• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فتاوى الطلاق الصادرة عن سماحة مفتي عام المملكة ...
    أ. د. عبدالله بن محمد الطيار
  •  
    عناية النبي بضبط القرآن وحفظه في صدره الشريف
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    على علم عندي
    عبدالسلام بن محمد الرويحي
  •  
    عظمة الإسلام وتحديات الأعداء - فائدة من كتاب: ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    خطبة: أهمية التعامل مع الأجهزة الإلكترونية
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    نصيحتي إلى كل مسحور باختصار
    سلطان بن سراي الشمري
  •  
    الحج عبادة العمر: كيف يغيرنا من الداخل؟
    محمد أبو عطية
  •  
    تفسير سورة البلد
    أبو عاصم البركاتي المصري
  •  
    فضل يوم عرفة
    محمد أنور محمد مرسال
  •  
    خطبة: فضل العشر الأول من ذي الحجة
    يحيى سليمان العقيلي
  •  
    خطبة: اغتنام أيام عشر ذي الحجة والتذكير بيوم عرفة
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    حقوق الأم (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    وقفات مع عشر ذي الحجة
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    من مائدة العقيدة: شروط شهادة أن لا إله إلا الله
    عبدالرحمن عبدالله الشريف
  •  
    تحريم صرف شيء من مخلوقات الله لغيره سبحانه وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    الله يخلف على المنفق في سبيله ويعوضه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / فقه وأصوله
علامة باركود

الحكم إذا تعارضت مفسدتان

د. سالم جمال الهنداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/6/2012 ميلادي - 18/7/1433 هجري

الزيارات: 127825

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الحكم إذا تعارضت مفسدتان


الحمد لله مجيب الداعين، ومثيب الساعين، ومعطي الطالبين، ومرضي الراغبين، ومنجد الهالكين، ومرشد السالكين، رحيم بالمؤمنين، رحمان تعم رحمته الطائعين والعاصين.

 

أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نبلغ بها أحسن المآب.

 

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث لتشريع الملة وتوجيه الخطاب، وإيضاح الأحكام من المباح والمندوب والمحظور والمفروض والواجب والاستحباب، والأمر بأدائها بالالتزام والإيجاب.

 

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الجزاء وفصل الخطاب.

 

أما بعد:

لقد أصل لنا علماؤنا –رحمهم الله- أصولاً  مهمة في شتى العلوم والفنون، وقعدوا لنا قواعد عظيمة النفع، كثيرة الفوائد، يرجع إليها الفقيه والمتفقه لينهل من معينها، ويعول عليها المفتي في فتواه، إنها قواعد الفقه.

 

يقول الإمام القرافي المالكي –رحمه الله- عن فوائدها وأهميتها:

وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف، فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع وحاز قصب السبق من فيها برع.

 

ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها، ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب[1].

 

وقال العلامة جلال الدين السيوطي –رحمه الله- عن فوائدها وأهميتها:

اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممر الزمان؛ ولهذا قال بعض أصحابنا: الفقه معرفة النظائر[2].

 

ومن هذه القواعد:

قاعدة: [إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما][3].


ولقد ذكر الفقهاء قواعد قريبة المعنى من هذه القاعدة، منها:

• يُختار أهون الشَّرين.

 

• الضرر الأشد، يزال بالضرر الأخف.

 

• يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما.

 

• تحتمل أخف المفسدتين لدفع أعظمهما.

 

• إذا اجتمع مكروهان، أو محظوران، أو ضرران، ولم يمكن الخروج عنهما وجب ارتكاب أخفهما.

 

تعريف المفسدة:

قال ابن منظور: الفساد: نقيض الصلاح، فسد يفسد ويفسد وفسد فسادًا وفسودًا، فهو فاسد وفسيد فيهما، ولا يقال انفسد وأفسدته أنا.


وقوله تعالى: ﴿ويسعون في الأرض فسادًا﴾ نصب فسادًا؛ لأنه مفعول له، أراد يسعون في الأرض للفساد.


وقوم فسدى كما قالوا ساقط وسقطى، قال سيبويه: جمعوه جمع هلكى لتقاربهما في المعنى.


وأفسده هو واستفسد فلان إلى فلان، وتفاسد القوم: تدابروا وقطعوا الأرحام، واستفسد السلطان قائده إذا أساء إليه حتى استعصى عليه.


والمفسدة: خلاف المصلحة، والاستفساد: خلاف الاستصلاح. وقالوا: هذا الأمر مفسدة لكذا أي: فيه فساد، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للعقل، أي مفسده[4]

 

وفي المعجم الوسيط:

المفسدة: الضرر، يقال هذا الأمر مفسدة لكذا، فيه فساده، وما يؤدي إلى الفساد من لهو ولعب ونحوهما، قال أبو العتاهية:

إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة

 

جمعها: مفاسد[5].

 

شريعتنا تدعوا إلى المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها:

قال صاحب  «تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية»:

«إن هذه الشريعة خير كلها ومصالح كلها وعدل كلها، فلم تدع خيرًا إلا دلت عليه ولا شرًا إلا حذرت منه، وقد جاءت بأصلين عظيمين هما: تقرير المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- خيرًا إلا دلنا عليه ولا شرًا إلا حذرنا منه، فلا تجد فعلاً أو قولاً فيه مصلحة إلا والشريعة قد أمرت به أمر إيجاب أو استحباب، ولا فعلاً أو قولاً فيه مفسدة إلا والشريعة قد نهت عنه إما نهي تحريم أو كراهة؛ فالواجب إذًا هو فعل المصالح كلها، واجتناب المفاسد كلها، بحيث لا يقر الإنسان على ترك مصلحة ولا فعل مفسدة، لكن هذا عند عدم تعارض المصالح والمفاسد.

 

لكن لو قدرنا تعارض مصلحتين بحيث يؤدي فعلنا لأحدهما تفويت الأخرى، أو تعارض مفسدتين بحيث يؤدي ترك أحدهما إلى فعل الأخرى، ففي هذه الحالة تكون ملزمين بترك إحدى المصلحتين وبالوقوع في إحدى المفسدتين، فأي المصالح يقدم وأي المفاسد يجتنب هذا هو ما تجيب عليه هاتان القاعدتان: [يدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما، ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما]، فالأولى: في تعارض المفاسد، والثانية: في تعارض المصالح.

 

فأما الأولى: فتقضي قضاءً جازمًا بأنه عند تعارض المفاسد فإنه ينظر فيهما هل هما متساويتان في المفسدة؟ أو أن إحداهما أشد مفسدة من الأخرى؟

 

فإن كانت هذه المفاسد متساوية: فإن الإنسان يخير بترك أحدهما؛ إذ لا مرجح لإحداهما على الأخرى.

 

أما إذا كانت إحداهما أشد مفسدة من الأخرى: فإن الواجب هو اجتناب المفسدة الأشد بارتكاب المفسدة الأخف.

 

وكذلك إذا تعارضت مصلحتان، فإن الواجب حينئذٍ هو النظر بينهما هل هما متساويتان في المصلحة أو أن إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى.

 

فإن كانتا متساويتين في المصلحة: فإن الإنسان يخير بفعل إحداهما؛ إذ لا مرجح لإحداهما على الأخرى، هذا على تقدير استواء المصالح والمفاسد، وإلا فالمراد إنما هو التقسيم وحصر الأصناف فقط.

 

أما إذا كانت إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى: فإن المشروع حينئذٍ هو فعل ما كانت مصلحته أكبر بتفويت ما كانت مصلحته أقل[6].


وقال الدكتور/ محمد الزحيلي:

«إن الشريعة الإسلامية جاءت لمنع المفاسد، فإذا وقعت المفاسد فيجب دفعها ما أمكن، وإذا تعذر درء الجميع لزم دفع الأكثر فسادًا فالأكثر؛ لأن القصد تعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فإذا اضطر إنسان لارتكاب أحد الفعلين الضارين، دون تعيين أحدهما، مع تفاوتهما في الضرر أو المفسدة، لزمه أن يختار أخفهما ضررًا ومفسدة؛ لأن مباشرة المحظور لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة، والضرورة تقدر بقدرها، ومراعاة أعظم الضررين بإزالته؛ لأن المفاسد تراعى نفيًا، والمصالح تراعى إثباتًا.

 

ومستند هذه القاعدة قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].

 

فبين الله تعالى أن مفسدة أهل الشرك في الكفر بالله، والصد عن هداه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه وفتنة أهله أكبر عند الله، وأعظم مفسدة من قتالهم في الشهر الحرام، فاحتملت أخف المفسدتين لدفع أشدهما وأعظمهما.

 

وكذلك في صلح الحديبية فإن ما فيه من ضيم على المسلمين، استشكله عمر رضي الله عنه، أخفُّ ضررًا ومفسدة من قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا متخفين بدينهم في مكة، ولا يعرفهم أكثر الصحابة، وفي قتلهم مَعَرَّة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة احتمال أخف الضررين لدفع أشدهما، وهو ما أشار إليه قوله عز وجل: ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [الفتح: 25][7].

 

وقال ابن نجيم - رحمه الله -  في «الأشباه والنظائر»:

قال الزيلعي في باب شروط الصلاة: ثم الأصل في جنس هذه المسائل أن من ابتلي ببليتين، وهما متساويتان يأخذ بأيتهما شاء، وإن اختلفا يختار أهونهما؛ لأن مباشرة الحرام لا تجوز إلا للضرورة ولا ضرورة في حق الزيادة[8].

 

وقال صاحب كتاب «القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير»:

إن مدار الشريعة على جلب المصالح ودفع المفاسد، وعلى أن الأصل في كل مصلحة تحقيقها وإيجادها، وأن الأصل في كل مفسدة دفعها ومنع حصولها.

 

فإذا تزاحمت مصلحتان بحيث لم يمكن تحصيلهما معا نُظر في ذلك إلى أعلى المصلحتين بتحصيلها، وإن ترتب عليه إهدار المصلحة الأخرى التي هي دونها.

 

وإذا تزاحمت مفسدتان بحث لم يمكن دفعهما معًا نظر في ذلك، إلى أعلى المفسدتين بدفعها وإن ترتب عليه ارتكاب المفسدة الأخرى التي هي دونها[9].

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

«وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات»[10].

 

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:

وليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحة ومفسدة، وجب عليه أمران:  أمر علمي، وأمر عملي.

 

فالعلمي: معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة، فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إيثار الأصلح له[11].

 

وقال أيضًا:

فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان وأن لا يفوت منها شيء فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبًا للشارع[12].

 

صور تطبيقية لهذه القاعدة:

1- مثال واقعي:

رجل تزوج امرأة ووجدها سيئة العشرة[13]، أو على حالٍ لا يحبه ولا يرضاه، وله منها أولاد، فهل يطلقها ليتخلص من ضررها؟ أم ماذا؟

 

الجواب: نجد في هذه المسألة ضرران:

الأول: أنه يتأذى ويتضرر من عشرة هذه الزوجة.

 

والثاني: فساد أولاده، إن له أولاد، وقد يُهمل في تربيتهم إذا بعدوا عنه، وقد تفسد أخلاقهم، وكم من أطفال وشباب فسدوا بسبب طلاق الأبوين.

 

ففي هذه الحالة: يوازن بين الضررين  أيهما أشد من الآخر:

الأول: فساد أولاده، وهم ثمرة الفوائد، ومغنم العمر، ويتأتى منهم الولد الصالح.

 

والثاني: سوء عشرة زوجته.

 

فلو كان الضرر الأعظم فساد الأولاد  وضياع مستقبلهم، وجب عليه أن يأخذ بالضرر الأصغر ويصبر على الزوجة  وسوء عشرتها ويحاول أن يغير من طباعها وعاداتها السيئة ما استطاع.

 

2- مثال آخر:

اختيار  ولي الأمر [الرئيس أو الحاكم]:

قال إمام الحرمين –رحمه الله-:

الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا.


مهمتها: حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين[14].


فيجب علينا كمسلمين أن نختار لهذا المنصب الخطير الرجل الكفء، الذي توافرت فيه الشروط التي حددها العلماء.

 

قال الإمام الماوردي –رحمه الله-:

وأما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة:

أحدها: العدالةعلى شروطها الجامعة.


والثاني: العلم، المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.


والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.


والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.


والخامس: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.


والسادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.


والسابع: النسب، وهو أن يكون من قريش؛ لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه[15].

 

لكن إذا لم نجد الأكفء، ماذا نفعل؟

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:

«إذا عرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ [التغابن: 16] ، ويقول: ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾ [البقرة: 286]»[16].


شيخ الإسلام يتكلم هنا عن الحاكم،  أن عليه أن يختار للولايات الأكفء والأصلح، فإذا تعذر لسبب من الأسباب، فعليه أن يختار الأمثل فالأمثل.

 

والأمر ينطبق على الأفراد، في النظام الانتخابي الذي تسير عليه بعض الدول العربية الآن كمصر وتونس وغيرها.

 

فيجب على الفرد المسلم أن يختار لهذا المنصب الجليل الأكفء والأصلح فيمن يتقدم لهذا المنصب الخطير، وهذه شهادة يسأل عنها العبد المسلم يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، يقول تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2].

 

لكن إذا لم يوجد من اكتملت فيه الشروط التي حددها العلماء:

حينئذ يختار أفضل الموجودين ممن رُشحوا لهذا المنصب الجليل.

 

وإذا لم يجد بينهم الأمثل، وافتقدوا الشروط التي حددها العلماء وغلب فيهم الضرر:

يختار أقلهم ضررًا، كما تقول القاعدة الفقهية: [يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما]، وقاعدة: [إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما].

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

لاشكَّ أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلاَّ على وجوب تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدامِ المفاسدِ وتقليلها.

 

فكلَّما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمرٍ ما يُوجِبُ له مصلحةً من وجهٍ ومفسدةً من وجهٍ وجبَ عليه عند ذلك الترجيحُ، فيأخذ لنفسه بالأسَدِّ والأكمل والأرشد والأصلح»[17].

 

وقال أيضًا:

«الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها»[18].

 

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله-:

وليعلم العاقل أن العقل والشرع يوجبان تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، فإذا عرض للعاقل أمر يرى فيه مصلحة ومفسدة، وجب عليه أمران:  أمر علمي، وأمر عملي.

 

فالعلمي: معرفة الراجح من طرفي المصلحة والمفسدة، فإذا تبين له الرجحان وجب عليه إيثار الأصلح له[19].

 

ومن الصور تطبيقية لهذه القاعدة:

1- تجويز أخذ الأجرة على ما دعت إليه الضرورة من الطاعات، كالأذان، والإمامة وتعليم القرآن والفقه.

 

2- وتجويز السكوت على المنكر إذا كان يترتب على إنكاره ضرر أعظم، كما تجوز طاعة الأمير الجائر إذا كان يترتب على الخروج عليه شر أعظم[20].

 

«إن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة من القواعد والمبادئ العامة التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يدرك الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن درء المفسدة مقدم على طلب المصلحة؛ لذا عليه أن يفقه المصالح الحاصلة من أمره ونهيه والمفاسد الناتجة عن ذلك، وإيضاح ذلك أنه:

1- إن حصلت مصلحة أعظم من المفسدة وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

2- إن كانت المفسدة أعظم من المصلحة لم يجب عليه بل يحرم.

 

3- إذا حصل التساوي والتكافؤ بين المعروف والمنكر لم يؤمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر؛ لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

 

3- اختلاط المعروف بالمنكر: عند ذلك يدعى إلى المعروف دعوة مطلقة، ينهى عن المنكر نهي مطلق»[21].


4- ومن صور القاعدة: جواز شق بطن الميتة لإخراج الولد إذا كان ترجى حياته[22].


5- ترك سب آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108]، فهنا عندنا مفسدتان ومصلحتان.

 

فالمفسدة الأولى: هي ترك سب آلهة المشركين المجرد.

والثانية: سب الله تعالى.

 

والمصلحة الأولى: هي سب آلهة المشركين المجرد.

والثانية: تركهم سب الله تعالى.

 

والمفاسد والمصالح هنا متعارضة، فغلب الله تعالى ترك أعلى المفسدتين الذي هو سب الله تعالى بفعل الصغرى وهو ترك سب آلهة المشركين؛ ذلك لأن ترك سب آلهتهم وإن كان فيه مفسدة لكن أقدمنا عليه؛ لأن في فعله اقتحام مفسدة أكبر وهو سب الله تعالى، فتعارضت المفسدتان فراعينا الكبرى بفعل الصغرى؛ لأن الشريعة جاءت بتقليل المفاسد، وغلب الشارع كذلك فعل أكبر المصلحتين على فعل أدناهما فقال: إن سبكم لآلهتهم مصلحة، وتركهم لسب إلهكم أيضًا مصلحة، ولكن المصلحة الثانية أعظم بكثير من المصلحة الأولى، فاتركوا المصلحة الصغرى التي هي سبكم لآلهتهم ليتحقق لكم المصلحة الكبرى وهو تركهم لسب إلهكم؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، وهذا من أقوى الأدلة على هذا الأصل.

 

5-نكاح الأمة في حال عدم القدرة على نكاح الحرة إذا خاف  الوقوع في الفاحشة:

و قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء: 25].

 

فهنا عندنا مفسدتان ومصلحتان تعارضتا:

فالمفسدة الأولى: هي نكاح الأمة، ووجه المفسدة فيها هو رق الولد واشتغالها بخدمة سيدها، فلا يحصل لزوجها من السكن إليها والإيواء ودوام المعاشرة ما تَقَرُّ به عينه، وتسكن به نفسه.

 

والثانية: هي أنه لو لم ينكحها لخيف عليه من الوقوع في المحظور وهو الزنا أو اللواط أو نكاح اليد، فهنا مفسدتان تعارضتا فقدمت الشريعة اجتناب أشدهما بفعل أخفهما، فأباحت نكاح الأمة بشرطه المعروف مع أنه مفسدة دفعًا للمفسدة الكبرى وهو الوقوع في الحرام.

 

وأما المصلحتان المتعارضتان:

فالأولى: حفظ النفس من الوقوع فيما حرم الله من الزنا ونحوه. والثانية: ترك نكاح الأمة، والأولى أكبر مصلحة فنظرت إليها الشريعة وغضت الطرف عن الأخرى فأجازت نكاح الأمة مراعاةً للمصلحة الكبرى وهو حفظ النفس من الوقوع في المحظور.

 

فهذه الآية وهذا الحكم من العلي الحكيم مبني على دفع أعظم المفسدتين بفعل أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما.

 

6- ومنها: قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]، فهنا فيه مفسدتان ومصلحتان تعارضتا:

فالمفسدة الأولى: هي الأكل من الميتة.

والثانية: مفسدة هلاك النفس وتلفها.

 

وقد تعارضتا هنا، فإن المضطر إذا لم يأكل من الميتة سيموت، ولاشك أن مفسدة تلف النفس أشد من مفسدة الأكل من الميتة، فجوزت الشريعة ارتكاب أدنى المفسدتين الذي هو الأكل من الميتة دفعًا للمفسدة الكبرى الذي هو هلاك النفس.

 

وأما المصلحتان المتعارضتان:

فالأولى: مصلحة إحياء النفس وحمايتها من الهلاك.

والثانية: مصلحة ترك الأكل من الميتة، ولاشك أن مصلحة إحياء النفس والمحافظة عليها من الهلاك أكبر من مصلحة ترك الأكل، فجوزت الشريعة ترك المصلحة الصغرى لتتحقق المصلحة الكبرى، والله أعلم.

 

7- ومنها: قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها-: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفرٍ لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين باب يدخل الناس منه وباب يخرجون منه»[23]، ففي هذا الحديث مفسدتان ومصلحتان متعارضتان:

فالمفسدة الأولى: ترك البيت على وضعه الراهن.

والثانية: افتتان الناس بهدم البيت،فارتكبت أدناهما وهي تركه على وضعه الراهن.

 

وأما المصلحتان:

فالأولى: بناء البيت على قواعد إبراهيم.

والثانية: مصلحة عدم افتتان الناس عن الإسلام وتأليفهم عليه إلى أن يقر الإيمان في قلوبهم، ولاشك أن المصلحة الثانية هي الكبرى، فلما تعارضتا روعي أكبرهما بتفويت أدناهما، فترك البيت كما هو مراعاةً لمصلحة تأليف الناس على الإسلام، والله أعلم.

 

8- ومنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم المنافقين بأعيانهم وأخبر بهم حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- ومع ذلك لم يتعرض لهم بقتل، وذلك كله خشية أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؛ فيكون هذا الكلام منفرًا للناس عن الدين، فهنا مفسدتان ومصلحتان:

فالمفسدة الأولى: افتتان الناس عن الإسلام ونفورهم منه.

والثانية: الإبقاء على المنافقين وترك قتلهم مع أنهم يستحقون القتل لكفرهم في الباطن، لكن المفسدة الأولى أشد وقعًا فروعيت بارتكاب المفسدة الصغرى، دفعًا لكبرى المفسدتين بارتكاب أدناهما.

 

وأما المصلحتان:

فالأولى: تأليف الناس على الإسلام وهي المصلحة الكبرى.

والثانية: إراحة الإسلام والمسلمين من المنافقين ودفع شرهم وأذاهم بقتلهم وهي الصغرى فروعيت المصلحة الكبرى بتفويت المصلحة الصغرى، والله أعلم.

 

9- ومنها: في الصحيحين من حديث أنس في قصة الأعرابي الذي دخل المسجد وبال فيه، فقام الصحابة ليضربوه فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتركه يكمل بوله، ففي الحديث مفسدتان ومصلحتان:

فالمفسدة الأولى: مفسدة تلويث المسجد بهذا الأذى والقذر.

والثانية: مفسدة تنفيره عن الإسلام وإيغار صدره على من اعتدى عليه وتلويث مواضع من المسجد، ولاشك أن المفسدة الثانية أشد من المفسدة الأولى فروعيت المفسدة الكبرى بارتكاب الصغرى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه» أي: لا بأس أن يرتكب هذه المفسدة، ولا تضربوه حتى لا يقع في المفسدة الكبرى.

 

وأما المصلحتان:

فالأولى: مصلحة صيانة المساجد من البول والأذى، وهي الصغرى، ومصلحة تأليفه على الإسلام، بل ومصلحة المحافظة على نفسه من تأذيه باحتباس البول، بل ومصلحة عدم انتشار البول في أكثر من بقعة في المسجد بسبب هروبه منهم، فهذه المصالح روعيت جميعها بتفويت المصلحة الصغرى التي هي صيانة المسجد من الأذى والقذر في هذه البقعة فقط؛ لأنه إذا تعارضت مصلحتان روعي أكبرهما بتفويت أصغرهما، والله أعلم.

 

10- ومنها: أن الأصل في الغيبة هي التحريم ولاشك، والأدلة على تحريمها من الكتاب والسنة معروفة مشهورة، لكن دل الدليل على جواز ذكرك أخاك بما يكره في أمور ستة معروفة.

 

ومنها: أنه إن سألك أحد عن شخص ليعرف حاله لتزويجه فإنه يجب عليك أن تبين له جميع ما تعرف عنه من أمور الشر استدلالاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه»، وهذا من باب الغيبة لانطباق تعريف الغيبة عليها، لكن جاز ذلك مع أن فيه مفسدة درءًا للمفسدة الأشد وهي تورط الناس بمن لا يصلح لهم خلقًا ودينًا، فروعيت هذه المفسدة بارتكاب أدنى المفسدتين.

 

وعلى ذلك قس بقية ما قال فيه العلماء إنه من الغيبة الجائزة، والله أعلم.

 

11- ومنها: النهي عن الصلاة حال حضور طعام تشتهيه أو وهو يدافع الأخبثين، كما في حديث عائشة –رضي الله عنها- المشهور عند مسلم، فإن فيه مفسدتان:

الأولى: مفسدة ذهاب الخشوع بسبب التفكير في الطعام ومدافعة الأخبثين.

والثانية: مفسدة تأخير الصلاة عن أول الوقت أو تفويت الجماعة، لكن لاشك أن مفسدة ذهاب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها أشد وأكبر من مفسدة فوات الجماعة فروعيت المفسدة الكبرى بارتكاب أدناهما.

 

12- ومنها: أنه يجوز لمن خاف تلف نفسه أو تلف عضوٍ من أعضائه باستعمال الماء لبردٍ ونحوه، أن ينتقل من الماء إلى التيمم كما في حديث عمرو ابن العاص الصحيح وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم-  له على ذلك، فهنا فيه مصلحتان ومفسدتان.

 

فالمصلحتان هما:

الأولى: حفظ النفس. والثانية: الصلاة بالطهارة المائية، لكنهما متعارضتان، فقدمت الشريعة مصلحة حفظ النفس والطرف على مصلحة الصلاة بالطهارة المائية؛ لأن حفظ النفس أهم وأكبر من مراعاة الصلاة بالوضوء؛ ولأن الماء له بدل وهو التراب لكن النفس لا بدل لها، فالمحافظة عليها أهم من المحافظة على الصلاة بالوضوء.

 

وأما المفسدتان فهما:

الأولى: تلف النفس أو الطرف. والثانية: الصلاة بالتيمم مع وجود الماء لكن الأولى أشد فروعيت بارتكاب الصغرى، هذا إذا سلمنا أن في الصلاة بالتيمم في هذه الحالة مفسدة، لكن المقصود مجرد التفريع، والله أعلم[24].


13- علاج المريض لرفع الألم عنه إذا خاف هلاكه أو تلف عضو من بدنه:

قال صاحب كتاب « أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها»: لو قال قائل: إن الشريعة الإسلامية تقدم درء المفاسد على جلب المصالح في الاعتبار كما هو معلوم من قواعدها.

 

والجراحة الطبية تشتمل على مفاسد عديدة منها: تعذيب المرضى بالآلام المبرحة، وتشويه الخلقة بقطع الأيدي والأرجل، فوجب حينئذ عدم الالتفات للمصالح المترتبة على فعلها تقديمًا لهذه المفاسد في الاعتبار ومن ثم لا يجوز فعلها شرعًا.

 

فالجواب: أنه تعارضت عندنا مفسدتان:

إحداهما: مفسدة المرض الجراحي وآلامه، وهي مترتبة على ترك المريض دون علاجه بالجراحة اللازمة.

الثانية: مفسدة الآلام المترتبة على فعل الجراحة.

 

فوجب حينئذ النظر في كلتا المفسدتين، وتقديم أعظمهما ضررًا على أخفهما إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: [إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررًا بارتكاب أخفهما].

 

فوجدنا أن مفسدة المرض الجراحي وآلامه مفسدة متعدية باقية، فهي متعدية؛ نظرًا لأن الأمراض الجراحية تزداد وتتضاعف إلى أن تنتهي بالمريض إلى الموت في الغالب وباقية؛ لأن الألم لا يزول إلا بزوال المرض المسبب له وهو باق في حالة عدم علاجه بالجراحة اللازمة.

 

ثم وجدنا مفسدة الآلام المترتبة على الجراحة مؤقتة تزول بعد فترة معينة قد لا تصل في بعض الأحوال إلى اليوم، واليومين، كما أن الكثير منها أمكن تخفيفه في العصر الحاضر بسبب تقدم الوسائل الطبية وطرق العلاج، فهي إذًا أخف من مفسدة الأمراض الجراحية وآلامها، فوجب حينئذ تقديم مفسدة الأمراض عليها، وعدم الالتفات إلى ما ينشأ عن ذلك التقديم ويترتب عليه من الآلام الزائلة.

 

ثم إن مفسدة الآلام المعترض بها غير مقصودة من قبل الطبيب الجراح، وإنما المقصود حصول المصالح المترتبة على فعل الجراحة فسقط اعتبار تلك المفسدة؛ لأنه لم  يتمحض قصدها، وإنما جاءت على سبيل اللزوم.

 

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «لا يمنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر، وقطع الأعضاء المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة وبط الجراحات، وأن يحمي المريض ما يشتهيه، وإن كان يلزم منه إذاية المريض؛ لأن المقصود إنما هو المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم، وهذا شأن الشريعة أبدًا» اهـ.

 

فتبين من هذا كله عدم تأثير هذه المفاسد، نظرًا للمصالح العظيمة المترتبة على فعل موجبها، والله تعالى أعلم[25].

 

الخلاصة:

أن الأمر المتردد بين ضررين إذا كان أحدهما أشد من الآخر فإنه يتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد، ومراعاة أعظمهما تكون بإزالته؛ لأن المفاسد تراعى نفيًا، كما أن المصالح تراعى إثباتًا، فمن ابتلي بذلك فواجبه أن يختار أهون الشرين وأخف الضررين[26].



[1] الفروق، القرافي (1/3)

[2] الأشباه والنظائر، السيوطي (6).

[3] انظر الأشباه والنظائر للسيوطي (87)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (76).

[4] لسان العرب، ابن منظور (3/335).

[5] المعجم الوسيط (688).

[6] تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية، وليد بن راشد السعيدان (3/10)

[7] القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د/محمد الزحيلي (1/226، 227).

[8] الأشباه والنظائر، ابن نجيم (76).

[9] القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف (1/93، 94).

[10] مجموع الفتاوى، ابن تيمية (10/512).

[11] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم (1/212).

[12] مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/19).

[13] المراد من ذلك: أنها ذات طباع وعادات ينفر منها، وليس المراد الشرف والعرض؛ لأن الرجل لو تيقن الفاحشة من زوجته وجب عليه مفارقتها بالطلاق.

[14] غياث الأمم في التياث الظلم، الجويني (22).

[15] الأحكام السلطانية، الماوردي (19، 20).

[16] السياسة الشرعية، ابن تيمية (12).

[17] جامع المسائل لابن تيمية (1/177).

[18] مجموع الفتاوى، ابن تيمية (28/284).

[19] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم (1/212).

[20] شرح القواعد الفقهية، الشيخ/ أحمد الزرقا (201، 202).

[21] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء الكتاب والسنة، سليمان بن عبد الرحمن الحقيل (99).

[22] شرح القواعد الفقهية، الشيخ/ أحمد الزرقا (202).

[23] أخرجه مسلم (401).

[24] تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية، وليد بن راشد السعيدان (3/11-18)

[25] أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، محمد بن محمد المختار الشنقيطي (99-101).

[26] القواعد الفقهية، د/ عبد العزيز عزام (160).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • إذا تعارض نصان ثابتان يجمع بينهما ولا يكذب أحدهما

مختارات من الشبكة

  • الحكم التكليفي والحكم الوضعي والفرق بينهما(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معنى الحكم وأقسامه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الحكم الوضعي والفرق بينه وبين الحكم التكليفي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • نسخ الحكم الشرعي إلى بدل مساوٍ أو أخف أو أثقل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيفية إدراك العلة الشرعية التي هي مناط الحكم(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • حكم من توفي صغيرا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة رسالة في الحكم بالموجب والحكم بالصحة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة الحكم المستطاب بحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الحكم التكليفي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الحكمة من بعض أنواع النسخ(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- سؤال
نجيب فؤادي - إندونيسيا 31-08-2012 04:55 AM

كيف إذا تعارضت بين أن أدعو والحاضرون يؤمنون على دعائي رافعي أيديهم وبين أن يدعو غيري وكان دعاؤه فيه أنواع من التوسل الممنوع، علما بأن هذا الدعاء طلب من صاحب البيت قبل تقديمه الطعام للحاضرين؟

1- الحكم إذا تعارضت مفسدتان....لفضيلة الشيخ/سالم الهنداوي
مسافرا زادُه الخيال - الامارات _ رأس الخيمة 08-06-2012 04:50 AM

ما شاء الله مقال جميل ومحترم وكلمات وتفسير يدل علي علامة ونابغة بإذن الله تعالي
جزاك الله خيرا شيخنا الشريف المحترم الجليل الشيخ/سالم زادك الله من علمه ونفعنا به وجعله في ميزان حسناتك...
تشرفت بقراءة مقالك وسعدت به يابن بلدي ووطني افتخر بك في علمك وخُلقك
جزاك الله خيرا عني ونفعنا بما تعلمته من علم
بارك الله فيك ودُمت ذخرا لنا

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بعد عامين من البناء افتتاح مسجد جديد في قرية سوكوري
  • بعد 3 عقود من العطاء.. مركز ماديسون الإسلامي يفتتح مبناه الجديد
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 8/12/1446هـ - الساعة: 0:14
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب