• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فضل عشر ذي الحجة (خطبة)
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    فصلٌ: فيما إذا جُهل حاله هل ذُكر عليه اسم الله أم ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    خطبة (المروءة والخلق والحياء)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    تساؤلات وإجابات حول السنة
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    الأيام المعلومات وذكر الله (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    من تجاوز عن المعسر تجاوز الله عنه
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الدرس التاسع عشر: الشرك (2)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    الحذر من استبدال الأدنى بالذي هو خير
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    خطبة: اغتنام عشر ذي الحجة خير الأيام
    عبدالعزيز أبو يوسف
  •  
    إعلام النبلاء بفضل العلم والعلماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تفسير: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    التحذير من الإسراف والتبذير
    الشيخ صلاح نجيب الدق
  •  
    استحباب أخذ يد الصاحب عند التعليم والكلام والمشي
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    مفهوم الخصائص لغة واصطلاحا وبيان أقسامها
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    خطبة: عشر ذي الحجة فضائل وأعمال
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    علام يقتل أحدكم أخاه؟! خطورة العين وسبل الوقاية ...
    رمضان صالح العجرمي
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / سيرة نبوية
علامة باركود

الرصد القرآني لبيئة النبي

محمد علي عبدالوهاب

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/11/2008 ميلادي - 17/11/1429 هجري

الزيارات: 10324

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الرصد القرآني لبيئة النبي


من مفاتيح فهْم القرآن فهمًا سليمًا ملاحظةُ ما ورد فيه من فصول، فيها ترديدٌ لما كان من واقعٍ اجتِماعي، ومعاشي، وفكري، وعقْلي، وديني، وعقائدي، في بيئةِ النَّبيِّ - صلى الله عليْه وسلَّم - التي نزل القرآن للمرَّة الأولى فيها، ومن فصولٍ عاطفةٍ على ذلك فيها تنديدٌ أو تثريب، أو إفْحام أو حوار، أو حجَّة أو مقارنة، أو تنبيه أوْ إثبات أو نفي... إلخ، حيث تكونُ ملاحظةُ ذلك عاصمةً من الوقوع في إشكالاتٍ، وحيرةٍ، وتساؤُل في صددِ آياتٍ وفصول قرآنية كثيرة، حيث يَجِد المدقِّق في القُرآن الكريم صلةً وثيقةً بين ما كانتْ عليه بيئةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعصره، من تقاليد وعادات وعقائد وأفكار ومعارف، وبين محتويات القُرآن الكريم.

ونستدرك فنقول: إنَّنا لا نعني أنَّ القُرآن قد احتوى جَميع صور البيئة، وأنَّ ما احتواه منْها قد جاء مبتدئًا لها، فهناك صورٌ أخرى - بدون ريْبٍ - للبيئة لم ترد في القرآن، كما أنَّ ما جاء فيه منها قد جاء في الحقيقة عرضًا، وبسبيل الدَّعوة أو الموعظة، أو التذكير أو التَّشريع، أو التَّنبيه أو الأمْر أو النَّهي، أو التَّوضيح أو الإجابة على سؤالٍ أو مشكِل، مما اقتضته الحكمة الربَّانيَّة؛ ليكون مصدرَ إِلْهامٍ وإيحاء وتوجيه، ومرجعَ تَشريعٍ وتلقين في جَميع العُصور، وليس عائدًا أو محصورًا بأهْل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعصرِه، كما يفيد الأسلوب الذي جاءتْ به الآيات والفُصول، والذي صارَ بذلك فريدًا معجزًا، ومرشحًا للقُرآن والشَّريعة القرآنيَّة والرِّسالة الإسلاميَّة للخلود والأبديَّة.

وهذه الصِّلة واضحة:
أوَّلاً: من جهة أنَّ الدَّعوة الإسلامية والوحْي القرآني إنَّما اقتضتْهُما حكمةُ الله؛ بسبب ما كان عليْه النَّاس، وأهل بيئة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من جُملتهم، بل في مقدمتهم؛ لأنَّهم المخاطبون الأوَّلون، من خلافٍ في فهم وإدراك وجوب وجود الله تعالى، وكمال صِفاته وتنزُّهه واستغنائِه عن الشريك والولد والولي والمساعد، ومطلق تصرفه في كونه، واستحقاقه وحدَه للعبوديَّة والخضوع، ووجوب نبْذ ما سواه، ومن انحراف عن طريقِ الحقِّ والخير والعدل والفضيلة، ومن اختلاف عظيمٍ في المذاهب والعقائد والطُّقوس، سواءٌ في ذلك كلُّ العرب وغيرهم، والكتابيُّون والأمِّيون والمشركون، ثم بسبب أنَّ ذلك ناشئ عمَّا كان من تقاليد وأفكار، ومعارفَ وأهواءٍ وتأْويلات، ومفاهيم عند النَّاس، وأهل بيئةِ النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في المقدِّمة، اقتضَتْ حِكمة اللهِ نسْخَها أو تعديلَها.

ثانيًا: مِمَّا احتواه القُرآن من فصول الجدَل والتَّنديد والتَّقْريع في صدد هذه التَّقاليد والعادات والأفكار والمعارف والأهواء والتأويلات والمفاهيم، ففيها إشاراتٌ كثيرة إلى كثيرٍ من صُورها المتنوِّعة، وفيها ربطٌ بيْنها وبين مواقف أهل بيئة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلَّم - من الدعوة الإسلامية.

يُضاف إلى هذا المظهر القرآني العامِّ نصوصٌ قرآنيَّة خاصَّة في هذا المعنى، وردتْ في مواضيعَ عديدةٍ وبأساليب متنوِّعة، إذا تمعَّن القارئُ فيها ظهرتْ له هذه الصِّلة ظهورًا جليًّا، ونزيد الأمر إيضاحا بالأمثلة التالية:
1- في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة في مُختلف أحوال الملائكة، هذه الآيات ممَّا يدخل في عداد المتشابِهات، من حيث إنَّ بعضَها يحتمل وجوهًا من التَّأويل، ومن حيث إنَّ تأويل بعضِها لا يعلمُه إلا الله تعالى، ومن حيثُ إنَّ الواجب المنطوي في هذه الآيات يقضي بالوقوف منها عند ما وقف القرآن عنْده، وقرَّره بدون تزيُّد، مع استِشْفاف حكمةِ وُرودِها.

وبسبيل ذلك نقول: إنَّ المفهوم مما تُريده الآيات الكثيرة - من واقع عَقَدِيٍّ وديني - هو أنَّ أهْلَ بيئة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا يعتقِدون بوجود الملائكة، وأنَّهم بناتُ الله، يسمُّونَهم تسميةَ الأنثى، وأنَّهُم ذوُو حظوةٍ عند الله - عزَّ وجلَّ - ينفِّذون أوامرَ الله ويؤيِّدون أنبياءَه.

وكانوا تأسيسًا على ذلك يتحدَّون النبيَّ - الذي كان يقول إنَّ الله يوحي إليه، ويُنزل الملائكةَ عليْه - بإظهارِهم جهارًا عيانًا لتأْييده، وكانوا إلى اعتِقادهم بأنَّ الله خالقُهم ورازقُهم وربُّ السموات الأرض وما بينهُما - على ما تُلْهِمه آياتٌ قرآنيَّة عديدة - يعبدون الملائكة أيضًا، أو بتعبيرٍ أدقَّ يشركونَهم في العبادة مع الله - تعالى - بقصد الشفاعة والحظوة والقربى إليه، وضمان قضاء مطالبهم منه، على ما تُلْهِمه آياتٌ عديدة قرآنيَّة أيضًا، ويتفرَّع عن هذا ما في القُرآن من نفْيٍ متكرِّر لاتِّخاذ الله ولدًا، في معرض الرَّدِّ على المشركين والتنديد بِهم، والقصد من ذلك هو عقيدتهم بكوْن الملائكة بناتِ الله - عزَّ وجلَّ - وكلمة ولد تُطلق على الصبي والبنت.

فهذا كلُّه يمكن أن يفهم، ويفسّر بيُسر حكمة ما احتواه القُرآن الكريم من الآيات الكثيرة جدًّا في الملائكة، ولقد احتوى كثيرٌ منها - وهذا من مظاهر تلك الحِكمة أو مقاصدها - تقريراتٍ بكون الملائكة عبيدًا لله، وكونهم لا يستَكْبِرون عن عبادته، ويخافونه ويفعلون ما يأمُرُهم به، ولا يعْصون له أمرًا، ولا يجْرُؤون على دعوى الألوهيَّة، وكونهم هم أنفسهم يبتغون إليْه الوسيلة والتقرُّب بالطَّاعة والخضوع، والعبادة والتَّقديس الدَّائم، حتَّى إنَّه يأمرُهم بالسُّجود لآدَم فيسجدون له امتِثالاً لأمرِه، وكونهم لا يشفعون إلا لِمن أَذِن به ورضي عنه؛ على ما هو ثابتٌ في آيات كثيرة.

وفي ذلك الحجَّة القرآنيَّة البالغة التي هي من مقاصد تلك الحكمة، بأنَّ الله - تعالى - هو الأحد المستحقُّ للعبادة، والتقرُّب والوسيلة إليه بالطاعة وصالح العمل والتقديس والتسبيح، وإنَّ من السخف والضَّلال إشراكَ عبيده وخدمِه ومنفِّذي أوامرِه وطالبي الحظْوة إليه معه؛ لأنَّهم لا يملكون ذلك لأنفُسِهم، ومن باب أولى لا يَملكون لغيرهم، على ما تُلْهِمه آياتٌ كثيرة.

ولقد كانت فكرة الاستِشْفاع بالملائكة والتقرُّب بِهم إلى الله – تعالى - لضمان قضاء مصالِحهم ومطالِبهم ورغائِبهم، ودفْع الأذى وجلْب النَّفع، راسخةً في أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - فانعكس ذلك في آيات كثيرة: نفي لنفع الشفاعة بدون رضاء الله وإذنه.

ولقد حكتْ آياتٌ عديدة في سياق حكايتِها لمشاهد الآخرة تنصُّل الملائكة من ذلك، وإعلانَهم بأنَّ الله هو وحْده وليُّهم؛ تقوية لتلك الحجَّة.

ولقد كان المشركون يحاجُّون النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في إشراكهم الملائكةَ في العبادة، ويقولون: إنَّ الله لو لم يشأْ ذلك لما فعلْناه على ما ذكرته بعض الآيات، فأوحى الله بآياتٍ فيها ردٌّ مفحم عليهم.

وكل ما تقدَّم يعكس صلة البيئة النبويَّة بالتنزيل القرآني، ويساعِدُ على فهْم القرآن الكريم، ولقد كان كلُّ هذا ورسوخُه في أهْل بيئة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أسباب استمرارهم في شركهم، واستمرار المعركة القرآنية ضدَّ الشرك والمشركين، وبقاء معْظم أهل مكَّة - ومن ورائِهم معظم العرَب - مشركين طيلةَ العهد المكي، وشطرًا كبيرًا من العهد المدني، ويعكس هذا كذلك صلةَ البيئة النبوية بالتنزيل القرآني، ويساعد على فهْم القرآن الكريم أيضًا.

2- وشأْن الجنِّ مثل شأن الملائكة في أمر خفائِها، مع شيء من الاختلاف بسبب طبيعة الملائكة، من حيثُ إنَّ هؤلاء خلق خير، وأولئك خلق شر، وفي القرآن آيات كثيرة في مختلف أحوال الجنِّ، وهي مثل آيات الملائكة تدخُل في عداد المتشابهات، من حيث إنَّ بعضَها يحتمل وجوهًا عديدة للتأويل، وإنَّ تأويل بعضِها لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن حيثُ إنَّ الواجب المنضوي في هذه الآيات يقضي بالوقوف عند ما وقف القرآن، بدون تزيُّد مع استِشْفاف حكمة ورودها، وبسبيل ذلك نقول: إنَّ المفهوم ممَّا ردَّدته آياتٌ كثيرة - من واقع عقدي وديني – هو أنَّ أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانوا يعتقدون بوجود الجنِّ، وأنَّهم خلقٌ قوي مُخيف، وأنَّهم يستطيعون أن يتسلَّطوا عليْهم، ويُؤْذوهم ويخطفوهُم، وأن يَختلطوا في أجسادهم فيسبِّبوا لهم الصرعة والتخبُّط في مَسِّهم، وأنَّهم يوسوسون لهم بسيئات الأعمال والأخلاق ويزيِّنونَها لهم، وأنَّ أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بسبب ذلك كانوا يخافونهم ويعوذون بهم ويعبدونهم؛ اتِّقاء لشرهم وأذاهم، فبهذا كله يمكن أن يفهَم ويفسر بيُسْر كذلك احتواء القُرآن الكريم للآياتِ الكثيرة في الجنِّ أيضًا.

ولقد احتوى كثير منها - وهذا من مظاهر أو مدى تلك الحكمة - تقريراتٍ بكوْن الجنِّ لا يعلمون الغيب، ولا يَستطيعون الأذى والوسوسة والتَّأثير إلا على مَن يستسلِمُ لَهم ويشذُّ عن طريق الله الحق، وبكوْن طوائفَ منهم يؤمنون بالله ورسلِه وكتُبه، وبكون غير هؤلاءِ ملعونين عند الله مطرودين من رحمته، معرَّضين لنقمته وغضبه وعذابه في الآخِرة، ويكون من واجب المؤمِن الصَّادق أن يستعيذَ بالله، ويلجأ إليه، حينما يتعرَّض لنزعاتِهم ووساوِسِهم، فيكون في ذلك نجاتُه منهم، وفي ذلك الحجَّة القرآنيَّة البالغة - التي هي أيضًا من مظاهِر ومدى تِلْك الحكمة - بأنَّ الله - تعالى - وحده هو المستحقُّ الأوْحد للعِبادة والتقرُّب والتَّوسُّل بالطَّاعة وصالح العمل، وبأنَّ من السخف والضَّلال اتِّباع الجنِّ وعبادتَهم والاعتِقاد بأنَّهم قادرون على النَّفع والضَّرر بغيْر إذن الله تعالى.

ويتفرَّع عن هذا إبليس والشياطين، وكلمة إبليس هي ذمٌّ من (أبْلَسَ): بمعنى يئِس، أي اليائس من رحمة الله، وكلمة شيْطان أيضًا هي كلمة ذمٍّ من (شاط) أو (اشتط): بمعنى بغى واعتدى وعتَا، والكلمة بمعنى شديد البغي والعدوان والعتوّ، والكلمتان مستعملتان من العرب قبل نزول القُرآن، وصيغتُهما فصحى؛ لأنَّ القُرآن نزل بلُغة العرب، ولابدَّ من أنَّهم كانوا يعرِفون معناهُما المذكور، وكانوا يُطلِقون كلمة الشَّيطان أيضًا على الباغي العاتي من الإنس، وجاء هذا في بعض آيات القُرآن أيضًا، ولقد ذكر القرآن أنَّ إبليس والشياطين من الجنِّ، وفيه آيات كثيرة تذكر وساوس إبليس والشياطين للمُشركين والكفَّار، وتأثُّر هؤلاء بهم والوقوع في شراكهم ووساوسِهم، كأمور راهنة من أحوال أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد احتوى القُرآن الكريم آيات كثيرة بالتَّنديد بالمشركين بسبب ذلك، وبيان ضلالهم، كما احتوى آيات كثيرة تقرِّر أنَّ إبليس والشياطين إنَّما يؤثرون في وساوسهم وتزييناتهم على المنْحرفين والفاسقين، والظالمين والمتْرفين، وأنَّهم ليس لهم سلطان على عباد الله المخلصين، وهكذا تبدو الصِّلة ظاهرة أيضًا بين التنزيل القرآني وأحوال بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويساعد ذلك على فهْم وتفسير القُرآن، وإدْراك ما في آياتِه من حكمة وعِبرة، وفي القُرآن حكاية مشاهدَ أخْرويَّة يتنصَّل فيها الشيطان من متَّبعيه، وهذا من مظاهر وبوادِر تلك الحكمة.

3- وفي القُرآن آياتٌ كثيرة تُفيد وتردِّد ما كان للزعامة والثروة - وكثيرًا ما كانت الاثْنتان تَجتمعان معًا - من قوَّة وتأثير في بيئة النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - وتفيدُ بأنَّ الزعماء والأثْرياء والمتْرَفين هم الذين قادُوا معركة المناوأة للنبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم – ورسالته، وأثَّروا على الجمهور ومنعوه من الانضِواء إلى الإسلام، حتَّى ليكاد معظمُ القرآن المكِّي - وما فيه من حجاج وحملات، وقصص وأمثال، وحوار ومواقف، وإنذار ووعيد - يكون في صدد معركة النبوَّة مع الزِّعامة، مما هو متَّصل بحالة بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويعكس صلة التنْزيل القرآني بها، ويساعد على تفسير القرآن وفهْمه أيضًا.

وفي القرآن المكي - بِخاصَّة - آياتٌ عديدة فيها مشاهدُ أخروية وحكايةُ ما سوف يدور من حوار بين الزعماء – المستكبرين - والعامَّة - الضعفاء والمستضعفين - وفيه تنديد وتوجيه مسئوليات وندامة وحسرة، وتعكس هي أيضًا ما كان من تأثير الزعماء والأثرياء على العامة، وقيادتهم لمعركة المناوأة للنبي ورسالتِه، وبالتَّالي تعكس صلة التنزيل القرآني بالبيئة، وتساعد على فهمه وتفسيره، ولقد وصف القُرآن قومَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بشدَّة الجدل والخصومة، والمقصود هم الزُّعماء والنُّبهاء الذين كانوا يقودون المناوأة ضدَّ النبوة والرسالة، بل كانوا طرفَها الرئيس، ولقد حكى القُرآن كثيرًا من أقوالِهم ومواقفهم، ولقدِ انكشفت عبقريَّة ومواهب كثيرٍ منهم عقليًّا وفكريًّا وسياسيًّا وحربيًّا، بِحيث قال: إنَّ موقف الزُّعماء والنُّبهاء لم يكُنْ من غباءٍ وجهالة وحسب، بل كان من استعظام الزعماء واستكبارهم عن الانضواء إلى دعوة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي لم يكن زعيمًا ولا ثريًّا، ومن اختصاصه دونَهم وهم أصحاب القوَّة والوجاهة والمال والتَّأثير والنفوذ والسلطان، على ما جاء في آيات عديدة، ولقد كانوا يتعجَّبون من خلاف الكتابيِّين ونزاعهم فيما بينهم، يَحلفون أن لو جاءهم كتابٌ عربي ورسول عربي لصاروا أهدى منهم، ولقد كانوا يروْن أنفسهم أهدى من النَّصارى باتِّخاذِهم الملائكة بناتِ الله، بينما النَّصارى يتَّخذون إنسانًا ابنًا له، ولكنَّ اختِصاص الله تعالى محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنبوَّة والرسالة هو الذي أثارهم؛ لأنَّه ليس زعيمًا ولا ثريًّا، ممَّا يعكِس أيضًا صِلة حالة البيئة بالتنْزيل القُرآني، ويساعد على فهمه وتفسيره.

ولقد كان ما احتواهُ القُرآن من دعوةٍ إلى المساواة والأخوة بين جميع المنْضوين للإسلام، بدون فرْقٍ بين عظيمٍ وصعْلوك، وغني وفقير، وحرٍّ وعبد، وأبيضَ وأسود مِمَّا يُثير الزُّعماءَ ويَجعلُهم يَحتجُّون على النَّبي، ويطلُبون إبعادَ الفقراء والصعاليك عنه، حتَّى لقد حدَّثَت النبيَّ نفسُه لحظةً ما - بشيءٍ من الاستجابة لهم، بقصد كسْبِهم للدَّعوة؛ لأنَّ في ذلك تثبيتًا ونشرًا لها بين الجماهير المتأثِّرة بِهم، وهذا أيضًا يعْكِس صلةَ البيئة بالتَّنزيل القُرآني، ويساعِد على فهْمه وتفسيره.

ولقد كان كذلك ما احتواه القُرآن من دعوةٍ إلى البرِّ بالفُقراء والمساكين، وإنْفاق المال، والتَّنديد بكنْزِه والتَّفاخُر به، وإنذار المُتكاثرين المُتفاخرين الباخلين - وهذا مبثوثٌ في سُورٍ كثيرة - ممَّا أثار في الأثرياء الذين كانوا أيضًا عمادَ القوَّة المناوئة للنبوَّة والرسالة، مما يعْكِس أيضًا صلة التَّنزيل القُرآني بالبيئة، ويساعِد على فهْم القُرآن وتفسيره.

4- إنَّ الآيات القرآنيَّة الواردة في شعائر الحجِّ تفيد صراحةً وضمنًا أنَّها كلّها أو جلّها كانتْ مُمارسةً قبل البعثة، فأُقِرَّت في الإسلام بعد تنقِيتِها من شوائب الشِّرْك والوثنيَّة والقُبح، الذي كان يتمثَّل في الطَّواف في حالة العرْي التَّام، وكان العرب ينسبونَها إلى إبراهيم، فردَّدت بعضُ آيات القرآن ذلك، وكانت تلك التنْقِية إعادةً للأمْرِ إلى نِصابه الذي لابدَّ أنَّه هو الذي كان عليْه في عهْدِ إبراهيم - عليْه السَّلام - وهذا ما تؤيِّده بعضُ آيات القُرآن، مع أنَّ فيها ما قدْ لا يفهم حكمة إقراره، مثل الطَّواف حول الكعبة، والسَّعْي بين الصَّفا والمروة، ورمْي الجمرات في منى، واستِلام الحجر الأسود.

والمتبادر أنَّ ذلك متَّصِلٌ بتقاليدِ الحج العربيَّة بعد أمدٍ طويل من عهد إبراهيم، ورسوخًا وفيها مظهرٌ لوحْدة العرَبِ على اختِلاف منازِلِهم، حيثُ كانوا يشترِكون جميعُهم في الحجِّ، مواسمه وتقاليدِه، وحرماتِه وأشهُرِه الحرُم، وحكمة إقرارها في الإسلام منطوية في ذلك الرسوخ من جهةٍ، وما كان لها من فائدةٍ وأثر في الوحدة المذْكورة التي كان القُرآن يدعو إليها من جهة أخرى.

ولعلَّ قصد تأنيس العرب بالدعوة الإسلامية ممَّا ينطوي في تلك الحكمة أيضًا، وفي سورة القصص آيةٌ مهمَّة في هذا الباب؛ وهي قولُه تعالى: ﴿ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ﴾ [القصص: 57]؛ حيث تفيد أنَّهم حسِبوا أن تكون الدعوة الإسلامية قد هدفت إلى إلْغاء تقاليد الحج، وكان من مقتضى هذه التقاليد حرمةُ مكة ومنطقتها وتوافُد العربِ من كلِّ صوْبٍ عليْها، وإقامة المواسم حولَها، فكان خوفُهم من أسباب امتِناعهم عن الاستِجابة للدعوة، مع أنَّهم لمَّحوا أنَّ فيها هدًى وحقًّا، حيث يعكس هذا الصلةَ الوثيقة بين التنزيل القرآني وتقاليد البيئة النبويَّة قبل الإسلام، ويساعد على فهْمِه وتفسيره.

5- في القُرآن آياتٌ كثيرة فيها قصص وأخبار ومواقف عديدة عن إبراهيم - عليْه السلام - ليستْ واردةً في سِفْر التَّكوين، أوَّل أسفار العهْد القديم، الذي هو المصدر الوحيد الذي وصل إلى عهدنا الذي ذكر هذا النبي، وفصَّل سيرته وسيرة ذُرِّيَّته، ومن تلْك الأخبار والقصص والمواقف: دعوتُه لأبيه وقومه ومحاجَّته معهم، وتكسيره الأصنام، ومُحاولتهم حرقَه بالنَّار، ودعاؤه بأن يُجنِّبَه الله وبنيه الأصنام، وإسْكانه بعض ذريته في منطقة بيت الله المحرم، وإنشاؤه مع ابنه إسماعيل الكعبة، وكونُه أوَّل مَن دعا إلى حجِّها، وكوْن العرب أو بعضهم ينتسِبون إليه، ودعاؤه مع إسماعيل بأنْ يُرسل الله إليْهم رسولاً منهم يهديهم، وجميع ذلك ممَّا كان متداولاً بين أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل البعثة، على ما ذكرتْه الراويات القديمة الكثيرة، فردَّده القرآن ولو لم يَرِدْ في أقدم مصدر تاريخيٍّ وصل إليْنا ذُكِرَ فيه إبراهيم – عليْه السَّلام - ممَّا يعكِس الصِّلة بين التنزيل القُرآني وبين ما كان متداولاً في بيئة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل الإسلام، ويُساعد على فهمِه وتفْسيره، واستِشْفاف حكمة وروده في القُرآن.

فالعرب كانوا يُدْعَون إلى توحيد الله ونبْذ الشِّرك والأصْنام، وكانوا يدَّعون أنَّهم أبناءُ إبراهيم وإسماعيل - عليْهِما السَّلام - وقد دَعَوَا الله بأن يُجنِّب أبناءَهُما الأصنام، وبأن يُرْسِل إليْهِم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه، ويعلِّمُهم الكتاب والحكمة ويُزكِّيهم، وقدِ استجاب الله لدعوتِهما وأرسل هذا الرسول، فلزِمَتهم الحجَّة.

ويتبادر لنا - والله أعلم - أنَّ ذلك هو الهدفُ الجوهريُّ في كلِّ هذه الأخبار القرآنية، وأنَّها لَم ترِدْ في القُرآن للسَّردِ التَّاريخي، وإنَّما لتحقيق هذا الهدَف الجوهري.

6- ليس في القُرآن المكِّي حملاتٌ عنيفة على اليهود، الذين كان يسكُن منهم في الحِجاز جالياتٌ كثيرة من أصْل إسرائيلي، واكتُفِي فيه بذِكْر قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل الأولى؛ مستهدفًا بذلك ما استَهْدَفه بذِكْر قصص الأنْبياء الآخَرين، من عبرٍ وعِظةٍ وتذْكير، وقد جاءتْ قصصُ موسى وفِرْعون وبني إسرائيل بإسْهاب أوْفى مما جاءت به قصصُ الأنبياء والأُمم الأخرى، ممَّا يمْكِن أن يكونَ سببُه أو حكمته وجود الجاليات الكثيرة، وصلته الوثْقى بالبيئة النبويَّة، في حين أنَّ القرآن المدنيَّ احتوى حملاتٍ شديدة لاذِعة على اليهودِ والإسرائيليين، واصفًا سوء أخلاقهم ودسائِسهم ومكائدهم، مع وصل حاضر هذه الأخلاق بأخلاق آبائِهم الأولين، وهذا أيضًا متَّصل بحالة قائمة في البيئة النبوية وظروفها؛ إذْ لم يكن لليهود في مكَّة كيان وتكتُّل ومركز قوي، وكان لهم ذلك في المدينة وما جاورها، ولم يقع بينهم وبين النَّبيِّ في مكَّة احتكاك وصدام وتشادّ، بل كان من أفرادِهم القلائل الذين كانوا في مكَّة، بالإضافة إلى أفرادٍ من النَّصارى - موقفٌ إيجابي، وقد أعلنوا جَميعهم فرحَهم بما كان ينزل على النبيِّ، وتصديقهم بأنَّه منزل من الله، وآمنوا واندمجوا مع الإسلام، في حين وقَع بينهم وبين النبيِّ بعد هجرته إلى المدينة صدامٌ وتشادٌّ، وبما كان لهم من مركز قوي اجتماعي واقتصادي وديني، حيثُ رأَوْا في دعوتِه وتعلُّق النَّاس به خطرًا على ذلك المرْكز، فظهَر أثرُ ذلك في الأسلوب القُرآني المدني دون الأسْلوب المكِّي، ويعكس هذا كما هو ظاهر صلة التنْزيل القُرآني بأحْوال البيئة، ويُساعد على فهْمِه وتفسيره.

7- ولقد كان الرقُّ والانتفاع به تِجاريًّا وجنسيًّا من الأمور الرَّاسخة في بيئة النَّبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - فانعكس ذلك فيما جاء عنه القرآن، حيث اقتضت حكمة التنزيل تنظيمَه تنظيمًا عادلاً وبارًّا، مع الحثِّ على تَحريره، ومع أساس تشريعي قرآني لإلغاء استِرْقاق أسرى الحرْب، وهذا هو المورد الأعمُّ والأغلب للرقِّ، حيث يبرز في ذلك صلة التنزيل القرآني بالبيئة، ويساعد على فهمه وتفسيره.

8- ولقد كان صنعُ الخمر والانتِفاع به تجاريًّا ومُمارسة شربه راسخًا في بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فانعكس ذلك على ما جاء في القُرآن عنه، أوَّلاً: في السور المكِّيَّة التي نبَّهت على ما فيه من غَوْل وما يُحدثه من نزف، وثانيًا: في السور المدنيَّة؛ حيث جاء في إحْدى آيات سورة البقرة قولُه تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]، وحيث نهى عن الصلاة في حالة السُّكْر؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ﴾ [النساء: 43]، ثمَّ حُرِّم بتاتًا بعد ذلك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [المائدة: 90].

9- ومثل هذا يقال في الميسِر والربا، وقد ذُكِرَ الميسِر في آية سورة البقرة الآنِفة بِما ذكر، ثم حُرِّم بتاتًا مع الخمر في آية سورة المائدة السَّابقة، ولقد نبَّه القرآن بسبب رسوخ الرِّبا وممارسته على أنَّ الربا لا ينال رضاء الله وبركته؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ﴾ [الروم: 39]، ثُمَّ نهى عن أكْلِه أضعافًا مُضاعفة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ﴾ [آل عمران: 130]، ثم شدَّد في تَحريمه بتاتًا بعد ذلك؛ قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وسورة البقرة نزلَتْ بعد سورة آل عمران على ما رواهُ المفسِّرون.

10- والمشاهد الأخرويَّة في القُرآن ممَّا يعكِس صلة التَّنزيل القُرآني بأحْوال البيئة النبوية، بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانيَّة لليوم الآخر وحسابه وثوابه وعقابه، فمن حكمة ذِكْر مشاهد الحساب والثواب والعقاب الأخرويَّة، والتَّخويف والتَّبشير: ﴿ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴾ [الزمر: 16]، ﴿ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ ﴾ [الشورى: 23]، والاستبشار والخوف إنَّما يكون من معرفة آثار ما يبشّر به ويخوّف منه.

ولهذا اقتضت حكمة الله - تعالى - بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانيَّة أن تكون مشاهدُ الحساب والثواب والعقاب الأخروي من مألوفات النَّاس في الدنيا، ومن مألوفات أهْل بيئة النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الذين خوطبوا بالقُرآن لأوَّل مرَّة للتَّرغيب والتَّرهيب، ويشمل ذلك الجنَّات التي تجري من تَحتِها الأنهار، وما فيها من مساكنَ، والنخل والرمَّان والفواكه، ومَجالس الشَّراب الأنيقة التي يدور الوِلدان فيها على الجالسين بالأباريقِ والكؤوس، ومزْج الشَّراب بالزَّنجبيل والمِسْك والكافور، وصحاف الذَّهب والفضَّة وقوارير الفضَّة، وحلي الذَّهب والفضة واللؤلؤ والثياب الحريريَّة، والفرش والزرابي والنَّمارق والسُّرُر المرفوعة، ولحوم الطيور وغيرها وغيرها.

وريح السَّموم وظلّ اليَحْموم، والماء الحميم وشواظ النُّحاس، والزَّقُّوم والغِسْلين والضَّريع، ومقامع الحديد، ومجالس القضاء والشهود وكتب الأعمال... إلخ، ممَّا يعكس صِلة التنْزيل القُرآني بأحوالِ البيئة، ويُساعد على فهْمِه وتفسيره.

وممَّا يلفت النَّظَر أنَّه ليس في المشاهد الأخروية القرآنيَّة مجالس غناء وطرَب وشراب، وأنَّه ليس في الروايات التي تُروى عن حالة بيئة النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ما يفيد أنَّ ذلك مما كان مترقِّيًا، وممَّا كان الاهتمام له والتعلُّق به شديدين كالشراب ومجالسه وأدواتِه، وفي هذا دليلٌ يؤيد ما ذكرناه.

11- وممَّا يتَّصل بالتنزيل القرآني والبيئة النبويَّة قصص القُرآن الكريم، والمدقِّق فيها يرى أنَّها اقتصرتْ أو كادتْ تقتصِر على القصص العربيَّة التي كانت أحداثُها في جزيرة العرب، والقصص الواردة في أسْفار العهد القديم والعهْد الجديد، التي تدور على قصص خلْقِ آدَم وطوفان نوح ونسلهما ونسْل إبراهيم، وسكناهم في أرْض فلسطين وعدوان الإسرائيليين على فلسطين، وبعض قصص مسيحيَّة ويهوديَّة أخرى، مع أنَّه كان في زمَن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمم وبلادٌ كثيرة لها نشاط وحياة وحضارة وعلوم وفنون، وحكمة ذلك فيما يتبادر لنا تفسيرُه هو أنَّ معرفة أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين خوطبوا بالقُرآن لأوَّل مرَّة كانت قاصرةً - أو كالقاصرة - على ما كان متداولاً من روايات وأخبارٍ وأنباء العرب، وإبراهيم وإسماعيل، ومن كُتُب كانت متداولةً في أيْدي الكتابيِّين من يهود ونصارى، الذين كانوا منهم جاليات في الحِجاز واليمن والبلاد المُجاوِرة، التي كان تجَّار الجزيرة ومسافِروها يزورونَها للتجارة وغير التجارة، من حيث إنَّ تأثُّر السامعين للقُرآن لأوَّل مرَّة بالقصص، واعتبارهم واتِّعاظهم بها - وذاك هو المقصد الجوْهري في القصص القرآنية - إنَّما يتحقَّق إذا ما كانتْ هذه القصص ممَّا يعْرِفُها ويسمَعُها أهل بيئة النَّبيِّ كلِّيًّا أو جزئيًّا، ولا يَخرج عن هذا ذِكْر الروم وهزيمتهم، والوعد بأنهم سيغلبون، ولا ذِكْر ذي القرنين؛ فالحرب كانت تَجري بين الروم والفرس في بلاد الشام والعراق، وهي مُجاورة للجزيرة العربية، وتصل أخبارُها بسرعة إلى أهل البيئة النبوية، بل كان بعضُ معاركِها في العهْد المكِّي من البعثة النبويَّة، وهي التي ذكرت في سورة الروم، وكان المسلمون يفرحون بانتِصار الروم؛ لأنَّهم أهلُ كتاب ويَدينون بالنصرانيَّة وكانت الجالية الكتابية في مكَّة قد انضوت إلى الإسلام، وكان المشركون يفرحون بانتِصار الفرس وانكِسار الروم نكايةً بالمسلمين، حتى لقد جرى رهانٌ بين أبي بكر - رضي الله عنه - وأحد زعماء المشركين على أنَّ النَّصر سوف يكون للرُّوم بعد غلَبهم؛ ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 2 – 5].

وذو القرنَين هو - على أصحِّ التَّفاسير وما ظهر لنا من التَّمحيص للروايات والأقوال - ملك الفرس (كورش) أو (دارا) وكان أهل جزيرة العرب - ومنهم أهل بيئة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على صلةٍ وثيقةٍ بالفُرس.

وكل ما تقدَّم يعكس صلةَ التنزيل القرآني بالبيئة النبويَّة، ويساعد على فهْمِه وتفسيره.

وليس ما أوردناه هو جَميع ما تظهر به الصِّلة بينه وبين التنزيل القرآني، ولكنَّه يكفي لإبْراز ذلك للتَّنبيه على وجوب ملاحظتِه؛ لأن ذلك مهمٌّ في فهْم مواضيعِه وتقريراته ورُوحه ومداه، ويجعل النَّاظر فيه يندمج في الوقائع ومقتضياتِها، ولا يبتعد عن حقيقة الواقع، ويعصِمُه من التورُّط في الجدل والتزيُّد، وتحميل العبارات ما لا تتحمَّله أو أخْذها مجرَّدة عن ملابساتها.

مع ذِكْر بأنَّ ما احتواه القُرآن من صور - ممَّا له صلة بالبيئة النبويَّة - قد جاء بأسلوب وفي سياق غير محصور في نطاق محلي، وزمن محدودٍ، بل جاء مطلقًا شاملاً فيه من التوجيهات والتقلبات والوصايا والتنبيهات والحِكم والمواعظ، ما له صفةُ الشُّمول والاستمرار والدوام، والعالمية والانطباق على كلِّ زمانٍ ومكان، ممَّا يتَّسق مع ما قرَّره القرآن، من أنَّ الله - تعالى - أنزله ليكون بيانًا لكل شيْء، وهدى ورحمةً وبشْرى للمسلمين والمؤمنين، وذكرًا للعالمين، وبذلك تبرز المعجِزة القرآنيَّة الكبرى في الأسلوب والمدى، وهذا فضلا عمَّا في المحكمات القرآنيَّة التي وردت الإشارة إليْها في سياق الأمثلة، التي تعكس صلة التَّنْزيل القُرآني بالبيئة من مثل ذلك.

... والحمدُ لله رب العالمين.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الأبعاد الواقعية للنماذج القرآنية
  • خيار من خيار
  • اجتهاد النبي في عبادته وجهاده
  • نبوءة النبي : ( وعدتم من حيث بدأتم )

مختارات من الشبكة

  • أخطاء في الرصد التاريخي والتقويم(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
  • أبعاد الرصد الإعلامي لفتاوى العلماء والدعاة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الاستشراق والقرآن الكريم: مقدمة لرصد وراقي ببليوجرافي (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • فلسفة رصد إتقان القرائية.. بين ضوابط وضع المخططين ووهم تجربة بعض المعلمين(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • إحصاء الأفعال العربية ورصدها في المعجم العربي الحاسوبي: تأصيل وتوجيه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • رصد لألفاظ إسلامية في كتاب المزهر للعلامة السيوطي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • التنصير في المراجع العربية: دراسة ورصد وراقي للمطبوع (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • مصادر المعلومات عن الأدب الجاهلي: رصد وراقي (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • السحاب الركامي في علم الأرصاد(مقالة - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • مخطوطة عطية الرحمن في صحة الأرصاد للجوامك والأطيان ( نسخة ثانية )(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 24/11/1446هـ - الساعة: 12:14
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب