الزوجان في مسكن واحد (2)

فقه الأسرة

الحلقة (68)

الزوجان في مسكن واحد (2)

الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أمَّا بعدُ:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيَّاكم الله أيها المستمعون والمستمعات في برنامجكم: "فقه الأسرة"، وفي هذه الحلقة - مستمعيَّ الأفاضل - نستكمل ما بدأناه في الحلقة السابقة من الإشارة إلى مسألةٍ تتعلَّق بالعِشرة بين الزوجين، وهي أنَّ من لوازم العِشرة بين الزوجين أنْ يأوي الزوجان إلى بعضهما البعض في بيتٍ واحد، وتحت سقف واحد؛ ليستَمتِعا بالحِكَم الربانيَّة والمقاصد العظيمة في تشريع النكاح، واستعرَضْنا في الحلقة الماضية جملةً من الأدلَّة الشرعيَّة الدالَّة على عناية الشرع بذلك؛ لما فيه من الأثر الحميد على الحياة الزوجيَّة.

وقد اعتنت الشريعة الإسلاميَّة بهذا الأصل، وأوجبت على الزوجين أحكامًا تُؤكِّد ذلك وتجلِّيه؛ لما فيه من تعزيز العلاقة بين الزوجين، وتوفير أسباب تحصيل المودَّة والسكينة بينهما.

ومن تلك الأحكام:

أنَّ حقَّ الزوجة في المسكن حق ثابت، كما سبق بيانه وأدلَّته في الحلقة الماضية، وقد ذكَر العلماء أنَّ تحديد السكن الذي يلزمُ الزوجَ توفيرُه لزوجته يختلف بحسب عُرف الناس وما استقرَّ عليه حالهم؛ لاختلاف ذلك بحسَب البلدان والأحوال، والقُدرة المالية، ونحو ذلك.

والقدر الواجب أنْ يتوفَّر للزوجة مكانٌ تعيش فيه بخصوصيَّة، وتلتَقِي فيه بزوجها بعيدًا عن أعيُن الناس، حتى وإنْ كانوا من الأقرَبِين.

ومن الأحكام التي أوجبَتْها الشريعة الإسلاميَّة سعيًا في تحقيق اجتماع الزوجين والتقائهما، وجوبُ تسليم الزوجة لزوجها إذا تَمَّ العقد ما لم تشترط الزوجة خِلافَ ذلك.

وقد اتَّفق العلماء على أنَّ الزوج إذا سلَّم إلى زوجته المهر، وطلب منها أنْ تُسلِّم نفسها إليه أو تُسافر معه، فله ذلك، وليس لها الامتناعُ إذا كانت المرأة ممَّن يُجامَع مثلُها، وليس لها عُذرٌ يمنع من ذلك.

ومن تلك الأحكام أيضًا حقُّ الزوجة في مَبِيت زوجها معها:

فمن حُقوق الزوجة المتقرِّرة لها على زوجها أنْ يبيت معها، ومعلومٌ أنَّ المبيت مع الزوجة لا يكون إلا في مسكنٍ يؤويهما غالبًا، ولا تتمُّ النعمة بالمسكن والزوجة التي هي سكنٌ إلا باجتماع الزوجين في هذا المسكن.

فما المراد بالمبيت؟ وهل هو واجب على الزوج أو مستحب؟ وإذا كان واجبًا فما مقدار الواجب منه؟ والجواب عن ذلك في المسائل الآتية:

المسألة الأولى:

المراد بالمبيت: فعْل الشيء ليلاً، ونادرًا ما يُطلَق على النوم ليلاً، والمبيت مع الزوجة يُطلَق على إذا ما صار عندها ليلاً، سواء نام أو لا.

وفي "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير"[1]: "بات يَبِيتُ بَيْتُوتةً ومبيتًا ومَباتًا، فهو بائتٌ، وتأتي نادرًا بمعنى نام ليلاً، وفي الأعم الأغلب بمعنى: فعل ذلك الفعل بالليل".

المسألة الثانية: حُكم مَبِيت الزوج مع زوجته:

لا يخلو الحال من أنْ يكون للزوج زوجة واحدة أو أكثر.

فإذا كان للزوج زوجة واحدة فقط، فإنَّ في حكم المبيت خلافًا بين العلماء على قولين:

القول الأول (الحنفيَّة في الرواية الأولى، والحنابلة، وابن عرفة من المالكيَّة): أنَّ المبيت واجبٌ للزوجة على زوجها يُلزمُ به الزوج[2].

واستدلُّوا بما يلي:

1- قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لعبدالله بن عمرو بن العاص: ((يا عبدالله، ألم أُخبَرْ أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟))، قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((فلا تفعل، صُمْ وأفطر، وقُمْ ونَمْ؛ فإن لجسمك عليك حقًّا، وإنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجك عليك حقًّا...))[3].

ووجهُ الاستدلال: قوله: ((إنَّ لزوجك عليك حقًّا))؛ حيث أثبت أنَّ للزوجة حقًّا، والحقُّ يشمل المبيت.

2- حُكم كعب بن سور[4]؛ حيث كان جالسًا عند عمر بن الخطاب فجاءت امرأةٌ فقالت: "يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلاً قطُّ أفضل من زوجي، والله إنَّه ليبيت ليلَه قائمًا، ويظلُّ نهاره صائمًا، فاستغفَرَ لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعةً، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، هلا أعديت المرأة على زوجها؟ فجاء فقال لكعب: اقضِ بينهما؛ فإنَّك فهمت من أمرهما ما لم أفهم، قال: فإنِّي أرى كأنها امرأةٌ عليها ثلاث نسوة هي رابعتهنَّ، فأقضي له بثلاثة أيَّام ولياليهن يتعبَّد فيهن، ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأوَّل بأعجب إليَّ من الآخر، اذهب فأنت قاضٍ على أهل البصرة، وفي روايةٍ فقال عمر: نعم القاضي أنت[5].

قال ابن قُدامة: "وهذه القضيَّة انتشرت فلم تُنكَر، فكانت إجماعًا"[6].

3- ومن المعقول: أنَّه لو لم يكن المبيت حقًّا للمرأة على زوجها، لملَكَ الزوج تخصيص إحدى زوجتيه به؛ كالزيادة في النفقة على قدر الواجب[7]، وهو أمرٌ ممنوعٌ شرعًا، فمَن له أكثر من زوجةٍ يحرُمُ عليه أنْ يزيد في ليالي إحداهنَّ دُون رضا البقيَّة.

القول الثاني (المالكيَّة والشافعيَّة والحنفيَّة في الرواية الثانية، والحنابلة في الرواية الثانية): أنَّ المبيت عند الزوجة مستحبٌّ، وليس بواجب، واستدلُّوا بأنَّ المبيت حقٌّ للزوج، فيجوزُ له تَرْكُه؛ كسكنى الدار المستأجَرة.

والأقرب - والله تعالى أعلم - القول الأوَّل، وهو وجوب المبيت على الزوج عند زوجته، ويمكن أنْ يُجاب عن تعليل أصحاب القول الثاني بأنَّ المبيت حقٌّ للزوج يجوزُ له تركه بأنَّه إنْ كان حقًّا له فهو - أيضًا - حق لها، وإلا لم يكن لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ لزوجكَ عليكَ حقًّا)) معنى، وأين المعاشرة بالمعروف إذا كان لا يلزمه المبيت عندها بحالٍ من الأحوال؟ والله تعالى أعلم.

وأمَّا مِقدار الواجب في المبيت: فقد اختلف القائلون بوُجوب المبيت على الزوج في بيان مِقدار الواجب منه، الذي يتحقَّق به امتثال الحكم الشرعي، وفي المسألة قولان:

القول الأول: أنَّ قدره ليلة من كلِّ أربع ليالٍ، (وهو مَروِيٌّ عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وقد رجَع عنه، وهو المذهب عند الحنابلة، قال في "الإنصاف": وهو من مُفرَدات المذهب"[8]، ودليلُ هذا القول ما جاء في قصة كعب بن سور حين حكَم بين زوجين في مقدار المبيت بقوله: "فإنِّي أرى كأنها امرأةٌ عليها ثلاث نسوة هي رابعتهنَّ، فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبَّد فيهنَّ، ولها يوم وليلة"، وأيَّده عمر - رضي الله عنه - وأعجَبَه ذلك، وقد اشتهرت القصة فكانت إجماعًا، كما حَكاه العلماء.

والقول الثاني: أنَّه غير مُقدَّر، بل يكون بحسَب ما يطيبُ نفسها، ويحصل به الأنس وزوال الوحشة، (وبه قال القاضي وابن عقيل من الحنابلة، ورجَّحه المرداوي[9].

ودليلهم: أنَّ القسمة والعدل إنما تكونُ مع المزاحمة، ولا مزاحمة هنا؛ حيث لم يكن في عِصمته إلا واحدة[10].

وبتأمُّل دليل الفريقين يظهر رُجحان القول الأوَّل؛ وهو أن القدر الواجب من المبيت ليلة من أربع ليالٍ؛ لما استدلَّ به أصحاب القول الأول، ولكونه ممَّا يمكن ضبطُه ومعرفته، ويسهل العمل به والإلزام به.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

◘ ◘ ◘ ◘

المراجع:

رسالة الدكتوراه للباحث (الضوابط الفقهية في العلاقات الزوجية).