• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: أم سليم ضحت بزوجها من أجل دينها (1)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    خطبة: التربية على العفة
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    فضل من يسر على معسر أو أنظره
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
  •  
    كونوا أنصار الله: دعوة خالدة للتمكين والنصرة
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    لا تعير من عيرك
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    من مائدة التفسير: سورة النصر
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / عقيدة وتوحيد / الإلحاد (تعريف، شبهات، ردود)
علامة باركود

مغالطات أكذوبة أن ميكانيكا الكم تلغي السببية

مغالطات أكذوبة أن ميكانيكا الكم تلغي السببية
د. ربيع أحمد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/3/2016 ميلادي - 17/6/1437 هجري

الزيارات: 44925

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مغالطات أكذوبة أن ميكانيكا الكم تلغي السببية

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتَّاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.

 

ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهل بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

 

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل، وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد؛ شبهةً تلو الأخرى، ومغالطةً تلو المغالطة، ودعوَى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحد بكلامهم وشُبَههم.

 

ومن المغالَطات التي يدَّعيها الملاحدة: ادعاءُ أن ميكانيكا الكم تُلغي السببية، يقول أحدهم: خطأ مبدأ السببية تؤكده مشاهدات فيزيائية على المستوى الذري والدون ذري تفتقر إلى سبب ظاهر، على سبيل المثال، حين تهبط ذرة من مستوى طاقة محفز إلى مستوى أدنى وتطلق فوتونًا Spontaneousemission فهي تخترق وبشكل واضح وصريح مبدأ السببية[1]، ولا يتضح السبب أيضًا وراء تفكك النواة المشعة، وكثير من الأحداث الكمومية تفتقر وتنتهك مبدأ السببية.


ويقول آخر: والسببية إنما هي طريقة تفسيرية مساعدة في مجال الأجسام الماكروسكوبية، خصوصًا وأننا غالبًا ما نستخدم الفيزياء النيوتنية لهذا الغرض، ولكنها غير ضرورية، بل وخاطئة، على مستوى نظرية الكم.


ويقول آخر: ليس كل حدث له مسبب مثل الظواهر الكمومية، القفزات الكمومية، العبور الإلكتروني الذري والتحلل النووي، كلها تحدث من غير مسبب،الحتمية تقول: إن كل حدَث هو نتيجة مباشرة لحدث سابق له من غير نتيجة أخرى محتملة، أما السببية فتقول بأنه لحدثين أن يكون أحدهما سبب الآخر، يجب عليهما أن يكونا قريبين، بحيث يمكن للمعلومات - التي تسافر بسرعة الضوء - أن تصل بينهما،بما أن الزمن قابل للعكس[2] لا يوجد أي تمييز بين السبب والمسبب على المستوى الدقيق الكمي، إن خط الزمن ماضٍ حاضر، مستقبل هو نتيجة إحصائية في المستوى الكبير الكلاسيكي الذي بدوره يتكون من دقائق - كمات - صغيرة بأعداد هائلة.


ويقول آخر: كل حادث لا بد له من محدِث، هل هذه العبارة صحيحة؟ حسب الفيزياء الحديثة غير صحيحة، في ميكانيكا الكم هناك ما يطلق عليه التموج الكمومي، وهو تغيُّر مؤقت في قدر الطاقة في نقطة معينة من الفراغ، وينشأ عن مبدأ عدم التأكد.


ويقول آخر: في الفيزياء الكلاسيكية، تحكم السببية ما يحدث من لحظة إلى أخرى، ولكن في حالة الفيزياء الكمومية بطبيعتها لا يمكن التنبؤ بها، والكثير من الأحداث الكمومية لا تتطلب سببًا على الإطلاق.


وبعد ذكرنا لنماذج من أقوال الملاحدة حول نفيهم للسببية من خلال احتجاجهم بميكانيكا الكم، وقبل بيان المغالطات التي وقع فيها الملاحدة من دعواهم: أن ميكانيكا الكم تُلغي السببية - يستحسن بنا أن نعرف مفهوم ميكانيكا الكم، ومفهوم السببية، ثم نبين نظرة الفيزياء الكلاسيكية للكون وأثرها في ربط البعض السببية بالحتمية، ثم نبين أن السبب المجرد لا يستوجب حصول النتيجة، وأن هذا لا يؤثر في العلاقة السببية بين السبب والنتيجة، ثم نبين أن النموذج الميكانيكي للكون هدم على يد ميكانيكا الكم، وهدم معه المذهب الحتمي.


مفهوم ميكانيكا الكم

ميكانيكا الكم Quantum mechanics هي العلم الذي يختص بدراسة المادة والإشعاع في المواد المتناهية الصغر، وهي الجُسيمات الذرية والجسيمات تحت الذرية؛ كالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، ويحاول تفسير سلوك الجسيمات الذرية والجسيمات تحت الذرية، وقد جاء كتعميم وتصحيح لنظريات نيوتن الكلاسيكية في الميكانيكا،وخاصة على المستوى الذري ودون الذري، وقد نجح في تفسير العديد من الظواهر التي لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها؛ كإشعاع الجسم الأسود، ومؤسس هذا العلم عالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك عام 1900 ميلاديًّا.

 

ولميكانيكا الكم العديد من التسميات؛ فتسمى فيزياء الكوانتم، والفيزياء الكمومية، ونظرية الكم، ونظرية الكوانتم، والنظرية الكمومية.

 

وسميت ميكانيكا الكم بهذا الاسم نظرًا لأهمية الكم في بنائها، والكمُّ مصطلح فيزيائي يستخدم لوصف أصغر كمية من الطاقة يمكن أن تبعثها أو تمتصها المادة بصورة إشعاع كهرومغناطيسي ElectromagneticRadiation فحسب بلانك: الأجسامُ تكتسب طاقة أو تعطيها لا باستمرار كسيلٍ، بل بصورة متقطعة على شكل كمات أو كوانتات quantuam


مفهوم السببية

السببية (العلية) Causality هي علاقة بين السبب والمسبَّب[3]؛ أي: علاقة بين السبب والنتيجة، وتقتضي السببية أن لكل حادثة علة تسبقها وتؤدي إليها، بحيث تظهر وتقوم علاقات علية في كل ما يحدُثُ في العالم الطبيعي من حوادث في صورة ظواهر متكاملة أو وقائع جزئية[4].

 

ومبدأ السببية أحد مبادئ العقل؛ فلكل ظاهرة سبب أو علة لوجودها، وما مِن شيء حادث إلا كان لوجوده سبب يفسر وجوده [5]، والعقل يدرك ذلك تلقائيًّا، وبلا معونة الحس والتجربة، كالتلازم والتلاحم بين وجود البناء ووجود الباني، والجناية والجاني[6].

 

نظرة الفيزياء الكلاسيكية للكون وأثرها في ربط البعض السببية بالحتمية

نظرت الفيزياء الكلاسيكية إلى الكون على أنه آلة ميكانيكية تعمل وفق قوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولا يمكن أن تحيد عنها، بحيث إن نفس السبب يؤدي حتمًا إلى نفس النتيجة بصورة متكررة مطردة، والارتباط بين السبب والنتيجة ارتباط حتمي ضروري، وبالتالي يمكن التنبؤ الدقيق بالنتيجة بناءً على السبب،وصورت العالم عالَمًا مكونًا من مادة وإشعاع، فالمادة تتكون من ذرات، والإشعاع من موجات[7].


واعتبرت أن قوانين الفيزياء قوانين ثابتة وحتمية وضرورية، وتكفي وحدها لوصف سلوك الكون بكل ما فيه، وكأن الكون مكتفٍ بذاته، مستغنٍ بنفسه عن غيره، وجميع ما يحدث في الكون من ظواهر يفسر بقوانين الحركة المادية فقط، وحوادث الكون من أسباب ومسببات ترتبط فيما بينها ارتباطًا حتميًّا ضروريًّا، والعلاقة بين جزيئات الكون المادية علاقة سببية حتمية مباشرة، بحيث من السهل معرفة النتيجة إذا عرفنا السبب، ومن السهل معرفة السبب إذا عرفنا النتيجة.


ونظرة الفيزياء الكلاسيكية إلى الكون أدت إلى اعتقاد كثيرٍ مِن علماء الغرب - وعلى رأسهم لابلاس في القرن التاسع عشر الميلادي - بمذهب الحتمية أو الجبرية.

 

ومذهب الحتمية (الجبرية) determinism يعتقد بأن كل ما يقع في الكون من أحداث بما في ذلك الظواهر النفسية والأفعال الإنسانية - نتيجة ضرورية تترتب على ما سبق من الأحداث؛ فالعالم في نظر القائلين بالحتمية عبارة عن مجموعة عضوية، ترتبط أجزاؤها فيما بينها كأجزاء آلة دقيقة؛ ولهذا فإنهم يرونه نظامًا مغلقًا يؤذِن حاضره بمستقبله، وتخضع سائر أجزائه لقوانين مطردةصارمة،ومعنى هذا أن العالم دائرة مقفلة يتصل بعضها ببعض اتصالًا عليًّا بحتًا، بحيث يكون في استطاعتنا - باستقصاء الظواهر الحاضرة - أن نتنبأ بما سيحدث من الظواهر تنبؤًا يقينًا مطلقًا، وهذا هو ما عناه لابلاس بعبارته المشهورة: "إن في وسعنا أن ننظر إلى الحالة الحاضرة للكون على أنها نتيجة للماضي وعلة للمستقبل" [8].


ويعتقد الحتميون أن التغيرات التي تحدث في العالم عند أي لحظة تعتمد فقط على حالة العالم عند تلك اللحظة، والحالة تحدَّد بمواضع وسرعات الجسيمات؛ فتغيرات المواضع تحددها السرعات، وتغيرات السرعات تحددها القوى، والقوى بدورها محددة بالمواضع.

 

فإن أمكننا أن نعرف حالة العالم عند أي لحظة، فمن الممكن من حيث المبدأ أن نحسب بأدق التفاصيل السلوك والمعدل الذي سوف تتغير به هذه الحالة، فإذا عرفنا هذا يمكننا أن نحسب الحالة في اللحظة التالية، ثم نعتمد على ذلك كمرحلة انتقالية، فنحسب الحالة في لحظة بعدها، وهكذا بغير حدود[9]،ومن هنا ارتبط بالحتمية أو الجبرية العلمية فكرة إمكانية التنبؤ، ما دامت الأحداث خاضعة لحتمية دقيقة فيمكن بالتالي التنبؤ بما سيحدث إذا عرفنا الأحوال القائمة في لحظة ما [10].

 

وفي المذهب الحتمي لا يمكن حدوث أشياء خارج منطق قوانين الطبيعة...وبالتالي لا مجال لحوادث عشوائية غير محددة سلفًا، ويعترف الحتميون بأنه ربما يصعب على الإنسان أحيانًا معرفة النتيجة مسبقًا، نتيجة عدم قدرته تحديد الشروط البدئية للتجربة، أو عدم امتلاكه للصياغة الدقيقة للقانون الطبيعي، لكن هذا القانون موجود، والنتيجة محددة سلفًا[11].

 

وكان لنظرة الفيزياء الكلاسيكية للكون - التي هي نظرة ميكانيكية آلية - أثر بالغ في ربط السببية بالحتمية عند بعض الفلاسفة والعلماء، فأصبحت السببية عندهم ليست مجرد علاقة بين السبب والنتيجة فحسب، بل أصبحت علاقة حتمية ضرورية بين السبب والنتيجة، لا يمكن أن تتخلَّف أو تتغير، وهذا لا دليل عليه، بل الواقع خلافه.

 

السبب المجرد لا يستلزم حصول النتيجة

قولنا بأن النتيجة لا بد أن يكون لها سبب: لا يستلزم أن السبب بمفرده يستلزم حدوث النتيجة؛ فالسبب المجرد لا يستلزم حصول النتيجة؛ إذ قد تتخلف النتيجة، وقد تأتي نتيجة مختلفة عما هو متوقع، نظرًا لحدوث موانع تؤدي إلى تخلف النتيجة، أو حدوث نتيجة مغايرة، وقد تتخلف النتيجة بسبب عدم اكتمال السبب، وهناك أمثلة كثيرة من الواقع تؤيد قولنا بأن السبب المجرد لا يستوجب حصول النتيجة، ومن هذه الأمثلة:

مثال 1: المذاكرة بجد سبب للنجاح، لكن هناك من ذاكروا بجد ولم ينجحوا.


مثال 2: حمل المرأة سببه وطء الرجل زوجته، لكن كم من رجل وطئ امرأته ولم يحدث حمل.

 

مثال 3: الأكل سبب للشبع، لكن كم من شخص يأكل ولا يشبع.


مثال 4: شرب الماء سبب للارتواء، لكن كم من شخص يشرب الماء ولا يرتوي.


مثال 5: تناول الدواء المعين سبب للشفاء من المرض المعين، لكن كم من شخص يتناول الدواء المناسب لعلاج مرضه ولا يشفى.


مثال 6: مرض الشخص بعدوى ميكروبية سببه انتقال الميكروب المسبب للعدوى إليه، لكن كم من شخص ينتقل إليه الميكروب المسبب للعدوى ولا يمرض.


وفي ذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله -: (ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبَّب؛ فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بد من تمام الشروط، وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه، فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خَلْقه من الشروط وزوال الموانع)[12].


وقولنا بأن السبب المجرد لا يستوجب حصول النتيجة، لا يمنع من قولنا: إن النتيجة لا بد أن يكون لها سبب معين، فلا يخفى على كل ذي عقل سليم أن كون الذي يذاكر ينجح أو لا ينجح لا يمنع ذلك من القول بأن النجاح سببه المذاكرة، وكون لقاء الرجل بزوجته قد ينتج عنه حمل وقد لا ينتج لا يمنع ذلك من القول بأن حمل المرأة سببه لقاء الرجل بزوجته، وكون انتقال عدوى ميكروبية إلى شخص قد يمرضه وقد لا يمرضه لا يمنع ذلك من القول: إن المرض المعديَ سببه انتقال العدوى الميكروبية إلى الشخص المريض.

 

هدم النموذج الميكانيكي للكون على يد ميكانيكا الكم وإبطال المذهب الحتمي

ظهرت ميكانيكا الكم في أول القرن العشرين على يد عالم الفيزياء ماكس بلانك، ثم توالت بحوث العلماء - كشرودنجر وهايزنبرج - في تأييدها، وكان لذلك دور بالغ في هدم النموذج الميكانيكي للكون، وإبطال المذهب الحتمي.


وصورت نظرية بلانك الإشعاع في صورة ذرية مشابهة لما سبق أن وصفت به المادة، فافترضت أن الإشعاع لا ينطلق من المادة على شكل تيار متصل مثل تيار الماء المتدفق من خرطوم، بل هو أشبه بطلقات من الرصاص تنطلق من مدفع رشاش؛ فالإشعاع ينطلق على هيئة مقادير منفصلة، أطلق عليها بلانك اسم الكمات [13] quanta.


وطبقًا لميكانيكا الكم لا تتحرك الجسيمات تحت الذرية بشكل سببي حتمي، وإنما بشكل احتمالي جوازي، وافترض الأستاذ نيلز بور Nielsbohr من كوبنهاجن أننا لو شاهدنا الجسيمات النهائية للمادة من خلال ميكروسكوب له قوة تكبير بما يكفي لذلك (وهو أمر بعيد عن التحقيق العملي) فإنها ستبدو متحركة، لا كقطارات تجري بسلاسة على قضبانها، بل كحيوانات الكنجر وهي تقفز في أحد الحقول [14]، وقبل أن تقفز الكنجر لا يوجد في عالم الظواهر ما يميز الحيوانات التي ستقفز من تلك التي لن تقفز، فيحتمل هذا ويحتمل ذاك.


واكتشف عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرج عام 1927 ميلاديًّا أنه لا يمكن قياس كمية حركة واتجاه أي جسيم في نفس الوقت معًا وبدقة، وسماه: مبدأ عدم التأكد Uncertainty principle.

 

وعدم القدرة على تحديد موقع الإلكترون وكمية حركته معًا وبدقة في نفس الوقت يؤدي إلى عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل، وعدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الإلكترون في المستقبل يعني أن التنبؤ بسلوك الإلكترون في المستقبل سيكون احتماليًّا وليس حتميًّا، وفي هذا إبطال للمذهب الحتمي الذي كان سائدًا عند علماء الغرب، خاصة في القرن التاسع عشر الميلادي قبل ظهور ميكانيكا الكم.

 

ولما تبين للعلماء أن في المستوى الذري وفي المستوى تحت الذري لا يوجد إلا احتمال، ولا يمكن التحدث عن يقين؛ لأن الضوئيات (الفوتونات photons) لا تسلك مسلكًا مطردًا باستمرار - زالت قداسة الجبرية في القوانين العلمية، وأصبحت هذه القوانين مجرد صِيَغٍ احتمالية تعبِّر عن الحالات الأكثر وقوعًا، لا عن حتمية الوقوع على نحو دقيق صارم [15].

 

وفي إعلان رذرفورد Rutherford وسودي Soddy1903 ميلاديًّا لقوانين الاضمحلال الإشعاعي الأساسية، ولم تكن تلك القوانين بأي حال من الأحوال تطويرًا لنظريات بلانك، بل لقد انقضت أربع عشرة سنة قبل ملاحظة أي علاقة بينهما - أكدت القوانين الجديدة أن ذرات المواد المشعة تتكسر تلقائيًّا، دون أي صلة بأحوال معينة أو أحداث خاصة، وهذا ما أحدث شروخًا مفاجئة في النظرية الكلاسيكية أكثر مما أحدثته قوانين بلانك الجديدة، فقد ظهر التكسُّر الإشعاعي كنتيجة ليس لها سبب[16] ظاهر، وفي هذا إبطال للنموذج الميكانيكي للكون الذي يفترض أن العلاقة بين جزيئات الكون المادية علاقة سببية حتمية مباشرة، بحيث من السهل معرفة النتيجة إذا عرفنا السبب، ومن السهل معرفة السبب إذا عرفنا النتيجة.


وأظهر عالم الفيزياء أينشتاين عام 1917 ميلاديًّا أن اضمحلال المواد المشعة تحكُمُه نفس القوانين التي تحكم قفزات الإلكترونات الشبيهة بقفزات الكنجر، كما وصفها بور، لقد بدا وكأن الذرات المشعة تحتوي على مزرعة لحيوانات الكنجر تعد أكثر نشاطًا وضراوة من كل ما قابلوه حتى ذلك الحين، ظهرت القوانين المتحكمة في القفزات التلقائية لحيوانات الكنجر في غاية البساطة، فمن ضمن أي عدد من الحيوانات الكنجر تقفز دائمًا نسبة معينة في زمن محدد، ولا شيء يقدر على تغيير هذه النسبة، وكذلك فقبل حدوث القفزات، لا يوجد في عالم الظواهر ما يميز هذه الحيوانات التي ستقفز من تلك التي لن تقفز، وليس لحسن المعاملة أو لسوئها أن يجعل كنجرًا يقفز إن لم يفعل ذلك بمزاجه، لكي يساعد بذلك في ملء الحصة المطلوبة من البيانات التي تحتاجها القوانين الإحصائية[17]، وفي هذا إبطال للنموذج الميكانيكي للكون الذي يفترض أن العلاقة بين جزيئات الكون المادية علاقة سببية حتمية مباشرة بحيث من السهل معرفة النتيجة إذا عرفنا السبب، ومن السهل معرفة السبب إذا عرفنا النتيجة.

 

المغالطات التي وقع فيها الملاحدة من دعواهم: أن ميكانيكا الكم تُلغي السببية

وقع الملاحدة في كثير من المغالطات عندما ادَّعَوْا أن ميكانيكا الكم تُلغي السببية، من هذه المغالطات:

التشكيك في حقيقة مطلقة absolute truth مقطوع بصحتها ولا تحتمل الخطأ بحقيقة نسبية relative fact تحتمل الخطأ، ونقبل بصحتها حاليًّا في ضوء الأدلة المتاحة الدالة على صدقها، فمبدأ السببية من الحقائق المطلقة الثابتة في كل عصر ومِصرٍ، وفي المقابل نظريات ميكانيكا الكم وقوانينها ومبادئها كغيرها من أشكال المعرفة العلمية ليست صحيحة صحة مطلقة؛ فقد يتم تغييرها أو تعديلها في ضوء المستجدات، ومن ثم فإنها ليست حقائق نهائية أو مطلقة، بل نسبية.

 

وقد أخطأ الملاحدة عندما استدلوا على بطلان مبدأ السببية بمبادئ وقوانين ونظريات ميكانيكا الكم؛ فالدليل سبب للعلم بالشيء المستدل عليه، ومحاولة الاستدلال على رد مبدأ السببية تنطوي على الاعتراف بمبدأ السببية وتطبيقه، وبعبارة أخرى: لو كانت مبادئ وقوانين ونظريات ميكانيكا الكم تبطل السببية فقد أبطلت الاستدلال بها على بطلان السببية، وإذا لم تكن مبطلة للسببية فلا حجة فيها على بطلان السببية.

 

ويلزم من إلغاء السببية لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، ومن اللوازم الباطلة: عدم صحة أي استدلال؛ لأننا إذا طرحنا قوانين العلية من الحساب، ولم نؤمن بضرورة وجود أسباب معينة لكل حادث، لم تبقَ صلة بعد ذلك بين الدليل الذي نستند إليه، والحقيقة التي نحاول اكتسابها بسببه، بل يصبح من الجائز أن يكون الدليل صحيحًا ولا ينتج النتيجة المطلوبة، ما دامت قد انفصمت علاقة العلية بين الأدلة والنتائج، بين الأسباب والآثار[18].


ومن اللوازم الباطلة: انهيار العلوم؛ فجميع العلوم الكونية تستند إلى السببية؛ ولذلك لا يمكن للعلوم الاستغناء عن السببية، وبسقوط السببية تنهار جميع العلوم.

 

والنظريات العلمية في مختلف ميادين التجرِبة والمشاهدة، تتوقف - بصورة عامة - على مبدأ العلية وقوانينها توقفًا أساسيًّا،وإذا سقطت العلية ونظامها الخاص من حساب الكون، يصبح من المتعذِّر تمامًا تكوين نظرية علمية في أي حقل من الحقول[19].


ومن اللوازم الباطلة: صرف هِمَم العلماء عن معرفة أسباب الظواهر الكونية؛ فما دامت السببية - على حد زعمهم - غير موجودة في الواقع، فلا أهمية في البحث عن علل الظواهر، ومعرفة أسباب الظواهر تمكننا من التحكم فيها على نحو أفضل، ومعرفة أسباب الظواهر تمكننا من علاج الظواهر غير المرغوب فيها [20].


وكلام الملاحدة مخالف للواقع؛ إذ لو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لَمَا تمكَّن العلماء من تفسير الظواهر الكونية، ولو لم تكن السببية موجودة في الواقع، لَمَا تمكَّن الأطباء من علاج الأمراض والوقاية منها.

 

ومِن المغالطات: المساواة بين السببية والحتمية مع أنهما مختلفان؛ فالسببية معناها أن أي نتيجة لها سبب، لكن الحتمية معناها أن نفس السبب يؤدي حتمًا إلى نفس النتيجة، ولا يمكن أن تتخلَّف هذه النتيجة، ولا يمكن أن تتغير، ولو تكرر السبب آلاف المرات - أي السبب المعين - يؤدي حتمًا إلى نتيجة معينة، لا يمكن أن تتخلف، ولا يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة، ولو تكرر السبب آلاف المرات.


وبسبب أن كثيرًا من علماء الفيزياء الكلاسيكية قد ساوى بين الحتمية والسببية، وهي مساواة غير صحيحة، فلما انهارت الحتمية على يد ميكانيكا الكم توهموا انهيار السببية معها، مع أن نقض الحتمية لا يستلزم نقض السببية، وأن لكل حدَث محدِثًا، أو لكل فعل فاعلًا، بل غاية ما في الأمر عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بسلوك الجسيمات في العالم الذري وتحت الذري في المستقبل.

 

وبعض الملاحدة اختزل معنى السببية في الحتمية، وقصر السببية على الحتمية، والسببية أعم من الحتمية؛ فقد تكون السببية حتمية، وقد تكون احتمالية، لكن هؤلاء الملاحدة زعموا بأن السببية ليست إلا حتمية، وبالتالي أبطلوا السببية لما رأوا عدم الحتمية في المستوى دون الذري، مع أن الحتمية فرد من أفراد السببية، وليست هي السببية، وليست كل علاقة سببية تكون حتمية، مثلما أقول: الجمل حيوان، فكل جمل حيوان، لكن ليس كل حيوان جملًا، وكما أقول: الرجال من البشر، لكن ليس كل البشر رجالًا، وكما أقول: الدجاجة من الطيور، لكن ليس كل الطيور دجاجًا، وكما أقول: الحديد فِلز، لكن ليست كل الفِلزَّات حديدًا.

 

ومن المغالطات: المساواة بين السببية والتنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب، فقرر الملاحدة أنه ما دام التنبؤ احتماليًّا قد يحدث وقد لا يحدث، فالسببية احتمالية، قد توجد وقد لا توجد، ولا يخفى على كل ذي عقل أن كون الذي يذاكر ينجح أو لا ينجح لا يمنع ذلك من القول بأن النجاح سببه المذاكرة، وكون لقاء الرجل بزوجته قد ينتج عنه حمل وقد لا ينتج لا يمنع ذلك من القول بأن حمل المرأة سببه لقاء الرجل بزوجته، وكون انتقال عدوى ميكروبية إلى شخص قد يمرضه وقد لا يمرضه لا يمنع ذلك من القول: إن المرض المعدي سببه انتقال العدوى الميكروبية إلى الشخص المريض، لكن الملاحدة - هداهم الله - ساوَوْا بين السببية والتنبؤ بالنتيجة الناشئة عن السبب، وساوَوْا بين الجزم بوجود فاعل للحدَث وبين توقع وقوع الحدث على نحوٍ معيَّن.

 

ومن المغالَطات: الاحتجاج بالجهل، فإذا لم يستطعِ العلماء معرفة أسباب بعض الظواهر في المستوى دون الذري، فهو عند الملاحدة دليل على عدم وجود أسباب لها، مع أن عدم القدرة على معرفة السبب لا ينفي وجوده، مثلًا: لو لم يستطع رجال الشرطة معرفة قاتل شخص ما، فهذا لا ينفي وجود قاتل لهذا الشخص، وفي مجال الطب يوجد العديد من الأمراض غير معروفة السبب[21]، لكننا نقول عنها: إنها مجهولة السبب or Unknown cause Idiopathic، ولا ندَّعي أن هذه الأمراض ليس لها سبب.

 

ومن المعلوم: أن الجهل بالشيء ليس دليلًا على أن هذا الشيء غير موجود[22]؛ إذ عدم العلم ليس علمًا بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في أنفسها [23]، وقد يكون الشيء موجودًا ولا يُعلَم دليل وجوده، وقد يكون له أكثر من دليل، لكن هذه الأدلة غير معروفة وغير معلومة؛ فعدم العلم بدليل إثبات وجود الشيء ليس دليلًا على نفي وجوده، بل دليل على الجهل بدليل إثبات وجوده، وما يجهله قوم قد يعلَمه غيرهم، وبين الحين والآخر نسمع: اكتشف العلماء سبب الظاهرة الفلانية، واكتشف العلماء سبب المرض الفلاني، واكتشف العلماء البكتيريا الفلانية، واكتشف العلماء الفيروس الفلاني.. وهكذا.


ومن المغالطات: توهُّمُهم أن مصدر اعتقادنا بالسببية هو ملاحظة التتابع المتلازم المتكرر بين حادثة وأخرى في خبراتنا الحسية - كما توهم هيوم من قبل - فربطوا بين السببية والاستمرار، وربطوا بين السببية والتكرار، فلما لم يلاحظوا في العالم دون الذري هذا التتابع المتلازم المتكرر بين حادثة وأخرى نفَوْا وجود السببية في العالم دون الذري؛ ولذلك دندن بعضهم حول قول كارل بيرسن في كتابه أركان العلم: "إن ما يسمى بالعلية ليس إلا ملاحظة حدوث تعاقب معين، وتكرار حدوثه في الماضي، أما أن هذا التعاقب سيستمر في المستقبل فهذا ما يستحيل أن نجزم به، وإنما هو موضوع للاعتقاد، نعبر عنه بمفهوم الاحتمال، وليس في وُسْعِ العلم مطلقًا أن يبرهن على وجود أية ضرورة كامنة في التعاقب، أو أن يثبت بأي يقين مطلق أن من الضروري تكرارَ هذا التعاقب فيما بعد؛ فالعلم بالنسبة إلى الماضي وصفٌ، وإلى المستقبل اعتقاد "[24].

 

وكلام كارل بيرسن ربما يكون ناشئًا عن المساواة بين السببية والحتمية، مع أن السببية غير الحتمية، إلا أن البعض قد يظن بسبب ملاحظة تكرار تعاقب سبب معين بنتيجة معينة أن هذا السبب ملازم لهذه النتيجة لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لاحظ هذا السبب فحتمًا سيلاحظ هذه النتيجة، وربما يكون كلام كارل بيرسن ناشئًا عن المساواة بين السببية، ومعرفة السبب بناءً على معرفة النتيجة، ومعرفة النتيجة بناءً على معرفة السبب، فمِن طرق معرفة السبب وتعيينه ملاحظة تكرار حدوث نتيجة معينة بعد سبب معين، ولا يخفى على عاقل أن السببية مُفادها الجزم بوجود سبب للحدث، وليست هي معرفة سبب الحدث، أو تعيين سبب الحدث.

 

ومن المغالَطات: عدم مراعاة خصوصية العلم التجريبي، وإعطاء العلم التجريبي صلاحيات ليست له؛ إذ جعلوه حَكَمًا على السببية، فإذا لم يبرهن عليها العلم التجريبي العملي سقطت عن درجة الوثوق العلمي والاعتبار، مع أن السببية مبدأ عقلي، وليست مبدأ تجريبيًّا يستند إلى التجربة.

 

وعدم كشف التجربة عن وجود سبب معين لصيرورة ما أو لظاهرة ما، لا يعني فشل مبدأ العلية؛ إذ إن هذا المبدأ لم يرتكز على التجربة ليتزعزع بسبب عدم توفرها، فبالرغم من عجز التجربة عن استكشاف السبب، يبقى الوثوق الفلسفي بوجوده - طبقًا لمبدأ العلية - قويًّا، ويرجع فشل التجربة في الكشف عن السبب إلى أمرين: إما قصورها وعدم إحاطتها بالواقع المادي، والملابسات الخاصة للحادثة، وإما أن السبب المجهول خارج عن الحقل التجريبي، وموجود فوق عالم الطبيعة والمادة[25].

 

بطلان دعوى الملاحدة: أنه لا توجد سببية في العالم دون الذري

ودعوى الملاحدة بوجود ظواهر في العالم دون الذري ليس لها سبب، ومن ثم لا توجد سببية في العالم دون الذري: دعوى باطلة؛ لوجوه عديدة:

الوجه الأول: أنها دعوى مخالفة لإحدى بديهيات العقل، وهي السببية؛ فلا حدَثَ بلا محدِثٍ.


الوجه الثاني: القول بوجود سبب لأي حدث ليس ناشئًا من العلم التجريبي حتى يحكم عليه العلم التجريبي[26]، أو يشكك فيه، أو يستثني منه، بل القول بوجود سبب لأي حدث علم ضروري[27]، نابع من العقل ومبادئه الأولية البديهية، والمبادئ الأولية البديهية ذاتية البرهان، فلا تحتاج إلى دليل لإثباتها؛ فهي تفرض نفسها على الذهن فرضًا، بحيث لا يحتاج إلى برهان لإثباتها، ويجمع العقلاء على صحتها، وجميع العلوم تستند إليها، وكل حقيقة علمية أو معرفة علمية لا بد أن تعتمد في نهاية الأمر على إحدى البديهيات العقلية التي لا تحتاج إلى برهان، وإلا لظل الباحث يطلب الدليل تلو الدليل في سلسلة لا تنقضي من الأدلة، فلا يحصُلُ علمٌ.

 

ولا يجوز القدح في المبادئ العقلية البديهية بالكلام النظري[28] التجريبي؛ لأن المبادئ العقلية هي الأسس التي يستند إليها العقل في تفكيره، ولو جاز القدح في البديهيات بالنظريات والعلوم التجريبية لزم فساد البديهيات والنظريات والعلوم التجريبية؛ فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه، فتبيَّن أن مَن سوَّغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل[29].


الوجه الثالث: عدم العلم بالسبب ليس دليلًا على نفي السبب، بل دليل على الجهل بالسبب، ويمكن أن نقول: العلم المعاصر لا يعلم سببًا واضحًا لهذه الظواهر حتى الآن، وفرق شاسع بين الجهل بالسبب وادعاء عدم وجود سبب، والملاحدة بين أمرين لا ثالث لهما، إما الاعتراف بأن عدم معرفة العلم بأسباب بعض الظواهر ليس دليلًا على عدم وجود سبب لهذه الظواهر، وبالتالي يردون على دعواهم بالإبطال، وإما أن يزعموا بأن عدم معرفة العلم بأسباب بعض الظواهر دليل على عدم وجود سبب لهذه الظواهر، وبذلك يكونون سوَّوْا بين المختلفين، وهما: الجهل بالسبب، وادعاء عدم وجود سبب، مع أن الصحيح التفرقة بين المختلفين.


الوجه الرابع: العلم لا يستطيع الجزم والتيقن بوجود ظاهرة لا يوجد لها سبب؛ لأن العلم نسبي، وليس مطلقًا، بدليل أنه قابل للتعديل والتغيير، وما يجهله اليوم قد يعلمه غدًا، والملاحدة بين أمرين لا ثالث لهما، إما الاعتراف بأن العلم كامل ومطلق غير قابل للتعديل والتغيير، فيخالفون واقع العلم، وإما الاعتراف بأن العلم نسبي قابل للتعديل والتغيير، وبالتالي لا يستطيع العلم النسبي معارضة حقيقة مطلقة.


وكان العلم منذ فترة ليست ببعيدة لا يعرف سبب الاضمحلال الإشعاعي لبعض المواد Radioactive decay، ثم مع تقدُّمه تبيَّن أن ما نسميه النشاط الإشعاعي لليوارنيوم والراديوم وأمثالهما إنما هو تهشُّم ذرات هذه المواد وتناثر أجزائها؛ فذرة اليورانيوم ليست باقية على حالها، وليست الأمور في داخلها مستقرة، كما هو الحال في ذرات العناصر العادية؛ فهي ذرة مضطربة منفجرة، يعوزها الاتزان والاستقرار، وتلك هي الميزة التي تميزها وأمثالَها عن غيرها من الذرات[30]، بعبارة أخرى: بعض أنوية العناصر تكون غير مستقرة، وبالتالي فإنها تسعى لتكون مستقرة، وذلك من خلال تحللها، والتخلص من جزء من مكوناتها، لكن متى يحدث هذا التحلل؟ النواة غیر المستقرة تتفكك عاجلًا أو آجلًا، لكن هذا لا علاقة له بالسببية، إلا أن الملاحدة سيُقحمونه في السببية.

 

وكان العلم منذ فترة ليست ببعيدة يعتقد أن الإلكترون مجرد جسيم مادي صغير سالب الشحنة،ثم جاء دي برولي بفرضية أن الجسيمات المتحركة تتمتع بخواص ازدواجية[31]، فأصبح العلم ينظر للإلكترون على أنه ذو طبيعة مزدوجة، بمعنى أنه جسيم مادي له خواص موجيَّة، فيمكن أن يتصرف في بعض الأحيان كموجة، ويمكن أن يتصرف في البعض الآخر كجسيم، وهذا يفسر ظاهرة التـأثير النفقي Tunnelingeffect، وهي ظاهرة تخلل جسيم أولي كالإلكترون حاجزًا جهديًّا، رغم أن طاقته لا تكفي لعبور الجدار؛ أي: تتصرف الجسيمات كما لو كانت تحفِرُ نفقًا في الجدار لتخرج منه، والإلكترون بهذا التصرف يسلك سلوك الموجات.


الوجه الخامس: لا يدَّعي العلم أنه أحاط علمًا بالعالم دون الذري وبكل ظواهره وقوانينه؛ فمعرفته معرفة محدودة، والعلماء يعتقدون أن ما يعرفونه عن العالم دون الذري أقل كثيرًا مما يجهلونه؛ فالاحتمال بوجود سبب مادي غير معروف نظريًّا وغير معروف عمليًّا احتمال قائم، فكيف يدَّعي الملاحدة بعد ذلك بوجود ظواهر في العالم دون الذري ليس لها سبب؟ وهل أحطنا علمًا بكل ما يُحيط بالجسيمات تحت الذرية وبكل ما يؤثر فيها؟!


الوجه السادس: ليس من الضروري أن يكون سبب الظاهرة سببًا ماديًّا يمكن قياسه أو رصده أو معرفته نظريًّا أو عمليًّا، وقد يكون السببُ غيرَ مادي.

 

سبحان ربي! ترك الملاحدة عبادة الله الكامل، وفي نفس الوقت عبدوا العلم الناقص، الذي هو في تطور وازدياد، ويقبَل التغيير والتعديل، لكنهم يتوهمون كماله، والواقع يكذِّبهم!

 

وأخيرًا أقول: كون العالم دون الذري وُجِد بعد أن لم يكن موجودًا، فلا بد أن يكون له موجِد حسب مبدأ السببية، وكون العالم دون الذري محكومًا بقوانين، وإن كانت حسب معطيات العلم الحديث قوانينَ احتمالية، فلا بد أن يكون لهذه القوانين مقنِّن ومسنِّن حسب مبدأ السببية.

 

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.



[1] توجد الإلكترونات حول الذرة في مستويات طاقة خاصة بها، فإذا امتص الإلكترون طاقة فإنه يرتفع إلى مستوى طاقة أعلى من طاقته، مما يؤدي إلى تهيج الذرة، ولكن الذرة تفضل دائمًا وضع الاستقرار؛ لذلك يعود الإلكترون إلى مستواه الأصلي، مطلقًا كمية من الطاقة على شكل فوتونات، إذًا سبب هبوط الإلكترون من مستوى طاقة أعلى إلى مستوى طاقة أقل كي ترجع الذرة لوضع الاستقرار، لكن متى سيحدث هذا؟ سيحدث عاجلًا أو آجلًا، لكن وقت الحدث لا شأن للسببية به؛ أي توقيت الحدث ليس له علاقة بالسببية، لكن بعض الملاحدة يقحمونه في السببية.

[2] دعوى أن الزمن قابل للعكس دعوى باطلة؛ فالزمن معنى مجرد وليس جسمًا ماديًّا، فكيف ينعكس؟! والزمن عامل هدم وفَناء، وليس عامل بناء، فهو يتحرك للأمام، والأشياء المخلوقة من جماد وحيوان ونبات وغير ذلك تضعف وتهلِك مع مرور الوقت، ويلزم من كلام الملحد لوازمُ باطلة، مثل: أن يصبح الكبير السن صغيرًا في السن، وأن تصبح البيضة المكسورة بيضة سليمة، وأن يصبح الميت حيًّا، وهذا مخالف للواقع والحس.

[3] المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربية بمصر ص 96، والمعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 1/ 649.

[4] فلسفة العلوم الطبيعية للدكتور عبدالفتاح مصطفى غنيمة ص 173.

[5] انظر المعجم الفلسفي للدكتور جميل صليبا 1/ 649.

[6] مذاهب فلسفية وقاموس مصطلحات لمحمد جواد ص 169.

[7] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز، ترجمة جعفر رجب ص 175.

[8] مشكلة الحرية للدكتور زكريا إبراهيم ص 100.

[9] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز ترجمة جعفر رجب ص 150 - 151.

[10] مدخل جديد إلى الفلسفة للدكتور عبدالرحمن بدوي ص 83.

[11] المعجم الفلسفي للدكتور مصطفى حسيبة ص 178.

[12] مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/ 70.

[13] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز، ترجمة جعفر رجب ص 174.

[14] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز، ترجمة جعفر رجب ص 174.

[15] مدخل جديد إلى الفلسفة للدكتور عبدالرحمن بدوي ص 92.

[16] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز، ترجمة جعفر رجب ص 174.

[17] الفيزياء والفلسفة لجيمس جينز، ترجمة جعفر رجب ص 175.

[18] فلسفتنا لمحمد باقر الصدر ص 308.

[19] فلسفتنا لمحمد باقر الصدر ص 305.

[20] انظر: مدخل إلى الفلسفة لحسام الألوسي ص 125، تحت عنوان: مبدأ السببية.

[21] مثل الحمى مجهولة السبب fever of unknown origin، والحكة غير معروفة السبب essential pruritus، وفرفرية نقص الصفائح الدموية مجهولة السبب Idiopathic thrombocytopenic purpura.

[22] موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبدالرحمن صالح المحمود ص 245.

[23] الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق، لسليمان بن سحمان ص 331.

[24] أركان العلم لكارل بيرسن ص 113، وقال جميس جينز: "فإذا ما دخل عدمُ الاستمرار عالَمَ الظواهر من الباب، خرجت السببية من الشباك"؛ الفيزياء والفلسفة ص 175.

[25] فلسفتنا لمحمد باقر الصدر ص 311.

[26] العلم التجريبي: هو العلم الذي يحتاج في حصوله إلى التجربة والمشاهدة والاختبار، وهو يقوم على القياس والاستقراء والملاحظة والاستنتاج، ويستند إلى المشاهدة والتجرِبة؛ كعلم الكيمياء والفيزياء.

[27] العلم الضروري: هو العلم الذي لا يحتاج في حصوله في الذهن إلى كسب ونظَر وفِكر؛ كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن النقيضينِ لا يجتمعان في الشيء الواحد، وكالعلم بأن أي حدَث له علة، وكالعلم بأن الكل أكبر من الجزء، وضد العلم الضروري العلم النظري الذي يحتاج إلى نظر واستدلال.

[28] النظري: ما يحتاجُ إلى نظَر واستدلال، وهو ضد الضروري.

[29] انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 2/ 151.

[30] الذرة والقنابل الذرية للدكتور علي مصطفى مشرفة ص 19.

[31] أساسيات ميكانيكا الكم أ.د. إبراهيم محمود أحمد ناصر،د. عفاف السيد عبدالهادي ص 35.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مغالطات أكذوبة أن الكون نشأ من لا شيء دون الحاجة إلى خالق
  • مغالطات أكذوبة أن ظاهرة النفق الكمومي تدمر مبدأ السببية
  • مغالطات أكذوبة أن مبدأ هايزنبرج يلغي السببية

مختارات من الشبكة

  • مغالطات أكذوبة الملاحدة: أن الكون يسير بقوانين فلا يحتاج إلى خالق ليدبر أمره(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من مغالطات الملاحدة: اتهام السيدة مارية القبطية بالزنا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مغالطات في عمل المرأة(مقالة - ملفات خاصة)
  • إبطال دعوى الملاحدة نفي السببية في ميكانيكا الكم بحجة أن النتيجة قد تسبق السبب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شبهات حول الحجاب: مغالطة قسوة اليهود على المرأة أنموذجا(مقالة - ملفات خاصة)
  • مختصر المغالطات المنطقية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مغالطة المفسدين وخداعهم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أماني المفرطين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • اليأس يساوي الدمار(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الالتزام بين الكم والكيف(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- شكر وتقدير!
سعيد العراقي - العراق 18-03-2018 11:41 AM

أشكرك دكتور على هذا الجهد المميّز والنّافع، وأسأل الله أن يجعل ثوابه في ميزان حسناتك!
بوركت!

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب