مسائل منثورة

مسائل منثورة

طلب إلينا بعض الأفاضل أن نوافي قراء "الإسلام" بالقول الفصل في مسائل منثورة، كانت - ولا تزال - هي الشغل الشاغل لفريق من المتحذلِقين، يُثيرون عَجَاجها، ويريدون فتنتها، ويحيلون الناس على خطة معينة فيها، كأنهم فرغوا من كل مهمٍّ، ولم يبق لديهم مما يقرب إلى الله زلفى إلا هذه الدقائق التي يتباهون بها ويجعلونها حديث المجالس.

وما كنا نود أن نعيد حديثًا فرغ الكتاب منه ووافاه العلماء بحثًا وتفصيلاً، لولا ما نرجو من هداية الفريقين إلى الصراط المستقيم، ودعوتهم إلى نبذ الخلاف جانبًا، ونظرهم إلى هذه المسائل وأمثالها نظر العاشقين للحق، السالكين طريقه، المتبعين سلف الأمة الصالح رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولئن أخذنا على أحد الفريقين حذلقته وتنطُّعَه، إننا لنأخذ على الفريق الثاني جموده وتهادنه ونفوره من الحق إذا ظهر، مع أن الأئمة رضي الله عنهم لم يختلفوا إلا طلبًا للحق وقصدًا إليه، ومن أجل ذلك كان اختلافهم رحمة للأمَّة، ومن أجل ذلك صح عن كل منهم رجوعه عن مسائل كثيرة أفتى بها، كما صح عن كل منهم أنه علَّق كثيرًا من الأحكام على ورود حديث أو صحته، ولدينا الآن من هذه المنثورات ستٌّ: المسح على العمامة، والمسح على الجورب، وإجابة المؤذن، والصلاة بالنعال، والمسافة التي تبيح القصر، وصورة الجمع في السفر، نرجو أن نتكلم على كل منها كلمة موجزة تقنع المسترشد، وتهدي الضال، وتقف المجادل على حدود الحكمة والاعتدال:

1- أما المسح على العمامة، فقد أجازه جماعة، منهم الإمام أحمد، ومنعه قوم، منهم الأئمة الثلاثة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم مسح على رأسه كله وعلى بعضه وكمل على العمامة، وصح أنه اكتفى بالعمامة، ولكن رجح بعض العلماء أن هذا خاص بالضرورة، ولا مانع من الأخذ بالحيطة، بل هي مطلوبة، كما أنه لا مانع من الأخذ بالرخصة، لكن لا على سبيل الإلزام والتقعُّر، وبهذا تبيَّن أن في الأمر سَعة تذهب بالجدال، وترد المتنازعين إلى حد الاعتدال.

2- وأما المسح على الجورب، فهو ثابت في السنة، ومروي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم أنس وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم، ولكن روايته لم تبلغ مبلغ المسح على الخفين؛ ولذلك اختلف العلماء في جواز المسح على الجوربين، ولم يختلفوا في جواز المسح على الخفين، والخف معروف، وأما الجورب فهو ما يُلبس في الرِّجل من قماش معين يمكن المشي فيه واتقاء الحر والبرد به[1]، وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال لمن سأله عنه: "إنه خفٌّ، إلا أنه من صوف"، وهذا تفسير واضح للجوارب، ودليل كافٍ لاشتراط متانته وإمكان المشي به دون تأثُّر سريع، وإذًا فالمسح على ما نلبسه ونسميه "الشراب" بدل الغسل - من الهذيان والتلاعب بدين الله، لا يشك في ذلك من كان على بصيرة من دين، أو أَثَارة من علم.

3- وأما إجابة المؤذن، فقد دلَّ حديث أبي سعيد على أن تكون مثل ما يقول المؤذن كلمة كلمة، ودلَّ حديث معاوية على استثناء الحيعلتين وإبدالهما حوقلتين؛ ولذا قال بعض العلماء بالتخيير، إن هذا مِن الاختلاف المباح؛ فتارة يوافق المؤذن في صيغة الأذان، وأخرى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، بدل حي على الصلاة حي على الفلاح، وقال بعض العلماء: يستحَبُّ الجمع بينهما عملاً بالحديثين، ولعل هذا خير، وليس في هذا كله ما يدعو إلى نزاع أو شقاق ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78] وصدق الله العظيم.

4- وأما الصلاة بالنعال، فهي ثابتة في الصحيح عن أنس، وروى أبو داود والحاكم: ((خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلُّون في نعالهم وخفافهم))، قال صاحب الفتح: وهو محمول على إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص لا من المستحبات، اللهم إلا إذا قصدت المخالفة[2]، ومن المعروف أن المساجد حينئذٍ كانت مفروشة بالحصباء، وأنهم كانوا يصلون في الصحراء، فأي حاجة بعد هذا إلى التشدق بالصلاة في النعال، وكثرة القيل والقال؟

5- وأما المسافة التي تبيح قصر الصلاة، فقد اختلف فيها العلماء اختلافًا كثيرًا يرجع إلى تحديد السفر وتقديره، وثبت أنَّ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم كانا يَقصُران ويُفطران في أربعة بردٍ (جمع بريد)، والبريد أربعة فراسخ، وهي المسافة التي قدَّرها العلماء بنحو ثمانين كيلو، ومن الغريب أن يسمي المرء السبعين كيلو أو الستين سفرًا، لكن من السخف والهذيان أن ينتقل إلى ضاحية من الضواحي التي لا تبلغ عشرين كيلو فيَقصر الصلاة ويجمعها ويسمي ذلك سفرًا!

6- وأما صورة الجمع في السفر، فمن العلماء من اختار أن تُؤخَّر الصلاة الأولى وتُصلَّى مع الثانية[3]، وإن جُمعتا معًا في أول الوقت جاز، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومنهم من سوَّى بين الأمرين، وهذا مذهب الشافعي ورواية عن مالك[4]، وعلى كل حال فالجمع في وقت إحدى الصلاتين رخصة كما قال ابن حجر، ويدلُّ عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يُحرِج أمَّتَه"، قال ابن حجر[5]: وقد جاءت الأخبار صريحة بذلك، وهو المتبادَر إلى الفهم من لفظ الجمع؛ فليس المراد الجمع الصوري الذي هو صلاة الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها؛ لأن هذا تضييق وليس برخصة، ودين الله يسر، وليس يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه.

هذه إفادات موجزة رجعنا فيها إلى فتح الباري، وبداية المجتهد، وزاد المعاد، وشرح المواهب، فمن أراد البسط والتفصيل، فليرجع إليها.

وأحبُّ أن يعلم المتهاونون المقصرون أن الدين متينٌ وإن كان يسرًا، وأن يعلم المتقعِّرون المتنطِّعون أن الدين يسر وإن كان متينًا، وأن يعلموا جميعًا أن الحنيفية السمحة لا إفراط فيها ولا تفريط، ولا غلوَّ ولا شطط، وأخيرًا أرجو أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يقصدوا إلى الحق والإخلاص له والدعوة إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.

المصدر: مجلة الإسلام، العدد 21،

24 جمادى الأولى 1362 - 28 من مايو 1943م