• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    وقفات مع عشر ذي الحجة (3)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    خطبة: أهمية اللعب والترفيه للشباب
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    عيد الأضحى: فرحة الطاعة وبهجة القربى
    محمد أبو عطية
  •  
    كيف يعلمنا القرآن الكريم التعامل مع الضغط النفسي ...
    معز محمد حماد عيسى
  •  
    أحكام الأضحية (عشر مسائل في الأضاحي)
    د. شريف فوزي سلطان
  •  
    زيف الانشغال
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    خطبة الجمعة في يوم الأضحى
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    الأخذ بالأسباب المشروعة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    يوم العيد وأيام التشريق (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    المقصد الحقيقي من الأضحية
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    خطبة الأضحى 1446 هـ (إن الله جميل يحب الجمال)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    خطبة عيد الأضحى 1446هـ
    عبدالوهاب محمد المعبأ
  •  
    لبس البشت فقها ونظاما
    د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
  •  
    خطبة: مضت أيام العشر المباركة
    محمد أحمد الذماري
  •  
    خطبة عيد الأضحى المبارك لعام 1446هـ
    د. عبدالرزاق السيد
  •  
    خطبة عيد الأضحى لعام 1446 هــ
    أ. شائع محمد الغبيشي
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

وقفات ودروس من سورة البقرة (7)

وقفات ودروس من سورة البقرة (7)
ميسون عبدالرحمن النحلاوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/3/2024 ميلادي - 25/8/1445 هجري

الزيارات: 2059

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

وقفات مع سورة البقرة (7)

2 - وقفات مع قلب السورة

تابع المعلم الأول بني إسرائيل

 

بعد الوقفة التي وقفناها مع المواثيق التي أخذها الله عز وجل على بني إسرائيل، يستأنف السياق القرآني مع الصفات الْمُخِلَّة التي أورثت بني إسرائيل الضلالَ، ومن ثَمَّ الذلة والمسكنة إلى يوم الدين.

 

الأولى: سلوكيات الكبر، المرض الذي استحكم في القوم بعد موسى إلا من رحم ربي، والكِبْرُ هو المرض الذي أخرج إبليس من الجنة، وكان سببًا في استحقاقه لعنةَ الله إلى يوم الدين، والكِبر في تعريفه النبوي: ((الكبر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس، أي: رفض الحق والبعد عنه ترفعًا وتجبرًا، وغمط الناس؛ أي: احتقارهم وازدراؤهم، وقد كان من شأن القوم:

الاستكبار على الرسالة والرسل:

1- من خلال تحكيمهم الهوى في قبولهم كرُسُلٍ، ومن لا يوافق هواهم، إما أن يكذبوه أو يقتلوه: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].


2- من خلال إغلاق قلوبهم دون ما جاؤوا به من رسالة، مدَّعِين امتلاءَ قلوبهم بالعلم الكامل، فلا حاجة لهم بعلم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88]؛ قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾ [البقرة: 88]، قال: "قالوا: قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد، ولا غيره، فكان العقاب: ﴿ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 88].

 

كتمان كلام الله الحق مع علمهم الدقيق بأنه الحق، وأنهم على باطل، لكن انتصارًا للرأي والهوى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، ثم نستوضح عقاب هذا الكتمان في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]، فقد كتم اليهود الكثيرَ من الحق، وأبرزُ ما كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم، مما تشهد له بالرسالة والنبوة، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتُّحف على تعظيمهم إياهم، فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم، فكتموا ذلك إبقاءً على ما كان يحصل لهم من ذلك، وهو نزر يسير، فباعوا أنفسهم بذلك، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق، وتصديق الرسول، والإيمان بما جاء عن الله، بذلك النَّزْرِ اليسير، فخابوا وخسِروا في الدنيا والآخرة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ وذلك لأنه غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علِموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم؛ أي: لا يثني عليهم ويمدحهم، بل يعذبهم عذابًا أليمًا.

 

إنكارهم لتحول القبلة بالرغم من علمهم بأنه أمر حق، والاستكبار عن اتباع الحق، واتباع الهوى على علمٍ، صفة مستمرة في القوم منذ نبيهم موسى، وحتى خروج محمد صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وإلى يومنا هذا؛ ففي قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]؛ يقول القرطبي: "﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 144] يريد: اليهود والنصارى، ﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 144]؛ يعني تحويل القبلة من بيت المقدس، فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل عنه جوابان: أحدهما: أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، علِموا أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا به، الثاني: أنهم علموا من دينهم جواز النسخ، وإن جحده بعضهم، فصاروا عالِمِين بجواز القبلة"؛ [انتهى من القرطبي].

 

ويقول الشوكاني في هذا: "وعِلْمُ أهل الكتاب بذلك إما لكونه قد بلغهم عن أنبيائهم، أو وجدوا في كتب الله المنزلة عليهم أن هذا النبي يستقبل الكعبة، أو لكونهم قد علموا من أنبيائهم، أو كتبهم أن النسخ سيكون في هذه الشريعة، فيكون ذلك موجِبًا عليهم الدخول في الإسلام، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم"؛ [انتهى، الشوكاني].

 

الثانية: قتلهم الأنبياء: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91]، وكان نهج بني إسرائيل في تكذيب وقتل أنبيائهم نهجًا ليس له سابقة ولا لاحقة في أقوام البشرية، فـ﴿ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴾ [المائدة: 70]، وكلما: أداة ظرفية تفيد التكرار، فما أكثر ما قتلوا! وما أكثر ما كذبوا!

 

فائدة:

يفيدنا الدكتور فاضل السامرائي في مسألة قتل بني إسرائيل لأنبيائهم، موضحًا الفرق بين قتلهم الأنبياء، وقتلهم النبيين، والفرق بين بغير حق، وبغير الحق في سورتي البقرة وآل عمران:

 

قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

 

وقوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112].

 

وردت في البقرة: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]، وفي آل عمران: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 112]، يعني: هناك "نبيين" و"أنبياء"، وتنكير الحق وتعريفه، وفي آية أخرى في آل عمران: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران: 21].

 

يقول الدكتور فاضل السامرائي في تفصيل المسألة:

الحق المعرَّف: المعرفة تدل على أنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، ما يدعو إلى القتل معلوم، إذًا هم يقتلونهم بغير الحق الذي يستوجب القتل، إذًا إذا كان أي واحد يقتل واحدًا بغير الحق الذي يستوجب القتل، كان ظالمًا، هذا: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]؛ يعني بغير الأسباب الداعية إلى القتل.

 

بغير حق: أصلًا ليس هنالك ما يدعو إلى هذه الفعلة، لا سبب يدعو إلى القتل، ولا غيره من الأسباب، أحيانًا واحد يقسو على واحد بالكلام يقول له: أنت سفيه، فيقتله هذا بغير حق الذي يدعو للقتل، قد يكون أثاره، حتى أحيانًا تحصل عندنا مشادات، إذًا هذا بغير الحق الذي يستوجب القتل، هذه: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]، أما بغير حق؛ يعني: أنه ليس هنالك سبب يدعو إلى القتل؛ اعتداء هكذا، فأي الأسوأ؟ بغير حق أسوأ، هذا أمر، والأمر الآخر:

• النبيين جمع مذكر سالم جمع قلة، والأنبياء جمع كثرة، إذًا هم يقتلون كثرة من الأنبياء بغير حق؛ أي الأسوأ؟ "يقتلون الأنبياء بغير حق" أسوأ من ناحيتين؛ من ناحية الكثرة "الأنبياء"، ومن ناحية "بغير حق"، يقتلون كثيرًا من الأنبياء بدون داعي.

 

• وهناك أمر آخر هو عندما يفصِّل في عقاب بني إسرائيل يذكر الأنبياء؛ نقرأ سياق الآيتين: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].

 

• في آل عمران: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، هذه عامة، كرَّر فيها وفصَلَ وأكَّد: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]، بينما في البقرة جمع الذلة والمسكنة في كلام واحد: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61]، فأما التكرار والتعميم والتأكيد في آية آل عمران، فلأنهم فعلوا الأسوأ، فاستحقوا هذا الكلام، التأكيد في ضرب الذلة والمسكنة، هل يجوز في البيان أن نضع واحدة مكان أخرى؟ لا يمكن.

 

• في آل عمران قال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21].

 

هذه الآية عامة، هذه ليست في بني إسرائيل، أما قوله تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]، فهذه في بني إسرائيل تحديدًا، وهي تحكي عن عقوبتهم في الدنيا فقط، بينما الآية 21، فيها حكم عام يشمل كل من ارتكب هذه المعصية من الناس، ويفصل عقابه في الدنيا والآخرة، فيقول في الآية التي تليها: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 22]، هذا فيمن قتل النبيين، فما بالك بمن قتل الأنبياء؟! فالذي قتل القلة هذا أمره، فما بالك بمن قتل أكثر، هو قتل قلة بدون داعي، فما بالك بمن قتل أكثر؟! كل واحدة مناسبة في مكانها، الألف واللام في اللغة ربما تحول الدلالة: بغير حق وبغير الحق، وجمع الكثرة وجمع القلة، جمع المذكر السالم وجمع التكسير، جمع التكسير فيه جمع قلة، وجمع كثرة، جمع التكسير: أفعُل أفْعَال أفْعِلَةَ فِعْلَة، جموع قلة، وما عداها جمع كثرة، 23 وزنًا جموع كثرة؛ [انتهى، فاضل السامرائي].

 

الثالثة: عبادة العجل من دون الله وموسى بين ظهرانيهم، بل في لقاء مع ربه: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 92، 93].

 

يقول الشوكاني في (فتح القدير): "﴿ وَأُشْرِبُوا ﴾ تشبيه بليغ؛ أي: جُعِلت قلوبهم لتمكُّن حب العجل منها كأنها تشربه، ثم قال: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل؛ لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام يجاورها ولا يتغلغل فيها، والباء في قوله: ﴿ بِكُفْرِهِمْ ﴾سببية؛ أي: كان ذلك بسبب كفرهم عقوبةً لهم وخذلانًا"؛ [انتهى].


وقد بدا أن الميل الشركيَّ متجذر في قلوب القوم، فقد كان ذلك منهم بعد أن جاوز سيدنا موسى بهم البحر؛ كما جاء: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138].


ما أسرع نسيانهم للنعمة ونكرانهم فضل الْمُنْعِم!


الرابعة: تحدي الله ربهم، والفجور في العصيان بقولهم: سمعنا وعصينا: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93].

 

الخامسة: الغرور: ادعاؤهم بأنهم أصحاب الجنة في الآخرة: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 94 - 96].


يقول الشوكاني في تفسير هذه الآيات: "﴿ قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ [البقرة: 94] هو رد عليهم لما ادَّعَوا أنهم يدخلون الجنة، ولا يشاركهم في دخولها غيرهم، وإلزام لهم بما يتبين به أنهم كاذبون في تلك الدعوى، وأنها صادرة منهم لا عن برهان، ﴿ خَالِصَةً ﴾ [البقرة: 94]، ومعنى الخلوص: أنه لا يشاركهم فيها غيرهم، إذا كانت اللام في قوله: ﴿ مِنْ دُونِ النَّاسِ ﴾ [البقرة: 94] للجنس، أو لا يشاركهم فيها المسلمون، إن كانت اللام للعهد، وهذا أرجح لقولهم في الآية الأخرى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ [البقرة: 111]، وإنما أمرهم بتمنِّي الموت؛ لأن من اعتقد أنه من أهل الجنة، كان الموت أحب إليه من الحياة، ولما كان ذلك منهم مجرد دعوى أحجموا؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ﴾ [البقرة: 95] و(ما) في قوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [البقرة: 95] موصولة، والعائد محذوف؛ أي: بما قدمته من الذنوب التي يكون فاعلها غير آمن من العذاب، بل غير طامع في دخول الجنة، فضلًا عن كونه قاطعًا بها، فضلًا عن كونها خالصةً له مختصةً به"؛ [انتهى، الشوكاني].

 

السادسة: افتراء الكذب على الله بادعائهم معرفة الحساب، وكم سيكون لُبثهم في النار:﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، العجيب في هذه الآية أنهم يعترفون أنهم يستحقون النار، وفي قرارة أنفسهم يدركون أن عاقبة أفعالهم الخلود في النار، وإلا لما خرج عنهم هذا القول: ﴿ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ﴾ [البقرة: 80]، لكنه الخوف لبعث الطمأنينة في داخلهم افتراء وتزييفًا، ومنا للأسف مَن يستهزئ بالحساب، ويستسهل المعاصي من هذا المنطلق، يقولون لك عند النصح: بضعة أيام في النار ثم نخرج: ﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 80]، ثم يجيبهم الله عز وجل بقرار جازم وبحكم مطلق كيف يكون الحساب: ﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 81، 82]، وإحاطة الخطيئة بابن آدم يعني استملاكها قلبه وجوارحه وعقله، وفي التفاسير أنها الشرك، أو الكبيرة الْمُوجِبة لا يتوب منها، وفي مقابل أصحاب النار هؤلاء، يقف المؤمنون أصحاب الجنة، وكلاهما كُتب عليهم الخلود.


اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.


السابعة: تفريقهم بين الملائكة، وادعاؤهم عداوةَ جبريل عليه السلام، ومحبة ميكائيل: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98]؛ عن ابن عباس، قال: ((أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهنَّ، عرَفنا أنك نبي واتبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال: ﴿ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾ [يوسف: 66]، قال: هاتوا، قالوا: أخبرنا عن علامة النبي، قال: تنام عيناه ولا ينام قلبه، قالوا: أخبرنا كيف تؤنِّث المرأة وكيف تُذكِر؟ قال: يلتقي الماءان، فإذا علا ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذْكَرَت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنَثَتْ، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه، قال: كان يشتكي عِرْقَ النَّساء، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا، قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل، فحرَّم لحومها، قالوا: صدقت، قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: مَلَكٌ من ملائكة الله عز وجل مُوكَّل بالسحاب بيديه أو في يده مِخْرَاق من نار يزجُر به السحاب، يسوقه حيث أمره الله عز وجل، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمعه؟ قال: صوته، قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا، إنه ليس من نبي إلا وله مَلَكٌ يأتيه بالخبر، فأخبِرْنا: من صاحبك؟ قال: جبريل عليه السلام، قالوا: جبريل، ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقَطْر لكان؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 97، 98]))؛ يقول ابن كثير: "﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾ [البقرة: 98]، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم عموم الرسل، ثم خُصِّصا بالذِّكر، لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليُّهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما، فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا؛ لأنه أيضًا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته، وميكائيل موكَّل بالقَطر والنبات، ذاك بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكَّل بالصُّور للنفخ للبعث يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول: ((اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لِما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))"؛ [انتهى، ابن كثير].


الثامنة: نقض العهد في كل مرة: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100]، و"كلما" تفيد تكرار وقوع الجواب بتكرار وقوع الشرط؛ أي: كلما وقع الشرط، تكرر وقوع الجواب.

 

التاسعة: النُّكوص عن اتباع الحق المذكور في كتابهم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 101]، وكذلك إنكارهم للكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعلمون به وينتظرونه، لكنهم أنكروه بغيًا وحسدًا، فقط لأنه ليس منهم: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [البقرة: 89، 90]، فكان العقاب: ﴿ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [البقرة: 90].

 

العاشرة: افتراؤهم على سيدنا سليمان واشتغالهم بالسحر: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102].


يقول ابن كثير في تفسيره: "عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصِفُ كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيِّه، فلما مات سليمان أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها، قال: فأكْفَره جُهَّال الناس وسبُّوه، ووقف علماؤهم، فلم يَزَلْ جُهَّالهم يسبُّونه، حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ﴾ [البقرة: 102].


الحادية عشرة: التورية بالألفاظ؛ بقصد إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والسخرية منه ومن المؤمنين.


في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104].


وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سبًّا، قيل: إنه في لغتهم بمعنى: اسمع لا سمِعتَ، وقيل: غير ذلك، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا طلبًا منه أن يراعيهم من المراعاة، اغتنموا الفرصة، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك، مظهرين أنهم يريدون المعنى العربيَّ، مُبطنين أنهم يقصدون السبَّ الذي معنى هذا اللفظ في لغتهم، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسب والنقص، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم؛ سدًّا للذريعة، ودفعًا للوسيلة، وقطعًا لمادة المفسدة والتطرق إليه، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض، فقال: ﴿ وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 104]؛ أي: أقْبِلْ علينا، وانظر إلينا؛ [انتهى، الشوكاني].


وفي قوله تعالى أيضًا: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 46]، وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون: السَّامُ عليكم، والسام هو: الموت؛ ولهذا أُمِرْنا أن نرد عليهم بـ(وعليكم)، وإنما يُستجاب لنا فيهم، ولا يُستجاب لهم فينا، والمستفاد من قوله تعالى هنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 104] أنَّ الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولًا وفعلًا.


الثانية عشرة: الأثَرة، والأنانية، تورِثان الحسد، وتصدَّان عن اتباع الحق، وهذا كان سبب إحجام الذين كفروا من أهل الكتاب، يهودًا ونصارى، والمشركين، عن اتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يخبرنا به الله عز وجل بكل وضوح؛ بقوله تعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105]، وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].


والمستفاد تحذير المؤمنين منهم، من اليهود والنصارى، فهم - بكلام الله خالقهم وعالم الغيب والمطلع على السرائر - لا يمكن أن يتمنَّوا الخير للمسلمين أبدًا، لا يمكن، بل إن كثيرًا منهم هِمَّتهم في جَعْلِ المسلمين يرتدون كفارًا، والدافع: الحقد والحسد، خاصة بعد أن علموا أن المسلمين على حقٍّ، وأن دينهم هو الدين الذي تحيا به البشرية، وسيكون هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة.


الثالثة عشرة: تألِّيهم على الله، وتنصيب أنفسهم حُكَّامًا على من يدخل الجنة، ومن يدخل النار، فخصُّوا أنفسهم بالجنة، وباقي البشر كلهم في النار، ثم إن من تمام استكبار أهل الكتاب يهودًا كانوا أو نصارى أنهم ضامنون للجنة، فاليهود أبناء الله وأحباؤه، والنصارى شفيعهم عيسى ابن مريم، يحمل عنهم كل أوزارهم ويدخلهم الجنة، وكل ما عداهم مصيره النار، وقالوا: ﴿ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ [البقرة: 111]، فيرد الله عز وجل عليهم: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، والمستفاد تحذير أمة محمد من امتهان التألي على الله، وتوزيع مقامات الجنة والنار، كل حزب بما لديهم فرحون.


الرابعة عشرة: تكذيب بعضهم بعضًا، وتفرُّقهم شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون، رغم تلاوتهم في كتبهم ما يدحض تكذيبهم هذا: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 113]، عن ابن عباس، قال: ((لما قدِم أهل نَجْران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتَتْهُم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجَحَدَ نبوة موسى وكفر بالتوراة؛ فأنزل الله في ذلك الآية: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 113]))، يقول ابن كثير: "كلٌّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به؛ أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه، وقال قتادة: "﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 113]، قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، ﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ﴾ [البقرة: 113]، قال: بلى، قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا".

 

والمستفاد ألَّا تسلُكَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم مَسْلَكَ أهل الكتاب في الفرقة والتحزب؛ انتصارًا للرأي؛ كما جاء في سورة الروم: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 31، 32].

 

الخامسة عشرة: عداوتهم دائمة للإسلام والمسلمين: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]، كما قال: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82]، وقال: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 118، 119].

 

والمستفاد إرساء القاعدة الأزلية الثابتة في العلاقة الحقيقية بين المسلمين وأهل الكتاب: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، في تنبيه المؤمنين إلى أنه لا يمكن لليهود والنصارى أن يكونوا صادقين في أي ادعاء لمحبة أو صداقة أو أخوة لمسلمٍ.

 

السادسة عشرة: إغراء المؤمنين باتباع دينهم: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾ [البقرة: 135]، فردَّ الله عليهم: ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [البقرة: 135]، وهذا دَيدنُهم في كل عصر وزمان.

 

السابعة عشرة: كتمان الشهادة، بادعائهم أن إبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب، والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، وقد شهدوا في كتبهم عكس ذلك: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

 

قال الحسن البصري: "كانوا يقرؤون في كتاب الله الذي أتاهم: إن الدين عند الله الإسلام، وإن محمدًا رسول الله، وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية، فشهِد الله بذلك، وأقرُّوا به على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك"؛ [ابن كثير].

 

وقال القرطبي: " ﴿ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 140] يريد: علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام".

 

والمستفاد تحذير المسلمين من كتمان أي شيء في كتاب الله من أجل تحقيق مصلحة أو إرضاء هوًى.

 

الثامنة عشرة: اجتهادهم في استغلال كل ظرف ممكن لتشكيك المسلمين بدينهم، وصحة الرسالة التي يتبعونها، كما حدث في مسألة تحويل القبلة.

 

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142]؛ يقول ابن كثير في مسألة تحويل القبلة: "ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكَفَرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشكٌّ، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]؛ أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 142]؛ أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، وحيثما تولوا فثَمَّ وجه الله، وقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 177]".

 

ومما يؤكد نيتهم الفاسدة في أنهم ما جادلوا وسخروا من تحويل القبلة إلا تشكيكًا للمسلمين بدينهم، أنهم كانوا يعلمون أن هذا النبي صلى الله عليه وسلم سيتخذ من الكعبة قبلة؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، يتابع ابن كثير في تفسيره: "واليهود الذين أنكروا استقبال المسلمين للكعبة، وانصرافهم عن بيت المقدس، يعلمون أن الله تعالى سيوجه نبيَّه صلى الله عليه وسلم إليها، حسب ما ورد في كتبهم عن أنبيائهم، من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأُمَّته، وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا"؛ [ابن كثير].

 

ومن أساليب تشكيك اليهود للمسلمين في دينهم ما ورد في سورة آل عمران: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72].

 

عن ابن عباس قوله: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ﴾ [آل عمران: 72]؛ الآية، وذلك أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلُّوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم أعلم منا، لعلهم ينقلبون عن دينهم، ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [آل عمران: 73]؛ [تفسير الطبري].

 

والمستفاد تنبيه المسلمين إلى هذه الخَصلة الماكرة في بني يهود، وهي استغلال كل ظرف ممكن لتشكيك المسلمين بعقيدتهم، وبدينهم، وهذا ديدنهم، وكلما ضعُفت النفوس وركنت إلى الحياة الدنيا، أصبحت مهمة بني يهود سهلةً مُذلَّلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل سُبُل النجاة التزام القرآن والسُّنة، والتمسك بالصلاة إقامة وتقربًا إلى الله، والالتجاء إلى الله في كل حين.

 

التاسعة عشرة: خوفهم من الموت وفرارهم منه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243].

 

وقصة هؤلاء أنهم قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء، وكانوا بقرية يُقال لها: داوردان، فخرجوا منها هاربين، فنزلوا واديًا، فأماتهم الله تعالى؛ قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى، فمرَّ بهم نبيٌّ فدعا الله تعالى فأحياهم، وقيل: إنهم ماتوا ثمانية أيام، وقيل سبعة، والله أعلم، قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عقوبة لهم، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم، وقيل: إنهم فروا من الجهاد، ولما أمرهم الله به على لسان حزقيل النبي عليه السلام، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد، فخرجوا من ديارهم فرارًا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد؛ بقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 244]؛ قاله الضحاك؛ قال ابن عطية: وهذا القصص كله لين الأسانيد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إخبارًا في عبارة التنبيه والتوقيف عن قوم من البشر، خرجوا من ديارهم فرارًا من الموت، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم، ليرَوا هم وكلُّ من خَلَفَ مِن بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله تعالى لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف ولا لاغترار مغتر، وجعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد؛ [تفسير القرطبي].

 

والمستفاد: جَعل الله هذه الآية مقدمة بين يدي فرض القتال على المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 244، 245]؛ هذا قول الطبري، وهو ظاهر وصف الآية.

 

العشرون: نكوصهم عن القتال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246].

 

في مرحلة من مراحل ضعف الأمة، عندما استُبيحت الأرض، وسُبِيَ الأبناء، وضاع الْمُلك والحُكم، وَجَدَ عِلْيَةُ القوم أو الحكماء من بني إسرائيل - ما نسميهم اليوم أصحاب القرار أو النخبة - أن لا حل لما يعانوه من ظلم وحرمان لاستعادة حقهم في الحكم والملك، إلا بالخروج على عدوهم الذي استباح بيضتهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا الجهاد، أجمعوا أمرهم وقرروا أن أفضل طريقة للخروج إلى القتال هي رصُّ صفوفهم تحت إمرة قائد، يكون لهم ملكًا – وكان حكامهم ملوكًا - ليعقد لهم راية القتال، فاحتكموا إلى نبيهم ليعرضوا عليه الأمر؛ رغبتهم بالقتال شرط أن يكون تحت إمرة ملك، ويبدو أنهم أرادوا ذلك لينعشوا فكرة الملك من جديد في نفوسهم، بعد أن حطمها أعداؤهم العمالقة، وقد يكون في كلمة: ﴿ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا ﴾ [البقرة: 246] دلالة على بعث بعد مَوَاتٍ دَامَ زمنًا، والله أعلم، ولكن نبيهم كان يعلم الزيغ الذي في قلوبهم، يعلم أنهم كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون، يعلم أنهم يمكن أن ينقضوا كلامهم ويتراجعوا فيه، فاحتاط لذلك، وكان أن عمد إلى إظهار تشككه في كلامهم، والتثبُّت من عزيمتهم، ﴿ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ﴾ [البقرة: 246]، فما كان منهم إلا أكَّدوا عزمهم وإصرارهم على القتال، فالمصيبة كبيرة، وطنٌ سليب، وأبناء عبيد تحت إمرة العدو، ﴿ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246]، ولكن تبين أن الخروج من طور الفكر والشعور إلى طور العمل والظهور ليس أمرًا سهلًا، ففي مرحلة كهذه ينكشف عجز الأدعياء المدَّعِين، ويظهر صدق الصادقين، ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246] من الذي أوفى بالعهد؟ ﴿ قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ الفئة القليلة.

 

ويذكِّرنا موقفهم هذا بموقفهم من أمر موسى عليه السلام لهم بدخول الأرض المقدسة، كما ورد في سورة المائدة: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ [المائدة: 22] ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].

 

والمستفاد تنبيه من رب العباد لنا، حتى لا نقع فيما وقعوا فيه فنكون مثلهم؛ كما قال تعالى في سورة القتال: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 20].

 

الحادية والعشرون: المال وليس الإيمان شرط الملكية لديهم: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 247].

 

وبالرغم من أن الملك المختار كان اختياره إلهيًّا، فإنهم اعترضوا عليه، فماذا لو كان بشريًّا؟ هذه مقاييس بني إسرائيل، اعترضوا على ملكهم لأنه ليس سليلَ الملوك، ولا مال عنده ولا عزوة، ولكن الله يؤتي ملكه من يشاء، بسطة في العلم والجسم: العلم الرباني الحقيقي، وليس علم الضحك على الأذقان، علم لا أريكم إلا ما أرى، علم المتاجرة باسم الدين، واستباحة عقول الناس باسم الإله، والقوة الإيمانية والجسدية.

 

والمستفاد التوضيح للمؤمنين أن شرط القيادة للمجتمع المؤمن لا علاقة له لا بالمال ولا بالجاه، وإنما هو الإيمان وما أُوتِيَ القائد من حكمة من ربه.

 

الثانية والعشرون: لا يؤمنون إلا بالمعجزات المحسوسة: ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 248].

 

الثالثة والعشرون: تغليب حكم الهوى على أمر الله: ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249].

 

لما تملك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك، تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل، وكانوا عددًا كثيرًا وجمًّا غفيرًا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾ [البقرة: 249]، فهو عاصٍ، ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته، ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ﴾ [البقرة: 249]؛ أي: لم يشرب منه ﴿ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾ [البقرة: 249] فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشرِبوا من النهر الشربَ المنهيَّ عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم، وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول، وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكُّلًا على الله، وتضرعًا واستكانة وتبرؤًا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم؛ [تفسير السعدي].

 

والعِبرة هي أن يسلِّم المؤمن لأوامر الله تسليمًا مطلقًا دون أن يناقشها من جهة العقل والحسابات البشرية المحسوسة، فلله حسابات تختلف عن حسابات البشر، هؤلاء القوم قاسُوا أمر الله بالمقياس البشري، فكيف يمرون على نهر وهم عطاشى ومقبلون على معركة عظيمة، ولا يشربون منه؟ لا يمكن، لا بد أنهم سيهلكون.

 

وبهذه العقلية حكَّم هؤلاء فَهمهم القاصر، وجعلوه ندًّا لأمر الله، وانصاعوا إليه، فكان أن حُرِموا الجهاد، وخرجوا من الصف، ولم يكن من شرِب من النهر قليلًا، بل كانوا سواد الجيش، قال السدي: "كان الجيش ثمانين ألفًا، فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال"؛ [ابن كثير].

 

الرابعة والعشرون: نظرتهم المادية للنصر والهزيمة: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 249 - 251]، حتى الفئة المؤمنة التي جاوزت النهر مع طالوت، كان منهم من يؤمن بالقوة المادية أكثر من إيمانه بالنصر، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاز معه النهر من لم يشرب جملة، فقال بعضهم: كيف نطيق العدو مع كثرتهم؟ فقال أولو العزم منهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، قال البراء بن عازب: "كنا نتحدث أن عدة أهل بدر كعدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر؛ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا - وفي رواية: وثلاثة عشر رجلًا - وما جاز معه إلا مؤمن".

 

والعبرة بطلان معادلة الكثرة والقلة في رجحان كفة القتال، وإرساء قاعدة إخلاص الإيمان والتوكل في استجلاب النصر.

 

وتختم دروس قصص بني إسرائيل في سورة البقرة بدرس من أهم الدروس التي يتعلمها المسلمون من مسيرة أهل الكتاب.

 

الخامسة والعشرون: الاختلاف من بعد العلم، من بعد أن جاءتهم البينات، ونزلت عليهم الشريعة والقانون الإلهي، دليل الإرشاد والهداية، فمنهم من آمن ومنهم من استكبر وكفر.

 

يقول تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253].

 

ويقول جل جلاله في آل عمران: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19].

 

وفي سورة الجاثية: ﴿ وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الجاثية: 17].

 

وفي البقرة أيضًا: ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [البقرة: 213]، وفي سورة الشورى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 14].

 

وقد حذرنا الله تعالى من هذا السلوك المهلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم:

قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: 30 - 32].

 

ولكن الله يفعل ما يريد.

سبحانه جل في علاه!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • وقفات ودروس من سورة البقرة (1)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (2)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (3)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (4)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (5)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (6)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (8)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (9)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (10)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (11)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (12)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (13)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (14)

مختارات من الشبكة

  • وقفات ودروس من سورة البقرة (16) والأخيرة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات ودروس من سورة البقرة (15)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات ودروس من سورة آل عمران (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • العام الهجري الجديد وقفات ودروس(مقالة - ملفات خاصة)
  • عاشوراء .. وقفات ودروس!(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (10)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (9)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (8)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (7)(مقالة - ملفات خاصة)
  • وقفات مع القرآن: وقفة مع آية (6)(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بعد عامين من البناء افتتاح مسجد جديد في قرية سوكوري
  • بعد 3 عقود من العطاء.. مركز ماديسون الإسلامي يفتتح مبناه الجديد
  • المرأة في المجتمع... نقاش مفتوح حول المسؤوليات والفرص بمدينة سراييفو
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 10/12/1446هـ - الساعة: 12:20
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب