الدليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وإن مات مشركا دخل النار

الدليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة

وإن مات مشركاً دخل النار

• عن عبدالله بن مسعودٍ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار))، وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.

• وعن جابرٍ قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ فقال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار)).

وفي رواية: ((من لقي الله لا يشرك به...)).

• وعن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائمٌ، عليه ثوبٌ أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائمٌ، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه، فقال: ((ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة))، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: ((وإن زنى وإن سرق))، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: ((وإن زنى وإن سرق)) ثلاثًا، ثم قال في الرابعة: ((على رغم أنف أبي ذر))، قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.

وفي رواية لمسلم: قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: ((نعم، وإن شرب الخمر)).

أولًا: ترجمة رواة الأحاديث:

عبدالله بن مسعود رضي الله عنه تقدمت ترجمته في الحديث الحادي والثلاثين.

وأما جابر بن عبدالله رضي الله عنهما فتقدمت ترجمته في الحديث الخامس.

وأما أبو ذر رضي الله عنه فتقدمت ترجمته في الحديث الثاني والأربعين.

ثانيًا: تخريج الأحاديث:

حديث ابن مسعود أخرجه مسلم حديث (96)، وأخرجه البخاري في "كتاب الجنائز" "باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله" حديث (1181).

وأما حديث جابر فأخرجه مسلم حديث (93)، وانفرد به.

وأما حديث أبي ذر فأخرجه مسلم حديث (94)، وأخرجه البخاري في "كتاب الجنائز" في نفس الباب السابق حديث (1180)، وأيضًا مطولاً في "كتاب اللباس" "باب الثياب البيض" حديث (5489).

وأما الرواية التي انفرد بها مسلم وفيها: "وإن شرب الخمر" فأخرجها مسلم في "كتاب الزكاة" "باب الترغيب في الصدقة" بنفس رقم الحديث (94).

ثالثًا: شرح ألفاظ الأحاديث:

(قلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة): يريد بذلك أن قوله يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار)) فإن هذا القول يفهم منه أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.

(ما الموجبتان): بكسر الجيم؛ أي: ما هي الكلمة أو الخصلة التي توجب الجنة لفاعلها؟ وما هي الكلمة أو الخصلة التي توجب النار لفاعلها؟

(من لقي الله)؛ أي: مات، كما في الرواية الأخرى، وإنما عبر باللقاء؛ لأنه لن يحصل إلا بعد الموت.

(قلت: وإن زنى وإن سرق): يقول أهل العلم: لا بد من تقدير استفهام، والتقدير: "أيدخل الجنة وإن زنى وإن سرق؟".

(قال: وإن زنى وإن سرق): هذا شرط أيضًا كالذي قبله وجوابه محذوف للعلم به، والتقدير: وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، وفي الرواية الأخرى التقدير: "وإن شرب الخمر دخل الجنة".

(على رغم أنف أبي ذر): (رغم) بفتح الراء وضمها وكسرها ثلاث لغات، وقوله: "وإن رغم أنف أبي ذر" هو بفتح الغين وكسرها، كما ذكره الجوهري، وأصل (رغم) مأخوذ من الرَّغام بفتح الراء، وهو التراب، فمعنى أرغم الله أنفك؛ أي: ألصقه بالرَّغام، وهو التراب، وأذله؛ [انظر: شرح النووي لمسلم حديث (94)].

رابعًا: من فوائد الحديث:

الفائدة الأولى: الأحاديث دليل على عظم فضل التوحيد وثمرته، فمن مات موحدًا دخل الجنة وإن زنى أو سرق أو شرب الخمر، وفاعل هذه الكبائر ونحوها من الموحدين لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يتوب قبل موته من الكبيرة التي اقترفها، فهذا موعود بدخول الجنة؛ لأنه تاب من ذنبه، فانتهى ما عليه بالنسبة لحقوق الله تعالى، وهذا باتفاق أهل السنة، وأما حقوق المؤمنين، كمن أخذ حقهم بالسرقة مثلًا، فهل تسقط عنه أم لا؟ قولان لأهل العلم:

قيل: تسقط عنه، ويثيب الله صاحب الحق بما شاء.

وقيل: لا بد من رد الحقوق لأصحابها، وهو قول أكثر أهل العلم.

والحال الثانية: أن يموت الموحد من غير توبة من كبيرته التي اقترفها، فظاهر حديث الباب وعمومه يدل على دخوله الجنة أيضًا؛ لأن الحديث ليس فيه ذكر اشتراط التوبة، ولكن مذهب أهل السنة والجماعة أنه تحت المشيئة، قد يعذبه الله تعالى بذنبه ثم يدخله الجنة، وقد يتجاوز الله عنه فيدخله الجنة ابتداءً؛ لأن حديث الباب عام يفسره حديث عبادة بن الصامت عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ((ومن أتى شيئًا من ذلك فلم يعاقب به، فأمره إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه))، فمن أتى شيئًا من هذه الذنوب ولم يصبه الحد المترتب على كبيرته، فهو تحت المشيئة.

الفائدة الثانية: قول أبي ذر: "وإن زنى وإن سرق" يدل على أمرين:

الأول: استبعاد أبي ذر رضي الله عنه العفو عن الزاني والسارق، وهذا فيه استعظام أبي ذر لحرمات الله، وشدة نفرته من معصية الله.

والثاني: بيان قبح الزنا والسرقة؛ لأن الزنا اعتداء على الأعراض، والسرقة اعتداء على الأموال.

فإن قيل: كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الذي تقدم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) الذي يفيد أنه لا إيمان لمن زنى أو سرق، وبين حديث الباب الذي يدل على أن الزاني والسارق يدخلان الجنة؟

الجواب: أنه تجمع بينهما قواعد أهل السنة، وأن الحديث الأول يدل على نفي كمال الإيمان لمن زنى أو سرق، لا نفي أصل الإيمان، وحينئذ لا تعارض مع حديث الباب الذي يدل على أن الموحد مآله إلى الجنة، وإن زنى أو سرق أو شرب الخمر.

الفائدة الثالثة: أحاديث الباب فيها رد على المبتدعة من الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بوجوب الخلود في النار لمن مات من مرتكبي الكبائر؛ كالزنا والسرقة وشرب الخمر من غير توبة، وأيضًا تمسك بهذه الأحاديث المرجئة الذين يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، فلو زنى الإنسان أو سرق أو قتل نفسًا ونحو ذلك من الكبائر، فلا ينقص من إيمانه شيء، ولا يكون عمله ذلك مستوجبًا دخوله النار، وهم باعتقادهم تركوا نصوص الوعيد وآمنوا بنصوص الوعد، على نقيض الخوارج الذين تركوا نصوص الوعد وآمنوا بنصوص الوعيد، وكلا الطائفتين ضلوا، وأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الطائفتين الضالتين، آمَنوا بجميع النصوص.

الفائدة الرابعة: مراجعة أبي ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيها مراجعة الطالب لشيخه إذا سمع منه خلاف ما يعتقد، وفيها جواز زجر الشيخ لطالبه إذا ألح عليه بما يخالف الحق وجادله فيه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رغم أنف أبي ذر)).

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)