• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

دلالات تربوية على سورة الانشقاق

د. أحمد مصطفى نصير

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/5/2014 ميلادي - 26/7/1435 هجري

الزيارات: 59644

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

"القيامة كأنها رأي العين"

دلالات تربوية على سورة الانشقاق


وقع وتأثير مشهد الإيذان بفَناء الكون ومخاض يوم القيامة:

تستهل سورة الانشقاق الآيات بالحديث عن انفراط عقد الكون ونظامه البديع، إيذانًا بقيام الساعة، فهو مشهد عظيم يصوره القرآن بأكثرِ الأحداث فيه تأثيرًا؛ فالسماء والأرض هما أكبر ظاهرتين في الكون، وكل ما يجري فيهما يؤثر بلا شك في الكون كله، فعندما يتحدث القرآن عنهما وما يحدُثُ لهما عند قيام الساعة فهو أمر جدير بالاهتمام، فماذا يحدُثُ لهما؟ ولماذا؟ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1] و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]))[1]، ففي هذا اليوم يحدُثُ انهيار عظيم للسماء، فتتشقق حتى تكاد أن تتساقط، وتوشك أن تنهار.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمَن من عليها، فذاك حين ﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]))[2]، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب اللهُ عليه))[3]، هنا يبدأ التغيُّر في العالَم العلوي - أي في السموات - ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أول الآيات خروجًا طلوعُ الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحًى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبًا))[4]، قال ابن كثير: (أي أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجالُ ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوجَ ومأجوج، فكل ذلك أمور مألوفة؛ لأن أمر مشاهدته ومشاهدة أمثاله مألوفٌ، فأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف ومخاطبتها الناس ووَسْمها إياهم بالإيمان أو الكفر، فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أولُ الآيات السماوية)[5].

 

يقول سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1، 2].

 

والمتأمل في خَلْق السماء كما وصفها لنا علماء الفضاء، آخذًا في الاعتبار أنها تتكون من عدة طبقات كما يسميها العلماء: (Troposphere - Stratosphere - Mesosphere - Thermosphere - exosphere)، وهو يعلم أن كل طبقة من هذه الطبقات تقوم بوظيفة مختلفة، فطبقة الاستراتوسفير - على سبيل المثال - تعلو طبقة التربوسفير، وتمتد من ارتفاع 21 إلى 80 كيلومتر تقريبًا فوق سطح الأرض، وتتميَّز هذه الطبقة بخُلوِّها من التقلبات المختلفة أو العواصف الجوية، ويوجد بها حزام يعرف بطبقة الأوزون، التي تحمي سطح الأرض من مخاطرِ الأشعة فوق البنفسجية، تخيل ماذا يكون حال الكون حينما تنهار هذه الطبقات، مما يعرِّض كوكب الأرض لخطر الأشعة الكونية المضرة، والعالم كله قد فزِع من وجود ثقب في طبقة الأوزون [6]، إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أفصح لنا عن الهدف من نزول هذه السورة، فهي تصور بعضًا من مشاهد يوم القيامة الهائلة، حتى تكون تلك المشاهد قريبة من المؤمن ليراها بقلبه، فيكون ذلك أدعى إلى زيادة الإيمان بها، يقول سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1، 2]، إنها بعض من مظاهر هذا اليوم، إيذانًا من الله تعالى بقيام الساعة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعةُ إلا على شِرار الناس))[7]، فهذه المظاهر لن يراها المؤمنون؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبةً فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض رُوحَ كلِّ مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارَجون فيها تهارُجَ الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة))[8]؛ فالمؤمن قد آمن بها وأيقن بهذه الأهوال، وعمل لذلك؛ ولذلك رحمه الله تعالى من أن يراها بعينه وقد رآها بقلبه، أما المكذِّبُ بها فإن عليه أن يصدِّقَ بها، فتكون رؤيته لهذه الأحداث - حال قيام الساعة - حقَّ عين عليه، فلا يستطيع التكذيب بها، لكن بعد فوات الأوان؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [سبأ: 51 - 53]، يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعةُ حتى تطلعَ الشمس من مغربها، فإذا رآها الناسُ آمَن مَن عليها، فذاك حين: ﴿ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الأنعام: 158]))[9]، فقد جاء الوقت لتموتَ السماء، قد جاءت ساعةُ فَنائها وفناء كل مَن في الدار الدنيا جميعًا، سواء أكان في السماء أو في الأرض، فلن يبقى إلا اللهُ وحده سبحانه، ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].

 

يقول المولى سبحانه: ﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 3 - 5].

 

مد الله سبحانه الأرض قدر ما نراه في هذه الدنيا مدًّا، كي تتسع بما يكفي لأرزاق البشر؛ من زرع وشراب، ومسكن ومأوى، فمهما زاد سكان هذه المعمورة فالله تعالى قد مدها لهم، بحيث تستوعبهم ولا يجدون فيها مزدحمًا؛ يقول سبحانه: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾ [الحجر: 19]، بَيْدَ أن الله تعالى يمد الأرض يوم القيامة مدًّا بخلاف ذلك؛ فهو أمر مختلف، فلا يبسطها لكي يعيش الإنسان فيها في دار الاختبار والابتلاء، ولم تُمد لتكون أرضًا للمحشر، فيوم الحشر تالٍ لهذا اليوم، وليس ذلك هو اليوم الذي تشقَّق فيه الأرض لتعيد ابن آدم من جديد [10]؛ إذ لا تزال أهوال القيامة قبل البعث لم تنتهِ، إنما تلقي الأرضُ ما حوته في بطنها من كنوزٍ ومتاع كان أولاد آدم يتنافسون عليها على مدار السنوات والقرون، وظلوا يتوارثونها وتتداول فيما بينهم، فتمتد الأرض عندئذ لتبسط ما فيها من رِزق وكنوز؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلتُ، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطِعت يدي، ثم يَدَعونه فلا يأخذون منه شيئًا))[11].

 

هنا تكون الأرض قد أخلَتْ ما في بطنها مما أثقلها، فكلُّ متاع للدنيا هو ثقل على مَن يحمله؛ ففي الحديث: أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمالٍ من البحرين فقال: ((انثُروه في المسجد))، وكان أكثر مالٍ أُتِي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفِتْ إليه، فلما قضى الصلاةَ جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله، أعطِنِي؛ فإني فاديت نفسي وفاديت عَقيلاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذ))، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطِعْ، فقال: يا رسول الله، مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ، قال: ((لا))، قال: فارفَعْه أنت عليَّ، قال: ((لا))، فنثر منه، ثم ذهب يقلُّه، فقال: يا رسول الله، مُرْ بعضهم يرفعه عليَّ، قال: ((لا))، قال: فارفعه أنت عليَّ، قال: ((لا))، فنثر منه، ثم احتمله فألقاه على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُتبعه بصرَه حتى خفي علينا عجبًا من حِرصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها دِرهمٌ [12]؛ أي: لم يبقَ من مال البحرينِ شيءٌ.

 

وكأن المولى سبحانه يريد أن يبيِّن لنا حقيقة هذه الدنيا قبل فَنائها، أهذه هي التي أهلكتكم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يكثُر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلُها منه، وحتى تعود أرضُ العرب مُروجًا وأنهارًا))[13]، وفي رواية: ((حتى يكثر فيكم المال فيفيض... ويُدعى إليه الرجلُ فيقول: لا أَرَبَ لي فيه))[14].

 

وقد ذُكر قوله تعالى ﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ في هذه السورة مرتين، فذكر مرة في شأن السماء، وتكرر كذلك في شأن الأرض، ذلك أن السماوات والأرض مأمورتان، وليس أدل على ذلك من قوله تعالى ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، فالإذن في اللغة (العلم)، ودلالته تشمل الإعلام، لقوله تعالى ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾ [التوبة: 3] أَي إعْلامٌ، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ﴾ [فصلت: 47]، وقوله تعالى ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [الحج: 27]، ودلالة اللفظ تشتمل (السمع والإنصات)، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ﴾ [التوبة: 61]، قالَ ابن الأَثير قيل معناه الحضُّ على حُسْنِ الاستِماعِ والوَعْي لأَن السَّمْعَ بحاسَّة الأُذُنِ، فالإيذان، هو الإخطار والإشعار بأمر هام.

 

ولما كان الموت حقاً على كل شيء، فقد أعلم الله تعالى بغض خلقه بساعة فنائه، وأعلم السماوات والأرض بقرب ساعتهما، وقد استجابتا - السماوات والأرض - لأمر ربهما لتأتيا لله تعالى طائعتين بعد أن انتهت أمارات الساعة، يقول سبحانه ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 4، 5]، إذ علمت من وحي ربها أن ذلك هو اقتراب أجلها، يقول سبحانه ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83]، فكما أسلمت السماء والأرض نفسيهما لله تعالى فكذا علي الإنسان أن يستجيب لربه ويسلم نفسه لله سبحانه، يقول عز وجل ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47]، فلا يبخل المرء بنفسه أن تموت ولا دمه أن يهراق في سبيل الله، ولذلك انتقل الخطاب إلى الإنسان بأسلوب النداء.

 

قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ[15] إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].

 

ضرورة أن يصوِّب الإنسان كدحه في الدنيا:

فمهما كدح الإنسان بسعيه في الدنيا لجمع المال والمتاع، فإنه مفارِق ذلك كله لا محالة، وملاقٍ ربه ليحاسبه، فلماذا الكدح إذًا؟ ولماذا السعي والتعب والنصب طالما أن ذلك سيؤول في النهاية إلى زوال؟ إن كدح الإنسان في الدنيا ونصبه في العمل لا بد أن يؤول لإحدى اثنتين، لا ثالث لهما، قال الرازي: (لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ)[16]؛ أي: في الخطاب؛ فهو يفعل ذلك إما لِجَنْي ثمار الدنيا، أو لغَرْس ثمار الآخرة؛ يقول المولى سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 20]، ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو، فبايِعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقُها))[17]، إن العاقلَ الذي يأخُذُ نصيبه من الدنيا بما لا يشغله عن عمل الآخرة، فيقتات منها ما يقيم صُلبه فيها؛ لأنه مفارق ذلك كله إلى دار لا يجني من ثمارها إلا ما قد غرسه في الدنيا من الأعمال الصالحة، أما الدنيا فكل ما يجنيه منها ليس إلا الكبد والمشقة؛ يقول سبحانه: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمَع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عيينه، وفرَّق عليه شَمْلَه، ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قُدِّر له))[18]، ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّت، وأحبِبْ من شئت فإنك مفارقُه، واعمل ما شئتَ فإنك مَجزيٌّ به))[19]، قال ابن عجيبة: (إنك كادح إلى ربك كدحًا بالمجاهدة والمكابدة، فمُلاقيه بالمشاهدة المعاينة في مقام الفَناء والبقاء)[20]، فقوله سبحانه: ﴿ فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6] يتضمن رؤيةَ الله جل وعلا [21]؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه ربه ليس بينه وبينه تَرجمانٌ))[22].

 

وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كرِه لقاء الله كره الله لقاءه))، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكرَهُ الموت! قال: ليس ذاكِ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه، فأحَبَّ لقاءَ الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكرَهَ إليه مما أمامه، كرِه لقاءَ الله وكرِه الله لقاءه))[23]، وتصفُّ أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها ذلك وصفًا دقيقًا فتقول: (إذا شخص البصرُ وحشرج الصدر واقشعرَّ الجلد وتشنَّجت الأصابع، فعند ذلك مَن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءه، ومَن كرِه لقاء الله كرِه الله لقاءه))[24].

 

قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 7 - 9].

 

فأهل اليمين هم تلك الزُّمرة التي تسعَدُ برضا الله تعالى يوم القيامة، وسُمُّوا بهذا الاسم لأنهم يأخذون كِتاب أعمالهم يوم القيامة - الذي أحصاه الكَتَبةُ في الدنيا - بأيديهم اليمنى؛ ذلك أن التيمُّن هو سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه كله؛ فعن عائشة قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطُهوره، وفي شأنه كله)[25]، وقد استثنى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إزالة النجاسات، حيث خص الشِّمال لها، يقول صلى الله عليه وسلم: ((إذا استطاب أحدكم فلا يستطيب بيمينه، ليستنجِ بشِماله))[26]، وقال: ((وإذا أتى الخَلاء فلا يمسَّ ذكَره بيمينه، ولا يتمسَّحْ بيمينه))[27]، إذًا فاليمين رمزٌ للتمسُّك بالسنَّة، والإقبال على الأعمال الطاهرة، واليمينُ - كذلك - رمزٌ للقوة في إنكار المنكَر؛ يقول الحق سبحانه واصفًا تدمير نبي الله تعالى إبراهيم للأصنام: ﴿ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 93]، كما أنها ترمُزُ للسيطرة والتحكُّم؛ يقول المولى سبحانه عن نفسه: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67]، مع الأخذ في الاعتبار أن كلتا يديه سبحانه يمين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين) [28]، أما أهلُ اليمين يوم القيامة فهم الذين التزموا سنَّة نبيِّهم في الدنيا، وأقبلوا على طاعة الله تعالى، وتجنَّبوا المنكَرات؛ لذا كان أخذهم كتابهم باليمين جامعًا لِما وُصِفوا به من اتِّباع السنَّة وإنكار المنكر، وقوتهم في الصَّدْع بالحق؛ لذا كان وصفُهم بأهل اليمين أبلغَ في الدلالة عليهم لتمييزهم عن غيرِهم يوم القيامة.

 

فإذا ما أخذ كتابه بيمينه، فإنه سوف يحاسَب حسابًا يسيرًا؛ فعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: ((اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا))، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: ((أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه مَن نوقش الحسابَ يا عائشةُ يومئذ هلك))[29]، وقد أثارت هذه الآية حفيظة السيدة عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن حوسب عُذِّب))، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]، قالت: فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما ذلكِ العَرْض، ولكن من نوقش الحسابَ يهلِك))[30]، إذًا لا بد من الحساب يوم العرض، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تُحشَرون حُفاةً عراةً غرلاً))، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، الرجالُ والنساء ينظر بعضُهم إلى بعض؟ فقال: ((الأمر أشدُّ من أن يُهمَّهم ذاك))[31].

 

فإذا كان يوم العَرْض - وهو يوم حساب كما ذكر آنفًا - ففِيمَ يحاسب المولى سبحانه عبيدَه؟ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه فيمَ فعل؟ وعن ماله: من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه))[32]، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إن أولَ ما يحاسَبُ الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا عز وجل لملائكته - وهو أعلمُ -: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها! فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئًا قال: انظروا هل لعبدي من تطوُّع؟ فإن كان له تطوُّع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم))[33]، وذلك فيما بين العبد وربه، أما فيما هو بين الناس فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء))[34].

 

ومن صور تيسير الحساب على المؤمنين ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((كان تاجر يُدايِن الناس، فإذا رأى معسِرًا قال لفِتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه))[35]، إذًا لا بد أن يتصف المسلمُ بالعفو والتجاوز عن حقه في موطن القدرة؛ فذلك من مكارم الأخلاق التي تصل به إلى أن يتجاوز اللهُ عنه، كذلك من أسباب تيسير الحساب أن يستر العبدُ نفسه في الدنيا، فلا يجاهر بالمعاصي، رجاء أن يتوبَ منها؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في النجوى: ((يدنو أحدُكم من ربه حتى يضع كنَفَه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملتَ كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقرِّره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم))[36].

 

فإذا ما تجاوز العبدُ المؤمن مرحلة الحساب اليسير، فإنه ينقلب إلى أهله مسرورًا؛ فالانقلاب إلى الأهل بحال السرور هو من نعيم أهل الجنة، ولعله - كذلك - من دواعي سرور المؤمن - في الدنيا - أن يجتمعَ بأهله على كتاب الله، فإن كان برفقة أهله المؤمنين في الجنة فإنه يأنَسُ بهم، وإن لم يكن له رُفقة من أهل الدنيا الذين يعرفهم، فإن له أهلاً في الجنة وأزواجًا من الحُور العين، فلا يحزن، وإن كانت المصيبةُ في أهله - كما كان ذلك هو شأن نوح عليه السلام في ابنه؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 45، 46] - فالله تعالى سوف يبدله خيرًا منهم؛ فعن عوف بن مالك يقول: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظتُ من دعائه وهو يقول: ((اللهم اغفِرْ له، وارحَمْه، وعافِه، واعفُ عنه، وأكرم نُزله، ووسِّع مُدخَله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدَّنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجِه، وأدخله الجنةَ، وأعِذْه من عذاب القبر، أو من عذاب النار))، قال: حتى تمنيت أن أكونَ أنا ذلك الميتَ[37]، قال العلماء في قوله: ((أهلاً خيرًا من أهله)) ليأنسَ بهم، وتذهب عنه الوَحْشة، ((وزوجًا))؛ أي: من الحُور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة، ((خيرًا من زوجه))؛ أي: زوجته التي كانت في الدنيا، فإن كان الميت امرأة فالمعنى إبدالها زوجًا من رجال الدنيا في الجنة خيرًا من زوجِها حقيقةً أو حُكمًا[38]، وقالوا: (يشمل الزوجة والخدم)[39]، وقالوا: هو عامٌّ للرجال والنساء، وقالوا في قوله: ((وزوجًا خيرًا من زوجه)) يعني: زوجة خيرًا من زوجته، وذلك بالحور العين، وكذلك بزوجته في الدنيا؛ لأن الإنسان إذا تزوج امرأة في الدنيا وماتت على الإيمان، فإنها تكون زوجتَه في الآخرة، فإن قال قائل: كيف تكون خيرًا من زوجتي وهي واحدة في الدنيا، نقول: خيرًا منها في الصفات والجمال، وغير ذلك[40].

 

قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 10 - 15].

 

يصفُ القرآن فريقًا من الناس، الذين سوف يُعرَضون على الله تعالى يوم القيامة، وهذا الصنف من الناس هم الكافرون؛ حيث تُغَل أيمانهم إلى أعناقهم، وتُجعَل يسراهم وراء ظهرهم، فيأخذون بها كتابَهم [41]، وهي صورة تدلُّ على الذُّل والانكسار والخزي يوم القيامة، ولم تتحدَّثِ الصورة عمَّن يأخذ كتابه بشِماله؛ ذلك أنه ولئن كان من أهل النار، فإنه لن يُخلَّد فيها طالما كان من أهل التوحيد وإن أثقلَتْه ذنوبُه فطُرِح في النار، حتى يخرجَ منها بـ: لا إله إلا الله، أما مَن يأخذ كتابه من وراء ظهره، فهو الكافر الذي يُخلَّد في النار؛ يقول سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ [فاطر: 36]، ولم تتطرق السورة لذكر أصحاب الشمال؛ لأنها تتحدث عن يوم القيامة بين التصديق به أو التكذيب؛ فالناس في شأنه فريقانِ على الوجه السالف بيانه.

 

والكافر الذي يأخذ كتابه من وراء ظهره مخلَّد في النار، أقصى أمانيه عندما يلقى هذا المصير الموت، فيدعو على نفسه بذلك؛ يقول سبحانه: ﴿ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴾ [الانشقاق: 11]؛ إذ يدعون مالكًا، وهو خازن النار، يتمنَّون الموت فلا يجابون لدعوتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77]؛ فهو في النار ماكث فيها، فهو المكوث لا يرجى منه أمل؛ يقول سبحانه: ﴿ وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 12]، فهو قبل دعائه كان في سعير، فلماذا أردف المولى سبحانه ذكر (السعير) تصريحًا بعد أن ذكره تعريضًا، حال دعائه ثبورًا؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صار أهلُ الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، لا موت، ويا أهل النار، لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم))[42]، فهذا هو السعير، وهذا هو الشَّقاء الحق؛ إذ لا سعيرَ بعد أن يخلَّد الكافر في السعير، ولا سعير بعد أن يعلم الكافر أن سعيره لن يخفف ولن يقضى عليه فيموت!

 

قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 13]، فهؤلاء الكفار كانوا في الدنيا سعداءَ مسرورين، يضحكون ويسخرون ويستهزئون، ويتمايلون ويتراقصون ويتغنَّون؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ [المطففين: 29 - 31]، وهو أيضًا سرورٌ بالنِّعمة التي أنعمها اللهُ عليهم من متاع الدنيا؛ يقول سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 33 - 35]، بَيْدَ أن هذا السرور الذي وصفه القرآن في حياة الكافر الدنيوية ليس هو السرور الذي ينشرح له القلب؛ إذ إن نفسه لا تزال مظلمة تعيسة بعيدة عن ذِكر الله تعالى، فهو لا يستشعر السعادة أبدًا في نفسه؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وإنما تقتصر تلك السعادة التي يستشعرُها هو على أهله وعشيرته وسلطانه وأمواله، لكنها سعادة ناقصة ممتلئة بالفراغ، سعادة يشوبها الحرمان، الحرمان من السعادة الحقيقية، انظر كيف وصف القرآن ضِيق صدرهم فقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]، انظر كيف صوَّر القرآن انشغال بالهم فقال سبحانه: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 29]، انظر كيف بيَّنت السنَّة عدم قناعتهم بتلك النِّعم، وبحثهم عما يشبعهم إلى ما ليس له حد؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكافرُ يأكل في سبعة أمعاءٍ، والمؤمن يأكُلُ في مِعًى واحد))[43]، فهم دائمًا جوعى عطشى محرومون، فأنى تكون سعادتهم عندئذ؟ كيف هذا السرور الذي يؤدي إلى التخمة والكسل؟ كيف يكون هذا السرور الذي يؤدي إلى ضيق الصدر وعدم راحة البال؟ هم أحسوا السرور أول الأمر عندما أنعم الله عليهم بتلك النعم حتى يتذوقوا النعمة، فيستشعروا الفضل، فيكون ذلك داعيًا لهم على الشكر، إلا أنهم لما كفروا بالنعمة وآمنوا بالباطل، ضاع سرورُهم في الدنيا، وانقلب إلى همٍّ وغمٍّ، وكذلك في الآخرة، ولو أنهم شكَروا الله تعالى على ما خصهم به من نعمة الأهل والأزواج والبنين والحفدة والطيبات، لَمَا ضاقت صدورُهم في الدنيا، ولا صاروا هذا المصيرَ في الآخرة؛ قال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72].

 

وقد أخبر القرآن عن سبب إقبالهم على الدنيا وعدم اكتراثهم بما عند الله تعالى في الآخرة، بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ﴾ [الانشقاق: 14]، هذه هي الحقيقة، أن عدم يقينهم بالبعث هو سبب شقائهم في الآخرة، فهو الذي أصلاهم السعير، إن المولى سبحانه وتعالى يرُدُّ عليهم زعمهم هذا، وظنَّهم المزعوم الذي يحتجون به على المؤمنين، فيقول سبحانه: ﴿ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 15]، يقول ابن عاشور: (مبينة للإبطال الذي أفاده حرف ﴿ بَلَى ﴾ على وجه الإجمال، يعني أن ظنه باطل؛ لأن ربَّه أنبأه بأنه يُبعَث)[44]؛ فهو بصير بأعمالهم، وبصير بما يُوعُونه في قلبهم من الافتراء على الله تعالى؛ إذ إن هذا الظنَّ هو محض افتراء، وهو في حقيقته كذبٌ منهم على أنفسهم، وتكذيب لِما أيقنَتْه صدورهم؛ فالكافر مُوقِنٌ بالبعث والحساب والجزاء، ولا يشكُّ في ذلك أحدٌ، فهو موقن بقلبه، لكنه منكِر ذلك بلسانه، ومنكر ذلك بجوارحه، عدا قلبه؛ يقول سبحانه: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].

 

قوله سبحانه: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 16 - 19].

 

فآياتُ الله تعالى الكونية الدالَّة على البعث تنأى عن الحصر، والقرآن يُقسِم بها ويشير إليها بقوله سبحانه: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ﴾ [الانشقاق: 16 - 18]؛ فالقرآن يشير إلى الشفق الأحمر، والليل وردائه الأسود، والقمر وضوئِه الأبيض، تلك المخلوقات التي يُعيدها المولى سبحانه وتعالى كلَّ ليلة كما هي، فكلما انتهى يوم ينتهي ومعه ذلك الشفق وتلك الحمرة التي تغتال النهار، وكلما أقبل ليل بظلمته حوى معه الكائنات إلى عشِّها وسكنها، فهو وسَقها؛ أي: حواها بردائه الأسود لتسكن فيه، فتخلد للراحة والسكون، والقمر كما بدا مكتملاً عاد ليتناقص من جديد، ويظل على هذا الحال ينقص ويزيد حتى الاكتمال، أليس ذلك بقادر على أن يبعث الإنسان بعد موته؟! لا شك أن الظن الذي ظنوه في أنفسهم هو في حقيقته تمنٍّ، وليس بظن حقيقي، فهم تمنَّوا ذلك حتى لا يحاسبوا ولا يسألوا عما يفعلون، يريدون أن يعيشوا في عبث، في فوضى عارمة لا تَدين لله تعالى بدِين؛ يقول سبحانه: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115].

 

وقوله سبحانه: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19] المقسم عليه، فيه احتراز من الفِتَن التي تقلب أحوال العباد في آخر الزمان؛ فالقرآن يخبِرُنا عن الفتن التي تسبق يوم القيامة، في إشارة إلى اقتراب الساعة، وظهور علاماتها، فكلما ظهرت علامةٌ من علاماتها، كان ذلك أدعى إلى التصديق بخبر اقترابِ وقوعها، فيكون جواب القسم مؤكدًا لاقتراب هذا اليوم بظهور تلك الفتن؛ قال ابن عباس: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19]: حالاً بعد حال، قال هذا نبيُّكم صلى الله عليه وسلم[45]، وانقلاب الأحوال على ثلاثة أضرب، الأول وهي خيرُ: وذلك حين يدخل المرء في الإيمان بعد الكفر، ثم يبتلى؛ فعن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتُني وما أحد أشد بُغضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكونَ قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنتُ من أهل النار، فلما جعل اللهُ الإسلام في قلبي أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسُطْ يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((ما لك يا عمرو؟))، قال: قلتُ: أردتُ أن أشترط، قال: ((تشترطُ بماذا؟))، قلت: أن يُغفَر لي، قال: ((أما علمتَ أن الإسلامَ يهدِمُ ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحجَّ يهدم ما كان قبله؟))، وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالاً له، ولو سُئِلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوتُ أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متُّ فلا تصحَبْني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فشنُّوا عليَّ التراب شنًّا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تُنحَر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي[46].

 

وهو كذلك في آخر الزمان كنوع من الفتن، فهي فِتَن تحيِّر العقل، ويضطرب لها القلب؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال فِتَنًا كقِطَع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دِينَه بعرَضٍ من الدنيا))[47]، فعبدالله بن عمر يقول: كنا قعودًا عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذكر الفتن، فأكثر في ذِكرها، حتى ذكَر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله، وما فتنة الأحلاس؟ قال: ((هي هرب وحرب ثم فتنة السراء، دخَنُها من تحت قدمَيْ رجلٍ من أهل بيتي يزعم أنه مني، وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كوَرِكٍ على ضِلَع، ثم فتنة الدُّهَيماء - تصغير الدَّهْماء - لا تدع أحدًا من هذه الأمَّة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضَتْ، تمادت، يصبح الرجلُ فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، حتى يصير الناسُ إلى فُسطاطين - أي: فريقين - فسطاط إيمانٍ لا نفاقَ فيه، وفسطاط نفاقٍ لا إيمانَ فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدَّجَّال من يومِه أو من غده))[48].

 

وانقلاب الأحوال - وإن كما في الدنيا كما مضى ذكره - فهو في الآخرة كذلك؛ يقول سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [الحج: 66]، وهو ما سوف يقرُّ به أهل الآخرة كذلك، ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [غافر: 11]، وهذا التحوُّل - الانقلاب - كائنٌ كذلك بين أهل الإيمان والكفر؛ فقد أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ [الانشقاق: 19] قال: قوم كانوا في الدنيا خسيسًا أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا أشرافًا، فاتَّضعوا في الآخرة[49]، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: حالاً بعد حال، بينما صاحب الدنيا في رخاء إذ صار في بلاء، وبينما هو في بلاء إذ صار في رخاء [50].

 

قوله سبحانه: ﴿ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [الانشقاق: 20 - 25].

 

فيه تكليف وجوبي بإبلاغ صور أهوال القيامة حتى للذين لا يؤمنون، وعدم اليأس من حالهم حتى يفتح اللهُ عليهم.

فقد يتساءل سائل مستعجبًا: كيف نبلِّغ الكفار المكذِّبين المصرِّين على الكفر وفساد القلب بأخبار الساعة وأهوال القيامة وهم بهذا الحال من التكذيب والكفر؟ فيُجيب القرآنُ علينا أنه بالرغم مما وصل إليه حال الكفار من التكذيب بأهوال القيامة وعدم الإيمان بها، وعدم خضوعهم واستسلامهم لله تعالى، وبالرغم من أن آيات الله تعالى قد وصلت لآذانهم بفضل الدعاة القائمين على أمر الدعوة، وبالرغم من إصرارهم على العناد والتكذيب - فإن الله تعالى خبير بما في قلوبهم وما تحويه من الكفر والتكذيب، كما أنه خبير بوقتِ إذعانها وانفطارها لله تعالى حين إسلامها بإذن الله تعالى، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ﴾ [الانشقاق: 23]، قال الجوهري: (أي يُضمرون في قلوبهم من التكذيب)[51]، والتكذيب لا يحتاج إلى إضمار، وإنما هم يعلنون التكذيب ويضمرون التصديق، والإيعاء بمعنى الادِّخار [52]، وعن أسماءَ رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، ما لي مالٌ إلا ما أدخَل علَيَّ الزبير، فأتصدَّق؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((تصدَّقي، ولا تُوعِي فيوعَى عليك))[53]؛ أي: (لا تحفظي فضل مالك في الوعاء، أو لا تجمعي الشيء فيه وتدَّخريه بخلاً، ((فيوعي الله عليك)) يمنَع عنك مزيدَ نعمته[54]، وقد يكون لإضمارهم للحسد والحقد على المسلمين، وهو أشدُّ من تكذيبهم بالبعثِ والجزاء، ومن هنا كان الله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الكيد للإسلام والمسلمين؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، قال الألوسي: (والشر أخبثُ ما أوعيت من زاد)؛ ولذلك جوز البعض أن ينبسط المعنى على المنافقين، رغم كون السورة مكية، كما ينبسط بظاهر الخطاب على الكافرين[55].

 

ولعلَّ الله تعالى يَهديهم للإسلام، فتكون علانيتهم كسِرِّهم، وسرهم كعلانيتهم في التصديق بالبعث والرسالة وكتاب الله، فقد ينقلب حالُهم من الكفر إلى الإسلام، فلا يفرح المؤمن في آخر الزمان، فيغتر بإيمانه، ويظن في نفسه خيرًا فيفتن ويكفر، بينما تجد أهلَ الكفر في آخر الزمان قد يدخلون في الإسلام وينصرون هذا الدين، بعد أن تخاذل عن نصرته بعضُ المسلمين.

 

لكن تغليبًا للحال الظاهر عليهم، وأنهم لا يزالون مصرِّين على الكفر، وقد كشف القرآن عما في قلوبهم من حقد وحسدٍ للمسلمين، فإن واجبَ الدعاة إلى الله تعالى تبشيرُهم بالعذاب يوم القيامة، وتبصيرُهم بأهوال هذا اليوم، لعل ذلك يعظِّمُ رهبتهم من الله فينتهوا عما هم فيه، وذلك بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم، وبصرف النظر - كذلك - عن تكذيبِهم أو تصديقهم؛ فالله تعالى هو المطَّلع على القلوب، يقلِّبُها كيف يشاء.

 

فالكفار جميعًا ليسوا على وتيرة واحدة، فقد تتأثر قلوب فريق منهم بذلك البلاغ، وهم الذين قد استثناهم الله تعالى من العذاب الآنف التبشير به، بقوله سبحانه: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [الانشقاق: 25]، قال ابن كثير: (هذا استثناء منقطع، يعني: لكن الذين آمنوا؛ أي بقلوبهم، وعملوا الصالحات؛ أي: بجوارحهم))[56]، قال صاحب الظلال: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداءً في تلك البشارة السوداء، ثم استثنوا منها! ولكن التعبير على هذا النحو أشدُّ إثارةً للانتباه إلى الأمر المستثنى!)، وقال الآلوسي: (وجوز أن يكون متصلاً، على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات: من آمن وعمل بعدُ منهم؛ أي: من أولئك الكفرة، والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى)[57].

 

وقوله تعالى: ﴿ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [الانشقاق: 25]، فيه إشارةٌ إلى نوعِ الأجر الذي لا ينقطعُ عن أهل اليمين يوم القيامة، وهو ما أشار إليه كذلك ابنُ كثير في قوله: إن أهلَ الجنة يُلهمون الحمدَ والتسبيح كما يُلهَمون النَّفَس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهلَ الجنة يأكلون فيها، ويشرَبون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون))، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: ((جُشَاء ورشح كرَشْح المسك، يُلهَمون التسبيح والتحميد كما تُلهَمون النَّفَس))[58].



[1] رواه الترمذي ج 5 ص 433 رقم 3333، وصححه الألباني: الجامع الصغير ج1 ص 1124 رقم 11239.

[2] رواه البخاري ج14 ص 174 رقم 4269.

[3] رواه مسلم ج13 ص 218 رقم 4872.

[4] رواه مسلم ج14 ص 176 رقم 5234.

[5] ابن كثير: النهاية في الفتن والملاحم ج1 ص 73.

[6] فقد ذكر فريق العمل المَعْنِي بالتقويم البيئي والتابع لبرنامج الأمم المتحدة لشؤون البيئة في تقرير نشره في نوفمبر عام 1991، أن استنزاف طبقة الأوزون والزيادة الناتجة في الأشعة فوق البنفسجية قد يؤديان إلى تعجيل معدَّل تكوُّن الضباب الدخاني الذي يبقى معلقًا في الأجواء لأيام عدة، مثلما حدث في لندن عام 1952 عندما ساد الضباب الدخاني جو هذه المدينة، وحوَّل نهارها إلى ليلٍ على مدى بضعة أيام، وأدى إلى خسائرَ فادحةٍ في الأرواح وصلت إلى حوالي 4 آلاف حالة وفاة، كما أن تآكُلَ دِرع الأوزون قد يؤدي إلى زيادة في معدلات سرطان الجلد اللاقتامي بنسبة 26%.

[7] رواه مسلم ج 4 ص 2268 رقم 2949.

[8] رواه مسلم ج 4 ص 2250 رقم 2937.

[9] رواه البخاري ج 4 ص 1697 رقم 4359.

[10] يرى البعض خلافًا لهذا النظر؛ روى الحاكم في المستدرك عنه صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة مُدَّت الأرض مد الأديم، وحشر الله الخلائقَ الإنسَ والجن والدواب والوحوش))، حديث رقم 8716، وقد ضعَّف الألباني الحديثَ من طرق أخرى؛ انظر حديث رقم: 4709 في ضعيف الجامع.

[11] رواه مسلم ج 2 ص 701 رقم 1013.

[12] رواه البخاري ج 1 ص 162 رقم 411.

[13] رواه مسلم ج 2 ص 700 رقم 157.

[14] رواه مسلم ج 2 ص 700 رقم 157.

[15] الكدح: السعي والعناء؛ (مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني ج2 ص287)، هو مأخوذ من كدح جِلده: إذا خدَشه؛ (فتح القدير للشوكاني ج7 ص450).

[16] أبو حفص سراج الدين، اللباب في علوم الكتاب ج8 ص 430 - تفسير الرازي ج8 ص 240.

[17] رواه مسلم ج2 ص 3 رقم 328.

[18] رواه الترمذي ج 4 ص 642 رقم 2465، وصححه الألباني.

[19] رواه البيهقي في شعب الإيمان ج 7 ص 349 رقم 10541، وحسنه الألباني؛ انظر: الجامع الصغير وزياداته ج 1 ص 8 رقم 73.

[20] البحر المديد ج7 ص 38.

[21] شرح العقيدة الواسطية لعبدالله بن محمد الغنيمان ج7 ص4.

[22] رواه البخاري ج20 ص 205 رقم 6058.

[23] رواه البخاري ج20 ص 165 رقم 6026.

[24] رواه مسلم ج13 ص 186 رقم 4847.

[25] رواه البخاري ج 1 ص 74 رقم 166.

[26] رواه ابن ماجه ج1 ص 113 رقم 312، وقال الألباني: حسَن صحيح.

[27] رواه البخاري حديث ج1 ص 69 رقم 152.

[28] رواه مسلم ج 3 ص 1458 رقم 1827.

[29] رواه أحمد ج6 ص 48 رقم 24261؛ انظر: تصحيح الألباني له في مشكاة المصابيح ج 3 ص 209 رقم 5561، وعلق عليه الذهبي في المستدرك، وقال: على شرط مسلم ج 1 ص 125 رقم 190.

[30] رواه البخاري ج 1 ص 51 رقم 103.

[31] رواه البخاري ج 5 ص 2391 رقم 6162.

[32] رواه الترمذي ج 4 ص 612 رقم 2417، وصحَّحه الألباني؛ انظر حديث رقم: 7300 في صحيح الجامع.

[33] رواه أبو داود ج 1 ص 290 رقم 864، وصححه الألباني: صحيح أبي داود ج4 ص 17.

[34] رواه مسلم ج 3 ص 1304 رقم 1678.

[35] رواه البخاري ج 2 ص 731 رقم 1972.

[36] رواه البخاري ج 19 ص 16 رقم 5609.

[37] رواه مسلم ج5 ص 74 رقم 1600.

[38] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ج6 ص 239 لابن علان الصديقي.

[39] مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح ج 5 ص 773 للشيخ أبي الحسن المباركفوري.

[40] شرح رياض الصالحين ج1 ص 1063 للشيخ محمد بن العثيمين.

[41] تفسير الجلالين.

[42] رواه البخاري ج 5 رقم 2397 رقم 6182.

[43] رواه مسلم ج 3 ص 1631 رقم 2060.

[44] التحرير والتنوير ج 30 ص 200.

[45] رواه البخاري ج 4 ص 1885 رقم 4656.

[46] رواه مسلم ج 1 ص 112 رقم 121.

[47] رواه مسلم ج 1 ص 110 رقم 118.

[48] رواه أبو داود ج 2 ص 495 رقم 4242 وصححه الألباني.

[49] تفسير ابن كثير ج 8 ص361.

[50] ذكر ذلك السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج10 ص 226.

[51] الصحاح في اللغة ج2 ص 286.

[52] شرح السنة للإمام البغوي ج6 ص 153.

[53] رواه البخاري ج9 ص 45 رقم 2401.

[54] التيسير للمناوي بشرح الجامع الصغير ج1 ص 775.

[55] الآلوسي ج 22 ص 312.

[56] تفسير ابن كثير ج 8 ص 362.

[57] الآلوسي ج 22 ص 314.

[58] رواه مسلم ج 13 ص 472 رقم 5066.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • دلالات تربوية على سورة الناس
  • دلالات تربوية من سورة الإخلاص
  • دلالات تربوية على سورة الكوثر
  • دلالات تربوية على سورة المرسلات
  • دلالات تربوية على سورة قريش
  • دلالات تربوية على سورة الانفطار
  • دلالات تربوية على سورة الفيل
  • دلالات تربوية على سورة التين
  • دلالات تربوية على سورة الليل
  • إعراب سورة الانشقاق
  • تأملات في سورة الانشقاق
  • قوله تعالى: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره
  • تطبيقات تربوية لقول الله تعالى: ﴿أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير﴾
  • تفسير سورة الانشقاق

مختارات من الشبكة

  • أنواع الدلالات وما تدل عليه من معان(مقالة - حضارة الكلمة)
  • دلالات تربوية على سورة الأعلى (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دلالات تربوية على سورة الغاشية (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دلالات تربوية على سورة الشمس (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • دلالات تربوية على سورة الشرح(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دلالات تربوية على سورة الفلق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دلالات تربوية على سورة الضحى(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دلالات تربوية على سورة الماعون(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دلالات تربوية على سورة النصر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دلالات تربوية على سورة المسد(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب