آداب السفر (12)

آداب السفر (12)

(54) التعجيل بالرجوع:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السَّفر قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدَكم طعامَه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نَهمتَه من وجهه فليعجِّل إلى أهلِه))[1].

• ومعنى ((نهمته))؛ أي: حاجتَه ومقصوده، فيسن للإنسان الرجوعُ إلى بلدِه بعد قضاء حاجته وغرضه من سفرِه.

(55) إحضار الهدايا للأهل:

وهذا مما استحبَّه العلماءُ واستحسنوه؛ لأنَّ فيه إدخال السرور على الأهل، وقد ورد في الحديث: ((أحبُّ الأعمالِ إلى الله - عز وجل - سرورٌ يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دَيْنًا))[2].

لكن الأحاديث الواردة في ذكر الهدية على وجهِ الخصوص في السَّفرِ لا تصحُّ، كما سيأتي.

(56) لا يطرق أهلَه ليلاً:

أي لا يقدَمُ عليهم ليلاً يفجأهم بقدومِه، بل السنَّةُ أن يقدمَ عليهم أولَ النهار أو آخره؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطرقُ أهلَه ليلاً، وكان يأتيهم غدوةً وعشية"[3].

وقد بينت الأحاديثُ العلةَ من ذلك؛ فعن جابر - رضي الله عنه -: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يطرقَ الرَّجلُ أهلَه ليلاً حتى تمتشطَ الشعثَة، وتستحدَّ الْمُغِيبة"[4].

• و"الشعثة": التي تفرَّق شعر رأسِها، و "تستحدَّ" أي: تزيل شعرَ العانَة، و "المُغِيبة" - بضم الميم وكسر الغين - التي غاب زوجُها.

قلت: وحيث إنَّ الحكمَ يدور مع العلةِ وجودًا وعدمًا، فإنه إذا أمكنَ إخبارُ الأهلِ بوقت قدومِه فإنه يجوزُ الطروقُ ليلاً لزوالِ العلة.

ونحن في هذا الزَّمان - والحمد لله - قد تيسرت لنا وسائلُ التخاطبِ عبر الهاتف، مما يعينُ على تعريفِ وإخبار أهله بوقتِ قدومِه، ولله الحمد والمنة، فلا بأسَ إذًا - بعد إعلامِهم - أن يقدمَ عليهم ولو كان ذلك ليلاً، والله أعلم.

(57) وليخبر أهله برجوعه:

أي إنه إذا قربَ من وصولِه إلى بيته، فيستحبُّ إرسال من يخبرهم بقدومِه.

قال النووي - رحمه الله -: "ويستحبُّ إذا قرب من وطنِه أن يبعثَ إلى أهله مَن يخبرهم لئلا يقدمَ بغتة، فإن كان في قافلةٍ كبيرة واشتهر عند أهلِ البلد وصولهم ووقت دخولهم، كفاه ذلك عن إرسالِه معينًا"[5].

فعن جابر - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِه وهم راجعون من سفر: ((... امهلوا حتى تدخلوا ليلاً - أي: عشاء - حتى تمتشطَ الشعثة، وتستحد المغيبة))[6].

(58) استقبال المسافر:

يسنُّ للأقاربِ والأصحاب تلقي المسافرين وأن يُخرجوا معهم الأطفالَ لاستقبالِهم؛ لحديث ابنِ عباس - رضي الله عنهما -: "أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم من سفرٍ، فاستقبله أُغيلمةُ بني عبدالمطلب، فجعل واحدًا بين يديه وآخر خلفه"[7].

وعن عبدالله بن جعفر - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفرٍ تُلقِّي بصبيانِ أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسُبِق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحدِ ابني فاطمة فأردَفَهُ خلفَه، فدخلنا المدينةَ ثلاثة على دابة"[8].

(59) الإسراع بالسَّير إذا رأى قريته:

قال النووي - رحمه الله -: "السنةُ أن يسرعَ السير إذا وقع بصرُه على جدرانِ قريته؛ لحديث أنسٍ - رضي الله عنه -: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفرٍ فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلتَه، وإن كان على دابة حرَّكَها من حُبِّهَا"[9] [10].

قلت: ولعلَّ هذا الحكمَ يكون خاصًّا بالمدينةِ لشرفِها، ويقاس عليها مكة بلا شك، والله أعلم.

(60) وتجوز المعانقة للقادم من السَّفر:

اعلم - رحمك الله - أنَّ الأصلَ عند لقاءِ الإنسان بآخر أنه لا تجوزُ المعانقة ولا التقبيل، ولكن السنَّة المصافحة فقط؛ لِما في حديثِ أنس - رضي الله عنه - قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منَّا يلقى أخاه أو صديقًا، أينحني له؟ قال: ((لا))، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: ((نعم))[11].

لكن تجوز المعانقة - دون التقبيل - للمسافرِ عند عودتِه؛ لِما ثبت في الحديثِ عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تلاقَوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا"[12].

(61) ويدعو بدعاءِ دخول القرية:

وقد تقدَّم ذلك، انظر الأدب رقم (29، 33).

(62) وليبدأ بدخولِ المسجد ويصلي ركعتين:

فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه -: "أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجدِ فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس"[13].

وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: بعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا في سفر، فلما أتينا المدينةَ، قال: ((ائتِ المسجدَ فصلِّ ركعتين))[14].

قال النووي - رحمه الله -: "فإن كان القادمُ مشهورًا يقصدُه الناسُ، استحب أن يقعدَ في المسجد، أو في مكانٍ بارز؛ ليكون أسهل عليه وعلى قاصديه، وإن كان غيرَ مشهور ولا يُقصد، ذهب إلى بيتِه بعد صلاتِه الركعتين في المسجد"[15]، ويطلق الإمام النووي - رحمه الله - على هاتين الركعتين: أنها بنيَّةِ صلاةِ القدوم[16].

ونقل عنه الحافظُ قولَه: "هذه الصلاةُ مقصودة للقدومِ من السَّفر، وينوي بها صلاةَ القدوم، لا أنَّها تحية المسجد التي أمر الداخل فيها قبل أن يجلس، لكن تحصلُ التحية بها"[17].

(63) يدخل بيته من بابه لا من ظهره:

لحديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "كان الأنصارُ إذا حجُّوا فجاؤوا لا يدخلون من أبوابِ بيوتهم، ولكن من ظهورِها، فجاء رجلٌ من الأنصارِ فدخل من قِبَل بابه، وكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت هذه الآية: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة: 189]"[18].

(64) ويستحب الدُّعاء للقادمِ من الغزو:

فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: "كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزو، فلمَّا دخلَ استقبلتُه فقلتُ: الحمدُ لله الذي نصرَكَ وأعزَّكَ وأكرمك"[19].

قلت: وقد وردت أحاديثُ في الدُّعاءِ للقادمِ من الحجِّ والاستغفار له، لكنَّها ضعيفةٌ لا تصح.

ولا يعني ذلك أنَّنا لا ندعو له، بل ذلك من حسنِ الاستقبال بأن ندعوَ لجميعِ العائدين من سفرِهم، ونحمد الله على عودتِهم، فإنَّ هذه نعمةٌ تستوجبُ حمدَ الله - عزَّ وجلَّ.

(65) صنع الطعام للناس:

وتسمَّى "النقيعة"، وهو الطعامُ إذا عادَ من السَّفر؛ سواء صنعه المسافرُ للنَّاسِ أو صنعه غيرُه له: "قيل اشتق من النَّقعِ، وهو الغبار؛ لأنَّ المسافرَ يأتي وعليه غبارُ السَّفر، وقيل النقيعة من اللَّبنِ إذا برد"[20].

ومما يستدلُّ به لهذا: حديث جابر - رضي الله عنه -: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينةَ من سفرِه نحر جزورًا أو بقرة"[21].

وكان ابنُ عمر - رضي الله عنهما - إذا قدم من سفرٍ يفطرُ ولا يصوم لأجل من يغشاه للسَّلامِ عليه والتهنئة بالقدوم، ثم يصوم[22].