• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    آية المحنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    توزيع الزكاة ومعنى "في سبيل الله" في ضوء القرآن ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    النبي عيسى عليه السلام في سورة الصف: فائدة من ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أحكام شهر ذي القعدة
    د. فهد بن ابراهيم الجمعة
  •  
    خطبة: كيف نغرس حب السيرة في قلوب الشباب؟ (خطبة)
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    من صيام التطوع: صوم يوم العيدين
    د. عبدالرحمن أبو موسى
  •  
    حقوق الوالدين
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تفسير سورة الكوثر
    يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
  •  
    من مائدة العقيدة: شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    الليلة الثلاثون: النعيم الدائم (3)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    العلم والمعرفة في الإسلام: واجب ديني وأثر حضاري
    محمد أبو عطية
  •  
    حكم إمامة الذي يلحن في الفاتحة
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / أخلاق ودعوة
علامة باركود

لعلكم تتقون

الشيخ عبدالعزيز رجب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 21/8/2010 ميلادي - 11/9/1431 هجري

الزيارات: 81917

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

لعلكم تتقون

 

الحمد لله الذي فرَض على عِباده الصيام والقِيام في رَمضان، وأظلَّهم فيه بلَيْلَةٍ هي خيرٌ من ألف شهر على مَرِّ الزمان، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له فضَّلَنا بشهْر رمضان، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أعلَمَنا أنَّ في رمضان تُفتَّح أبواب الجِنان، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه الكرام ومَن تبِعَهم بإحسان.

 

وبعدُ:

فعندما فرَض الله - عزَّ وجلَّ - علينا الصيام كان لحِكَمٍ تشريعيَّة حكيمة، ومقاصدَ ربانيَّة عالية، ومن أهمِّ المقاصد والحِكَم التي من أجلها شُرِع الصيام هي أنْ يخرج المسلم من شهر الصيام وهو من المتَّقِين؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

 

فما هي التقوى؟ وما هي أهميَّتها وفوائدها؟ وكيف يُوصل الصيام للتقوى؟ وما هي الوسائل العمليَّة لتَحصِيل التقوى؟ هذا ما سنتعرَّف عليه من خِلال هذا الموضوع - بإذن الله ربِّ العالمين.

 

ما التقوى؟ وماذا نتَّقِي؟

التقوى هي: العُدَّة الوافية، والجُنَّة الواقية، في ظاهر التقوى شرفُ الدنيا، وفي باطنها شرفُ الآخِرة، سادة الناس في الدنيا الأسخِياء، وفي الآخِرة الأتقياء.

 

التقوى وصيَّة الله لعباده؛ حيث قال: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء: 131].

ووصيَّة الله للمؤمنين خاصَّة؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

ووصيَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أمَّته؛ عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ))[1].

 

ووصيَّة الصحابة - رضي الله عنهم - لأبنائهم؛ عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه كتَب إلى ابنه عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أمَّا بعدُ، فإنِّي أُوصِيك بتَقوَى الله؛ فإنَّه مَن اتَّقَى الله وَقاه، ومَن توكَّل عليه كَفاه، ومَن أقرَضَه جَزاه، ومَن شكَرَه زادَه، ولتكن التقوى نصبَ عينَيْك، وعماد عملك، وجلاء قلبك، فإنَّه لا عمل لِمَن لا نيَّة له، ولا أجر لِمَن لا حسبة له، ولا مال لِمَن لا رِفْق له، ولا جديد لِمَن لا خلق له"[2].

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقَناعة بالقليل، والاستِعداد للرحيل.

 

التقوى: طاعة الله وعدم معصيته؛ فعن عاصمٍ قال: قلنا لطلق بن حبيب: صِفْ لنا التقوى؟ فقال: التقوى عملٌ بطاعة الله، رجاءَ رحمةِ الله، على نورٍ من الله، وترك معصية الله، مخافةَ الله، على نورٍ من الله[3].

 

التقوى هي:

مثل رجلٍ أصابَ جوهرةً نفيسة قيمتها بيوت من الدنانير، أو ثوبًا قيمته ألف دينار، أو جارية لها ثمنٌ غالٍ شخصت إليها الأبصار منظرًا ومخبرًا، أو صرَّة مسك ذكي الريح، أو بازي طير أبيض تام الجثَّة، مقدار الدرهم التام أهداه إليه ملكٌ عادل.

 

فأنت تُبقِي على الجوهرة مَخافةَ السُّرَّاق، ولا تعرضها إلا على مَن عنده من فنون الأموال مخافَةَ أنْ يدلِّسها فيقبض منه الجوهرة ويُبدلها بالزجاج شبهة ولا يعرف هو الجوهر من الزجاج، فهي عندك مكنونةٌ في اللفائف والحقة والدرج، وتَقِيها من الغُبار ومن كلِّ آفةٍ ونحوها.

وكذا تتَّقِي على الثوب اتِّقاء مثله من اللفِّ والطيِّ، ووضعه في الصُّندوق، وربطه فيما بين اللوحين.

وتتَّقِي على صرَّة المسك فلا تفتَحها؛ لئلاَّ يذهب ريحها، ولا يصل إليها غدار فتعوض من كبد الضأن وغيره.

وتتَّقِي على الجارية فتحبسها وتصُونها وتُلبِسها لباسَ مثلِها، وتُطعِمها طعامَ مثلِها، وتمنَعها عن الخروج والبُرُوز؛ لئلاَّ يَطَّلِع عليها أحدٌ أو يحبَّها ظالم فيُخرِجها من يدك، ويَبقَى قلبك مُعلَّقًا بها مع الصُّراخ والعَوِيل.

وتتَّقِي على البازي من كلِّ آفةٍ؛ لئلاَّ ينكَسِر جناحُه فيعجز عن الطيران، وإنْ قصرت في بعض تربيته ومداراته لا يألف ويترك الإلف ويطير ويتركك خاليًا فلا تراه أبدًا.

 

فانظُر كيف تتَّقِي على الأشياء؟ وكيف حذرُك وحراستُك لهذه الأشياء، وتلطُّفك بها وصيانتك لما تَخاف عليهم من الآفات، وضيَّعتَ حِراسة أعظم الأشياء قدرًا، وأنفسها خطرًا، وهو مُخُّ التقوى؟ فقد عظمت حجَّة الله عليك؛ لأنَّ هذا القلب خِزانة الله - تعالى - وضَع فيها جوهرًا نفيسًا لا يُحاط بمبلغ ثمنه، وهي المعرفة.

 

فإنْ نظرت إلى نفاستها وقدرِها لم تقدر أنْ تُحِيط بثمنها علمًا، ولا ائتمنتَ عليها أحدًا فيُدنِّسها، وإذا نظَرتَ إلى بَهائِها ونُورِها اتَّقيت عليها من كلِّ دُخانٍ من الشهوات لئلاَّ يلج الخزانة فيدنسها، وإنْ نظرت إلى رقَّتِها اتَّقيت عليها من كلِّ صدمة من قبل النفس أن تصدمها، وإنْ نظرت إلى طيب ريحها اتَّقيت عليها من كلِّ شيء من المعاصي.

 

فمَنَّ الله - تعالى - على الموحِّدين بمنَّةٍ عظيمة؛ أنْ أعطاهم نورَ الهداية حتى وجَدُوه ونطَقُوا بكلمة الشهادة، وأمَرَهم بأنْ يتَّقُوه على ما أعطاهم؛ وهو النور الذي أشرَقَ في قلوبهم، ثم من قلوبهم إلى صدورهم، فيجعَلُونه في وقاية الحراسة؛ لئلاَّ يَصِلَ إليه ما ليس له بأهلٍ، فإنَّ المعرفة قد أُيِّدت بالعقل والعلم والفهْم والفِطنة والحفْظ والذكر والذهن.

 

فهذه الأشياء حولها قطَع الله بذلك ألسنة الآدميِّين عن نفسه؛ لئلاَّ يكون لأحدٍ عليه حُجَّة لإتيان مَعاصِيه أو سوء ما يَأتِيه، فبِقُوَّة هذه الأشياء يحرس معرفته، ويَذُبُّ عنها مكرَ النفس ودَواهِيها وكيْد العدو؛ حتى تصير المعرفة في وقايةٍ منها[4].

 

وماذا نتَّقي؟

نتَّقِي عِقابَ الله، وغضبَ الله، وسخَط الله، وضَياع الآخرة، نتَّقي غضب الله بالعمل وفْق مرضاته.

 

فإذا كنتَ في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يَراك أحدٌ، وأنت صائمٌ، وبجوارك الطعام الشهي، والماء العذب، وأنت جائعٌ عطشان، فلا تَقرَب الطعام ولا الشراب؛ مخافةَ الله - عزَّ وجلَّ - فهذه هي التقوى.

 

التقوى كما قال عمر بن عبدالعزيز: "ليست بقيام الليل أو بصيام النهار، ولكن تقوى الله ترك ما حرَّم الله، وأداء ما افتَرَض الله"[5].

 

فعمر بن عبدالعزيز الذي عرَّف لنا التقوى بهذا المفهوم، كان من سيرته أنْ سأل زوجته فاطمة يومًا أنْ تُقرِضه درهمًا يشتَرِي به عنبًا، فلم يجد عندها شيئًا، وقالَتْ له: أنت أمير المؤمنين وليس في خِزانتك ما تشتَرِي به عِنَبًا؟ فقال: هذا أيسَرُ من معالجة الأغلال في نار جهنَّم[6].

 

وقال لمولاه مُزاحِم ذاتَ يوم: إنِّي قد اشتَهيتُ الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر دينارًا، قال: وما تقع منِّي؟ ثم مكَث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين، تجهَّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف دينار من بعض مال بني مروان، قال: اجعَلْها في بيت المال؛ فإنْ تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يَكفِينا، وإنْ تكن حرامًا فكفانا ما أصابنا منها، قال مزاحم: فلمَّا رأى عمر ثقل ذلك عليَّ، قال: ويْحك يا مزاحم! لا يكثرنَّ عليك شيء وضعته لله، فإنَّ لي نفسًا توَّاقَة لم تَتُق إلى منزلةٍ فنالَتْها إلا تاقَتْ إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغتُ اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقَتْ إلى الجنة[7].

 

ولَمَّا حضرَتْ عمرَ بن عبدالعزيز الوفاةُ دخَل عليه مَسلَمة بن عبدالملك فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّك قد أفغَرتَ أفواه ولدك من هذا المال، فلو أوصَيْتَ بهم إليَّ وإلى نُظَرائي من قومِك فكفوك مَؤُونتهم، فلمَّا سمع مقالته قال: أجلِسُوني، فأجلَسُوه، فقال: قد سمعت مقالَتَك يا مسلمة، أمَّا قولك: إني قد أفغَرتُ أفواه ولدي من هذا المال، فوالله ما ظلمتُهم حقًّا هو لهم، ولم أكن لأعطيهم شيئًا لغيرهم، وأمَّا ما قلت في الوصيَّة، فإنَّ وصيَّتي فيهم: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]، وإنَّما ولد عمر بين أحد رجلَيْن: إمَّا صالح فسيُغنِيه الله، وإمَّا غير ذلك فلن أكون أوَّل مَن أعانه بالمال على معصية الله، ادعُ لي بَنيَّ، فأتَوْه، فلمَّا رآهُم ترَقرَقتْ عَيْناه وقال: بنفسي فتية تركتهم عالةً لا شيءَ لهم، وبكى وقال: يا بني، إنِّي قد تركتُ لكم خيرًا كثيرًا، لا تمرُّون بأحدٍ من المسلمين وأهل ذمَّتِهم إلا رأَوْا لكم حَقًّا، يا بني، إنِّي قد مثلت بين الأمرين: إمَّا أنْ تستغنوا وأدخُل النار، أو تفتَقِروا إلى آخِر يوم الأبد وأدخُل الجنَّة، فأرى أنْ تفتَقِروا إلى ذلك أحب إلَيَّ، قومُوا عصَمَكم الله، قوموا رزَقَكم الله[8].

 

لَمَّا احتضر عمر بن عبدالعزيز قالت فاطمةُ بنت عبدالملك زوجتُه: كنت أسمع عمر يقول في أيَّام مرضه: اللهمَّ أخفِ عنهم موتي ولو ساعةً من نهار، فلمَّا كان اليوم الذي قُبِضَ فيه خرجتُ من عنده، وجلستُ في بيتٍ بيني وبينه باب، فسمِعتُه يقول: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]، ثم هدأ فجعلتُ لا أسمع له صوتًا ولا حِسًّا ولا كلامًا، فقلت لوصيفٍ كان يخدمه: لو دخَلتَ على أمير المؤمنين، فدخَل وصاح، فقُمتُ ودخلت عليه وقد أَقبَل بوجهه إلى القبلة، وأغمَضَ عينَيْه بإحدى يدَيْه وأغمَضَ فمه بالأخرى، ومات - رحمه الله.

 

وجاء في روايةٍ: أنَّ عمر بن عبدالعزيز لَمَّا كان مرضه الذي هلَك فيه، قال لهم: أَجلِسوني، فأجلَسُوه، ثم قال: أنا الذي أمرتَنِي فقصَّرت، ونهيتَنِي فعصَيْت، ولكنْ لا إله إلا الله، ثم رفَع رأسه وأَحَدَّ النظر، فقالوا له: إنَّك لتَنظُر نظَرًا شديدًا، فقال: إنِّي لأرى حضرةً ليست بإنسٍ ولا جِنٍّ، ثم قُبِض، وكان نقْش خاتمه: عمر بن عبدالعزيز يُؤمِن بالله[9].

 

درجات التقوى خمس:

قال ابن جزي: درجات التقوى خمس:

1- أنْ يتَّقِي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام.

2- وأنْ يتَّقي المعاصي والحرمات، وهو مقام التوبة.

3- وأنْ يتَّقي الشبهات، وهو مقام الوَرَع.

4- وأنْ يتَّقي المُباحات، وهو مَقام الزهد.

5- وأنْ يتَّقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة[10].

 

أهميَّة التقوى:

وللتقوى أهميَّة كبيرة في حياة المسلم سواء في حياته الدنيا أو بعد مماته:

1- لذلك أمَر الله عِبادَه المؤمنين أنْ يتزوَّدوا بها:

قال - تعالى -: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ
وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ مَا أَرَادَا
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي
وَتَقْوَى اللهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا

2- النصر والتمكين:

والنصر والتمكين لا يكون إلا للمتقين؛ قال - تعالى -: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].

 

3- دليلٌ على الإيمان:

قال - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57].

وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا))، وأشار بيده إلى صدره[11].

 

4- صلاح الحال وغفران الذنوب:

قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].

 

5- تحقيق محبَّة الله:

قال - تعالى -: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].

6- تحقيق ولاية الله:

قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 19].

 

7- تنزيل رحمة الله:

قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].

 

8- تكريم الله لا يكون إلا بها:

قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].

 

لَعَمرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلاَّ بِدِينِهِ
فَلاَ تَدَعِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبْ
فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ

 

فهي مُفاضَلة الخلق، وميزان تقويم البشر؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وكأنَّ التقوى في كلِّ شيء هي المثل الأعلى، وهي الغاية القُصوَى.

بل نجد في بعض الأشياء الأخرى: ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ [التوبة: 108].

إذا جئنا إلى بعض القربات أو الأعمال، قال - تعالى -: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37][12].

 

10- المساجد تُؤسَّس على التقوى:

شرْط المساجد - التي هي أفضل الأماكن - أنْ تُؤسَّس على التقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].

 

البيوت تُؤسَّس على التقوى:

وأمَّا صَلاحُ البيوت واستِمرارها هو أنْ تُؤسَّس على التقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109].

 

قال ابن الوردي:

وَاتَّقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا
جَاوَزَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلاَّ وَصَلْ
لَيْسَ مَنْ يَقْطَعُ طُرْقًا بَطَلاً
إِنَّمَا مَنْ يَتَّقِي اللهَ بَطَلْ

دعوة الرسل لعبادة الله وتحصيل التقوى:

ودعوة الرسل لأقوامهم مبنيَّة - بعد عِبادة الله - على التقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون: 32].

 

فهذا نوحٌ - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون: 23].

 

وهذا هود - عليه السلام - قال - تعالى -: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65].

 

فوائد التقوى:

ومن فوائد وثمرات ما أعَدَّه الله - عزَّ وجلَّ - للمتَّقِين:

1- الاستِقبال الحافل يوم القيامة: قال - تعالى -: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85].

وعن عليٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال في قوله - تعالى -: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85] قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمَا والله ما يُحشَرون على أقدامهم، ولا يُساقُون سوقًا، ولكنَّهم يُؤتَوْن بِنُوقٍ من نُوق الجنَّة، لم ينظر الخلائق إلى مِثلِها، رحالها الذهب، وأزِمَّتُها الزبرجد، فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة))[13].

قال - تعالى -: ﴿ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 49].

 

2- الجنَّة: وأمَّا أهل الجنَّة فهم المتَّقون، الذين اتَّقوا الله في دنياهم، فأنعَمَ الله عليهم في أُخراهم، وأدخَلَهم الجنَّة عرَّفَها لهم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30 - 31]، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الحجر: 45]... إلخ.

3- سيُجنَّب النار: قال - تعالى -: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴾ [الليل: 17].

4- الفلاح في الدنيا والآخِرة: قال - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].

5- تكفير السيِّئات: قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].

6- تحقيق مَعِيَّة الله: قال - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194].

 

7- تفريج الهموم: قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2 - 3].

 

واسمَع لهذه القصَّة التي جاءَتْ في الصحيح، وكيف أنَّ الإنسان إذا كان تقيًّا أخرَجَه الله من كلِّ مأزِق، وجعَلَ له من كلِّ هَمٍّ فَرَجًا.

عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بينما نفرٌ ثلاثة يَمشُون إذ أخَذَهم المطر فأووا إلى غارٍ في جبلٍ، فانحطَّتْ عليهم في غارِهم صخرةٌ من الجبل، فأطبقَتْ عليهم بعضَ الغار، فقال بعضُهم: انظُروا أعمالاً عملتُموها لله صالحةً فادعوه بها، فدعوا الله، فقال بعضهم: اللهمَّ إنَّه كان لي أبَوان شيخان كبيران وامرأة وصبيان، فكنت أرعى عليهم، فإذا رحتُ إليهم حلبت لهم، فبدأت بوالدي أسقيهما قبلَ بني، وإنَّه نَأَى بي الشجرُ فلم آتِ حتى أمسَيتُ فوجدتهما قد نامَا، فحلبتُ كما كنتُ أحلب، فجئتُ فقمتُ عند رؤوسهما أكرَه أنْ أوقظهما من نومهما، وأكرَه أنْ أبدَأ بالصبية قبلَهما، فجعَلوا يتضاغَوْن عند قدمي، فلم أزَل كذلك وكان دأبهم حتى طلَع الفجر، فإنْ كنتَ تعلَم أنِّي جعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُج عنَّا فرجةً نرى منها السماء، ففَرج الله لهم فرجةً، وقال الآخَر: اللهمَّ إنَّه كانت لي ابنة عمٍّ فأحبَبتُها كأشدِّ ما يحبُّ الرجالُ النساء، فطلبتُ إليها نفسَها فأبَتْ عليَّ حتى آتِيَها بمائة دينار، فسعيتُ حتى جمعتُ مائة دينار فجئتُها بها، فلمَّا قعَدت بين رجلَيْها قالت: يا عبد الله، اتَّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه، فقمتُ عنها، فإنْ كنتَ تعلم أنِّي فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج لنا فرجةً نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة، وقال الآخَر: اللهم إني استأجرت أجيرًا، فلمَّا قضى عملَه قال: أَعطِني حقِّي، فأَعرَضتُ عنه فترَكَه ورَغِب عنه، حتى اشتريت بقرًا ورعَيْتها له، فجاء بعد حينٍ فقال: اتَّقِ الله ولا تَظلِمني وأَعطِني حَقِّي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر وراعيها فخُذْه فهو لك، فقال: اتَّقِ الله ولا تستَهزِئ بي، فقلت: إنِّي لا أستَهزِئ بك، فخُذْ تلك البقر وراعيها، فأخَذَها وذهَب، فإنْ كنتَ تعلم إني فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرجها الله عنهم))[14].

 

يقول بعض العابِدين:

مَنْ عَامَلَ اللهَ بِتَقْوَاهُ
وَكَانَ فِي الْخَلْوَةِ يَرْعَاهُ
سَقَاهُ كَأْسًا مِنْ صَفَا حُبِّهِ
تَسْلِيَةً عَنْ لَذِّ دُنْيَاهُ
فَأَبْعَدَ الْخَلْقَ وَأَقْصَاهُمُ
وَانْفَرَدَ الْعَبْدُ بِمَوْلاَهُ

 

كيف يُوصل الصيام للتقوى؟

وهذا هو المقصد الرئيس للصيام؛ كما قال ربُّ العزَّة - جلَّ وعلا -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

 

ولكن كيف يُوصل الصيام للتقوى؟

لأنَّنا بالصيام نتَّقِي المعاصي والذنوب؛ لأنَّ امتِلاء البطْن بالطعام والشراب رأْس البَواعِث على الفَحشاء والمُنكَر، ومعلومٌ أنَّ الجائِع العَطشان لا يجد في نفسه من أَثَرِ الشهوات ما يجد المُمتَلِئ؛ ولذا قال إبراهيم بن أدهم: الجوع يرق القلب.

 

"وقد اختار صاحبُ الشريعة له هذا الشهر من العام أيامًا معدودات، وامتَحَن الناسَ في الصوم في ألصَقِ الشهوات بنفوسهم، وألزم الضروريَّات لحياتهم، وأعنَفِ الغرائز والعادات سلطانًا عليهم، فكَفَّهم عن الطعام والشراب وما إليهما أكثر يومهم، ولم يجعل عليهم في ذلك رقيبًا إلا أنفسهم، ومن إيمانهم باطِّلاع الله عليهم، وأيَّة رقابة أدق وأَوْفَى من هذه الرقابة؟ ولأمرٍ ما أشارت الآية الكريمة إلى ذلك في قول الله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]"[15].

 

ويقول العلامة ابن عاشور عن سبب خِتام آية الصيام الأولى بقوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾: بيانٌ لحكمة الصيام وما لأجله شرع، فهو في قوَّة المفعول لأجله، والتقوى الشرعيَّة هي اتِّقاء المعاصي، وإنما كان الصيام مُوجِبًا لاتِّقاء المعاصي؛ لأنَّه يعدل القوى الطبيعيَّة التي هي داعية تلك المعاصي؛ ليَرتَقِي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادَّة إلى أوْج العالم الرُّوحاني، فهو وسيلةٌ للارتِياض بالصفات الملكيَّة، والانتِفاض من غبار الكدرات الحيوانيَّة.

 

ولذلك رُوِي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصيام جُنَّة))[16]؛ أي: وقاية تُتَّقى به الآفات والمخاطر[17].

 

الصيام فرصة لتحقيق التقوى:

إنَّ الصيام فرصةٌ لتحقيق التقوى، وللتوبة إلى الله - عزَّ وجلَّ - وللإقلاع عن سائر الذنوب والمعاصي، ومَن لم يُفلِح في تغيير عاداته السيِّئة في رمضان فهو في غير رمضان أَوْلَى بالبُعْدِ.

 

هذا على نِطاق الفرد، خاصَّة وأنَّه يجد المجتمعَ كلَّه يساعده؛ فأنت إذا ذَهبتَ للمدرسة ووجدت الناسَ صائمين، وفي السوق صائمين، وفي الشارع أيضًا تجدهم صائمين، فالمجتمع كلُّه يُقوِّي عزيمتك، ويشدُّ أزرك؛ ولهذا لا يجد الصائم في رَمضان ألَمَ الصيام، ولكنَّه حين يصوم النفلَ يجد تعبًا ومشقَّة في ذلك الصيام؛ لأنَّه يصوم والناس مُفطِرون، وكذلك لو أفطَرَ الإنسان في رمضان لعُذْرٍ أو لمعصيةٍ، لم يجد للطعام في حلقه طعمًا، ولم يجد للماء مَساغًا - هذا إنْ كان مؤمنًا - لأنَّ نفسه وروحه تَكرَه ذلك، وتمقُتُه وتُبغِضه، فيَتَحوَّل الحلوُ إلى مُرٍّ علقمٍ.

 

ثم تقوى المجتمعات كلها، لعلَّكم تتَّقون في مجتمعاتكم أيضًا؛ ولهذا كان رمضان شهرًا ذا شخصيَّة مميَّزة في واقع المسلمين كلهم، فالغريب إذا دخَل مجتمعات المسلمين في شهر رمضان، يَشعُر أنَّ هناك أمرًا غير عادي، حتى أهل المعاصي والفجور، يُغلِقون حاناتهم ومَواخِيرهم، وأماكن فجورهم وفسادهم، ويتَّجِهون إلى المساجد طاعةً لله - عزَّ وجلَّ - وهذا مِصداق ما أخبَرَ به - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين))[18].

أي: وُضِعَتْ في السلاسل والأصفاد؛ فلا يَخْلُصون إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه قَبْلُ من الوَسوَسة للناس، وإغرائهم بالمعصية، ودعوتهم إلى الفُجُور.

 

يقول صاحب "الظلال":

"وهكذا تَبرُز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى، فالتقوى هي التي تستَيقِظ في القلوب وهي تُؤدِّي هذه الفريضة؛ طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمُخاطَبون بهذا القرآن يَعلَمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلَّع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ مُوصل إليها، ومن ثَمَّ يرفَعُها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجِهون إليه عن طريق الصيام: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾".

 

ويقول الرافعي:

فالصوم يتَّقِي المرء على نفسه أنْ يكون كالحيوان الذي شريعته معدته، وألاَّ يعامل الدنيا إلا بموادِّ هذه الشريعة، وبالصوم يتَّقِي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإنَّ ما بين يديه هو الحاضر من طِباعه وأخلاقه، وما خلفَه هو الجيل الذي سيَرِثُ من هذه الطِّباع والأخلاق، فيَعمَل بنفسه في الحاضر، ويَعمَل بالحاضر في الآتي.

 

ويقول الرازي في "تفسيره": أمَّا قوله - تعالى -: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ ففيه وجوه:

أحدها: أنَّه - سبحانه - بيَّن بهذا الكلام أنَّ الصوم يُورِث التقوى؛ لما فيه من انكِسار الشهوة وانقِماع الهوى، فإنَّه يردع عن الأَشَرِ والبَطَرِ والفَواحِش، ويُهوِّن لذَّات الدنيا ورِياستها؛ وذلك لأنَّ الصوم يَكسِر شهوةَ البطن والفرج، وإنما يَسعَى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر: المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه؛ فمَن أكثر من الصوم هانَ عليه أمر هذَيْن، وخفَّت عليه مؤنتهما، فكان ذلك رادِعًا له عن ارتِكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمرَ الرِّياسة في الدنيا، وذلك جامعٌ لأسباب التقوى؛ فيكون معنى الآية: فرضتُ عليكم الصيامَ لتكونوا به من المتَّقين الذين أثنَيْتُ عليهم في كتابي، وأعلَمتُ أنَّ هذا الكتاب هُدًى لهم، ولَمَّا اختصَّ الصوم بهذه الخاصيَّة حَسُنَ منه - تعالى - أنْ يقول عند إيجابها ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ منبهًا بذلك على وجه وجوبه؛ لأنَّ ما يمنع النفسَ عن المعاصي لا بُدَّ وأنْ يكون واجبًا.

 

وثانيها: المعنى: ينبغي لكم بالصوم أنْ يَقوَى رجاؤكم في التقوى، وهذا معنى (لَعَلَّ).

وثالثها: المعنى: لعلَّكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات، فإنَّ الشيء كلَّما كانت الرغبةُ فيه أكثَرَ كان الاتِّقاء عنه أشق، والرغبة في المطعوم والمنكوح أشدُّ من الرغبة في سائر الأشياء، فإذا سَهُلَ عليكم اتِّقاء الله بترْك المطعوم والمنكوح، كانَ اتِّقاء الله بترْك سائر الأشياء أسهل وأخف.

ورابعها: المراد ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] إهمالها وترْك المحافظة عليها؛ بسبب عظم درجاتها وأصالتها.

وخامسها: لعلكم تنتَظِمون بسبب هذه العبادة في زُمرَة المتَّقين؛ لأنَّ الصوم شِعارهم - والله أعلم[19].

 

وصْف المتقين وأعمالهم:

وأمَّا وصْف المتقين وأعمالهم، فإذا جِئنا إلى أوَّل المصحف لتَعرِيف المتَّقين نجد افتتاحيَّة الكتاب الكريم في أوَّل سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1 - 2] مَن هم أولئك المتقون؟ ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 3 - 4]، هذه صفة المؤمنين.

 

وإذا جئنا إلى موطنٍ آخَر: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

والمتقون هم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].

 

يقول علي بن محمد البسامي:

وَإِذَا بَحَثْتَ عَنِ التَّقِيِّ وَجَدْتَهُ
رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعَالِ
وَإِذَا اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ
فَيَدَاهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَفِعَالِ
وَعَلَى التَّقيِّ إِذَا تَرَاسَخَ فِي التُّقَى
تَاجَانِ: تَاجُ سَكِينَةٍ وَجَمَالِ
وَإِذَا تَنَاسَبَتِ الرِّجَالُ فَمَا أَرَى
نَسَبًا يَكُونُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ

 

بيوت المتَّقين:

عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ المساجد بيوتُ المتقين، ومَن كانت المساجد بيوته فقد ختَم الله له بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى الجنَّة))[20].

 

الوسائل المُعِينة على تحصيل التقوى:

وهذه هي بعضُ الوسائل العمليَّة المُعِينة على تحصيل التقوى:

1- التزيُّن بها:

قال - تعالى -: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].

 

يقول صاحب "الظلال":

"هناك تَلازمٌ بين شرْع الله اللباسَ لستْر العَوْرات والزينة وبين التقوى، كلاهما لباس؛ هذا يَستُر عورات القلب ويزينه، وذاك يَستُر عورات الجسم ويزينه، وهما مُتلازِمان، فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبَثِق الشعور باستِقباح عري الجسد والحياء منه، ومَن لا يستَحِيِ من الله ولا يتَّقِيه لا يهمَّه أنْ يتعرَّى وأنْ يدعو إلى العري، العري من الحياء والتقوى، والعري من اللباس وكشف السَّوْءَة!"[21].

 

وقال الإمام الطبري: "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضُهم: "لباس التقوى" هو الإيمان، وقال آخَرون: هو الحياء، وقيل: هو العمل الصالح، وقيل: هو السَّمْت الحسن، وقال آخَرون: هو خشية الله"[22].

 

2- العدل:

أي: إقامة العدل يُحقِّق التقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].

 

3- تعظيم شعائر الله:

فتعظيم شعائر الله يُؤدِّي إلى التقوى؛ مثل:

أ- الحج: قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

ب- الصيام: قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[البقرة: 183].

 

4- عبادة الله:

عبادة الله الحقَّة تُوصل للتقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

 

5- إقامة حدود الله وتحكيم شرعه: مثل:

أ- القصاص: قال - تعالى -: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179].

ب- الوصية: قال - تعالى -: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 180].

 

6- إتباع صراط الله المستقيم:

قال - تعالى -: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].

 

7- الوفاء بالعهد:

قال - تعالى -: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].

 

8- الجهاد:

قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 123].

 

9- يدع ما لا بأس به:

عن عطيَّة السعدي - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يبلغ العبد أنْ يَكون من المتَّقِين حتى يدع ما لا بَأس به؛ حذرًا لما به البأس))[23].

 

10- عدم تزكية النفس:

لأنَّ أولياء الله هم المؤمنون المتَّقون، ومن أعظم مَظاهِر التقوى فيهم عدمُ تزكية النفس؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]، فجَعَلَ العلم بالتقوى مَوكُولاً أو مِن خصائصه - سبحانه - جعَلَه مَوكُولاً إلى علمه - سبحانه وتعالى.

 

فإذًا صفة المؤمن التقي الذي هو وَلِيٌّ لله - عزَّ وجلَّ - أنَّه لا يُزَكِّي نفسه، فمَن زَكَّى نفسَه وقال: أنا تقي، أو أنا من أولياء الله ونحو ذلك، فهو حقيقٌ بالبُعْدِ عن استِحقاق هذا اللفظ؛ لأنَّ التواضُع لله - عزَّ وجلَّ - والذلَّ له، والخضوع له - سبحانه وتعالى - والخوف منه، والعلم بأنَّ العبد مهما عمل لن يَبْلُغَ التقوى، هذا يُوجب ألاَّ يُثنِي على نفسه بأنَّه وَلِيٌّ وأنَّه مُتَّقٍ ونحو ذلك.

 

11- نجعل خوف الله في قلوبنا:

قيل: إنَّ سفيان بن عُيَيْنَةَ وقَف على عبدالله بن مرزوق وقد جمَع بطحاء (صخرة) تحت رأسه، وتحت جنبه رمل يسفي عليه التراب، فقال له سفيان: يا أبا محمد، إنَّه مَن ترَك شيئًا من الدنيا عوَّضَه الله عليه في الدنيا، فما الذي عوَّضك ممَّا تركت؟ قال: الرضا بما أنا فيه الآن، قال: ورأى عبدالله بمكة فقيل له: راكِبًا جئتَ أم راجلاً؟ فقال: ما حق العبد العاصي أنْ يرجع إلى باب مَولاه راكِبًا، لو أمكنني جئت على رأسي[24].

 

قال صالح عبدالقدوس:

إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلاَ تَقُلْ
خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً
وَلاَ أَنَّ مَا تُخْفِي عَلَيْهِ يَغِيبُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ
وَأَنَّ غَدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ

 

12- الحذر من الوقوع في المعصية:

قال رجلٌ لأبي هريرة: ما التقوى؟ قال: أخذتَ طريقًا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنَعتَ؟ قال: إذا رأيتُ الشوك عدَلت عنه، أو جاوَزْتُه، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى[25].

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا
وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
كُنْ مِثْلَ مَاشٍ فَوْقَ أَرْ
ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً
إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

 

13- أنْ نتَّقِي الله في كلِّ مكان وزمان:

عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اتَّقِ الله حيثُما كنت، وأَتبِع السيِّئة الحسنة تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخلقٍ حسن))[26].

((حيث)) يقولون: إنها للمكان، وتكون للزمان، مثل: اجلس حيث جلَس فلانٌ، صَلِّ حيث ينتَهِي بك الصف.

 

كأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول ذلك لمعاذ مُشعِرًا إيَّاه وهو خارجٌ من المدينة ذاهِبًا إلى اليمن أنَّ تقوى الله ليسَتْ في المدينة فقط لنزول الوحي فيها، ولوجود الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وللقرب من المسجد النبوي، لا، بل حيثما كنت، وهذا التعميم من خَصائص التشريع في الإسلام، والتعميم هو: العموم والشمول، فإنْ كنتَ في أقصى العالم، وإذا ذهبتَ إلى القطب المتجمِّد الشمالي، وإذا طرت في مركبة فَضاء، وإذا نزَلتَ في غوَّاصةٍ تحت الماء، وإذا كنت في منجم تحت الأرض، وإذا كنت في أيِّ مكان، فاتَّقِِ الله حيثما كنت، لماذا؟ لأنَّ الله مُطَّلِع عليك أينما توجَّهت، وأنت إنما تَتعامَل مع الله؛ ولذا خرَج أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الأمصار ودعَوْا إلى الله، ولَمَّا كتب بعض السَّلَف إلى إخوانه في الشام: هلمَّ إلى الأرض المقدَّسة، قال: إنَّ الأرض لا تُقدِّس أهلها، ولكن يُقدِّسهم العمل.

((اتَّقِ الله حيثما كنت)): وأيضًا ((كيفما كنت))؛ أي: على أيَّة حالةٍ تكون فيها مع الناس يجب أنْ يكون مِعيارُك تقوى الله[27].

 

14- المسارعة إلى الله:

قال - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 133 - 136].

 

15- نتَّقي الله قدر المستطاع:

قال - تعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن: 16].

 

16- الذكر:

قال - تعالى -: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الفتح: 26].

 

وعن أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ [الفتح: 26] قال: لا إله إلا الله"[28].

وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر، وقال عطاء بن رباح: هي لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وقيل: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم[29].

 

17- الدعاء:

كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو الله أنْ يكون من المتقين، فكان سيِّد المتقين، ومن دعائه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما رُوِي عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اللهم إنِّي أسألك عيشةً تقيَّة، ومِيتَة سويَّة، ومَرَدًّا غير مُخزٍ ولا فاضحٍ، اللهم إني أسألك الهدى والتُّقَى والعفافَ والغِنَى))[30].

 

اللهمَّ اجعَل التقوى زادَنا، واجعَل الجنَّة مآبنا، وارزقنا شكرًا يُرضِيك عنَّا، وورَعًا يحجزنا عن مَعاصِيك، اللهمَّ إنِّي أسألك الطيِّبات، وترْك المُنكَرات، وحبَّ المساكين، وأنْ تتوبَ عليَّ، وإنْ أردت بعبادك فتنةً أنْ تقبِضَني إليك غير مفتون، اللهمَّ إنِّي أسألُك الرضا بالقضاء.

 

وصَلِّ اللهمَّ وسلِّم على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



[1] أخرجه: أحمد (5/153، رقم 21392)، والترمذي (4/355، رقم 1987) وقال: حسن صحيح.

[2] "كنز العمال": 44189.

[3] "الإيمان"؛ لأبي بكر بن أبي شيبة، 35.

[4] "الأمثال من الكتاب والسنة"؛ لأبي عبدالله محمد بن علي الحكيم الترمذي - دار ابن زيدون - بيروت - الطبعة الأولى، 1985؛ تحقيق: د.السيد الجميلي، ص: 217 وما بعدها.

[5] "خواطر في رمضان"؛ حسين سيد حسين، عبدالرحمن محمد زكي - منارات - مؤسسة الفلاح - الطبعة الأولى: (2007)، ص: 98، 97.

[6] "قبسات إيمانية"؛ هشام محمد ورورى (2003) ص: 19.

[7] "عمر بن عبدالعزيز، معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة"؛ علي محمد محمد الصلابي - ص350.

[8] المصدر السابق.

[9] المصدر السابق.

[10] "التسهيل لعلوم التنزيل"؛ لابن جزي، 96.

[11] أخرجه أحمد (3/134، رقم 12404)، قال الهيثمي (1/52): رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، ورجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثَّقه ابن حبان، وأبو داود الطيالسي، وأبو حاتم، وابن معين.

[12] "شرح الأربعين النووية"؛ عطية بن محمد سالم (المتوفى: 1420هـ) (42: 5).

[13] أخرجه ابن أبي شيبة (7/37، رقم 34014)، وعبدالله في "زوائده على المسند" (1/155، رقم 1332)، وابن جرير (16/126)، والحاكم (2/409، رقم 3425)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1/317، رقم 358)، "كنز العمال" (4506)، قال الهيثمي (7/55): رواه أحمد، وفيه عبدالرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف.

[14] أخرجه البخاري (2/821 رقم 2208)، "كنز العمال" (40464).

[15] "خواطر رمضانية"؛ 27.

[16] أخرجه: مسلم (2/806، رقم 1151)، وأبو داود (2/307، رقم 2363)، أحمد (2/257، رقم 7484).

[17] "مقاصد الشريعة الإسلامية"؛ ابن عاشور: محمد الطاهر بن محمد الشاذلي ابن عاشور (ت1284هـ - 1868م) تحقيق: محمد الطاهر الميساوي - دار النفائس - الأردن الطبعة الثانية (1421 - 2001).

[18] أخرجه البخاري (2/671) (1799)، ومسلم (2/758) (1079)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه.

[19] "مفاتيح الغيب"؛ لأبي عبدالله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي، الملقَّب بفخر الدين الرازي (3/84).

[20] أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" (2/22)، وابن أبي شيبة (7/114، رقم 34610)، والطبراني في "الأوسط" (7/158، رقم 7149)، قال الهيثمي (2/22): وقال: إسناده حسن، قلت: ورجال البزار كلُّهم رجال الصحيح.

[21] "في ظلال القرآن" (3/212).

[22] انظر: "جامع البيان في تأويل القرآن"؛ لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبي جعفر الطبري، (224 - 310 هـ)؛ المحقق: أحمد محمد شاكر - مؤسسة الرسالة - الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000م (12/ 365 وما بعدها).

[23] أخرجه الترمذي (4/634، رقم 2451) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (2/1409، رقم 4215)، والطبراني (17/168، رقم 446)، والحاكم (4/355، رقم 7899) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي (5/335، رقم 10602).

[24] "الزهد الكبير"؛ للبيهقي (2/427).

[25] المصدر السابق (2/429).

[26] أخرجه أحمد (5/153، رقم 21392)، والترمذي (4/355، رقم 1987) وقال: حسن صحيح، والدارمي (2/415، رقم 2791)، والحاكم (1/121، رقم 178) وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، ووافَقَه الذهبي، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/245، رقم 8026).

[27] "شرح الأربعين النووية" )8/42).

[28] أخرجه الترمذي (5/386، رقم 3265) وقال: غريب لا نعرفه مرفوعًا إلاَّ من حديث الحسن بن قَزَعَة.

[29] "الكشف والبيان"؛ للثعلبي، 292.

[30] أخرجه مسلم (4/2087، رقم 2721)، وأحمد (1/416، رقم 3950)، والترمذي (5/522، رقم 3489) وقال: حسن صحيح.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صوموا لعلكم تتقون
  • الصوم.. تقوى
  • رمضان شهر التقوى
  • التقوى
  • مرحباً بشهر رمضان، شهر البر والتقوى
  • لعلكم تتقون
  • لعلكم تقرؤون
  • لعلكم تتقون
  • رحلة مع النبأ العظيم
  • شهر رمضان واحة المتقين
  • لعلكم تتقون (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • صيام التطوع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من آداب الصيام: صيام ستة أيام من شوال بعد صيام شهر رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أجوبة مختصرة حول أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • أحكام متفرقة في الصيام(مقالة - ملفات خاصة)
  • أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام الأحد والاثنين والخميس والجمعة(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام السبت(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام أيام البيض(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فضل صيام الست من شوال: صيام الدهر كله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صيام الجوارح صيام لا ينتهي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- بارك الله بكم
...لامعة في الأفق... - المملكة العربية السعودية 22-08-2010 01:15 AM

بارك الله بكم على هذه المحاضرة القيمة وجعلنا الله وياكم من المتقين

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب