزاء الكلام الملفوف مع أجزاء الكلام المنشور؛ فتتشابَهُ الأطراف؛ قال القزويني: «ومن مراعاة النظير ما يُسمِّيه بعضهم تشابه الأطراف، وهو: أن يتمّم الكلام بما يناسب أولَّه في المعنى، كقوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]؛ فإنَّ اللُّطف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبرة تناسب مَن يُدرك شيئًا؛ فإنَّ مَن يُدرك شيئًا يكون خبيرًا به»[11].

 

وقد جعل النسفيُّ هذه الآية من قبيل اللّفِّ والنشر[12]، فالمعنى: لا تدركه الأبصار لِلُطفه، وهو الخبير الذي يُدركُ الأبصار.

 

ثمَّ إنَّ عبارة (اللّف والنشر) قد توحي بأنَّ في الأطراف الأولى اختصارًا، وفي نسيباتها الأخرى إطنابًا، وليس بلازم؛ إذ إنَّ المقصودَ أنَّ الكلام في أوَّله ينقسم على معنينِ أو أكثر، ثمَّ يُختمُ الكلامُ بما يُناسب أوَّله؛ بحيث يعودُ كلُّ طرفٍ منه إلى نسيبه من المعاني المذكورة أوَّلًا؛ بغضِّ النظرِ عن: ما المختصرُ، وما المُطنَبُ؟

 

ألا ترى في المثال السابق أنَّ قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ قد جاء كالإجمال بعد التفصيل في قوله تعالى ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾؟

 

فلا يغبْ عن ذُكْركَ هذا التقريرُ فتبادرَ إلى القول بأنَّ بعض ما هو منسوبٌ لهذا الـمُحسِّن البديعيِّ ليس منه، فالمقصودُ مراعاةُ النظير وتشابهُ الأطرافِ.

•••


(4)

عَوْدٌ إلى علاقة الأسماء الحسنى المقترنة في ختام الآياتِ بمُحسّن اللفِّ والنشرِ؛ نقول: إنَّ هذه العلاقة تأتي على درجتينِ من الوضوحِ، أولاهما: أن يكون المعنى واضحًا، وتشابه الأطرافِ جليًّا؛ بحيثُ لا يتردَّد المتأمِّلُ في إسنادِ العلائق، وعَزْوِ النسائب. والثانية: أن يكون في الكلام دقائقُ لا تُدركُ إلا بمزيدٍ من التأمُّل، وإعمال الفكرِ في السياقِ.

 

فمن الأوَّل قولُ الله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1] وأخفى منه اللفُّ والنشرُ في قوله تعالى ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 147] فقوله تعالى: ﴿ شَاكِرًا ﴾ يعود إلى قوله ﴿ شَكَرْتُمْ ﴾، وقوله تعالى ﴿ عَلِيمًا ﴾ يعود إلى قوله ﴿ وَآمَنْتُمْ ﴾؛ لأنَّ الإيمان الباطنَ لا يعلمه إلا الله، وقد يُظهر المرء عكس ما يبُطن، ويُفيد النَّظر في السياق ملاحظةَ أنَّ الآياتِ جاءت في سياق الحديث عن المنافقين، ثم في فَتْحِ باب التوبة لهم، وتلك التوبةُ لا تتحقَّق للمنافق إلا إذا تاب من نفاقه بتيقُّنِه أنَّ الله مُطَّلِعٌ على سريرته عليمٌ بذات صدره.

•••


ومن اللفِّ والنشر قوله تعالى ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].

 

ففي الكلام لفٌّ ونشرٌ من جهتين؛ الأولى: من جهة ردِّ نبيهم عليهم بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾، ثمَّ يُحتمل أن يكون تذييل الكلام من الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

 

فمن جهة جواب نبيِّهم؛ فإن قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾ ردٌّ على قولهم ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾ فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إيَّاهم، فأجابهم بأنَّ طالوت أرجح منهم لأنَّ الله اصطفاه للمُلكِ، وقوله ﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ﴾ ردٌّ على قولهم: ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾، فأعلمهم نبيُّهم أنَّ الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي، وقوة البدن؛ لأنَّه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة، لا سيما في وقت المضائق، وعند تعذُّر الاستشارة، أو عند خلاف أهل الشورى، وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال، فيكون بثباته ثباتُ نفوس الجيش، فالمراد بالعلم هنا علمُ تدبير الحرب وسياسة الأمة، ولم يأتِ على ذكر المال؛ لأنَّ الملك المظفَّر بالعلم والقوة يتوافر له المال بالنصر، ولأنَّ الملك ولو كان ذا ثروة، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة، ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار. وغنى الأمة في بيت مالها ومنه تقوم مصالحها، وأرزاق ولاة أمورها[13].

 

ثمَّ جاء تذييل الآية بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾.

 

وفيه أيضًا لفٌّ ونشر ولكنَّه غير مرتب؛ فقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ كالتعليل لقولهم ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ أي واسع الفضل والعطاء يوسِّع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر[14]، وفيه ردٌّ على قولهم ﴿ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ﴾ فكأنَّ المعنى: إنَّ الله واسعُ العطيَّة يبسط الرزق لمن يشاء إذا شاء، وما ترون عليه أنفسَكم من السَّعة التي تتطاولون بها على مَن اصطفاه الله ليست في سعة مُلك الله في شيءٍ، ثمَّ إنَّ المال الخاصَّ ليس من المقوِّمات الأساسية للمَلِكِ البشريِّ؛ فالناس تُساسُ بالعلمِ والعدل والحكمة أسلسَ مما تُساس بالمالِ، على أنَّ المال العامَّ هو الداخل في مقومات الملك والسياسة، وليس المال الخاصَّ بالمَلِكِ أو الوالي، وهم إنَّما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسَعةٍ فظنوا أن ذلك من شروط الملك[15]. وقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي بمن يصطفيه للمُلك، وفيه ردٌّ على قولهم: ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ [البقرة: 247] فإنَّ الله أعلم حيث يجعل ملكه ورسالته. فجاء على طريقة اللفِّ والنشر غير المرتَّب. والله أعلم.

 

وأمَّا الحكمة من مجيء النشر على هذا الترتيب أنَّهم سألوا سؤالًا على سبيل الاعتراض ثمَّ شفعوه بمُسوِّغين لهذا الاعتراض: الأوَّل دعوى استقرَّت في أذهانهم حتى غدت من قبيل المُسلَّمات (ونحن أحقُّ بالملك منه)، والثاني تقريرٌ قام مقام الحجَّة والبينة (ولم يؤت سعة من المال)، وإن كان في حقيقة أمره شبهةً لا تثبت للنَّقد، ولـمَّا كان دحضُ هذا التقرير - بإثبات أهلية طالوت للمُلكِ - مُسقطًا دعواهم بأنَّهم أحقُّ بالملك منه؛ كان ردُّها أولى. وهم لو أصابوا لذكروا التقرير أوَّلًا: أنَّه لم يُؤتَ سَعةً من المال؛ لأنَّهم بصددِ نفي استحقاقه للملكِ بعد أن راجعوا نبيَّهم في طلبهم مَلِكًا يقاتلون معه، ثمَّ يأتي بعدُ إثباتُهم أنَّهم أحقُّ بالملك منه على سبيل الاقتراح، فلو كانوا نفوا استحقاقه للملكِ أوَلًا لساغَ أن يثبتوا لأنفسهم من مقوِّمات الملك ما ليس عنده، ويكون قولهم: ﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴾ واقعًا من صَنعةِ الجَدَل موقعًا سليمًا، ولكنَّ تشوُّفهم إلى الملكِ جعلَ دعواهم استحقاقَه سابقةً لذكر مسوِّغات هذا الاستحقاق، فجاءت مشوَّشةً. وفي ردِّ الله - سبحانه وتعالى - عليهم إجابة عامَّةٌ لسؤالهم وهي كافيةٌ لدحضِ كلِّ ما جاءوا به، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى لم يترك لهم شبهةً فثنَّى بإبطال ما ظاهره الحجة التقريرية؛ بأنَّ طالوت ليس لديه من المال ما يؤهله للملكِ، ثمَّ عرَّض بجهلهم بذكر عِلمه مَن أحقُّ بالملك، وفيه اجتثاث لدعواهم، فأجابهم على منطقٍ مستقيم في صنعة الجدل.

 

وعليه؛ فلا يُقال: إنها جاءت هكذا لمجرَّد مراعاة الفواصل؛ إذ لو قال: (والله عليم واسعٌ) لـما تشاكلتِ الفواصل على نسقها، وقد اتَّضح أنَّه لو فُرِضَ استقرارها على رَصْف النَّظم ما استقامتْ على مواقعِ البيانِ إلا كما جاءت ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾. فتأمَّلْه فإنَّه نفيسٌ.

•••


ومن ذلك قول الله تعالى: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].

 

ففي الآية الكريمة حثٌّ على التصدُّق من طيب الكسب وجيِّده، ونهيٌّ عن قصد الخبيثِ الرديء منه؛ بحيث إنَّ المتصدِّقَ لو قُدِّرَ أن يكونَ متصدَّقًا عليه فلن يأخذَ هذا الخبيث إلا بإغماضٍ وإغضاءٍ. ثمَّ قال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ ﴾ [البقرة: 267] أي: عن صدقة هذا الذي لم تجُدْ نفسُه إلا بالرديء الخبيث على وفور الطيِّب الجيِّد، ﴿ حَمِيدٌ ﴾ شاكرٌ لمن تصدَّق بالطيِّبِ وجادت به نفسُه. فتناسبتِ الأطراف على طريقة اللفِّ والنشر المعكوس.

 

وسرُّ هذا العكسِ بديعٌ؛ بل هو من الغايةِ بموضعٍ، وبيان ذلك أنَّ الذي لديه مالٌ اختلطَ جيدُّه برديئه؛ وهو ينوي التصدُّق؛ يصير أمامه ثلاثة مسالك؛ المسلك الأوسط: أن يعمد إلى المال فيُوعِيَ منه كيف اتَّفق له ذلكَ، فيخرج من عَرضه ما يتصدَّق به قد اختلط جيِّدُه برديئه، وهذا أدَّى ما عليه، وصَدَقَ به الفرضُ، وتحقَّق به النَّفلُ. والمسلك الرفيع: أن يتخيَّر من نفائس ماله وكرائمه طيِّبًا به نفسًا، وهذا قد وفَّى وأَحسَنَ إحسانًا. والمسلك الخبيث: أن يتحرَّى الخبيثَ ينفقه، قد تواطئت نيّتُه وجوارحه عليه، فلم يخبثْ فعلُه إلا لفسادٍ ما في سريرته ببُخلٍ أو شُحٍّ أو سوء ظنٍّ بالله أو غير ذلك من أمراض القلوب، ولما كان كلُّ هذه الأمور من المناهي كفيلًا بإفسادِ عمله كلِّه، وكان اجتنابُ النهي مقدَّمًا على امتثال الأمرِ؛ فجاء الزجرُ أوَّلًا بتذكيره بغنى الله عنه وعن عمله، ثمَّ جاء الترغيبُ ببيان أنَّ الله شاكرٌ حميدٌ، لمن جادت نفسه. والله تعالى أعلم.

 

وقريب منه قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12]. والمعنى أنَّ الله غنيٌّ عن إيمان الكافر، حميد لشكر الشاكرينَ، فجاء على طريقة اللف والنشر المعكوس، والله أعلم.

 

ومن المواضع المتعلقة بهذين الاسمين الجليلين، والتي قد يكون بها بعض خفاء قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [التغابن: 6] فقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ عائدٌ إلى قوله تعالى: ﴿ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ﴾ وقوله تعالى ﴿ حَمِيدٌ ﴾ قد يعودُ إلى المؤمنين المذكورين قبلُ في مطلع السورة في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [التغابن: 2]، ولكنَّ الأوْلى - والله أعلم - عَوْدُه إلى الرسل المذكورين في الآية نفسها؛ إذ إنَّ الرُّسل قد جاءتهم بالبينات فلم يَلْقَوا إلا الانتقاصَ ببشريَّتهم، فربَّما يظنُّ ظانٌّ أنَّ أجرَ هذا الرسول الذي بلَّغ الرسالةَ بلاغًا مبينًا؛ رهنٌ بعدد من استجاب له؛ فيجعل على الرسول هداية التوفيقِ، وليس عليه في حقيقة الأمر إلا هداية الدلالة والإرشاد، فبلاغه محمودٌ على كلِّ حالٍ، ولذا قال الله عزَّ وجلَّ مُقرِّرًا تلك الحقيقة: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [التغابن: 12]، ونظير ذلك قول موسى عليه السلام: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 8]، أي: إنَّ الله غنيٌّ عن إيمانكم شاكرٌ رُسُلَه على إبلاغكم ودلالتكم ولو لم يُوَّفق للهدايةِ أحدٌ. والله تعالى أعلم.

•••


وقد جاءت سورة الشعراء على بنيانٍ فريدٍ عجيبٍ يستوقف المتدبِّر، ويمكنكَ أن تتلمَّح ثلاثة موضوعاتٍ مقاصدية للسورة ماثلة في مفتتحها:

الأوّل: الحديث عن صدق القرآن الكريم ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾ [الشعراء: 2].

 

الثاني: تسلية الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما اعتراه بسبب إعراض قومه وتكذيبهم له: ﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 3].

 

الثالث: بيان حال هؤلاء المكذبين المعرضين، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ قادرٌ على إهلاكهم واستئصالهم ﴿ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ [الشعراء: 4 - 7].

 

ثمَّ يأتي مقطعٌ يتكرَّرُ بعد ذلك مرارًا؛ وهو قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: ثمانية مواضع أوَّلها 8،9].

 

ومفهوم الكلام في الآية الثامنة أنَّ أقلَّهم كانوا مؤمنين، فانقسموا إلى قليلٍ هم المؤمنون، وكثيرٍ هم غير المؤمنين، فقد يقال: إنَّ قوله ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ يعود إلى عقاب الكفَّار؛ كما قال تعالى في قوم فرعون: ﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 42]، وعاد ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ إلى ثواب المؤمنين.

 

ويمكن أن يقال: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اهتمَّ لعدم إيمان قومه حتى كاد يبخع نفسه ويهلكها حزنًا وكمدًا، فواساه الله - عزَّ وجلَّ - بأن ذكَّره أنَّ هداية التوفيق بيده وحده سبحانه، وأنَّه لو شاء لآمنوا جميعًا، ولكنَّ حكمته اقتضت إعراضهم، وأنَّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- مأجورٌ على بلاغه مستثنى مرحومٌ مما قد ينالهم من العذاب؛ فعاد قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾ إلى هؤلاء المكذبين المعرضين، وعاد قوله: ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى: إنَّ الله عز وجلَّ رحيمٌ بكَ أيَّها النبيُّ، وليس عليك أن تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وما عليكَ إلا البلاغ والإنذار.

 

ثمَّ تأتي السورة كلُّها على نسقٍ فريد من اللفِّ والنشر المعكوسِ، فالسورة ابتداءً من قصة موسى وحتى نهاية قصة شعيب هي نشرٌ للموضوع الثالث من موضوعات مفتتح السورة، وهو بيان تكذيب القرى لرسلهم؛ أي: كما كذَّب قومكَ به وهو الحقُّ، فقد كذَّب قوم موسى وقوم إبراهيم وقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب.

 

ثمَّ تعود السورة بعد هذا النشر الموسَّع إلى الموضوع الأوَّل المتعلِّق بالقرآن الكريم، وذلك ابتداءً من قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 192]حتى قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ [الشعراء: 210 - 212].

 

ثمَّ تنتقل السورةُ إلى بيان مهمَّة الرسول: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ﴾ [الشعراء: 213 - 217]. وهو ردٌّ على الموضوع الثاني، في بيان مهمة الرسول، وأنَّ الواجب عليه الإنذار وخفض الجناح ولين الجانب، وأنَّه ليس عليه أن يبخع نفسه لإعراض الـمُعرضِ؛ إذ هو بريءٌ من عَمَلِهم بعد أن أنذرَهم.

 

فما سرُّ ترتيب هذه العناصر، ولِمَ اختلفتْ في النَّشر عن اللفِّ؛ إذ جاء الحديثُ في النشر مستفيضًا في بيان عاقبة المكذبين المعرضين، ثمَّ انتقل للحديث عن القرآن، ثمَّ تذكير النبي -صلى الله عليه وسلم- بمهمته، وبيان منهجها؟

والجواب - والله أعلم - أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان تأثُّره الأكبر لثلاثة أسباب: الأوَّل خوف التقصير، والثاني ما رُمِيَ به من اتِّهاماتٍ أثقلها أثرًا أنَّه افترى هذا القرآن، والثالثة: أساه على قومه مما توعَّد الله به الكافرينِ؛ إذ هم عشيرته الأقربون. فكان في ذِكْرِ أحوال الرسل مع أقوامهم تثبيتٌ له، وتبيينٌ أنَّه لم يُقصِّر كما لم يُقصِّر مَنْ سبقه من الرُّسل، وهو ليس بدعًا منهم، ولذا أكَّد كلَّ قصة بقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 8]، ولم يكتفِ بذكر قصة أو اثنتينِ مما قد يُرى أنَّ التسلية متحققةٌ بهما، بل ذكر معظم قصص الأنبياء التي فُصِّلَتْ في القرآن.

 

فلمَّا واساه من هذا الطريق، ثنَّى بمواساته بردِّ دعواهم أنَّه -صلى الله عليه وسلم- مُفتَرٍ اقترى القرآن أو ألقاه إليه شيطانه؛ كما قالوا بزعمهم وافترائهم الكذبَ وهم يعلمون.

 

فلما استبان هذا الجانبُ التقريريُّ الإخباريُّ حَسُنَ الانتقالُ إلى الجانب الطَّلبيِّ الإنشائيِّ، وفيه رسمُ منهج الدعوةِ إلى الله عزَّ وجلَّ: إخلاص الغاية، والإنذارِ مع خفض الجناح ولين الجانبِ، والتبرُّؤُ من عمل العاصي، مع البداءة بالأقربينَ. وهي أُطُرٌ عامةٌ لمنهج الدعوة الصحيح المستقيم، يرتكز على ركيزتينِ ضروريتينِ لتأسيس دعوةٍ منهجية ناجحة:

الركيزة الأولى: الاستقرار النفسيُّ للداعية: وهذا لا يتحقَّقُ إلا بإيضاح مسئوليته، وأنَّه ليس عليه إلا البلاغ، وأنَّ سنَّة الله ماضية: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]. وأفضل طريقة لتحصيل هذا الاستقرار والثبات النفسي هي استعراض قصص السابقين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].

 

الركيزة الثانية: اليقين بصحة مصدر الرسالة يقينًا لا يتطرَّق إليه أدنى شكٍّ، فكان الاهتمام بنفي ادِّعاءات الكفار بأنَّ القرآنَ أساطير الأولين أو أنَّه إنَّما يعلمه بشر، أو نحو ذلك، ثمَّ تحدَّاهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فعجزوا. ولتنظروا السورة التي بين أيديكم لتروا فيها من أزاهير البلاغةِ وأفانين البديع ما يخضع له يقينُ العارفين بضروب البيان، وينقادُ له زمامُ الأدباء. ولعلَّ في تسمية السورة باسم (الشعراء) تعريضًا بمبلغهم من العلم، وأنَّ طريقتهم في الشعر لا تؤهّلهم هم ولا أفصح منهم؛ للإتيانِ بكلامٍ له بديعُ نظمِه، واستقامة منهجه، وبضاعتهم المزجاةُ بالقياس إليه ركاكةٌ وهذيانٌ، وأنَّ قولهم: (لو شئنا لقلنا مثل هذا) جارٍ على عُرفهم: أنَّهم يقولون ما لا يفعلون؛ فهم كما وصفهم ابنُ الروميِّ:

يقولونَ ما لا يفعلون مسبَّةٌ
من الله مسبوبٌ بها الشعراءُ
وما ذاك فيهم وحدَه بل زيادةٌ
يقولون ما لا يفعل الأمراءُ

 

ثمَّ يرتكزُ على هاتين الركيزتين التقريريَّتين منهجٌ سلوكيٌّ إذا نهجه الداعيةُ فقد استبرأ لدينه واستوفى لدعوتِه، وأوَّل معالم هذا المنهج إفراد الانقياد وتحقيق الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، فإذا رأى الأتباع أنَّ قائدهم مخاطبٌ بقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213]، وبقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [الزمر: 65]، علموا أنَّه بشرٌ مثلُهم اصطفاه الله لأداء رسالته، فلم يُطرُوه فوق بشريته، وعلموا أنَّه لا كرامة لأحدٍ عند الله إلا بقدر ما امتثلَ لأمرِ الله، فكان أحرى أن يجتهدوا لتحقيق التوحيد الخالص لله عزَّ وجلَّ، وهو سبيلُ الثبات أمام المحن والمغرياتِ، وحائط الصدِّ دون التنازلاتِ، كما في قوله تعالى: ﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [هود: 12].

 

والمعلمُ الثاني لهذا المنهج الدعويِّ السلوكيِّ عنوانه: ﴿ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فالإنسان إذا بدأ بنفسه أوّلًا ثمَّ الأقرب فالأقرب من أهله ثانيًا لم يكن لأحد عليه طعن البتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع[16]، وليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئًا[17]؛ فيعلم ذلك غيرُهم من باب أَوْلى، ولأنَّ في إنذارهم وهم عشيرته عدمَ محاباةٍ، فهم والناسُ في ذلك شرعٌ واحدٌ في التخويف والإنذار، فإذا كانت القرابة قد خُوِّفوا وأُنذروا مما يلحق الإنسانَ في حقهم من الرأفة كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل، ولأنَّ البداءة تكون بمن يليه ثمَّ من بعده؛ إذ العشيرة مظنة الطواعيةِ، وهو - مع ذلك - إن أغلظ عليهم ما لا يُغلظ على غيرهم كانوا أشدَّ احتمالًا[18].

 

والمعلم الثالث: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، وفيه توجيهٌ للداعيةِ أن يُلين جانبه ويتواضعَ لأتباعه، ويترفَّق بهم، وليعلم أنَّ أتباعه هم رأس ماله، وأنَّ سواهم ممن هم محلُّ دعوته ربحٌ، وأنَّ حفظ رأس المال مقدُّم على طلب الربح إن تَعَارَضَا، ولذا عاتبه الله عزَّ وجلَّ بقوله: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 1 - 10]. وهذا تأصيلٌ لمنهج الدعوة الكيفية لا الكمية.

 

والمعلم الرابع: ﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 216]، ولمَّا كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان جاء التقسيم عليهما فكان المعنى أنَّ من اتبعك مؤمنًا فتواضع له، فلذلك جاء قسيمه: فإن عصوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم. والظاهر عود الضمير المرفوع في (عصوك) على من أُمِرَ بإنذارهم وهم العشيرة، فيكون الذي برئ منه هو عبادتَهم الأصنامَ واتخاذَهم إلهًا آخر. وقيل: الضمير يعود على مَن اتبعه من المؤمنين؛ أي: فإن عصوك يا محمدُ في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك؛ فقل إني بريء مما تعملون لا منكم، فَأَظهرْ عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم، ولو أمره بالبراءة منهم ما بقي بعد هذا شفيعًا للعصاة منهم في الآخرة[19]. وفيه توجيهٌ لكلِّ داعية على منهاج النبوَّةِ ألا ييأس من مَدعُوٍّ وإن كان عاصيًا، فما دام فيه بالحياةِ قلبٌ نابضٌ، فلَهُ على الداعيةِ دعوةٌ. وقبل أن يكون العاصي المخالفُ محلَّ عداءٍ فهو محلُّ دعوة؛ بل هو للدلالة إلى الخير أشدُّ حاجة من غيره.

 

والمعلم الخامس: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 217 - 220]]، ليكن توكُّلُكَ على الله؛ على الذي يقهر أعداءك بعزَّته، وينصرك وأتباعَك برحمته، فعاد قوله ﴿ الْعَزِيزِ ﴾ على العصاة، وقوله ﴿ الرَّحِيمِ ﴾ على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه المؤمنين؛ على طريقة اللفِّ والنشر المعكوس.

 

واعلم أنَّه لابد لهذا التوكُّل من حقيقةٍ تبدو في عمل المتوكِّل وطاعته، في توفُّره على قيامه وسجوده ودعائه، فيكون جديرًا بالرحمةِ ساعيًا في تحصيل أسبابها.

 

ولمَّا كان التوكُّلُ من أعمال القلوبِ، أصلُه القلبُ وصورته الأعمال المذكورة من قيامٍ وسجودٍ ودعاء وتضرُّع فقد جاء ختام هذا المقطع وتذييله في غاية من التناسب، إذ يعود قوله تعالى ﴿ السَّمِيعُ ﴾ على الأعمال الظاهرة، إذ غايتها الدُّعاء وهو كلامٌ فناسبه ﴿ السميع ﴾، ويعود قوله ﴿ الْعَلِيمُ ﴾ على أصل ما في القلب، إذ هو عمل القلب وقوله. وهو جارٍ على النشر المعكوسِ كما في عموم السورةِ. والله أعلم.

 

وإنَّك إذا تأمَّلتَ في قصص الأنبياء التي تناولتها السورة تجد في خاتمة قصة موسى عليه السلام قوله تعالى: ﴿ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 65 - 68]، فاسم ﴿ الْعَزِيزُ ﴾ عائد على المغرَقين، واسم ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ عائد على الناجين. فجاء على اللَّف والنشر المعكوس.

 

وفي الموضع التالي قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴾ [الشعراء: 90، 91]، ثمَّ استطرد في تصوير مشاهد من حال هؤلاء الغاوين يوم القيامة؛ ثم ختم بالمقطع المتكرر:﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 103، 104]، فعاد اسم ﴿ العزيز ﴾ على الغاوين، وعاد اسم ﴿ الرحيم ﴾ على المتقين، على طريقة اللف والنشر المعكوس.

 

وفي نهاية قصة نوح عليه السلام قال: ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ *إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشعراء: 119 - 122] فعاد اسم (العزيز) على الـمُغرقين، وعاد اسم (الرحيم) على الناجين؛ نوح ومن معه من المؤمنين.

 

وفي نهاية قصة هود عليه السلام قال: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 139]، فعاد اسم (العزيز) على المهلكين، وعاد اسم (الرحيم) على هودٍ عليه السلام، ومَن آمن معه وإن لم يكن لهم ذِكرٌ صريحٌ في هذه السورة.

 

وهكذا في قصة صالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وكلها جاءت على تلك الطريقة من اللف والنشر المعكوس.

 

وقد يُتلمَّحُ اللفُّ والنشرُ في هذه السورة الـمُبينةِ في موضع آخر بعد ما ذُكر، وذلك في قوله تعالى: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ [الشعراء: 221 - 223].

 

والأفَّاك كثرُ الإفك أي الكذب، والأثيم كثير الإثم، وإلقاء السَّمع كناية عن شدَّة الإصغاء ليَعِيَ ما يُقال له؛ حتى لكأنَّه إلقى السمع من موضعه[20].

 

والمقصود بالأفَّاكين هنا الكَهَنَةُ، وهو قول قتادة وبه قال جماعة من المفسرين[21]، أو المتنبِّئة من أمثال شق وسطيح ومسيلمة وطليحة؛ قاله الزمخشريُّ[22]، ويدلُّ عليه ما ورد عن عبد الله بن الزبير أنَّه قيل له: إنَّ المختار يزعم أنَّه يوحى إليه. فقال ابن الزبير: صدق. ثم تلا: ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [الشعراء: 221، 222] [23].

 

والمعنى أنَّ الشياطينَ يسترقون السَّمع إلى السماء؛ كما صوَّرهم قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 16 - 18]، ثمَّ يلقي الشياطين ما تسرَّقوه وسمعوه إلى أوليائهم من كهنة الإنس حال إصغاء هؤلاء الكهنة لهم إصغاءً بالغًا إلى ما يُلقَى إليهم.

 

فالضمير في ﴿ يُلْقُونَ السَّمْعَ ﴾ [الشعراء: 223] يحتمل أن يعود على الشياطين أو على كلِّ أفَّاك أثيم من الكهنة[24]، ولا تعارُضَ.

 

وعلى هذا فإنَّ جملة ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾ يكون فيها الوجهان؛ فيحتمل أن تعود على الشياطين؛ أي إنَّهم يتسمَّعون إلى الملإ الأعلى فيوحونَ بعض ما اطَّلعوا عليه من الغيب إلى أوليائهم قد خلطوه بالكذب. ويحتمل أن تعود إلى الأفَّاكين من الكهنة؛ يتلقَّفون الكلمةَ من شياطينهم، فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة؛ كما صحَّ بذلك الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَأَلَ أنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْكُهَّانِ؛ فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «لَيسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُم يُحَدِّثُونَ أَحيانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «تِلكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا أَكثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ»[25].

 

وقد جاءت الأخبار في النهي عن إتيانِ الكُهَّانِ بما يدلُّ على الإثم العظيم الذي يزِرُه هؤلاء الأفَّاكين، فمن ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما قال فقد كفر بما أُنزِل على محمد -صلى الله عليه وسلم-»[26]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى كاهناً، فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد»[27]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أتى عرافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة»[28]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منَّا مَن تَطيَّر ولا مَن تُطُيِّر له، أو تَكهَّن أو تُكهِّنَ له، أو تسحَّر أو تُسُحِّر له»[29].

 

فهذه الأحاديثُ في إثم من أتى كاهنًا، فكيف بإثم الكاهن نفسه؟ وقد ثبت الإثم بمجرَّد إلقاء السمعِ والإصغاء له، وهذا مفهوم قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ لم تُقبل له صلاةٌ أربعين ليلة»؛ إذ السائلُ يتشوَّفُ للجوابِ فينصتُ ويَصْغَى إلى مُجيبه، فيحصل له الإثمُ بمحض الاستماع، فإن صدَّق كان الكُفرُ، نسأل الله السلامة والثبات.

 

فصفةُ ﴿ أَفَّاكٍ ﴾ تعود إلى جملة ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴾، وصفة ﴿ أَثِيمٍ ﴾ تعود إلى جملة ﴿ يُلْقُونَ السَّمْعَ ﴾، ثمَّ يحملون بالكذبِ أوزارًا إلى أوزارهم. والله تعالى أعلم.

•••


وقد بُنِيَتْ سورة الإخلاص على بديع اللّفِّ والنَّشر؛ يقول تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]

 

والسورة - على وجازتها - كنزٌ من كنوز البلاغة؛ يُصنَّف فيه مجلَّداتٌ، وفيها لفٌّ ونشرٌ بديعٌ؛ لم أرَ - في حدود علمي واطِّلاعي - أحدًا أشار إليه من الـمفسِّرين والمتكلِّمين في بلاغة القرآن.

 

فقوله تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3] يعود إلى قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] فإنّه إن لم يلدْ ولم يُولدْ؛ فقد تعيَّنَ كوْنُه أحدًا؛ إذ الولدُ والوالدُ مظنَّة الشّبَهِ، فلمّا انتفيا انتفى ما سواهما بقياس الأولى.

 

ولأنّه لم يكن له كفوًا أحدٌ تعيَّن أنَّه الصمد على الحقيقة؛ أي المعبودُ الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي انتهى سؤدده في أنواع الشرف والسُؤدد، فحُقَّ أن يُصمد إليه في الحاجات، فهذه صفته سبحانه لا تنبغي إلا له. ولو كان له كفؤٌ فقد جاز في العقل أن يكون معبودٌ غيرُه، ولأنه ليس له كفؤٌ فقد تعيَّن كونُه الصمدَ المطلقَ: الذي يجب انصراف اسم الصمد إليه - سبحانه - عند الإطلاق.

 

فالمتأمِّل في السورة يرى في أوَّل آيتين لفًّا بديعًا؛ مفادُه: (الله أحدٌ صمدٌ)، ثمَّ يرى نَشرَه بأوجز عبارةٍ في الآيتين الأُخريينِ؛ ما يغلقُ باب الجدلِ على مُنكري تلكَ الحقيقة. والله تعالى أعلم.

•••

 

(5)

ومن أدقِّ مواضع اللَّفِّ والنشر في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ [سبأ: 1، 2].

 

والوقوفُ على حقيقةِ هذا يحتاج مزيدًا من التأمُّل والتدبُّر، وتثوير القرآن، ومعاودة النظر مرَّةً بعد مرَّةٍ، وفكرةً بعد فكرةٍ.

 

فأوَّلُ ما يلفتُ النظرَ في الآية الثانية أنَّ اسم (الرحيم) جاء قبل اسم (الغفور)، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن كلِّه الذي جاء فيه اسم (الرحيم) أوَّلًا. وهو يستوقف المتدبِّرَ حين يعلم أنَّ الاسمين الشريفين قد اقترنا في اثنين وسبعين موضعًا، جاء اسم (الغفور/ لَغَفورٌ/ غفور/ غفورًا) قبل اسم (الرحيم/ رحيم/ رحيمًا) في واحد وسبعين منها.

 

وممن تكلَّم على سرِّ تقديم اسم (الرحيم) على اسم (الغفور) في هذا الموضع، السهيليُّ وابن القيم في القديم، والسامرائيُّ في الحديث، وحاصل ما ذهبوا إليه ثلاثة أقوال.

 

قال السهيليّ: «وأما تقديم (الغفور) على (الرحيم) فهو أولى بالطبع؛ لأنَّ المغفرة سلامةٌ، والرحمةَ غنيمةٌ، والسلامةُ مطلوبةٌ قبل الغنيمةِ... وأما قوله: (وهو الرحيم الغفور) في (سبأ)؛ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة، إمَّا بالفضل والكمال، وإما بالطبع؛ لأنها منتظمةٌ بذكر أوصاف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان، فالرحمة تشمهلم والمغفرة تخصُّهم، والعموم بالطبع قبل الخصوص؛ كقوله تعالى: ﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ [الرحمن: 68]، وكقوله تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [البقرة: 98]؛ افتتح بالعموم، الذي هو متقدِّمٌ بالطبع على الخصوص»[30].

 

قال السامرائيُّ موضِّحًا: «وإيضاح ذلك أنَّ جميع الخلائق من الإنس والجنِّ والحيوان وغيرهم محتاجون إلى رحمته، فهي برحمته تحيا وتعيش وبرحمته تتراحم. وأمَّا المغفرةُ فتخصُّ المكلفين، فالرحمة أعمُّ»[31].

 

وقال ابن القيم: «ما ذكره [السهيليُّ] من تقديم (الغفور) على (الرحيم) حسنٌ جدًّا، وأما تقديم (الرحيم) على (الغفور) في موضع واحدٍ، وهو أول (سبأ)؛ ففيه معنى غير ما ذكره، يظهر لمن تأمَّل سياقَ أوصافه العُلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)؛ فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله، ونعوت جلاله مُستلزمٌ لها،كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كل حال، وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقَّب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [سبأ: 1]، ثم عقبه بأنَّ هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدًا؛ فإنه حمدٌ يستحقه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته دائمٌ بدوامه لا يزول أبدًا، وقرن بين الملك والحمد على عاداته تعالى في كلامه؛ فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمالٌ زائدٌ على الكمال بكل واحد منهما، فله كمالٌ من ملكه، وكمالٌ من حمده، وكمالٌ من اقتران أحدهما بالآخر؛ فإنَّ الملك بلا حمدٍ يستلزم نقصًا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزًا، والحمد مع الملك غاية الكمال.

 

ونظير هذا العزة والرحمة والعفو والقدرة والغنى والكرم. فوسط الملك بين الجملتين فجعله محفوفًا بحمد قبله وحمد بعده، ثم عقَّب هذا الحمد والملك باسمَي (الحكيم الخبير) الدَّالَّينِ على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلق بمرادٍ إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلقٌ ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرةٍ، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم، فالمراد ظاهرٌ والحكمة باطنة، والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفًا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله، والحكمة باطن الإرادة وكمالها. فتضمَّنت الآية إثبات حمده وملكه وحكمته وعلمه على أكمل الوجوه.

 

ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العلوي والسفلي؛ فقال: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾، ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه، وهما الرحمة والمغفرة؛ فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتم الوجوه برحمته، ويعفو عن زلَّتهم، ويهب لهم ذنوبهم، ولا يؤاخذهم بها بمغفرته؛ فقال: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)، فتضمَّنت هذه الآية سعة علمه ورحمته وحكمه ومغفرته.

 

وهو سبحانه يقرن بين سَعَة العلم والرحمة، كما يقرن بين العلم والحلم؛ فمن الأول قوله: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، ومن الثاني: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، فما قُرِنَ شيءٌ إلى شيء أحسن من حلم إلى علم ومن رحمة إلى علم...

 

وقدَّم (الرحيم) في هذا الموضع لتقدُّم صفة العلم، فحسُن ذكر (الرحيم) بعده ليقترنَ به... ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشرِّ، وتضمُّن ما قبلها جلب الخير، ولما كان دفع الشر مقدمًا على جلب الخير قدّم اسم (الغفور) على (الرحيم) حيث وقع، ولما كان في هذا الموضع مُعارضٌ يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجلِ ما قبله قُدّم على (الغفور)»[32].

 

وقال السامرائيُّ: «لم يتقدّم الآية ما يتعلَّق بالمكلَّفين، وإنما تقدَّمها أمرٌ عامٌّ مما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وقد تأخَّر ذكر الـمُكلَّفين إلى ما بعدها.. والمكلَّفون هم الذين بحاجةٍ إلى المغفرة، وأمَّا الرحمة فأمر عام تعمُّ المكلَّفين وغيرهم، فهي كما تشمل المكلفين تشمل البهائم وسائر الأحياء الأخرى، فلما كان ما تقدم الآية أمرًا عامًا قدَّم الرحمة التي هي أعمُّ من المغفرة. ولما أخَّر ذكر المكلَّفين أخَّر المغفرة؛ لأنها تخصُّهم، يدلُّك على ذلك أنَّ جميع المواطن التي تقدَّم فيها اسمه (الغفور) على (الرحيم) تقدَّم فيها ذكر المكلَّفين»[33].

 

والفرق بين الرحمة والمغفرة أنَّ الرحمة من معانيها الرِّقَّةُ والعطفُ والرأفةُ والمرْحَمَةُ[34]، ويقال تَراحَمَ القومُ: رَحِمَ بعضهم بعضًا، ومنه صلة الرَّحِم. وهي غير مختصَّة بالمؤمنين، ولا بعموم المكلَّفين؛ بل يجوز إطلاقها في حقِّ سائر المخلوقات؛ ألا ترى أنَّك إن أردتَّ زجرَ صاحبكَ عن تعذيب الحيوان جاز أن تقول له: ارحمه، ولا تقول له: اغفر له. فهذا مما اختصَّت به الرحمة دون المغفرة.

 

وأمَّا المغفرةُ والغَفْرُ فأصلهما التغطيةُ والسترُ، وغَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها، والغَفُورُ والغَفّارُ جلّ ثناؤه وهما من أَبنية المبالغة، ومعناهما: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم.

 

فإطلاق الرحمةِ يناسب دار الدُّنيا، وإطلاق المغفرة يناسب الدار الآخرة. وإطلاق الرحمة يناسب عموم الخلائق، وإطلاق المغفرة يناسب المؤمنين من الـمُكلَّفين.

 

والآن؛ تعالَ معي ننظر في الآيتين الكريمتين ونتدبَّرهما:

يقول تعالى في الآية الأولى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1].

 

وقد أشار جماعةٌ من المفسرين إلى أنَّ قوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ هو الحمد في الدنيا، ثمّ عطف عليه الحمد في الآخرة فقال جلَّ ذكره: ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ﴾.

 

يقول الزمخشريُّ: «ما في السماوات والأرض كلُّه نعمةٌ من الله، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثم وصف ذاتَه بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنَّه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الذي كساك وحَمَلك، تريد: احمده على كسوته وحملانه. ولما قال: ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ﴾؛ عُلِمَ أنه المحمود على نعم الآخرة، وهو الثواب»[35].

 

وقال الشيخ الهرريُّ: «والمراد [الحمد] على نعمه الدنيوية؛ فإنَّ السماوات والأرض وما فيهما خُلقَتْ لانتفاعنا، فكلُّها نعمة لنا دينًا ودُنيا، فاكتفى بذكر كَوْن المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضًا فيها. وقد صرح في موضع آخر، كما قال: ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾ [القصص: 70]»[36].

 

وقال: «ولما بيَّن أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختصٌّ به بيَّن أنَّ الحمد الأخرويَّ مختصٌّ له كذلك؛ فقال: ﴿ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ﴾ [سبأ: 1]؛ فهو بيانٌ لاختصاص الحمد الأخرويِّ به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به»[37].

 

ويُستأنسُ لهذا القولِ بأنَّ العطف إن حُمِلَ على المغايرةِ كانت الأُولى أقربَ ما يُغاير الآخرة، وفي تقييد محلِّ الحمد الثاني بالآخرة إيذانٌ بأنَّ محلَّ الأوَّل الدنيا، ويُستأنس له بأنَّ السماواتِ والأرضَ المعهوداتِ يُبدلُ بهنَّ غيرهُنَّ يوم القيامة؛ كما دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ﴾ [إبراهيم: 48]، وذلك اليوم هو أول منازل الآخرة. فصار الحمدُ الأوَّل في الدنيا، والحمد الثاني في الآخرة.

 

ومن الحمدِ في الآخرة حمدُ أهل الجنَّة؛ يقول البغويُّ: «وقيل: الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ﴾ [فاطر: 34]، وقوله: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ﴾ [الزمر: 74]»[38].

 

ويجوز على هذا المعنى أن يكون في الآيةِ احتباكٌ، فيكون تقدير الكلام: الحمد لله الذي له ما السموات وما في الأرض... في الدنيا، وله ما في الآخرة وله الحمد فيها، فأثبت في كلٍّ منهما ما حذفه في الآخر[39].

 

ويكون معنى الآية على هذا الوجه: الحمد لله في الدنيا على نعمه الظاهرة والباطنة في السموات وفي الأرض، فيها قوام الخلائق وبها معاشهم، كما له الحمدُ في الآخرة على ثوابه، وصدق وعده لأوليائه المؤمنين، بإدخالهم الجنة يتبوؤون منها حيث يشاءون، قد أذهب عنهم الحَزَنَ؛ فلا يمسُّهم فيها نصب ولا لغوب.

 

ثمَّ يقول في الآية الثانية: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ [سبأ: 2].

 

يعلمُ ما يلج في الأرض من حبٍّ وبذرٍ وماءٍ أنزله بِقدَرٍ فسلكه ينابيع في الأرض، فأخرج به نبات كلِّ شيءٍ؛ مما يأكل الناس والأنعام؛ متاعًا ورحمةً بجميع عباده مؤمنهم وكافرهم، ورحمةً بالمخلوقاتِ أنعامها وطيرها ودوابِّها؛ على اختلاف أجناسها وألوانها.

 

والآن، عش هذا المنظرَ البديع بعينِ قلبك: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الروم: 48 - 50]، وثنِّ بهذا: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28].

 

إنَّه لأثرٌ من آثار رحمةِ الله بمخلوقاته في الدنيا، لا يفرِّقُ الغيث بين كائنٍ وآخرَ؛ فبينا هم مُبلسونَ قد قنطوا إذ يُغاثونَ غيثًا عاجله في كلِّ فمٍ منه صابٌ ورضابٌ، وآجله على كلِّ أرضٍ منه صِبغٌ وخضاب.

 

والذي يعرجُ في السماء الملائكةُ الذي يتعاقبون في بني آدمَ، ويعرج فيها أرواح الموتى، ويعرجُ فيها دعاء العبادِ وأعمالهم؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10].

 

قال الرازي: «قال: ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2] ولم يقل: (يعرج إليها) إشارةٌ إلى قبول الأعمال الصالحة، ومرتبة النفوس الزكية، وهذا لأنَّ كلمة (إلى) للغاية، فلو قال: (وما يعرج إليها)؛ لفُهِمَ الوقوفُ عند السموات؛ فقال: ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2] ليُفهم نفوذُها فيها، وصعودها منها، ولهذا قال في الكلم الطيب: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10]؛ لأنَّ الله هو المنتهى، ولا مرتبة فوق الوصول إليه، وأما السماء فهي دُنيا، وفوقها المنتهى»[40].

 

وقبول الأعمال يقتضي المغفرة لأصحابها، فالعمل إما أن يكون صالحًا فيُغفر للعبد بسببه، وإمَّا سيئًا فيُستر على صاحبه، وكم من عاصٍ مستور، ولولا ستر الله السابغُ الـمرخيُّ عليه لفُضِح على رءوس الأشهاد، نسأل الله الستر والمغفرة.

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجل يُدني منه المؤمنَ فيضعُ عليه كنفه ويستره من الناس، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك؛ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى كتاب حسناته، قال: وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين»[41].

 

فبدأ سبحانه وتعالى الآية الأولى بالإشارة إلى الحمد في الدنيا، وهو حمدٌ على النِّعم الدنيوية التي تنالُ المؤمنَ والكافرَ والبرَّ والفاجرَ، ثمَّ ثنَّى بالإشارة إلى الحمد في الآخرة، وهو حمدُ أصحابِ الجنَّة ربَّهم على ما آل إليه حالهم من نعيم مقيمٍ بسبب مغفرة الله لهم؛ فهو غفر الذنوبَ، وستر العيوب بمحضِ فضله ومَنِّه، وإلا فما كان لأحدٍ أن يدخل الجنَّة بعَمَلِه، ولو كان نبيًّا مُرسلًا.

 

ثمَّ بدأ سبحانه وتعالى الآية الثانية بالإشارة إلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء، وهذا كلُّه مما يتقلَّبُ فيه المؤمنُ والكافرُ والبرُّ والفاجرُ برحمة الله وعطفه ورأفته بعباده، ثمَّ أشار - سبحانه وتعالى - إلى ما يعرج في السماء من أعمال العباد كنايةً عن قبولها صالحها وهو من أسباب الرحمة والمغفرة، وسيئها قد ستره الله على صاحبه.

 

وقد ألمح الرازي إلى شيء من ذلك بقوله: «وهو الرحيم الغفور: رحيمٌ بالإنزال؛ حيث ينزل الرزق من السماء، غفورٌ عندما تعرج إليه الأرواح والأعمال، فرحم أولًا بالإنزال، وغفر ثانيًا عند العروج»[42].

 

فأنت ترى في الآيتينِ تقدُّمَ ما اختصَّت به الرحمةُ من معنى العطف والرأفة، ومن كونها عامَّة في المخلوقات، على ما اختصَّت به المغفرة من معنى الستر، على ما فيها من خُصوصٍ، فجاء اسم (الرحيم) أوَّلًا قبل اسم (الغفور).

 

وفيه من التناسب ما يستقيم معه أن يكون من بديع اللفِّ والنشرِ ولطيفِه، والله تعالى أعلمُ.



[1] الإيضاح في علوم البلاغة (ص268)، وانظر الإتقان في علوم القرآن؛ طبعة مجمع الملك فهد (5/1769)

[2] ذكر المقري في نفح الطيب (5/273)؛ عن جدِّه أبي عبد الله محمد بن محمد المقري التلمساني أنه أنشد هذين البيتين محمد بن إبراهيم الآبلي التلمساني قال: فاستعادني حتى عجبتُ منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله له، وظننتُ أنه أُعجب بما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانيًا فيه، فقال: أظننتُ أني أستحسنتُ الشعر؟ فقلت: مثلك يستحسن مثل هذا الشعر. فقال: إنما تعرفتُ منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤون على المقابر، فإنني كنتُ أرى ذلك حديث العهد، فاستفدتُّ التاريخ.

[3] ينظر: الإتقان (5/1770)، التحرير والتنوير (30/401-404).

[4] الإتقان: (5/1769).

[5] هناك رسالة ماجستير بكلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود؛ بعنوان: بلاغة اللف والنشر في النظم القرآني، للباحث عطا الله بن جضعان العنزي، تتبَّع فيها مواضع اللف والنشر بأنواعه في القرآن الكريم كاملًا، غير أنَّ الناظر المتأمِّل يستطيع استدراك مواضع كثيرة لم يذكرها الباحث؛ بل لم تتطرَّق إليها كتبُ التفسير.

[6] ينظر: الإتقان (5/1814-1816)، ولمسات بيانية في نصوص من التنزيل (ص 73-82).

[7] نظم الدرر (10/262-263).

[8] التحرير والتنوير (23/369).

[9] التحرير والتنوير (27/ 120).

[10] التحرير والتنوير (26/ 119).

[11] الإيضاح (ص 261).

[12] ينظر: مدارك التزيل وحقائق التأويل = تفسير النسفي (1/329).

[13] ينظر: التحرير والتنوير (2/491).

[14] ينظر: الكشاف (1/472-473).

[15] ينظر: التحرير والتنوير (2/491).

[16] لباب التأويل = تفسير الخازن (3/333).

[17] مدارك التزيل = تفسير النسفي (3/826).

[18] ينظر: البحر المحيط (7/43).

[19] ينظر: البحر المحيط (7/44).

[20] ينظر: التحرير والتوير (19/206).

[21] جامع البيان (17/671)، معالم التنزيل (6/135)، الدر المنثور (11/318).

[22] ينظر: الكشاف (4/223).

[23] عزاه في الدر المنثور (11/318) إلى عبد بن حميد وابن أبي شيبة.

[24] ينظر: الكشاف (4/223)، والبحر المحيط (7/45).

[25] رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

[26] رواه أحمد والحاكم وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (ح5939)، وفي شرح العقيدة الطحاوية (ح768)، وانظر السلسلة الصحيحة (ح3386).

[27] أخرجه البزّار في مسنده وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (ح3387).

[28] رواه مسلم وغيره.

[29] رواه الطبراني في الكبير وصححه الألبانيُّ في صحيح الجامع (ح 5435).

[30] نتائج الفكر في النحو (ص 212-213)، ونقله ابن القيم في البدائع، والزركشيُّ بمعناه في البرهان (ص 780-781).

[31] التعبير القرآني (ص57).

[32] بدائع الفوائد (1/138-140)؛ طبعة المجمع.

[33] من أسرار البيان القرآني (ص 138-139).

[34] ينظر: معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب؛ مادة (ر ح م)، ومادة (غ ف ر).

[35] الكشاف (5/105). وانظر: تفسير الرازي (25/ 191)، وتفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم (7/120)، وروح المعاني (22/103).

[36] حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (23/180)

[37] حدائق الروح والريحان (23/181).

[38] معالم التزيل = تفسير البغوي (6/385).

[39] روح المعاني (22/103).

[40] تفسير الرازي (25/191).

[41] متفق عليه.

[42] تفسير الرازي (25/192).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • شرح بعض الأسماء الحسنى (1)
  • اقتران الأسماء الحسنى في أواخر الآيات من سورة البقرة حصرها، معانيها، مناسباتها
  • تعريف الأسماء الحسنى وما الفرق بين الاسم والوصف والفعل؟
  • كشف الغطاء عما في كتاب: " أسماء حسنى غير الأسماء الحسنى" من الأخطاء "
  • متى حل المقت الإلهي؟!
  • منهج فهم معاني الأسماء الحسنى والتعبد بها (1)
  • اللف والنشر

مختارات من الشبكة

  • مخطوطة الإظهار البديع على المدخل في المعاني والبيان والبديع(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • القول البديع في علم البديع (8/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (7/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (6/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (5/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (4/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (3/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (2/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • القول البديع في علم البديع (1/8)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • إسهامات المستشرقين في نشر التراث العربي الإسلامي: دراسة تحليلية ونماذج من التحقيق والنشر والترجمة (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب