آداب المريض وزيارته (4/ 15)

آداب المريض وزيارته (4/ 15)

(7) ويجوز عيادة المريض راكبًا وماشيًا:

أمَّا دليل الرُّكوب، فقد ثبتَ عن أسامةَ بنِ زيد رضي الله عنهما "أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ركب على حمار، وأردفَ أُسامة وراءه يعود سعدَ بن عُبادة قبل وقعة بدر"[1].

وأما دليل المشي، فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: "جاءني النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعودني، ليس براكبِ بغل ولا بِرْذَون"[2].

(8) وتستحب العيادة للصغير والكبير:

وسواء كان ذلك للقريب والبعيد، لكن كلَّما كانت الصِّلة أقوى، كانت الحاجة أشدَّ إلحاحًا وطلبًا.

أما الدليل على عيادة الكبير:

فقد تقدَّم في الحديثين السابقين عيادتُه صلَّى الله عليه وسلَّم لسعد بن عبادة ولجابر بن عبدالله رضي الله عنهما والأحاديث في عيادة الكبير كثيرة.

وأما الدليل على عيادة الصغير:

فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنَّ ابنةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أرسلت إليه - وهو مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وسعدٍ وأُبَي - نحسب أنَّ ابنتي قد حُضِرت فاشْهَدْنا، فأرسل إليها السَّلام، ويقول: ((إنَّ لله ما أخَذ، وله ما أَعطى، وكلُّ شيء عنده بأجَلٍ مسمًّى، فلْتَصبر ولْتَحتسِب))، فأرسلَتْ إليه تُقْسِم عليه ليَأتِيَنَّها، فقام ومعه سعدُ بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبَي بن كعب وزيد بن ثابت ورجالٌ، فرُفِع إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الصبي ونفْسُه تَقَعْقع - قال: حسبتُه قال: كأنَّها شَنٌّ - ففاضَتْ عيناه؛ يعني النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال سعدٌ: ما هذا يا رسولَ الله؟! قال: ((هذه رحمةٌ جعلَها الله في قلوب عبادِه، وإنَّما يَرحم الله من عباده الرُّحَماء))[3].

ومعنى أنَّ "ابنتها حُضِرت"؛ أيْ: إنَّها وَقْت الاحتضار.

"القعقعة" حكاية صوت الشَّيء اليابس إذا حُرِّك، و"الشَّنُّ": القِرْبة الخَلقة اليابسة.

ويُستفاد من هذا الحديث:

عيادة المريض ولو كان مفضولاً أو صبيًّا صغيرًا، ويستفاد كذلك: جواز العيادة بغير إذْن، بخلاف الوليمة[4]، ويستنبط هذا المعنى بأنَّ الصحابة الذين كانوا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حضروا معه للعيادة - يعني: من غير أن يؤذن لهم بالحضور.

ومن الأدلة على عيادة الصغير:

أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عاد صبيًّا يهوديًّا، فقال له: ((أسْلِم))، فأسلَمَ[5].

ملاحظات:

(أ) يجوز عيادة الفاضل للمفضول:

لما ثبتَ أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عاد أعرابيًّا؛ فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما "أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم دخل على أعرابيٍّ يعوده"[6].

قال ابن حجر - رحمه الله -:

"قال المهلّب: فائدةُ هذا الحديث: أنَّه لا نَقْص على الإمام في عيادة مريضٍ من رعيَّتِه، ولو كان أعرابيًّا جافيًا، ولا على العالِم في عيادة الجاهل؛ لِيُعلِّمه ويُذكِّره بما ينفعه، ويأمره بالصبر لئلاَّ يتسخَّط قدر الله فيَسخط عليه، ويسلِّيه عن ألَمِه بل يغبطه بسقمه، إلى غير ذلك من جَبْر خاطره وخاطر أهله"[7].

ومعنى "يغبطه بسقمه": يذكِّره بفضل المرض وثوابه؛ حتَّى يفرح به.

(ب) حكم عيادة النساء للرجال، والعكس:

قال الإمام البخاري رحمه الله: "باب عيادة النِّساء للرجال"[8]، وأوردَ أثرًا أنَّ أُمَّ الدَّرداء رضي الله عنها عادت رجلاً من أهل المسجد من الأنصار[9]، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: "لَمَّا قَدِم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة وُعِك أبو بكرٍ وبلالٌ رضي الله عنهما قالت: فدخلتُ عليهما، فقلت: يا أبَتِ، كيف تَجِدُك؟

ويا بلال، كيف تجدُك؟..."؛ الحديث[10].

ومعنى "كيف تجدُك" المراد به الإحساس؛ أيْ: كيف تعلم حال نفسك؟ و"الوعك" المرَض.

قال الحافظ - رحمه الله -: "وقد اعترض عليه - يعني: على البخاريِّ - بأنَّ ذلك قبل الحجاب، وأُجيبَ: بأنَّ ذلك لا يضرُّه فيما ترجمَه له من عيادة المرأة للرَّجل، فإنه يجوز بشرط التستُّر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده: الأمْنُ من الفتنة"[11].

قلتُ: وقد ثبت أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عاد امرأةً مسكينة مَرِضَت[12]، وعاد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّ العلاء[13]، وأم السائب[14].

(جـ) عيادة المشرك:

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فمرض، فأتاه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلِم)) فأسلم، فخرج النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذَه من النار))[15].

وعن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه أخبره: أنه لَمَّا حضرَتْ أبا طالبٍ الوفاةُ جاءه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فوجد عنده أبا جهلِ بنَ هشام وعبدَالله بن أبي أمية بن المغيرة، قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي طالب: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أشهد لك بها عند الله))، فقال أبو جهلٍ وعبدالله بن أبي أميَّة: أترغب عن ملَّة عبدالمطَّلب؟ فلم يزل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتَّى قال أبو طالب آخِرَ ما كلَّمَهم: هو على ملَّة عبدالمطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَا لأستغفِرَنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك))، فأنـزل الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ [التوبة: 113][16].

ففي هذين الحديثين أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عاد يهوديًّا، وعاد عمَّه وهو مشرك، وفي كلِّ مرة عرض الإسلام على المشرك.

قال الحافظ ابنُ حجر - رحمه الله -: "قال ابن بطَّال: إنَّما تُشْرَع عيادته إذا رُجِي أن يجيب إلى الدُّخول في الإسلام، فأمَّا إذا لم يطمع في ذلك، فلا"؛ انتهى[17].

ثم استطرد الحافظُ معلِّقًا على ما قاله ابن بطَّال، فقال: "الذي يظهر أنَّ ذلك يختلف باختلاف المقاصد؛ فقد يقع بعيادته مصلحةٌ أخرى"[18].

(د) حكم عيادة المبتدع:

نصَّ الإمام أحمدُ - رحمه الله - على أنَّ المبتدع لا يُعاد، وقال غيره: لا يعاد الدَّاعية فقط، واعتبر الشيخُ تقيُّ الدين المصلحةَ في ذلك؛ أيْ: إنَّه إذا كان في عيادته مصلحةٌ، عاده، كأنْ يتوب عن بدعته مثلاً، أمَّا إذا لم تكن مصلحة، فلا يُعاد، ومن باب أولى لا يُعاد إذا كان هناك مفسدة.