التعاون على تكاليف الزواج (1)

التعاون على تكاليف الزواج (1)

إن مبدأ التعاونِ الذي دعا إليه الكتابُ الكريم في قوله - عز وجل -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2] - لَيلمَسُه الدارسُ لكتبِ السُّنة المطهرة، والناظرُ في أخبار المجتمع الإسلامي كما تَعرِضه تلك الكتب - في كل جوانبِ الحياة، ومن هذه الجوانب الزواج، لقد شجَّع الإسلام على الزواج وحضَّ عليه، ودعا الشباب إلى المسارَعة إليه إن كانوا يستطيعون.

ولما كانت إمكانات الناس المادية مُتفاوتة، وكانت عند أكثرهم محدودة، نشأت في المجتمع الإسلامي عاداتٌ حميدة، ومنها التعاون على تكاليف الزواج، متأثِّرين بما جاء في الكتاب والسنة في هذا الموضوع، وتَوارَث الناس هذه العادات حتى عصرنا هذا؛ فأبوَا العروسين يقومان بجزء كبير من هذه التكاليف، وأقاربهما وأصحابهما يقدّمون الهدايا، وقضى العُرف أن يُكافأ المبتدئ بالهدية إذا حصَلت عنده مناسبة سارَّة، أن يُكافأ بمِثل ما قدَّم أو أحسن؛ عملاً بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى إليكم معروفًا، فكافئوه، فإن لم تجدوا، فادعُوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه))[1]؛ (رواه النسائي 5/82، وأبو داود 5109، وابن حبان "موارد الظمآن 2071").

وأود قبل أن أَعرِض لوحاتٍ رائعةً من كتب السنة تصوِّر هذا المعنى في موضوع التعاون على تكاليف الزواج، أن أؤكِّد ما ذكرتُه آنفًا من أن تلك العادات الحميدة ما زالت موجودة في كثير من بُلدان العالم الإسلامي إلى الآن والحمد لله، وهي بحاجة إلى تنظيم وتطوير.

• وقصة ربيعة الأسلمي قصة رائعة، وإليكم هذه القصة كما أوردها الإمام أحمد في المسند4/58:

عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدُم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا ربيعة ألا تتزوَّج؟)).

• قلت: والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج؛ ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يَشغَلني شيءٌ عنك، فأعرَض عني، فخدمتُه ما خدمته، ثم قال لي الثانية: ((يا ربيعة ألا تتزوج؟)).

• قلت: والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج؛ ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحب أن يَشغَلني شيء عنك، فأعرَض عني، ثم رجعتُ إلى نفسي فقلت: والله لَرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما يُصلِحني في الدنيا والآخرة أعلمُ مني، والله لئن قال: ((تزوَّج)) لأقولنَّ: نعم يا رسول الله، مُرني ما شئتَ.

• فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا ربيعة ألا تتزوج؟)).

• فقلت: بلى، مُرني بما شئت.

• قال: ((انطلِق إلى آل فلان - حي من الأنصار - فقل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسَلني إليكم أن تزوِّجوني فلانة))؛ لامرأة منهم، فذهبتُ فقلت لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسَلني إليكم يأمركم أن تزوِّجوني فلانة، فقالوا: مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يرجع رسولُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بحاجته"، فزوَّجوني وألطفوني، وما سألوني البيِّنة.

• فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حزينًا.

• فقال لي: ((ما لك يا ربيعة؟)).

• فقلت: يا رسول الله، أتيت قومًا كِرامًا، فزوَّجوني وأكرموني وألطفوني، وما سألوني بيِّنة، وليس عندي صداق.

• فقال رسول الله: ((يا بُرَيدةُ الأسلميُّ، اجمعوا له وزن نَواة من الذهب))، فجمعوا لي، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صَداقها)).

• فأتيتُهم، فقلت: هذا صداقها، وقبِلوه، وقالوا: كثيرٌ طيِّب.

• ثم رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حزينًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا ربيعة، ما لك حزين؟))، فقلت: يا رسول الله، ما رأيتُ قومًا أكرم منهم رضوا بما آتيتُهم وأحسَنوا، وقالوا: كثير طيب، وليس عندي ما أُولِم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بريدة، اجمعوا له شاة))، فجمعوا لي كبشًا عظيمًا سمينًا، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمِكْتَل الذي فيه الطعام))، قال: فأتيتها فقلتُ لها ما أمرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: هذا المِكْتَل فيه تسع آصُع شعير، لا والله ما أصبح لنا طعام غيره، خُذه، فأخذته، فأتيتُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما قالت عائشة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهب بهذا إليهم، فقل: ليصبح هذا عندكم خبزًا))، فذهبت إليهم وذهبت بالكبش، ومعي أُناس مِن أسْلَم، فقلت: ليصبح هذا عندكم خبزًا، وهذا طبيخًا، فقالوا: أما الخبز، فسنَكْفِيكموه، وأما الكبش، فاكفُونا أنتم.

• فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسْلَم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأَوْلَمتُ ودعوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وهكذا ساعَده قومه في المهر والوليمة، وساعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا في الوليمة، وساعده الرسول وأبو بكر بالعطاء الجزيل، وكذلك ساعده أهل الزوجة، فأكرَموه وقَنِعوا بما قدَّم لهم، إنها لوحة رائعة من التعاون على تكاليف الزواج.

• وهذه لوحة رائعة في هذا الموضوع في حديث سهل بن سعد الساعدي الذي يحكي لنا قصة الصحابي الذي زوَّجه النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة بما معه من القرآن، وكان لا يملِك شيئًا من حُطام الدنيا، ولم يستطع أن يأتي بخاتم من حديد؛ ليكون له مهرًا؛ (رواه البخاري برقم 5087، ومسلم 1425 وغيرهما).

• أخرَج أحمد في المسند 2/ 35 عن بريدة الأسلمي أنه قال:

لما خطَب عليٌّ فاطمة - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لا بد للعرس من وليمة))، فقال سعد: عليَّ كبش، وقال فلان: عليَّ كذا وكذا من ذُرة!

قال ابن حجر في الفتح 9/230: وسنده لا بأس به، وقال أحمد البنا في الفتح الرباني 16/205: وسنده جيد.

• وأخرَج ابن أبي شيبة عن الحَكَم، قال: لما تزوَّج بلال أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذهبٍ، قال لبلال: ((سُق هذا))، ثم قال: ((أعينوا أخاكم في وليمته))، 4/313.

• وقصة زواج جُليبيب - رضي الله عنه - أخرَجها أحمد عن أنس وأبي بَرزة، وعبدالرزاق، وابن حِبان والبزار، وأبو يعلى في مسنده.

• عن أنس قال: كان رجل من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقال له: جليبيب، في وجهه دَمامة، فعرَض عليه رسول الله أن يُزوِّجه، فقال: إذًا تجدني كاسدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيرَ أنك عند الله لست بكاسدٍ))؛ أخرجه أبو يعلى (6/89)، وهذا رجل فارس شجاع، غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا مني وأنا منه))؛ رواه مسلم 2472، والنسائي في الكبرى 5/68.

يقول أنس: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جليبيب امرأةً من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى أستأمِر أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فنعم إذًا))، فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكَر ذلك لها، فقالت: لا والله، ما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جليبيبًا، وقد منعناها من فلان وفلان، والجارية تسمع في سِترها، فانطلَق الرجل يريد أن يخبِر النبي بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردُّوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمْرَه؟ إن كان قد رضِيه لكم، فأنكِحوه، فكأنها قد جلَّت عن أبويها[2]، وقالا: صدقتِ.

فذهب أبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن كنتَ قد رضِيتَه، فقد رضيناه، قال: ((إني رضيته))، فزوَّجَها، وفي رواية أبي بَرزة أنها قالت: ادفعوني إلى النبي؛ فإنه لا يُضيعني، وعاشت هذه الفتاة مع زوجها حياة سعيدة جدًّا، ودعا داعي الجهاد، فخرج جليبيب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة، وأفاء الله - تبارك وتعالى - عليه، فقال رسول الله: ((هل تفقِدون من أحد؟))، قالوا: نفقِد فلانًا وفلانًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لكني أفقد جليبيبًا، فانظُروه في القتلى))، فنظروه فوجدوه إلى جَنب سبعة قد قتَلهم، ثم قُتِل، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قتَل سبعةً، ثم قتَلوه، هذا مني وأنا منه))، ثم حمَلَه رسولُ الله على ساعِديه، ما له سريرٌ غير ساعِدَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حفر له، ثم وضَعه في لحده؛ (المسند 4/425).

وحدَّث إسحاق بن عبدالله ثابتًا، قال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله، قال: ((اللهم صُبَّ عليها الخير صبًّا، ولا تجعل عيشها كدًّا كدًّا))، قال: فما كان في الأنصار أيِّمٌّ أنفق منها، قلت: وقد روى مسلم في صحيحه والنسائي في الكبرى قصة مَقتله، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا مني وأنا منه))؛ (مسلم 2472، وسنن النسائي الكبرى 5/68).

وصلى الله على محمد وآله.