• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / علوم قرآن
علامة باركود

تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 164)

تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 164)
الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/1/2013 ميلادي - 26/2/1434 هجري

الزيارات: 57300

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة البقرة

الآيات [164]

 

وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [164].

 

لما ذكر الله سبحانه في الآية السابقة تقرير إلهيته ووحدانيته وعظيم رحمته بخلقه، أتبعها بذكر بعض آياته الكونية الدالة على وجوده وعلى وحدانيته ورحمته جل وعلا، مخبراً أن هذه المخلوقات العظيمة فيها دلالات واضحة على ذلك، لمن استعمل عقله بالتفكير الاستقلالي الصحيح، الذي لا يخضع للتقليد، ولا يتأثر بالأقوال السلبية التي لا مستند لها سوى الجحود والشرود عن الحقيقة، فإن في هذه الآية إثباتاً لمضمون ما قبلها بالدلائل العقلية، كطريقة القرآن في قرن المسائل الاعتقادية بدلائلها وبراهينها التي لا تدع مجالاً للشك العقلي الصحيح، وهذه الآيات أجناس:

فأولها وثانيها: خلق السموات والأرض: ففيها آيات واضحات كثيرة الأنواع، ظواهرها تدهش المتأملين، فكيف بمن اكتشف بعض عجائبها الدالة على أن ما لم يعرفوه أكثر وأعظم مما عرفوه، فهذه السموات في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما زينها الله به من النجوم التي لا يحصيها الحصر وما جعل فيها من الشمس والقمر، وتنظيمها لمصالح العباد، وهذه الأرض التي جعلها الله مهاداً للخلق، يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما فيها من كل دابة ومادة.

 

فالسموات التي تتألف من أجرام يبعد بعضها عن بعض بما يقدر بالملايين ولكل قسم منها نظام كامل محكم بحيث لا يبطل نظام بعضها نظام الآخر ولا يصطدم به، لأن للمجموع نظاماً عاماً وخاصاً يدل على صدوره من إله واحد قادر لا شريك له في خلقه وتقديره وحكمته وتدبيره، وخصوصاً ما يقرب منا مما يسمى في مصطلح العصر الحديث بالنظام الشمسي نسبة إلى الشمس التي جعلها الله تفيض أنوارها على الأرض فتكون سبباً للحياة النباتية والحيوانية فيها بإذن الله.

 

وفي الكواكب التابعة لهذه الشمس عبرة عظيمة فإنها على اختلاف مقاديرها وأبعادها قد استقر كل منها في مداره، وحفظت النسبة فيما بينها بضبط إلهي حكيم، بحيث لا ينفلت بعضها فيصطدم ببعض أبداً، فهذا النظام من جملة الآيات الدالة على الوحدانية والرحمة الإلهية، خلافاً لما زعمه بعض الفلكيين من نظام الجاذبية الذي هو الآن سائر في طريق التفنيد، مع أنه إن كان حقاً فهو من صنع الله الحكيم الخبير وتقديره وتدبيره بلا شك.

 

فالسموات تشير إلى آياتها عن بعد، ولكن الأرض التي نحن عليها هي أقرب شاهد، كما قال تعالى: ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ﴾ [الذاريات: 20]، فجرمها ومادتها وعوالمها المختلفة من جماد ونبات وحيوان، لكل منها نظام عجيب وسنة إلهية مطردة في تكوينها وتوالد ما يتوالد منها ونمو موادها، بحيث أن كل من دقق النظر في أنواع الجمادات، في الصخور المختلفة الأنواع، والجواهر المتعددة الخواص والألوان، يشاهد في النظام وأنواع منافعها ما يستيقن به أنها صنعة إله واحد حكيم رحيم لا شريك له في الخلق والتدبير.

 

فكيف بمن دقق النظر في أنواع الحيوانات واختلاف تكوينها وتصويرها مما هو عظيم الخلقة، كالبعير والفيل ونحوهما، وما هو صغير الخلقة، كالفراش وأصغر منه كل نوع منها له هيكل خاص وتصوير خاص ووظيفة وطريقة خاصة، وكل له إحساسه قد هداه الله إلى الطريقة التي يسلكها ويعيش بها في حياته، ويدفع بها ما يؤذيه، ويفترس بها ما يقدر عليه، ومنها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، كما ذكر الله في الآية (45) من سورة النور، ومنها ما له أرجل كثيرة جداً ولكن اعتماده منها على أربع وباقيها كمساعد لها، وكذلك اختلاف النبات ومنافعه. كل هذا من آيات الله الدالة على وحدانيته وعظيم رحمته.

 

نحن مع هذا الآية الكريمة ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾أمام سبع آيات عظام هن علامات واضحة حسية مشاهدة تدل بكل جلاء ووضوح على وجود الله بكامل أسمائه وصفاته وأفعاله، فالسماء بجوها وفضائها، والنجوم السائرة والدائرة فيها، والقوانين الإلهية التي تحكم الروابط بين كل نجم وغيره من النجوم، وبين كل كوكب وغيره من الكواكب، وبين كل نجم وتابعيه من الكواكب، وبين كل كوكب وتابعه من الأقمار. كل هذا لم يدرك العلم الحديث سعته مع ما يملكه من آلات الإدراك ووسائله، ولم يكتشف سوى القليل جداً من أسراره.


وقد حاول الإنسان منذ القدم وأجهد نفسه ليكتشف أسرار الكون، فاكتشف بعضها ولكنه تحقق عنده أن ما يجهله أضعاف أضعاف ما يعلمه، فصدق الله العظيم ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]. ومن الجلي الواضح أنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في وجهة واحدة وعلى مستوى واحد بدون حدوث أي تغيير يذكر، فالنظر لهذا الترتيب يدل على وجود حكمة سيطرت عليه من رب إله قادر حكيم، وقد قرر مثل هذا وأكثر بعض علماء الفلك في عصره كما تقدم تفصيله.


ثم إن هذا العالم بأرضه ومائه وجد في مكانه الصحيح، وقد قرر العلم الحديث أن المحيطات لو كانت أعمق مما هي عليه بضعة آلاف من الأقدام لما كان لدينا "أوكسجين ولا نباتات"، والأرض التي نحيا فيها كلها آيات، فمنها البر والبحر والجبال والأودية والأنهار والجداول، وما يحيط بها من هواء، وما يعلوها من سحاب، وما يدور حولها من أثير، وفيها الإنسان والحيوان والنبات، وفيها الحشرات وغيرها مما لا يدرك بالأبصار، وما يسميه العلم الحديث بـ«الفيروسات والبكتريا»، وفيها من أنواع النبات والأشجار والحيوان ما لا يحصى عدداً، وكل ما فيها ومن فيها أعطاه الله سبحانه وتعالى ما يحتاجه وما يناسبه بميزان عادل، وتقدير إلهي دقيق، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 18] وقال: ﴿ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ﴾ [الحجر: 19]، وكل ما ذكر في هذه الآيات هو مشاهد محسوس لو تأمله الإنسان بعين مفتوحة وقلب واعٍ، لارتجف كيانه من عظمة قدرة الله وحكمته وجبروته.


الآية الثالثة: أو الجنس الثالث في الآيات في قوله تعالى: ﴿ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَار ﴾ وهو كونهما يتعاقبان على نسق، ويختلفان في ضياء وغسق، إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، واختلافهما شيء محسوس، اختلاف في الطول والقصر والتوسط، إذا طال أحدهما قصر الآخر، وإذا اعتدل أحدهما اعتدل الآخر، فاستويا في المقدار، ثم اختلاف في الحر والبرد والتوسط حسب الفصول التي قدرها الله سبحانه مما فيه انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم وجميع ما سخر الله لهم في الأرض من نبات ومواد، كل ذلك بتدبير يبهر العقول. وفي آية اختلاف الليل والنهار من المنافع والمصالح ما يدل على وحدانية الله مبدع هذا الكون العظيم، كما يدل على رحمته بعباده، وهي آية يسهل على كل أحد فهمها وإن لم يعرف أسباب ذلك الاختلاف وتقديره.


وقد جاء بيان لذلك في سورة الإسراء من قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12]، ففي هذه الآية إرشاد دنيوي إلى ما في اختلاف الليل والنهار من المصالح العامة. وهناك إرشاد ديني في ذلك بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]. فإن فيها إرشاداً دينياً وسياسياً يأتي توضيحه في موضعه من سورة الفرقان إعن شاء الله تعالى: وهناك آيات تشير إلى أسباب هذا الاختلاف كقوله سبحانه: ﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 5]، وقوله: ﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]. فاختلاف الليل والنهار بحساب دقيق يطول فيه الليل بمقدار وعلى مهل، وينقص النهار فيه بمقدار وعلى مهل حتى يكون النهار أقل من عشر ساعات، ثم يعود فيأخذ في الطول على دقيقة ونصف تقريباً حتى يكون أكثر من أربع عشرة ساعة، كما كان الليل كذلك، ويعود النقص في الليل إلى أقل من عشر ساعات، وهكذا فتمر آلاف السنين دون أن يختلف هذا النظام أو يضطرب وهذا دليل واضح على وحدانية موجدهما وواهبهما للناس ومقدرهما بهذا التقدير المطرد على ممر الدهر، رحمة منه وفضلاً.


والآية الرابعة: في قوله سبحانه: ﴿ وَالْفُلْكِ الّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النّاس ﴾. والفلك بضم الفاء: اسم للسفينة مفردة أو مجموعة، والنكتة في الإتيان بهذه الآية عقب آية الليل والنهار، مع أن الظاهر يقضي بتأخيرها ليكون ما للإنسان فيه صنعة على حدة، وما ليس له فيه صنع على حدة، هي أن المسافرين في البر والبحر هم أشد الناس حاجة إلى تحديد اختلاف الليل والنهار ومراقبته على الوجه الذي ينتفعون به، وأهل البحر أحوج إلى معرفة الأوقات وتحديدها لشدة خطر الجهل عليهم بذلك، ولذلك كان من ضرورياتهم معرفة النجوم والبروج، فعلم الليل والنهار من فروع هذا العلم.

 

وقال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 97] فهذا وجه الترتيب بين ذكر الفلك واختلاف الليل والنهار في النسق القرآني البديع، فتسخير الفلك في البحر آية من آيات الله، ورحمة من رحماته الواسعة، من السفن الشراعية والمراكب البخارية التي تعبر المحيطات وتحمل الأثقال، وتنقل ما شاء الإنسان من أنواع البضائع، جعل الله لها نظاماً مع الماء، إذا استوت معه أمنت، وإذا أخلت به هلكت، وسخر الله الرياح لها تسوقها، وتسير أمواج الماء لصالح الذاهبين تارة والراجعين تارة وبالعكس، كما سخر البحر للسفن الصغار والكبار على ما فيه من أمواج كالجبال. قال سبحانه وتعالى في سورة الشورى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 32-34].

 

ومن عظيم ألوهيته وواسع رحمته أن علم البشر وأقدرهم على تسخير الحديد وسائر المواد الأخرى، ليصنعوا السفن الكبار التي هي كمدينة عائمة في البحر تحمل عشرات الآلاف من أطنان البضائع المختلفة والمواد الغذائية، والركاب الذين يبلغون المئات والألوف، والسفن الأخرى العظيمة التي تحمل الزيت البترولي إلى موانئ العالم، يسيرها الله بقدرته وحكمته على أيدي البشر، وإن شاء إغراقها وإتلافها قدر لها ما يحدث ذلك، كما أقدر البشر على صنع السفن الجوية والقطارات والسيارات البرية. وقد أشار إلى هذا بقوله: ﴿ ويخلق ما لا تعلمون ﴾ [النحل: 8].

 

وبقوله: ﴿ وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [يس: 41- 44].

 

فالسفن بجميع أنواعها وسائر وسائط النقل البحرية والبرية والجوية، وتسخيرها بما ينفع الناس بإذن الله وتمكينه للبشر من ذلك، وتزويده بالعلم الذي يجعله يبدع في اختراع هذا الأشياء، كله من دلائل وحدانيته سبحانه وعظيم قدرته، وجزيل رحمته التي وسعت كل شيء مما جعله الله في طبيعة الماء، وأفهم البشر قوانين النقل والتوازن، كما أفهمهم طبيعة الأمواج والرياح ليأخذوا الحيطة اللازمة في البحار، وهو مسبب الأسباب وخالقها.

 

الآية الخامسة: ﴿ وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ﴾ والسماء المقصود هنا جهة العلو الذي يتكون فيه السحاب بأمر الله ومشيئته، فالله ينزل الماء الطهور العذب جداً من السماء، سواء كان ذلك بما يسببه من حرارة الشمس التي تبخر الماء فيتجمع سحباً في الفضاء، أو كان بوسيلة غير ذلك مما تفعله قدرة الله الغالبة.

 

وقد استنتج بعض المفسرين من قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ [النازعات: 31] أن المطر ينشئه الله من تبخر الأرض والبحار بالشمس، وقد يكون استنباطه من خضوعه لأقول الجغرافيين القدامى والمتأخرين، الذين يعزون كل شيء إلى أسباب طبيعية دون أن يذكروا فيها تأثيراً لله سبحانه، فالرجل أراد أن يثبت التأثير لله في ذلك، وأنه جعل حرارة الشمس والهواء هي التي تبخر الماء والرطوبات، وتثيرها الرياح في الجو حتى تتكاثف ببرودتها وتكون كسفاً من السحاب يتخلل منه الماء بقدرة الله وتسخيره، ووحي الله من كتاب وسنة لم يفسر هذا بهذا، ولم يتعرض لتفاصيله، ولكن لما تفاقم شر الجغرافيين الذين يؤلفون ويدرسون حكاية المطر ومنشأه التبخري بصيغة ناشفة خاوية من الروحانية ليس لله فيها ذكر أبداً، كان على المسلمين أن يقابلوهم بما يثبت أن المسبب لذلك هو الله، وأن المؤثر فيه هو الله، وأن الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً هو الله، وأن الذي يصرف السحاب كيف يشاء ويسوقه إلى ما يشاء هو الله، وأن الذي ينزل المطر هو الله، وأن الذي يصيب به من يشاء هو الله، ويصرفه عمن يشاء هو الله، وأن مسبب الأسباب وطابع الطبائع هو الله، وعندئذ ينطبع القارئ والطالب بطابع العقيدة الروحية.

 

وقد قال سبحانه في الآية (48) من سورة الروم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [الروم: 48] لا كما يشاؤه الجغرافيون ﴿ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الروم: 48] لا ما يشاؤه الجغرافيون.

 

وقال تعالى في الآية (43) من سورة النور ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 43، 44].

 

فتأمل كيف جعل الله ذلك عبرة لأهل البصيرة كما جعله في الآية التي نتكلم عليها من آياته الدالة على وجوده ووحدانيته ورحمته بخلقه لقوم يعقلون. ثم تأمل قوله سبحانه: ﴿ وينزل من السماء من جبال فيها من برد ﴾ [النور: 43]. وهذه الجبال شاهدها بعض المسافرين بالطائرات في الجو، فالمسلمون ملزمون بالإيمان بوجود جبال من برد في الجو، كما نطق به القرآن وكما ينزل الله علينا منها ذلك مما هو محسوس ملموس، سواء كانت هذه الجبال مخلوقة على هذه المادة، أو كانت متجمدة في الفضاء من برد الهواء، الذي يسببه الله خالق الأسباب ومسبباتها.

 

وبالجملة فإنزال المطر من آيات الله الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته ورحمته بخلقه، لأن في إنزاله:

أولاً: عجباً من عجائب قدرة الله.

وثانياً: لأن فيه إحياء للأرض بعد موتها من الجدب والقحط فتخرج لعباده من صنوف النبات وأنواع الزروع والأقوات التي هي من ضروريات الخلائق لشدة افتقارهم إليها حيث لا يعيشون بدونها، ثم إن هذا المطر يتكون منه أنهار وبحيرات حلوة على وجه الأرض، ويسلك الله به ينابيع في جوف الأرض يستخرج ماءها بنو آدم بما يقدرون عليه من الآلات لينتفعوا به في شرابهم وسقي زروعهم وحاجياتهم الأخرى، فلولا المطر الذي ينزله الله لما قامت حياة على وجه الأرض، ولهذا قال تعالى: ﴿ فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ﴾ يعني: أنه أوجد بسببه الحياة في الأرض الميتة بخلوها من صفات الأحياء كالنمو والتغذي والنتاج. ﴿ وبث ﴾ أي نشر وفرق في أرجائها من جميع أنواع الأحياء التي تدب عليها مما لا يعد ولا يحصى، فبالماء حصل حياة الأرض بالنبات، وبه استعدت لظهور أنواع الحيوانات فيها، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، وكما قال: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ﴾ [النور: 45]. فحياة الأحياء في الأرض إنما هي بالماء، سواء في ذلك الإحياء الأول عند تكوين الله للعوالم الحية وإيجاد أصول الأنواع، والإحياء المتجدد في أشخاص هذه الأنواع وجزئياتها التي تتولد وتنمو كل يوم.

 

وهذه المياه التي يتغذى بها النبات والحيوان على هذه الأرض كلها من المطر، ولا يستثنى من ذلك أراضي الأنهار، فإن مياه الأنهار والعيون النابعة من الأرض كلها من المطر، وما يجري عليها من الزيادة أيام الفيضانات هي من المطر الذي يمد تلك الينابع ويمد الأنهار نفسها، فكثرة الفيضانات هي من المطر الذي يمد تلك الينابيع ويمد الأنهار نفسها، فكثرة الفيضانات وقلتها تابعة لكثرة المطر وقلته، فهذا المطر آية بمجرد نزوله وكيفية وجوده وتكوينه من الله الواحد القادر القاهر الرحمن الرحيم، فهو يجري على سنة إلهية حكيمة، ثم هو آية في كونه سبباً للحياة، وآية أيضاً في تأثيره في العوالم الحية، فإن هذا النبات يسقى بماء واحد، سواء كان حلواً على طبيعته أو خالطته مرارة بسبب تأثير بعض مواد الأرض التي قدرها الله، فهو مصدر حياة النبات الذي يسقى بماء واحد ثم يأتي مختلفاً في ألوانه وروائحه وطعومه، فتجد في البقعة الواحدة شجرة الحنظل مع شجرة البطيخ، تربتهما واحدة وماؤهما واحد، وتجدهما مشتبهين في الصورة، ومختلفين في الطعم والرائحة، وتجد النخلة طلعها أحسن ما تذوق حلاوة ولذة وبجانبها شجرة الليمون الحامض، وبالجانب الآخر شجرة الورد، وفيها من الرائحة الحسنة ما ليس في النخلة وهكذا.

 

فتلك السنن الإلهية - التي يتكون بها المطر وينزل - هي جارية على نظام واحد دقيق، وكذلك طرق تغذي النبات بالماء جارية على هذه السنة، فوحدة النظام وعدم الخلل فيه تدل على وحدة مصدره، وأنه من رب وإله واحد، لا شريك له ولا وزير، فهو من هذه الجهة يدل على الوحدانية، ومن جهة آثاره الطيبة ومنافعه التي لا تحصى يدل على رحمة الله الشاملة، وقل مثل هذا فيما بثه الله في الأرض من كل دابة، فإنها آيات عظيمة تدل على وحدانيته وشمول رحمته سبحانه.

 

والفائدة الثالثة: أن في ذكر الله سبحانه لإحيائه الأرض بعد موتها بالمطر، دليلاً قوياً على إحيائه الموتى، وقد نص على ذلك في آيات كثيرة كقوله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، وكقوله سبحانه: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39].

 

وقوله سبحانه: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 9-11] فجميع آيات الله عقلية لمن تدبرها لا تخرج عما يقتضيه العقل الصريح. وقد دلل الله على إمكان البعث وسهولته عليه بابتداء التكون للأكوان الذي هو أصعب من بعث الأجسام، ثم إن المطر لا ينزل إلا بقدر مقدر وعلى أمكنة مقدرة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 18].

 

الآية السادسة: في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وتصريف الرياح ﴾ في كونها باردة وحارة ومتوسطة وفي كونها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وما بين ذلك من الهواء النسري والعيوقي، وما يقابلهما من الجنوب الغربي والجنوب الشرقي، وفي كون هذه الرياح تثير السحاب تارة، وتؤلف بينه تارة، وتمزقه تارة، وتلحقه تارة، وتذروه تارة، وتزيل ضرره تارة، وتكون في أغلب الأحيان رحمة، وفي بعضها أعاصير وعذاباً، ومنها ما يكون ملقحاً للسحاب، ومنها ما يكون ملقحاً للنبات بنقل بعض الأتربة أو المواد المبثوثة فيه، بقدرة الخلاق العليم الذي أودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه، وسخر ليعيش فيها جميع الحيوان على اختلاف أصنافه وأنواعه، ولإصلاح أبدان بني آدم، وإصلاح الأشجار والثمار والزروع وسائر النوابت.

 

فمن الذي صرفها هذا التصرف البديع فأودع فيها هذه المنافع المتنوعة العظيمة غير الله سبحانه؟!!


أهذا يجري من تدبير الطبيعة العمياء كما ادعاه عميان البصيرة؟

 

إن تصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب إرادته فيما ينفع الناس وسائر الخلائق وفق حكمته وإرادته سبحانه، دليل قوي على وحدانتيه وعلى عظيم رحمته، ولا تُنْسَى منافعها في البحر لتسيير السفن وتطوير اتجاه مياه البحر التي لا تغالب، والتي تكون الرياح عوناً لأهل الملاحة عليها وما ينفع الله بها الذاهبين تارة والراجعين تارة.

 

كل هذا من آياته الشاهدة على وجوده وعلى وحدانيته وعظيم رحمته سبحانه وتعالى، فهل يليق بعاقل يلتفت إلى تفكيره ويحترم نفسه أن ينكر وجود هذا الخالق العظيم؟ حقاً إن المنكرين له قد عطلوا عقولهم وكفروا بها قبل كفرانهم بالله، وقد تنكروا لأنفسهم قبل تنكرهم لله حتى صاروا في مصاف الحيوانات، ولذا يقول الله: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنفال: 55].

 

والآية السابعة: تسخير السحاب المسخر بين السماء والأرض، هذا الغيم المذلل المسحوب في الأجواء لإنزال المطر في مختلف البلاد والبقاع، فالإمعان في تسخير هذا السحاب في الفضاء وفي حمله الماء الكثير على خفته ولطافته، ثم في إمساكه بهذا الماء الكثير الثقيل بين السماء والأرض يدل المتمعن في هذا كله على وجود ممسكه واتصافه بصفات الكمال من العلم والقدرة والإرادة والحكمة والرحمة زيادة على وحدانيته سبحانه وتعالى.

 

وقد ذكر الله السحاب بعد ذكره تصريف الرياح؛ لأنها هي التي تثيره وتحمله، وهي التي تسوقه بإذن الله إلى حيث يشاء الله ان تمطره عليه، وهي التي تفرق شمله أحياناً إذا شاء الله منع المطر عن أرض أو قوم، كما ذكرالله آية تصريف الرياح بعد آيته في المطر للتناسب بينهما وللتذكير بالسبب، فإن الرياح هي التي تثير السحاب، وتسوقه إلى حيث يتكامل تلقيحه للماء، ولم يذكر الله السحاب المسخر عند ذكر الماء، مع أنه سببه المباشر ليرشدنا إلى أنه في نفسه آية مستقلة فإنه يتكون بنظام من سنة الله في تكوينه، ويعترض بين السماء والأرض، بتدبير منظم من الله، وقدرة تمسكه مع ما فيه من الماء الثقيل، فهو في ظاهره آية تدهش الناظرين المتفكرين في السنن الإلهية في اجتماع الأجسام اللطيفة وافتراقها وعلوها وهبوطها مما يسميه الكفرة "بالجاذبية" ونحن نقول لهم: من خلق الجاذبية، وجعل بعضها جاذبية الثقل وبعضها جاذبية الملاصقة، وبعضها جاذبية عامة، غير الله سبحانه؟ فإن سميتم التماسك الجاري في جميع الأجواء "جاذبية" أو بسبب "الجاذبية" فمن الذي سخرها للجذب والإمساك، بل من الذي خلقها؟ هل خلقتها الطبيعة العمياء؟ فهل فاقد الشيء يعطيه؟ هل يكن للطبيعة العمياء تصريف في الأكوان؟ والذي يمسك السموات والأرض من الزوال هو الله، والذي يمسك جميع الأجرام العلوية فيما بين السماء والأرض، ويحفظها من السقوط هو الله، والذي يمسك الطير المسخرات بين السماء والأرض هو الله، والذي يمسك السحاب المسخر بينهما هو الله، سواء خلق له بقدرته وإرادته سبحانه "جاذبية" كيفما يشاء أو لم يخلق ذلك فالقول "بالجاذبية" لا يضر مع اعتقاد كونها من صنع الله وتقديره، أما على رأي الملاحدة الكفرة الذي يريدون نسبة كل شيء إلى سبب ومؤثر غير الله، فالقول به كفر؛ لأنه من أعظم أنواع الإشراك والتعطيل.

 

وفي تنصيص الله بهذه الآية الكريمة على اختلاف الليل والنهار وإنزال المطر وتصريف الرياح، تنبيه عظيم إلى جزيل نعمته وواسع رحمته في تعميمه لخلقه، وعلى الأخص الناس وما يحتاجون إليه من النور والحرارة والهواء والماء، فإن هذه الحاجيات الضرورية أغلى بحاجتها من الذهب والفضة وثمن الجواهر، وقد جعلها الله ميسورة لا محتكرة، بل مشاعة لجميع الناس، لشدة افتقارهم وعدم صبرهم عنها بتاتاً، فتيسيرها من الله لعباده أعظم منة يجب عليهم شكرها شكراً عملياً، كما يجب التعقل والتفهم لآلاء الله وآياته. ولهذا ختم الله هذه الآية الكونية بقوله ﴿ لآيات لقوم يعقلون ﴾ لأن المستعملين لعقولهم هم الذين ينظرون في السبب والمسبب، ويدركون حكم آيات الله وأسراراها، ويميزون بين منافعها ومضارها، ويستدلون بما فيه من الإتقان والإحكام على قدرة مبدعها وحكمته سبحانه وتعالى، وعلى عظيم فضله وسعة رحمته واستحقاقه العبادة دون غيره كائناً من كان.

 

أليس من اللؤم القبيح بالعباد أن يسكنوا أرض الله ويستعمروها ويرتعوا فيها برزقه المتنوع وهم يستعينون بذلك على معاصيه ويطلبون به مساخطه فما أحلمه من إله كريم رءوف رحيم.

 

والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائعها وزداد تأمله لما أودع الله فيها من لطيف صنعه وجميل بره علم أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر الله به عن نفسه من وحدانيته واستحقاقه لكامل العبادة، وما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، وأنها مسخرات ليس لها تدبير أبداً، ولا عندها استعصاء على مدبرها ومصرفها فيعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون، وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، لا إله إلا هو. وبقدر ارتقاء العقل في العلم والعرفان يكمل توحيده وإيمانه، ولا يشرك بالله إلا أقل الناس عقلاً ولا ينكره إلا أكثرهم جهلاً.

 

فالواجب على المسلمين عموماً وعلى علمائهم خصوصاً – وأكثرهم علماء – أن يدققوا النظر في الآيات التي وجههم في كتابه إلى النظر فيها ليستخرجوا منها العبر التي يقمعوا بها الملاحدة المنكرين، فإن آيات الله الكونية العظيمة ترشد إلى التفكير فيها وأنه لم يخلقها عبثاً ولعباً، كما قاله سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [ص: 27].

 

وقال في الآيتين [16، 17] من سورة الأنبياء: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ وقال في الآية الثالثة من سورة الأحقاف: ﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ﴾.

 

وقال في سورة الروم كذلك وقال في الآية (185) من سورة الأعراف: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾.

 

وقال سبحانه وتعالى في الآيتين (190، 191) من سورة آل عمران: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾. فانظر كيف حصر حقيقة أولي الألباب، يعني ذوي العقول الرجيحة بهذين الوصفين الجليلين اللذين هما:

أولاً: ذكرهم لله في كل حالة من أحوالهم لا يغيب الله عن بالهم في أي حالة.

 

وثانياً: تفكرهم في آيات الله الكونية التي من أعظمها السموات والأرض؛ لأن لله سبحانه كتابين: كتاباً مخلوقاً وهو الكون الهائل العظيم، وكتاباً منزلاً من عنده سبحانه وهو القرآن، وهذا الكتاب المنزل يرشدنا إلى فهم الكتاب الكوني المخلوق وطريق العلم بعجائبه، فإن هذا الكون هو كتاب الإبداع الإلهي المفصح عن وجود الله وعن كماله وجلاله وجماله، فكلمات الله في التكوين باعتبارها آثارها ومصداقها هي في آحاد المخلوقات.

 

والمبدعات الإلهية كلها من أكبرها إلى أصغر ذرة فيها، تنطق بلسان هو أفصح من لسان المقال، بأنها صنعة الله العليم الخبير الحكيم الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، فكل شيء منها معجزة شاهدة على وجوده، ولكن لا يفهمها الذين هم عن السمع معزولون، كالملاحدة الشيوعيين ومن على شاكلتهم من أهل المذاهب المادية والمبادئ العصرية الذين لا فرق بينهم وبين أولئك إلا تغيير الاسم واللقب، وكلها ألقاب ملعونة كافرة بالله كفراً اعتقادياً أو كفراً عمليّاً أسوأ من الاعتقادي.

 

فمعرفة الله يجب أن تقتبس من الدلائل الوجودية الحقيقية في كل شيء من هذه الأكوان، لا أن تقتبس من الجدليات النظرية والقوانين المنطقية التي ابتلي بها كثير من علماء الخلف حتى جعلوها الأساس للقرآن بدلاً من جعل القرآن أساساً لها. كما أوجب الله وفرض عليهم أن يحملوا الدعوة الإسلامية بحرارتها وقوتها السماوية الصريحة السليمة الصحيحة وهيبتها الإلهية التي عجز أمامها العباقرة، ولكنهم عكسوا الأمر فجعلوا المسلم في حاجة إلى أن يعلم المنطق اليوناني ليستطيع إقامة البرهان على وجود الله وإلا فهو عاجز عن البرهنة. كما أنهم أعطوا العقل حرية البحث في كل شيء مما يحس وما لا يحس، وجعلوه أساس في الإيمان، فترتب على هذا جعلهم العقل أساساً للقرآن والعياذ بالله، ولم يجعلوا القرآن أساساً للعقل، بل بحثوا فيما وراء الطبيعة في ذات الله وصفاته فيما لا يصل إليه الحس، وأفرطوا في قياس الله على الإنسان مما جرهم إلى إنكار حقيقة صفاته.

 

ومن الواضح أن ترتيب المعقولات على المعقولات يؤدي إلى الانزلاق في الخطأ وإلى التناقض في النتائج، ويؤدي إلى الاسترسال في سلاسل من القضايا والنتائج المفروضة فرضاً خيالياً لا وجود له في الخارج، أي في حقيقة الأمر، فتكون نتائجها آخر الأمر أوهاماً وأخاليط، والواجب عليهم الوقوف على وحي الله في كتاب وسنة، وأن يقفوا عند حده، بغض النظر عن أي إنسان وأن يشرحوا العقائد على ضوئه، مستدلين بكتاب الله الآخر الذي هو الكتاب الكوني الهائل الذي كل شيء منه صغير أو كبير يفصح عن وجود الله ويشهد بكماله وجلاله واتصافه بجميع صفات القدرة والكمال وتنزيهه عن كل نقص ومن مشابهة المخلوقين ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

 

وإليك طرفاً من الحقائق العلمية اكتشفها الذين نظروا في ملكوت السموات والأرض وتبصروا في كتاب الله الكوني فيهما، فقد قرروا الأشياء التالية:

1- لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضع أقدام لامتص ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين ولما أمكن وجود الحياة.

 

2- ولو كان الهواء أقل ارتفاعاً مما هو عليه فإن بعض الشهب التي تحترق بأعداد هائلة كل يوم في الهواء الخارجي كانت تضرب في جميع أجزاء الأرض وكان في إمكانها إشعال كل شيء قابل للاحتراق.

 

3- ولو أن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي لكنا تجمدنا، ولو أنها زادت بمقدار النصف لكنا رماداً منذ زمن بعيد.

 

4- ولو جعل الله الأوكسجين بنسبة 50% من الهواء بدلاً من 21% فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للإشعال لدرجة أن شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلتهب الغابة كلها.

 

5- ولو كانت نسبة الأوكسجين 10% لتعذر أن يكون التمدن الإنساني على ما هو عليه اليوم.

 

6- ولولا المطر لكانت الأرض صحراء لا تقوم عليها حياة.

 

7- ولولا تكوين الله للرياح والبحار والمحيطات لما كانت حياة.

 

8- ولولا أن الله جعل الماء يتبخر بشكل يخالف تبخر الملح لما كانت حياة

.

9- ولولا أن الله جعل البخار أخف من الهواء لما كانت حياة.

 

10- ولو أن الله جعل (الألكترونات) متصفة (بالبروتونات) داخل الذرة والذرات ملتصقة ببعضها بحيث تنعدم الفراغات لكانت الأرض بحجم البيضة، فأين يمكن سكنى الإنسان وغيره.

 

11- ولو كانت العناصر لا تتحد مع بعضها لما أمكن وجود تراب ولا ماء ولا شجر ولا حيوان ولا نبات.

 

12- ولولا خلق الله للجبال رواسي لتناثرت الأرض ولمان كان لها مثل هذه القشرة الصالحة للحياة، ولكنه صنع الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.

 

وقد أورد الله آيات كثيرة في سور متفرقة من القرآن دلل فيها على وجوده ووحدانيته وجزيل نعمته التي لا تحصى على خلقه، كقوله في سورة الأنعام: ﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ﴾ إلى قوله: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 95-99] وقوله فيها: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ ﴾ إلى قوله: ﴿ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 59-65].

 

وكقوله في سورة الحجر من آية (16): ﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾ إلى آية (24)، وكقوله في سورة النحل من الآية الثالثة: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ إلى الآية (18) وقوله: ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ﴾ أي ما تستدفئون فيه من البرد من أصوافها وأوبارها وأشعارها، وقوله فيها من الآية (78): ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [النحل: 78-81].

 

وذكر في سورة الإسراء طرفاً من تكريم بني آدم. وذكر من سورة (المؤمنون) وسورة (الحج) وسورة (النحل) من آية [60-64] وسورة الفرقان والروم ولقمان والزمر والمؤمن وسورة فصلت والشورى والزخرف وسورة الملك ونوح وسورة عم يستاءلون والنازعات وسورة عبس: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 17-32].

 

ذكر سبحانه وتعالى في جميع تلك السور ما يقيم به البراهين من الآيات المعجزات الدالة على وجوده وعلى وحدانيته وكرمه ورحمته ولطفه بخلقه.

 

وذكر سبحانه في سورة (يس) طرفاً من آياته الكونية الدالة أيضاً على وجوده ووحدانيته وجزيل رحمته ولطفه، كما ذكر في هذه السورة شيئاً من خلقه المتضادات وكونه يخلق الشيء من ضده، وذلك في قوله: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾ [يس: 78-80]. فأوضح لنا من عظيم قدرته أنه يخرج الحار اليابس من البارد الرطب، فالشجر الأخضر رطب بارد، كيف يتكون منه الحار اليابس؟ هذا شيء لا يقدر على تكوينه إلا الله الخلاق العليم.

 

ومن لطيف صنعه وعجيب إبداعه أنه يخرج أحلى شيء وأطيب شيء وأنفع شيء وأغلى شيء من أقبح شيء وأقذر شيء وأنجس شيء وأردأ شيء، كما أخبرنا به سبحانه وتعالى في الآية[66-69] من سورة النحل بقوله: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ﴾.

 

فالآية الأولى فيها معجزة من بديع صنع الله، وهي إخراج أطيب الطيب وأنفس الأشياء من أخبث الخبيث وأخس الأشياء، يخرج اللبن الطيب الخالص الغالي السائغ شرابه من مواد خبيثة قذرة نجسة، مبرهناً لخلقه على بديع صنعه ودقيق اختراعه.

 

أما الآية الثانية فعلى العكس في تكوينه طبيعة الطيب أن ينقلب خبيثاً فإن جعل من طبيعة ثمرات النخيل والكروم أن ينقلب التمر والعنب من طعام طيب ورزق حسن إلى مسكر خبيث بدل نفعه السابق ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النحل: 67].

 

والآية الثالثة هي في النحل الحيوان الصغير الضعيف ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾ - إيحاء إلهام - ﴿ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون ﴾ [النحل: 68-69]. وهذا الشراب المختلف الألوان هو العسل الحلو الشهي الغالي الذي فيه الشفاء المحقق بإذن الله، كيف استخرجه الله من ذروق هذا الذباب؟ إنها لعبرة ومعجزات بالغة للمتفكرين تشهد على وجود الله وعلى وحدانيته وعظيم رحمته ولطفه رغماً عن أنوف الملاحدة من الشيوعيين وأذيالهم.

 

وقد جعل الله نحل العسل من أكثر الحشرات نفعاً للإنسان، وهو يتكون من ثلاث طوائف كما قرره العلماء المختصون بالحيوانات، قالوا: وللنحلة خمس عيون فيها عدسات كثيرة هائلة وأرجلها تكاد تكون إحدى المعجزات، فإنها مجموعة كاملة من الأدوات التي تحتاجها النحلة في عملها، فعليها أمشاط ومساحات وقطاعات وتنتهي كل قدم من أقدامها الست بخف لزج تمشي به على الأماكن الملساء ومخلب تتعلق به على الأماكن الخشنة، وتوجد على أرجلها الخلفية سلاسل صغيرة تتكون من شعر غليظ تجمع فيها حبوب اللقاح من الأزهار، ولها قائد يسمى (اليعسوب)، ولها ملكة تكبر في حجمها عن سائر أفرادها، ولها زبان تستعمله في مهاجمة من ينافسها الملك، وهذا النحل يبني بيوتاً مسدسة على شكل هندسي حسبما ألهمه الله سبحانه وتعالى، ويتخاطب فيما بينه بالرقص مع الخفق بالجناح ووضع قطرة من رحيق الزهور ليشمها النحل فيهتدي إليها تماماً مهما بعدت. فسبحان من ألهمها إلهامات لتقوم بدورها وتقذف من بطونها بما فيه شفاء للناس، وتبارك الله أحسن الخالقين، وليس هذا موضع تفاضل عجائب (النحل)، وإنما هو إشارة إلى معجزات الله فيه. وسنذكر ما يتعلق به في موضعه من سورته إن شاء الله.

 

ومن آياته العظيمة التي تبهر العقول، خلقه للجنسين، وجعله من كل زوجين اثنين، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الذاريات: 49]. وهذا لعمارة الكون بالتناسل العام لكل شيء، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].

 

قال الأستاذ (مومنيه) في مجلة الكوسموس سنة 1893م في بحث يثبت به وجود الله سبحانه:

"إن افترضنا بطرقة تعلو عن متناول العقل - أو تخالف ما يمليه العقل – أن الكون خلق اتفاقاً بلا فاعل مريد مختار، وأن الاتفاقات المتكررة توصلت إلى تكوين رجل، فهل يعقل أن الاتفاقات أو المصادفات تكون كائناً آخر مماثلاً له تماما ً في الشكل الظاهري ومبايناً له في التركيب الداخلي، وهو المرأة، بقصد عمارة الأرض بالناس وإدامة النسل فيها؟.

 

قال: أليس يدل هذا وحده على أن في الوجود خالقاً مريداً مختاراً أبدع الكائنات ونوع بينها وغرز في كل نوع غرائز، ومتعه بمواهب يقوم بها أمره ويرتقي عليه نوعه؟".

 

وقد علق الأستاذ محمد فريد وجدي تعليقاً على هذا البرهان بقوله: إن هذا البرهان الذي ظن الأستاذ (مومنيه) أنه أول من لفت الأنظار إليه، مستمد من قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ الآية [21] من سورة الروم.


وكذلك من آياته الباهرة ومعجزاته القاهرة اختلاف ألسنة الناس وألوانهم.


قال سبحانه وتعالى في الآية (22) من سورة الروم: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾.


ففي خلقه سبحانه الأزواج آيات لقوم يتفكرون، أي: يستعملون عقولهم ويتفكرون في إيجاد ذلك والحكمة من إيجاده، فإن إيجاد نوع الأنوثة ليزدوج مع نوع الذكورة يصفع من زعم أنه مخلوق بالمصادفة، ويقرر في الأذهان وجوب اعتقاد خالق بارئ للأكوان جميعها، ليس لبني الإنسان فقط، فمجرد التفكر في ذلك يدمغ الإلحاد وأهله.


أما اختلاف الألوان واللغات التي لا يحصيها إلا الله فهو من جملة الشواهد الكبيرة على وجوده سبحانه وعلى وحدانيته للعالمين بذلك، والعالمون يكادون أن يكونوا الكثرة؛ لأن اختلاف الألوان واللغات شيء محسوس لا يجهله إلا النادر من الناس ممن انحط في الجهالة إلى مكان سحيق.

 

ومن الشواهد والدلائل على وحدانيته ورحمته سبحانه في ذلك دينه القويم الذي سوى بين جميع العناصر والألوان، فلم يجعل لعنصر على عنصر ميزة ولا رفعة، ولم يجعل للملونين على السود كرامة ولا ميزة، بل قال: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13]. فهذه العدالة في الإنسانية التي لم تحظ بها حتى الآن في العصر المسمى عصر النور والتمدن والوعي والحضارة واحترام حقوق الإنسان وما إلى ذلك من خداعات اليهود، قد جاء بها وحي الله ودينه وشرعه منذ قرون طويلة.

 

وبالجملة فالمعجزات والدلائل على وجود الله وعلى وحدانيته كثيرة لا يحيط بها الحصر، ونكتفي هنا بما أشرنا إليه منها ضمن مدلول هذه الآية التي نتكلم عليها والتي مدلولاتها وشواهدها من أخواتها الآيات القرآنية تثبت أن كل ملحد منكر لله متجاهل لآياته العظيمة ومعجزاته الباهرة طالباً غيرها هو من أكذب الناس على الواقع المحسوس، وهو من المخادعين لنفسه وللطغام المضبوعين، فهو مهدر عقله وهادم لضميره حتى أصبح عديم الضمير وهو في حالته أشد كفراً من إبليس، ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة البقرة .. الآية ( 153 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 154 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 155 - 157 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (158 : 160)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 161 : 163 )
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (165)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 166 : 170)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات ( 170 : 171)
  • تفسير سورة البقرة .. الآيات (172 : 173)

مختارات من الشبكة

  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (102 - 134) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (65 - 101) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (1 - 40) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (40 - 64) (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مفسر وتفسير: ناصر الدين ابن المنير وتفسيره البحر الكبير في بحث التفسير (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثالثة: علاقة التفسير التحليلي بأنواع التفسير الأخرى)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • مخطوطة تفسير بعض من سورة البقرة ثم تفسير سورة يس(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب