• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

القريب جل جلاله وتقدست أسماؤه

القريب جل جلاله وتقدست أسماؤه
الشيخ وحيد عبدالسلام بالي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/5/2024 ميلادي - 18/11/1445 هجري

الزيارات: 1065

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

القَريبُ جل جلاله، وتقدست أسماؤه

 

عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:

أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( القَرِيبِ ).

ثانيًا: وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.

ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.

رابعًا: ثَمَرَاتُ الإيمَانِ بهذا الاسْمِ.

خامسًا: المعَانِي الإيِمَانِيَّةُ.

النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ

قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ

 

أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:

1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً » رواه البخاري.

 

2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ [1].

 

3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ [2].

 

4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.

 

5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.

 

6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ[3].

 

7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ[4].

 

8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ[5].

 

9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ[6].

 

10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك (4).

 

11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها »، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).

 

ثُمَّ قَدْ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى »، مُتَّفَقٌ عَلَيه.

 

ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:

1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المسْلِمينَ بِمَعْنَى اسْمِ الله ( القَرِيبِ ).

2- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى الدُّعَاءِ والتَّضَرُّعِ إِلَى الله لأَنَّهُ قَرِيبٌ.

3- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى الحَيَاءِ مِنَ الله لأَنَّهُ قَرِيبٌ.

4- تَنْوِي حَثَّ المسْلِمينَ عَلَى التَقَرُّبِ إِلَى الله بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ.

 

أولًا: الدِّلاَلاَتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ ( القَرِيبُ )

القَرِيبُ فِي اللُّغَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ القُرْبِ.

والقُرْبُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ البُعْدِ، قَرُبَ الشَّيْءُ يَقْرُبُ قُرْبًا وقُرْبَانًا أي دَنا فهو قَرِيبٌ.

 

والقُرْبُ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ:

منه قُرْبُ الَمكَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28].

 

وَقَرُبُ الزَّمَان نحو قَوْلِهِ: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 109].

 

وَقَدْ يَكُونُ القُرْبُ فِي النَّسَبِ نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7].

 

وَكَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي القُرْبِ قُرْبُ الحُظْوَةِ والمَنْزِلَةِ نحو قَوْلِهِ: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم ﴾ [الواقعة: 88، 89] [7].

 

والقَرِيبُ سُبْحَانَهُ هُوَ الذي يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، وَهُوَ القَرِيبُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ أَقْرَبُ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ حَبْلِ الوَريِد ِكَمَا قَالَ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].

 

وَقَالَ أَيْضًا: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85].

 

وَالقُرْبُ فِي الآيتين إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ باعْتِبَارِ مَا وَرَدَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه حَيْثُ قَالَ: « ما السَّمَوَاتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبْعُ فِي يَدِ الله إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ » [8].

 

وَرَوَى ابْنُ حِبان وصححه الألباني منِ حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي غ قال: « مَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ فِي الكُرْسِيِ إِلَّا كَحَلَقَةٍ بِأَرْضِ فِلَاةٍ، وَفَضْلُ العَرْشِ عَلَى الكُرْسِي كَفَضْلِ تِلْكَ الفِلَاةُ عَلَى تَلِكْ الحَلَقَةِ » [9]، فَهَذَا قُرْبٌ مُطْلَقٌ بالنِّسْبَةِ للهِ تعالى لَأَنَّهُ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلَاصِقٍ، والمخْلُوقَاتُ كُلُّها بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَتَقَارَبُ مِنْ صِغَرِها إلى عَظَمَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَهُوَ بَعِيدٌ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ بالنِّسْبَةِ لمقَاييسِنا، فَلا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِحَاطَةِ بُعْدِ مَا بَيْنَ العَرْشِ والأَرْضِ مِنْ سِعَتِهِ وَامْتِدَادِهِ.

 

قَالَ ابنُ مَنْدَه في وَصْفِ قُرْبِ الله: « لَقُرْبُهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ قَرِيبٌ غَيْرُ مُلَاصِقٍ وبَعِيدٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ يَسْمَعُ وَيَرَى، وَهُوَ بالمَنْظَرِ الأَعْلَى وَعَلَى العَرْشِ اسْتَوَى »[10].

 

وَقَدْ يَكُونُ القُرْبُ قُرْبَ الملائِكَةِ لأَنَّهُ ذَكَرَ فِي سِيَاقِ الآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى قُرْبِ الملائِكَةِ حَيْثُ قَالَ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 16، 17]، فَيَجُوزُ هنَا أَنْ يَكُونَ القُرْبُ قُرْبَ المَلَكَيْنِ.

 

وَأَمَّا القُرْبُ الوَارِدُ فِي آيَةِ الوَاقِعَةِ فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِحَالِ الاحْتِضَارِ؛ لأَنَّ الذِي يَحْضُرُ وَقْتَهَا الَملَائِكَةُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، كَمَا أَنْ قَوْلَهُ: ﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ الَملَائِكَةُ؛ إِذْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا القَرِيبَ في نَفْسِ المَكَانِ وَلَكِنْ لا نُبْصِرُه [11].

 

فَاللهُ تعالى قَرِيبٌ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، عَلِيمٌ بِالسَّرَائِرِ، يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وهو قَرِيبٌ بالعِلْمِ والقُدْرَةِ فِي عَامَّةِ الخَلَائِقِ أجْمَعِينَ، وقَرِيبٌ بِاللُّطْفِ والنُّصْرَةِ، وهذا خَاصٌّ بالمؤْمِنينِ، مَنْ تَقَّربَ مِنْه شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا تَقَرَّب مِنْهُ بَاعًا، وَهُوَ أَقْرَبُ إلى العَبْدِ مِنْ عُنِقِ رَاحِلَتِهِ، وهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مِنْ عَبْدِهِ بِقُرْبِ مَلائِكَتِهِ الذي يَطَّلِعُونَ عَلَى سِرِّهِ ويَصِلُونَ إِلَى مَكْنُونِ قَلْبِهِ.

 

ثانيًا: وُرُودُه فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ [12]

وَرَدَ الاسْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ في الكِتَابِ وهي:

قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].

 

وَقَوْلُهُ: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50].

 

ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى

قَالَ ابنُ جَرِيرٍ في قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]: « يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُه بِذَلِكَ: وَإِذَا سَأَلَكَ يَا مُحمدُ عِبَادِي عَنِّي أَيْنَ أنا؟ فَإِنِّي قَرِيبٌ مِنْهُمْ أسْمَعُ دُعَاءَهم وأُجِيبُ دُعْوَةَ الدَّاعِي منهم »[13].

 

وَقَالَ فِي قَوْلِه: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61]: « يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُ العِبَادَةَ، وَرَغِبَ إِليه في التَّوْبَةِ، مُجِيبٌ له إذا دَعَاهُ »[14].

 

وِفِي قَوْلِهِ: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ [سبأ: 50]: « قَالَ: إِنَّ رِبِّي سَمِيعٌ لِـمَا أَقُولُ لَكُمْ، حَافِظٌ له، وهو الُمجَازِي لِي عَلَى صِدْقِي فِي ذلك، وذلك مِنِّي غَيْرُ بَعِيدٍ فَيَتَعَذَّرُ عليه سَمَاعُ مَا أَقُولُ لكم وما تَقُولُونَ وَمَا يَقُولُهُ غَيْرُنا، وَلَكِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ، يَسْمَعُ كُلَّ ما يَنْطِقُ بِهِ، أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ »[15].

 

وَقَالَ الزَّجَّاجِيُّ: « (القَرِيبُ) فِي اللُّغَةِ عَلَى أَوْجُهٍ: القَرِيبُ الذي ليس بِبَعِيدٍ، فاللهُ تعالى قَرِيبٌ لَيْسَ بِبَعِيدٍ كَمَا قَالَ تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، أَيْ: أَنَا قَرِيبُ الإِجَابةِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ عز وجل: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]، وَكَمَا قَالَ عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].

 

وَكَمَا قَالَ عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].

 

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84].

 

وَاللهُ تعالى مُحِيطٌ بِالأَشْيَاءِ كُلِّها عِلْمًا لَا يَعْزُبُ عنه منها شيءٌ، وَكُلُّ هَذَا يُرَادُ بِهِ - واللهُ أَعْلَمُ - إِحَاطَةُ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وسُلْطَانِهِ وحُكْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ قُرْبُ الَمكَانِ وَالحُلُولِ فِي بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ جَلَّ اللُه وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [16].

 

وَقَالَ الخَطَّابِي: « ( القَرِيبُ ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ مِنْ خَلْقِهِ، قَرِيبٌ مِـمَّنْ يَدْعُوه بالإِجَابَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]» [17].

 

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ:

وَهُوَ القَرِيبُ وَقُرْبُهُ الُمخْتَصُّ بِال
دَّاعِي وَعَابِدِه عَلى الإِيمَانِ[18]

وَقَالَ السَّعْدِي: « ( القَرِيبُ الُمجِيبُ ) أَيْ: هُوَ تَعَالَى القَرِيبُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَقَرْبُهُ تَعَالَى نَوْعَانِ:

قُرْبٌ عَامٌّ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِعِلْمِهِ وَخِبْرَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ وَإِحَاطَتِهِ.

 

وَقُرْبٌ خَاصٌّ مِنْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَمُحِبِّيهِ، وهو قُرْبٌ لَا تُدْرَكُ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ آثارُهُ مِنْ لُطْفِهِ بِعَبْدِهِ وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ، وَمِنْ آثارِهِ الإِجَابةُ للدَّاعِينَ، والإِنَابةُ للعَابِدينَ.

 

فَهُوَ ( الُمجِيبُ ) إِجَابَةً عَامَّةً للدَّاعِينَ مَهْمَا كَانُوا وأَيْنَما كَانُوا وعَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا، كَمَا وَعَدَهم بهذا الوَعْدِ الُمطْلَقِ، وهو ( الُمجِيبُ ) إِجَابَةً خَاصَّةً للمُسْتَجِيبِينَ لَهُ الُمنْقَادِينَ لِشَرْعِهِ، وَهُوَ ( الُمجِيبُ ) أيضًا للمُضْطَرِّينَ ومَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهم مِنِ الَمخْلُوقِينَ وقَوِيَ تَعَلُّقُهم بِهِ طَمَعًا وَرَجَاءً وخَوْفًا » [19].

 

رابعًا: ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ

1- وَصَفَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه ( قَرِيبٌ ) مِنَ الدَّاعِي والُمتَقَرِّبِ إليه بأَنْوَاعِ الطَّاعَةِ والإِحْسَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

وَثَبُتَ في الصحيحينِ عن أبي مُوسَى الأَشْعَرِي أَنَّهم كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهم بالتَّكْبِيرِ فَقَالَ: « أَيُّهَا النَّاسُ! أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فإِنَّكم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إِنَّ الذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكم مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ » [20].

 

وفي الصحيحينِ أيضًا عنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ».

 

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ:

« وَقُرْبُه مِنَ العِبَادِ بِتَقَرُّبِهِم إِلَيْهِ مِـمَّا يُقِرُّ بِهِ جَمِيعُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، سَوَاء قَالُوا مَعَ ذلك: إِنَّهُ تَقُومُ به الأَفْعَالُ الاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ لَمْ يَقُولُوا.

وَأَمَّا مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ:

فَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَ العِبَادِ بِكَوْنِهِم يُقَارِبُونَه ويُشَابِهُونَه مِنْ بَعْضِ الوُجُوهِ فَيَكُونُونَ قَرِيبينَ منه! وهذا تَفْسِيرُ أَبِي حَامِدٍ والُمتَفَلْسِفَةِ، فَإِنَّهم يَقُولُونَ: الفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ!

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ قُرْبَهم بِطَاعَتِهم، وَيُفَسِّرُ قُرْبَه بإثَابَتِهِ! وَهَذَا تَفْسِيرُ جُمْهُورِ الجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ قُرْبٌ ولا تَقْرِيبٌ أَصْلًا.

 

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي مَعَانِي القُرْبِ - وَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ مَنْ يُنْكِرُهُ - قَرْبُ الَمعْرُوفِ والَمعْبُودِ إِلَى قُلُوبِ العَارِفِينَ العَابِدِينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ ويَقْرُبَ مِنْ قَلْبِهِ، وَالذي يُبْغِضُهُ يَبْعُدُ مِنْ قَلْبِهِ، لَكِنْ هَذَا لَيْسَ الُمرَادُ به أنَّ ذَاتَه نَفْسَها تَحِلُّ في قُلُوبِ العَارِفِينَ العَابِدِينَ! وإِنَّمَا فِي القُلُوبِ مَعْرِفَتُهُ وَعِبَادَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ والإِيمَانُ به، ولَكِنَّ العِلْمَ يُطَابِقُ الَمعْلُومَ.

 

وَهَذَا الإِيمَانُ الذي في القُلُوبِ هو ( الَمثَلُ الأَعْلَى ) الَّذِي لَهُ فِي السَّمَواتِ والأَرْضِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف: 84]، وَقَوْلِهِ: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 3].

 

وَقَدْ غَلَطَ فِي هَذِهِ الآيَةِ طَائِفَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَالفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهم فَجَعَلُوهُ حُلُولَ الذَّاتِ وَاتِّحَادَهَا بالعَابِدِ وَالعَارِفِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى فِي الَمسِيحِ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.

 

وَالذين يُثْبِتُونَ تَقْرِيبَهُ العِبَادَ إِلَى ذَاتِهِ هو القَوْلُ الَمعْرُوفُ للسَّلَفِ والأئِمَّةِ، وَهُوَ قُوْلُ الأَشْعَرِي وغَيْرِه من الكُلابِيَّةِ، فَإِنَّهم يُثْبِتُون قُرْبَ العِبَادِ إلى ذَاتِهِ وَكَذَلِكَ يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءَهُ عَلَى العَرْشِ بذاتِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ:

الاسْتِوَاءُ فِعْلٌ فَعَلَهُ فِي العَرْشِ فَصَارَ مُسْتَوِيًا عَلَى العَرْشِ، وهذا أيضًا قَوْلُ ابنِ عَقِيلٍ، وابنِ الزاغوني، وطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وغَيْرِهم.

 

وَأَمَّا دُنُوُهُ نَفْسُهُ وَتَقَرُّبُه مِنْ بَعْضِ عِبَادِهِ فَهَذَا يُثْبِتُه مِنْ يُثْبِتُ قِيَامَ الأَفْعَالِ الاخْتِيَارِيَّةِ بِنَفْسِهِ، وَمَجِيئَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنُزُولَهُ، واسْتِوَاءَهُ عَلَى العَرْشِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الإِسْلَامِ المَشْهُورِينَ وَأَهْلِ الحَدِيثِ، والنَّقْلُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ مُتَواتِرٌ.

 

وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فِي الإِسْلَامِ الجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهم مِنَ الُمعْتَزِلَةِ، وكَانُوا يُنْكِرُونَ الصِّفَاتِ والعُلُوَّ عَلَى العَرْشِ، ثُمَّ جَاءَ ابنُ كُلَّابٍ فَخَالَفَهم في ذلك وَأَثْبَتَ الصِّفَاتِ والعُلُوَّ عَلَى العَرْشِ، لَكِنْ وَافَقَهم على أَنَّهُ لَا تُقُومُ بِهِ الأُمُورُ الاخْتِيَارِيَّةُ، وَلِهَذَا أَحْدَثَ قَوْلَهُ فِي القُرْآنِ: إِنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِقُدْرَتِهِ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا القَوْلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ، بَلْ الُمتَوَاتِرِ عنهم أَنَّ القُرْآنَ كَلَامُ الله غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وأَنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، كَمَا ذُكِرَتُ أَلْفَاظُهم فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا.

 

فالذين يُثْبِتُونَ أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِهِ هُمُ الذين يَقُولُونَ إِنَّهُ يَدْنُو وَيَقْرُبُ مِنْ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: القُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَصْلُ هَؤْلَاءِ أَنَّه لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْرُبَ مِنْ شَيْءٍ وَلَا يَدْنُو إِلَيْهِ، فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ بهذا مع هذا كَانَ مِنْ تَنَاقُضِهِ؛ فَإِنَّهُ لِمْ يَفْهَمْ أَصْلَ القَائِلِينَ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ.

 

وَأَهْلُ الكَلَامِ قَدْ يَعْرِفُونَ مِنْ حَقَائِقِ أُصُولِهم وَلَوَازِمها مَا لَا يَعْرِفُهُ مَنْ وَافَقَهم عَلَى أَصْلِ الَمقَالَةِ، ولَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَها وَلَوَازِمَها، فَلِذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ في هذا البَابِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ وَآثارِ السَّلَفِ مُتَظَاهِرَةٌ بِالإِثْبَاتِ، وليس عَلَى النَّفْي دَليلٌ وَاحِدٌ لا مِنْ كِتَابٍ وَلَا مِنْ سُنَّةٍ وَلَا مِنْ أَثَرٍ، وإِنَّمَا أَصْلُهُ قَوْلُ الجَهْمِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ ابنُ كُلَّابٍ فَرَّقَ، وَوَافَقَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُقِرُّ بِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ وَمَا دَلَّ عليه الكِتَابُ والسُّنَّةُ، وِبِمَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ مِمَّا يُنَاقِضُ ذَلِكَ وَلَا يَهْتَدِي للتَّنَاقُضِ، ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 213][21].

 

2- وَصْفُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفْسَهُ بِالقُرْبِ مِنْ دَاعِيهِ وَعَابدِهِ والسَّاجِدِ لَهُ وَقُرْبُه مِنْهُم فِي جَوْفِ اللَّيْل وَفِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ لا يَتَنَافَى مَعَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَفَوْقِيَّتِهِ عَلَى عِبَادِه - وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا ثَبُتَ بِالأَدِلَّةِ الُمسْتَفِيضَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقَاسَ ذَاتُه على ذَوَاتِ خَلْقِهِ، أَوْ فِعْلُهُ عَلَى أَفْعَالِهم.

 

وفي تَوْضِيحِ هَذِهِ المَسْأَلَةِ يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ:

« وَأمَّا القُرْبُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].

 

وَقَوْلِهِ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].

 

وَ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الواقعة: 85].

 

وَقَدِ افْتَرَقَ النَّاسُ في هذا الَمقَامِ أَرْبَعَ فِرَقٍ:

فالجَهْمِيَّةُ النُّفَاةُ الذين يَقُولُونَ: لَيْسَ دَاخِلَ العَالَمِ، وَلَا خَارِجَ العَالَمِ، وَلَا فَوْقَ، ولَا تَحْتَ، لا يَقُولُونَ بِعُلُوِّهِ وَلَا بِفَوْقِيَّتِهِ، بَلِ الجَمِيعُ عِنْدَهُمْ مُتَأَوَّلٌ أَوْ مُفَوَّضٌ.

 

وَجَمِيعُ أَهْلِ البِدَعِ قَدْ يَتَمَسَّكُونَ بِنُصُوصٍ كَالخَوَارِجِ، والشِّيعَةِ، والقَدَرِيَّةِ، وَالرَّافِضَةِ، والُمرْجِئَةِ، وَغَيْرِهم، إلا الجَهْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ عَنِ الأَنْبِيَاءِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُوَافِقُ ما يَقُولُونَهُ مِنَ النَّفْي، ولهذا قَالَ ابنُ الُمبَارَكِ ويُوسُفُ بِنُ أَسْبَاطٍ: « إِنَّ الجَهْمِيَّةَ خَارِجُونَ عَنِ الثَّلَاثِ والسَّبْعِينَ فِرْقَةً، وَهَذَا أَحَدُ الوَجْهَينِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ ذَكَرَهما أبو عَبْدِ اللِه بنِ حَامدٍ وَغَيْرُه.

 

وَقِسْمٌ ثَانٍ يَقُولُونَ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، كَمَا يَقُولُهُ النَّجَّارِيَّةُ، وَكَثِيرٌ مِنْ الجَهْمِيَّةِ - عُبَّادُهم، وصُوفِيَّتُهم، وعَوَامُّهُمْ - يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَيْنُ وجودِ الَمخْلُوقَاتِ، كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الوَحْدَةِ القَائِلُونَ بِأَنَّ الوُجُودَ وَاحِدٌ، ومَنْ يَكُونُ قَوْلُهُ مُرَكَّبًا مِنَ الحُلُولِ وَالاتِّحَادِ، وهم يَحْتَجُّونَ بِنُصُوصِ الَمعِيَّةِ والقُرْبِ، وَيَتَأَوَّلُونَ نُصُوصَ العُلُوِّ، وَالاسْتِوَاءِ،وكُلُّ نَصٍّ يَحْتَجُّونَ بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ الَمعِيَّةَ أَكْثَرُها خَاصَّةٌ بِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ!

 

وِفِي النُّصُوصِ مَا يُبَيِّنُ نَقِيضَ قَوْلِهمْ، فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر: 1]، فَكُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يُسَبِّحُ، والُمسَبِّحُ غَيْرُ الُمسَبَّحِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الحديد: 2]، فَبَيَّنَ أَنَّ المُلْكَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3].

 

وَفِي الصَّحِيحِ: « أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ »، فَإِذَا كَانَ هُوَ الأَوَّلُ كَانَ هُنَاكَ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ، وَإِذَا كَانَ آخِرًا كَانَ هُنَاكَ مَا الرَّبُّ بَعْدَه، وإذا كَانَ ظَاهِرًا لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ كان هناك ما الرَّبُّ ظَاهِرٌ عَلْيهِ، وَإِذَا كَانَ بَاطِنًا لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ كَانَ هُنَاكَ أَشْيَاءٌ نُفِيَ عَنْهَا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ.

 

وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرِبي: « مِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى ( العَلِيُّ ) عَلَى مَنْ يَكُونَ عَلِيًّا، وَمَا ثَمَّ إلا هو؟ وَعَلى ماذا يَكُونُ عَلِيًّا، ومَا يَكُونُ إلا هو؟ فَعُلُوُّهُ لِنَفْسِهِ، وهو مِنْ حَيْثُ الوُجُودِ عَيْنُ الَموْجُودَاتِ، فالُمسَمَّى مُحْدَثَاتٌ هِيَ العَلِيَّةُ لِذَاتِهَا، وَلَيْسَتْ إِلَّا هو »، ثُمَّ قَالَ: « قَالَ الخَرَّازُ: وهو وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الحَقِّ وَلِسَانٌ مِنْ أَلْسِنَتِهِ يَنْطِقُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَه يَعْرِفُ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الأَضْدَاد: فهو عَيْنُ مَا ظَهَرَ، وَهُوَ عَيْنُ مَا بَطَنَ فِي حَالِ ظُهُورِهِ، وَمَا ثَمَّ مَنْ تَرَاهُ غَيْرُهُ، ومَا ثَمَّ مَنْ بَطَنَ عَنْهُ سِوَاهُ، فَهُوَ ظَاهِرٌ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ بَاطِنٌ عَنْ نِفْسِهِ، وَهُوَ الُمسَمَّى أبو سعيد الخراز » [22].

 

وَالَمعِيَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى المُمَازَجَةِ والُمخَالَطَةِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ القُرْبِ، فَإِنَّ عِنْدَ الحُلُولِيَّةِ أَنَّه في حَبْل الوَرِيدِ! كما هو عندهم في سَائرِ الأَعْيَانِ! وَكُلُّ هَذَا كَفْرٌ وَجَهْلٌ بالقُرْآنِ.

 

والقِسْمُ الثَّالِثُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ فَوْقَ العَرْشِ، وهو في كُلِّ مَكَانٍ، وَيَقُولُ: أَنَا أُقِرُّ بِهَذِهِ النُّصُوصِ وهذه، لا أَصْرِفُ وَاحِدًا منها عنْ ظَاهِرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ ذَكَرَهم الأَشْعَرِي فِي المَقَالَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ، وهو مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنَ السَّالِمِيَّةِ والصُّوفِيَّةِ.

 

وَهَذَا الصِّنْفُ الثَّالِثُ وِإِنْ كَانَ أَقْرَبَ إلى التَّمَسُّكِ بالنُّصُوصِ وَأَبْعَدَ عَنْ مُخَالَفَتِها مِنَ الصِّنْفَيْنِ الأَوَّلَينِ.

 

فَإِنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَتَّبِعْ شَيْئًا مِنَ النُّصُوصِ، بَلْ خَالَفَهَا كُلَّها.

 

وَالثَّانِي تَرَكَ النُّصُوصَ الكَثِيرَةَ الُمحْكَمَةَ والُمبَيِّنَةَ وتَعَلَّقَ بِنُصُوصٍ قَلِيلَةٍ اشْتَبَهَتْ عليه مَعَانِيها.

 

وأَمَّا هَذَا الصِّنْفُ فَيَقُولُ: أَنَا اتَّبَعْتُ النُّصُوصَ كُلَّها، لَكِنَّه غَالَطَ أَيْضًا؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ فهو مُخَالِفٌ لِلكِتَابِ والسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِها، مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِـمَا فَطَرَ اللهُ عليه عِبَادَهُ، وَلِصَرِيحِ الَمعْقُولِ وَللأَدِلَّةِ الكَثِيرَةِ، وهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً، يَقُولُونَ: إِنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَيَقُولُون: نَصِيبُ العَرْشِ مِنْهُ كَنَصِيبِ قَلْبِ العَارِفِ، كَمَا يَذْكُرُ مِثْلَ ذلك أَبُو طَالِبٍ وَغَيْرُه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَلْبَ العَارِفِ نَصِيبُهُ مِنْهُ المَعْرِفَةُ وِالإِيمَانُ وما يَتْبِعُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ العَرْشَ كَذَلِكَ نَقَضُوا قَوْلَهُمْ: إِنَّه نَفْسَهُ فَوْقَ العَرْشِ، وإنْ قَالُوا بِحُلُولِهِ بِذَاتِهِ فِي قُلُوبِ العَارِفِينِ كَانَ هذا قَوْلًا بالحُلُولِ الخَالِصِ!

 

وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ من الصُّوفِيَّةِ حَتَى صَاحِبُ ( مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ) فِي تَوْحِيدِهِ الَمذْكُورِ في آخِرِ الَمنَازِلِ فِي مِثْلِ هَذَا الحُلُولِ، ولِهَذَا كَانَ أَئْمَّةُ القَوْمِ يُحَذِّرُونَ مِنْ مِثْلِ هذا، سُئِلَ الجُنَيدُ عَنِ التَّوْحِيدِ فَقَالَ: هُوَ إِفْرَادُ الحُدُوثِ عَنْ القِدَمِ , فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَابُدَّ للمُوَحِّدِ من التَّمْيِيزِ بَيْنَ القَدِيمِ الخَالِقِ والُمحْدَثِ المَخْلُوقِ فلا يَخْتَلِطُ أَحَدُهما بالآخَرِ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي أَهْلِ الَمعْرِفَةِ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى فِي الَمسِيحِ والشِّيعَةِ فِي أَئِمَّتِهَا، وَكَثِيرٌ مِنَ الحُلُولِيَّةِ والإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الجُنَيْدِ وأَمْثَالِهِ مِنْ شِيُوخِ أَهْلِ المَعْرِفَةِ الُمتَّبِعِينَ للكِتَابِ والسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مْنْ نَفْي الحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إِثْبَاتِ الأَمْرِ والنَّهْي، وَيَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يُكَمِّلُوا مَعْرِفَةَ الحَقِيقَةِ كَمَا كَمَّلَهَا هُوَ وَأَمْثَالُه مِنَ الحُلُولِيَّةِ وِالإِبَاحِيَّةِ!

 

وَأَمَّا القِسْمُ الرَّابِعُ فَهُمْ سَلَفُ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتُها، أَئِمَّةُ العِلْمِ والدِّينِ مِنْ شُيُوخِ العِلْمِ والعِبَادَةِ، فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا وآمَنُوا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الكِتَابُ والسُّنَّةُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ للكَلِمِ، أَثْبَتُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ بِائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَهُمْ مِنْهُ بِائِنُونَ، وَهُوَ أَيْضًا مَعَ العِبَادِ عُمُومًا بِعِلْمِهِ، وَمَعَ أَنْبِيَائِهِ وأَوْلِيَائِهِ بِالنَّصْرِ والتَّأْيِيدِ والكِفَايَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَرِيبٌ مُجِيبٌ، ففي آيةِ النَّجْوَى دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِمْ.

 

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: « اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ في الأَهْلِ »، فهو سُبْحَانَهُ مَعَ الُمسَافِرِ فِي سَفَرِهِ وَمَعَ أَهْلِهِ في وَطَنِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هذا أَنْ تَكُونَ ذَاتُه مُخْتَلِطَةً بِذَوَاتِهِم، كَمَا قَالَ: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]؛ أَيْ: مَعَهُ عَلَى الإِيمَانِ، لَا أَنَّ ذَاتَهم في ذَاتِهِ، بَلْ هم مُصَاحِبُونَ له، وقَوْلُهُ: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 146]، يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهم فِي الإِيمَانِ وَمَوَالَاتِهِم، فاللهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، وعِلْمُهُ بِهِمْ مِنْ لَوَازِمِ الَمعِيَّةِ، كَمَا قَالَتْ الَمرْأَةُ: « زَوْجِي طَوِيلٌ النَّجَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ البَيْتِ مِنَ النَّادِ » فَهَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ، وَمَقْصُودُها: أَنْ تُعْرَفَ لَوَازِمُ ذَلِكَ وَهُوَ: طُولُ القَامَةِ وَالكَرَمِ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَقُرْبِ البَيْتِ مِنْ مَوْضِعِ الأَضْيَافِ ».

 

ثُمَّ قَالَ: « وَأَمَّا لَفْظُ ( القُرْبِ ) فَقَدْ ذَكَرَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الُمفْرَدِ، وَتَارَةً بِصِيغَةِ الجَمْعِ، فَالأَوَّلِ إِنَّمَا جَاءَ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وَكَذَلِكَ فِي الحَدِيثِ: « ارْبُعُوا عَلَى أَنْفُسِكم، فَإِنَّكم لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ولا غَائبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، إِنَّ الذِي تَدْعُونَ أَقْرَبُ إلى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ ».

 

وَجَاءَ بِصِيغَةِ الجَمْعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِه: ﴿ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون ﴾ [القصص: 3]، ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17]، و﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 19]، فالقُرْآنُ هُنَا حِينَ يَسْمَعُهُ مِنْ جِبْرِيلَ، والبَيَانُ هُنَا بَيَانُهُ لِـمَنْ يُبَلِّغُهُ القُرْآنَ، وَمَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وَأَئِمَّتِها وَخَلَفِها: أَنَّ النبيَّ غ سَمِعَ القُرْآنَ مِنْ جِبْرِيلَ، وجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنَ الله عز وجل.

 

وَأَمَّا قَوْلُه: ﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، و﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾، و﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ فِي كَلَامِ العَرَبِ للوَاحِدِ العَظِيمِ الذي له أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ، فَإِذَا فَعَلَ أَعْوَانُهُ فِعْلًا بِأَمْرِهِ قَالَ: نَحْنُ فَعَلْنا، كَمَا يَقُولُ الَملِكُ: نَحْنُ فَتَحْنَا هَذَا البَلَدَ وَهَزَمْنَا هذا الجَيْشَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لَأَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِأَعْوَانِهِ، وَاللُه تَعَالَى رَبُّ الَملَائِكَةِ، وَهُمْ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، وَلَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ أَفْعَالِهم وَقُدْرَتِهم وهو غِنِيٌّ عَنْهُمْ، وَلَيْسَ هُوَ كَالمَلِكِ الذي يَفْعَلُ أَعْوَانُهُ بِقُدْرَةٍ وَحَرَكَةٍ يَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْهُ، فَكَانَ قَوْلُهُ لِـمَا فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ: نَحْنُ فَعَلْنَا أَحَقُّ وَأَوْلَى مِنْ قوَلِ بَعْضِ الُملُوكِ ».

 

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا مِنَ الُمتَشَابِهِ الذي يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ تَفْسِيرَهُ فَقَالَ: « فَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ: ( نَحْنُ ) أَنَّ اللهَ فَعَلَ ذَلِكَ بِمَلَائِكَتِهِ، وإنْ كَانُوا لا يَعْرِفُونَ عَدَد الَملَائِكَةِ ولا أسْمَاءَهم وَلَا صِفَاتِهم وحَقَائِقَ ذَوَاتِهم، لَيْس الرَّاسِخُونَ كَالجُهَّالِ الذي لا يَعْرِفُونَ ( إنَّا ) و( نَحْنُ )، بَلْ يَقُولُون: أَلْفَاظًا لا يَعْرِفُونَ مَعَانِيهَا، أَوْ يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ الآلِهَةُ ثَلَاثَةً مُتَعَدِّدَةٌ أَوْ وَاحِدًا لَا أَعْوَانَ لَهُ!

 

وَمَنْ هَذَا قَوْلُ الله تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، و﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ [السجدة: 11]، فَإِنَّهُ يَتَوَفَّاهَا بِرُسُلِهِ الذين مُقَدَّمُهُمْ مَلَكُ الَموتِ، وَقَوْلُه: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، هُوَ قِرَاءَةُ جِبْرِيلَ لَهُ عَلَيْهِ واللهُ قَرَأَهُ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ [الشورى: 51]، فَهُوَ مُكَلِّمٌ لِمُحَمدٍ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ وإرْسَالِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا ثَابِتٌ للمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 94]، وَإِنْبَاءُ الله لهم إِنَّمَا كَانَ بِوَاسِطَةِ مُحَمَّدٍ إِلَيْهِمْ.

 

وَكَذَلِكَ قَوْلُه: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136]، ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 231]، فَهُوَ أَنْزَلَ عَلَى الُمؤْمِنِينَ بِوَاسِطَةِ مُحمدٍ.

 

وَكَذَلِكَ ذَوَاتُ الَملَائِكَةِ تَقْرُبُ مِنْ ذَاتِ الُمحْتَضِرِ، وَقَوْلُه: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُه يَعْلَمُونَ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ العَبْدِ كَمَا ثَبُتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: « إِذَا هَمَّ العَبْدُ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: اكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا قَالَ: اكْتُبُوهَا لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ... » إِلَى آخِرِ الحَدِيثِ، فالَملَائِكَةُ يُعْلَمُونَ مَا يَهمُّ بِهِ مِنْ حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ، وَالهمُّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النَّفْسِ قَبْلَ العَمَلِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَهُوَ يُوَسْوِسُ له بما يَهْوَاهُ فَيَعْلَمُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ.

 

فَقَوْلُهُ: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، هُوَ قُرْبُ ذَوَاتِ المَلَائِكَةِ وقُرْبُ عِلْمِ الله منه، وهو رَبُّ الَملَائِكَةِ والرُّوحِ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَذَاتُهم أَقْرَبُ إِلَى قَلْبِ العَبْدِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهم أَقْرَبَ إليه مِنْ بَعْضٍ، ولهذا قَالَ فِي تَمَامِ الآيةِ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17، 18].

 

وَهَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الزخرف: 80]، فَقَوْلُهُ ﴿ لَدَيْهِمْ ﴾ ظَرْفٌ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]، حِينَ يَتَلَقَّى الُمتَلَقِّيَانِ، ما يَقُولُ: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]، ثُمَّ قَالَ: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]؛ أَيْ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ.

 

فَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ عَنِ الَملَائِكَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، و« هُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ »، فهذا إِنَّمَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّه ( قَرِيبٌ ) مِنَ العِبَادِ فِي كُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذلك بَعْضِ الأَحْوَالِ، وَقَدْ قَالَ فِي الحَدِيثِ: « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ».

 

خامسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ

1- القرب أثناء السجود:

قَالَ تَعَالَى: ﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 19]، وَالُمرَادُ القُرْبُ مِنَ الدَّاعِي فِي سُجُودِهِ، كَمَا قَالَ: « وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجِابَ لَكُمْ»، فَأَمَر بِالاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ مَعَ قُرْبِ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ.

 

وَقَدْ أَمَرَ الُمصَلِّيَ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ: «سُبْحَانَ رِبِّيَ الأَعْلَى»؛ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ.

 

وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: « وذلك أَنَّ السُّجُودَ غَايَةُ الخُضُوعِ والذُّلِّ مِنَ العَبْدِ، وَغَايَةُ تَسْفيلِهِ وَتَوَاضُعِهِ بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ للهِ، وَهُوَ وَجْهُهُ، بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ.

 

فَنَاسَبَ فَي غَايَةِ سُفُولِهِ أَنْ يَصِفَ رَبَّه بأَنَّهُ الأَعْلَى.

 

وَالأَعْلَى أَبْلَغُ مِنَ الْعَلِيِّ فَإِنَّ العَبْدَ ليس له مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ، هو باعْتِبَارِ نَفْسِهِ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَلَيْسَ له مِنَ الكِبْرِيَاءِ والعَظَمَةِ نَصِيبٌ.

 

وَكَذَلِكَ فِي العُلُوِّ فِي الأَرْضِ لَيْسَ للعبدِ فيه حَقٌّ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ يُرِيدُ العُلُوَّ فِي الأَرْضِ كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ.

 

وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَحْصُلُ لَهُ العُلُوُّ بالإِيمَانِ، لا بإرَادَتِهِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 138، 139].

 

2- كُلَّمَا كَمَّلَ العَبْدُ مَرَاتِبَ العُبُودِيَّةِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الله تَعَالَى:

فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ غَايَةَ سُفُولِ العَبْدِ وَخُضُوعِهِ سَبَّحَ اسْمَ رَبِّه الأَعْلَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ الأَعْلَى، وَالعَبْدُ الأَسْفَلُ، كَمَا أَنَّه الرَّبُّ، والعَبْدَ العَبدُ، وهو الغَنِيُّ، والعَبْدُ الفَقِيرُ، وَلَيْسَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالعَبْدِ إِلَّا مَحْضُ العُبُودِيَّةِ، فَكُلَّمَا كَمَّلَها قَرُبَ العَبْدُ إليه؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَرٌّ، جَوَادٌ مُحْسِنٌ، يُعْطِي العَبْدَ مَا يُنَاسِبُه، فَكُلَّمَا عَظُمَ فَقْرُه إِلَيْهِ كَانَ أَغْنَى، وَكُلَّمَا عَظُمَ ذَلَّه لَهُ كَانَ أَعَزَّ، فَإِنَّ النَّفْسَ لِمَا فِيهَا مِنْ أَهْوَائِهَا الُمتَنَوِّعَةِ وتَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ لَهَا تَبْعُدُ عَنِ الله حَتَّى تَصِيرَ مَلْعُونَهً بَعِيدَةً مِنَ الرَّحْمَةِ، واللَّعْنَةُ هي: البُعْدُ، ومِنْ أَعْظَمِ ذُنُوبِهَا إرَادَةِ العُلُوِّ فِي الأَرْضِ، والسُّجُودُ فيه غَايَةُ سُفُولِها، قَالَ تَعَالِى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

 

وَفِي الصَّحِيحُ: « لَا يَدْخُلُ الجَنَّةُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ».

 

وَقَالَ لِإبْلِيسَ: ﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [الأعراف: 13].

 

وَقَالَ: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، فَهَذَا وَصْفٌ لَهَا ثَابِتٌ، لَكِنْ مَنْ أَرَادَ أنْ يُعْلِيَ غَيْرَها جُوهِدَ، وَقَالَ: « مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله »، وَ« كَلِمَةُ الله »: هي خَبَرُهُ وَأَمْرُه، فَيَكُونُ أَمْرُه مُطَاعًا مُقَدَّمًا عَلَى أَمْرٍ غَيْرِه، وَخَبَرُه مُصَدَّقٌ عَلَى خَبْرِ غَيْرِهِ.

 

وَقَالَ: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾: هو العِبَادَةُ والطَّاعَةُ والذُّلُّ ونحو ذلك، يُقَالُ: دِنْتُهُ فَدان: أَيْ: ذَلَّلْتُهُ فَذَلَّ ».

 

3- شَرْحُ حَدِيثِ « مَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا... »:

ثُمَّ قَالَ: « وَقَوْلُهُ « وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً »، فَقُرْبُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِقُرْبِ الآخَرِ منه، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ قُرْبُ الثَّانِي هُوَ اللَّازِمُ مِنْ قُرْبِ الأَوَّلِ، وَيَكُونُ مِنْه أيضًا قُرْبٌ بِنَفْسِهِ، فَالأَوَّلُ: كَمَنْ تَقَرَّبَ إلى مَكَّةَ أَوْ حَائِطِ الكَعْبَةِ، فَكُلَّمَا قَرُبَ مِنْهُ قَرُبَ الآخَرُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِعْلٌ، وَالثَّانِي: كَقُرْبِ الإِنْسَانِ إِلَى مَنْ يَتَقَرَّبُ هو إليه كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الأَثَرِ الإِلَهِي، فَتَقَرُّبُ العَبْدِ إِلَى الله وَتَقرِيبُه لَهُ نَطَقَتْ به نُصوصٌ مُتَعَدِّدَةٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء: 57].

 

﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [الواقعة: 88]، ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 28]، ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 172].

 

﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45].

 

« وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاء ما افْتَرَضْتُهُ عليه » الحَدِيث.

 

وفي الحديثِ: « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ ».

 

وَقَدْ بَسَطْنا الكَلَامَ على هذه الأحَادِيثِ ومَقَالاتِ النَّاسِ فِي هَذَا المَعْنَى في (جَوَابِ الأَسْئِلَةِ الَمصْرِيَّةِ عَلَى الفُتْيَا الحَمَوِيَّةِ ) فهذا قُرْبُ الرَّبِّ نِفسِهِ إِلَى عَبْدِه، وهو مِثْلُ نُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وفي الحديثِ الصحيحِ: « إِنَّ اللهَ يَدْنُو عَشِيَّةَ عَرَفَةَ » الحديث، فهذا القُرْبُ كُلُّه خَاصٌّ، وليس في الكِتَابِ والسُّنَّةِ قَطْ قُرْبُ ذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ، فَعُلِمَ بذلك بُطْلَانُ قَوْلِ الحُلُولِيَّةِ، فإنَّهم عَمَدُوا إلى الخَاصِّ الُمقَيَّدِ فَجَعَلُوهُ بِذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا جَعَلَ إِخْوَانُهم الإِتِّحَادِيَّةُ ذلك في مِثْلِ قَوْلِهِ: « كُنْتُ سَمْعَهُ »، وفي قوله: « فَيَأْتِيهِمْ في صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ »، وأَنَّ اللهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبيهِ: « سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ».

 

وَكُلُّ هَذِهِ النُّصُوصِ حُجَّةٌ عليهم، فإذا فُصِّلَ تَبَيَّنَ ذَلِكَ، فالدَّاعِي والسَّاجِدُ يُوَجِّهُ رُوحَهُ إلى الله، والرُّوحُ لها عُرُوجٌ يُنَاسِبُها، فَتَقْرُبُ مِنَ الله تَعَالَى بِلَا رَيْبٍ بِحَسَبِ تَخَلُّصِها مِنَ الشَّوَائِبِ، فَيَكُونُ اللهُ تعالى مِنْهَا قَرِيبًا قُرْبًا يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِها، وَيَكُونُ منه قُرْبٌ آخَرُ كَقُرْبِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وفي جُوْفِ الليلِ، وإلى مَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا.

 

وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ القُرْبَ نَعْتُه، ليس هو مُجَرَّدَ ما يَلْزَمُ مِنْ قُرْبِ الدَّاعِي والسَّاجِدِ، وَدُنُوُّه عَشِيَّةَ عَرَفَةَ هُوَ لِمَا يَفْعَلُهُ الحَاجُّ لَيْلَتَئِذٍ مِنَ الدُّعَاءِ، والذِّكْرِ، والتَّوْبَةِ، وِإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ أنَّ أَحَدًا لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَمْ يَحْصُلْ منه سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الدُّنُوُّ إليهم، فإِنَّهُ يُبَاهِي الَملَائِكَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّه ليس هناك أَحَدٌ لَمْ يَحْصُلْ، فَدَلَّ ذَلك عَلَى تَقَرُّبِهم إِلَيْهِ بِسبَبِ قُرْبِهِ مِنْهُمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ الآخَرُ.

 

والنَّاسُ في آخِرِ الليلِ يَكُونُ في قُلُوبِهِم مِنَ التَّوَجُّهِ والتَّقَرُّبِ والرِّقَّةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الوَقْتِ، وهذا مُنَاسِبٌ لِنُزُولِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وقَوْلِهِ: « هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ ».

 

ثُمَّ إِنَّ هَذَا النُّزُولَ هل هو كَدُنُوِّهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ مُعَلَّقٌ بِأَفْعَالٍ؟ فَإِنَّ فِي بِلَادِ الكُفْرِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُومُ اللَّيْلَ فلا يَحْصُلُ لَهُمْ هَذَا النُّزُولُ، كَمَا أَنَّ دُنُوَّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لَا يَحْصُلُ لِغَيْرِ الحُجَّاجِ في سَائِرِ البِلَادِ، إِذْ لَيْسَ لهَا وُقُوفٌ مَشْرُوعٌ، ولا مُبَاهَاةُ الَملَائِكَةِ، وكَمَا أَنَّ تَفْتيحَ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَتَغْلِيقَ أَبْوَابِ النَّارِ، وَتَصْفِيدَ الشَّيَاطِينَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ إِنَّما هُوَ للمُسْلِمِينَ الذين يَصُومُونَهُ، لا الكُفَّارِ الَّذِينَ لا يَرَوْنَ لَهُ حُرْمَةً.

 

وَكَذَلِكَ اطَّلَاعُهُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ وَقَوْلِهِ لَهم: « اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ » كَانَ مُخْتَصًّا بِأُولَئِك أَمْ هُوَ عَامٌّ؟ فِيهِ كَلَامٌ ليس هذا مَوْضِعَهُ.

 

وَالكَلَامُ فِي هَذَا القُرْبِ مِنْ جِنْسِ الكَلَامِ في نُزُولِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَدُنُوِّهُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى مِنَ الشَّجَرَةِ وَقَوْلِهُ: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 8]، وَقَدْ بُسِطَ الكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الَموْضِعِ..[23].



[1] رَوَى مسلمٌ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: « ما اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بيتٍ مِنْ بِيوتِ الله، يَتْلُونَ كِتابَ الله ويَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نزلتْ عَليهم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملائكةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ».

[2] َروَى الإمامُ أَحمدُ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (5507) عن أنسِ بنِ مالكٍ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَا اجْتَمَعَ قَومٌ عَلَى ذِكْرٍ، فَتَفَرَّقُوا عنه إلا قِيلَ لَهُمْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُم »، ومَجَالِسُ الذِّكْرِ هِيَ المجالسُ التي تُذَكِّرُ بِالله وبآياتهِ وأحكامِ شرعهِ ونحو ذلك.

[3] في الصحيحين عن أبي هريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ غَدَا إلى المسْجِدِ أَوْ رَاحَ أَعَدَّ اللهُ له في الجنةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أو رَاحَ ».

وفي صحيح مُسْلِمٍ عَنْه أيضًا أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ تَطَهَّرَ في بيتهِ ثُمَّ مَضَى إلى بيتٍ مِنْ بيوتِ الله لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الله كانتْ خُطُواتُه: إِحدَاها تَحطُّ خَطِيئَةً، والأُخْرَى تَرْفَعُ دَرجةً ».

[4] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُه، لا يَمْنَعُه أَنْ يَنْقَلِبَ إِلى أهلهِ إلا الصلاةُ ».

ورَوَى البُخَاريُّ عَنه أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « الملائكةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكم مَا دامَ في مُصَلَّاهُ الذي صَلَّى فيه، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللهُمَّ ارْحَمْه ».

[5] رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْدٍ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لعلي بنِ أبي طالبٍ: « فوالله لأنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ ».

رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « مَنْ دَعَا إلى هُدَىً كَانَ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَه، لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهم شيئًا ».

[6] رَوَى التِّرْمِذِيُّ وصحَّحَه الألبانيُّ عن أبي أمامةَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إنَّ اللهَ وملائكتَه، حتى النملةَ فِي جُحْرِها، وحتى الحوتَ في البحرِ لَيُصَلُّون عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخيرَ »، وَصلاةُ الملائكةِ الاسْتِغْفَارُ.

[7] لسان العرب (1/ 662)، والمفردات (ص: 663)، واشتقاق أسماء الله (ص: 146).

[8] تفسير ابن كثير (3/ 296).

[9] صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (2/ 77) (361)، قال الألباني: « لا يصح في صفة الكرسي غير هذا الحديث »، انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 223) (109).

[10] مختصر العلو (ص: 264).

[11] مجموع الفتاوى (5/ 502)، (6/ 19)، والقواعد المثلى لابن عثيمين (ص: 65).

[12] النهج الأسمى (2/ 299-316).

[13] جامع البيان (2/ 92).

[14] المصدر السابق (12/ 38).

[15] المصدر السابق (22/ 72).

[16] اشتقاق أسماء الله (ص: 146-147)، وانظر تفصيل القول فيما ذكره في آخر كلامه في آثار الإيمان بهذا الاسم.

[17] شأن الدعاء (ص: 102-103).

[18] النونية (2/ 229).

[19] تيسير الكريم (5/ 304).

[20] صحيح: سبق تخريجه.

[21] مجموع الفتاوى (5/ 465-467).

[22] وهذا باطل كما ترى، وهو ما يسمى بالحلول والاتحاد.

[23] مجموع الفتاوى (5/ 227-242) باختصار.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تقنيات المستقبل القريب!!
  • الرسالة العاجلة القريبة إلى من أصيب بمصيبة
  • معاني أسماء الله الحسنى ومقتضاها (القريب)
  • لأنك ربي القريب (درس المسجد)
  • معاني أسماء الله: القوي، المتين، القاهر، القهار، القريب، الوارث
  • معاني أسماء الله الحسنى: الحكم، الحكيم، الكريم، الوهاب، البر، القريب
  • القوي المتين جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)
  • القيوم جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • الكبير المتكبر جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • المبين جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • المجيب جل جلاله وتقدست أسماؤه
  • الوكيل الكفيل جل جلاله

مختارات من الشبكة

  • كيف تتعبد لله تعالى باسمه "القريب" الوارد في قوله تعالى: "إن ربي قريب مجيب"(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القريب المبارك والقريب المشؤوم في الفرائض (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تحريم ادعاء بنوة الله أو محبته جل جلاله وتقدست أسماؤه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الوتر جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الواسع جل جلاله، وتقدست أسماؤه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الوارث جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • النور جل جلاله وتقدست أسماؤه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الناصر- النصير جل جلاله، وتقدست أسماؤه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المقدم – المؤخر جل جلاله، وتقدست أسماؤه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المهيمن جل جلاله، وتقدست أسماؤه (2)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب