• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة
    عبد رب الصالحين أبو ضيف العتموني
  •  
    فضل الصبر على المدين
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    تفسير قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ...
    سعيد مصطفى دياب
  •  
    محاسن الإرث في الإسلام (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    تفسير: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    علامات الساعة (2)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    ما جاء في فصل الصيف
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    أحكام التعاقد بالوكالة المستترة وآثاره: دراسة ...
    د. ياسر بن عبدالرحمن العدل
  •  
    خطبة: أم سليم ضحت بزوجها من أجل دينها (1)
    د. محمد جمعة الحلبوسي
  •  
    خطبة: التربية على العفة
    عدنان بن سلمان الدريويش
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    التلاحم والتنظيم في صفوف القتال في سبيل الله...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    أسس التفكير العقدي: مقاربة بين الوحي والعقل
    الشيخ حذيفة بن حسين القحطاني
  •  
    ابتلاء مبين وذبح عظيم (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    فضل من يسر على معسر أو أنظره
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    حديث: لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك
    الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / عقيدة وتوحيد
علامة باركود

البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (3 / 6)

أبي أسامة الأثري جمال بن نصر عبدالسلام

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 30/10/2010 ميلادي - 22/11/1431 هجري

الزيارات: 15488

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة

(3  / 6)

المبحث السادس

أسباب انتشار المذهب الأشعري

قال محمد أمان بن علي الجامي في "الصفات الإلهية" ص 154:

"يذكر بعض المختصين المهتمين بشأن العقيدة الإسلامية لهذا الانتشارِ والشهرة الأسبابَ التالية:

أ- كثرة الحق الذي عندهم بالنسبة للباطل الكثير الذي عند غيرهم؛ لأنهم يُثبتون كثيرًا من الصفات مثلاً، وزدْ على ذلك أن موقفهم من الصحابة يوافق موقفَ أهل السُّنَّة والجماعة، وموقفهم من نصوص المعاد موقفٌ سليم أيضًا، قد سلمتْ نصوص المعاد عندهم مما أصيبتْ به عند غيرهم من الباطنية ومن تأثَّر بهم، من التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليُقبَل، وقد انخدع بهم كثير من علماء الفقه والحديث، فوافقوهم في بعض ما ابتدَعوه.

 

ب- استعمالهم الأدلةَ العقلية في مُواجَهة المعتزلة؛ مما أكسبهم الشعبيةَ مع ما في طريقتهم من كثير البِدَع[1].

 

ج- ضعْف الآثار النبويَّة في تلك العصور، والآثارُ هي التي تنير للناس سبيلَ الحق حتى لا يقعوا في الشُّبُهات والبِدَع، على الرغم من كونها مدونةً في الصحاح والمسانيد؛ لأن اشتغال الناس بها ليس بالمستوى المطلوب؛ إذ كان العمل في الغالب بآراء الفقهاء واجتهاداتهم.

 

د- العجز والتفريط الواقعانِ في المنتسبين إلى السُّنة والحديث؛ حيث يروُون تارة ما لا يعلمون صحتَه من الآثار والأحاديث، وتارة يكونون كالأميِّين الذين لا يعلمون الكتابَ إلا أمانيَّ، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور[2]، ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي أوقعتْ كثيرًا من الناس في التفويض المحض.

 

هـ- انتساب الأشعري إلى مُعتقد إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل - رحمه الله - في آخر أمره - كما سيأتي بيان ذلك.

 

و- اعتناق بعض الحكَّام عقيدته، واعتبارها عقيدةَ أهل السُّنَّة والجماعة، والدفاع عنها، والدعوة إليها بشدة، إلى درجة استباحة دم من خالفها، كما فعل تومرت وأتباعه في المغرب[3]"؛ اهـ.

 

الفصل الأول

نفي انتساب الحافظ ابن حجر للأشاعرة:

نسب كثيرٌ من الأشاعرة ابنَ حجر - رحمه الله - إلى مذهبهم؛ لما وافقهم في مبحث الأسماء والصفات، ولم يكلِّفوا أنفسهم عناء النظر في بقية أقواله في مبحث الاعتقاد الذي يفارقهم فيه؛ بل ويباينهم فيه.

 

فمن أقوى أصول الأشاعرة التي يخالفهم فيها الحافظُ ابن حجر - رحمه الله - ويقوم عليها مذهبهم - كما مرَّ بنا في المقدمات - اعتمادُهم على العقل في تقرير مذهبهم، وللمتأمل في أقوالهم أن يستدرك عليهم ذلك، فمن أبرز ما ينتقد على أهل البدع قاطبةً تضارُبُ أقوالهم في الفروع التي بنَوها على الأصول التي قرروها وأسَّسوا عليها مذاهبهم، فهذا العقل الذي يطلق له العنان في مبحث الأسماء والصفات، ولا يقف أمامه دليل سمعي، فالأدلة المعارضة له إما أخبار آحاد، وإما أنها مؤولة - لا اعتبار له في مبحث التحسين والتقبيح، فالعقل إما أن يكون قادرًا على معرفة الحسن والقبيح في كل الأحوال، وإما ألاَّ تكون له القدرة على ذلك في كل الأحوال، وخاصةً إذا كان أصل قولهم بالتأويل هو التنزيه العقلي لله - عزَّ وجلَّ - وصرْف مشابهته للمخلوقات، فلا دليل سمعي على نفْي الصفات التي نسبها الله - عزَّ وجلَّ - لنفسه على الحقيقة، في ظل نفي المماثلة والمشابهة لغيره، قال - تعالى -: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].

 

ففي هذه الآية نفي للماثلة في ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾، وإثبات لحقيقة الصفة في إثبات أن الله هو ﴿ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾، فبعد أن نفَى المماثلة لخلقه، أثبت شيئًا غير مماثل لم يأتِ النص السمعي بنفيه، فنافي الإثبات هو الذي يحتاج إلى دليل على صحة النفي.

 

وقد اتخذ الحافظ ابن حجر - رحمه الله - هذا الموقفَ الوسط في قضية العقل، فالعقل يستطيع تمييز الحسن والقبيح، ولكن لا ثواب ولا عقاب إلا بعد مجيء الشرع.

 

قال الحافظ في "فتح الباري" 13 / 365:

"قال أبو المظفر السمعاني أيضًا ما ملخصه: إن العقل لا يوجب شيئًا، ولا حظَّ له في شيء من ذلك، ولو لم يَرِد الشرع بحكم ما وجب على أحد شيء؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 15]، ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل ﴾ [النساء: 165]، وغير ذلك من الآيات، فمن زعم أن دعوة رسل الله - عليهم الصلاة والسلام - إنما كانتْ لبيان الفروع، لَزِمَه أن يجعل العقل هو الداعيَ إلى الله دون الرسول، ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواءٌ، وكفى بهذا ضلالاً، ونحن لا ننكر أن العقلَ يُرشد إلى التوحيد، وإنما ننكر أنه يستقلُّ بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، ومع قطع النظر عن السمعيات؛ لكون ذلك خلافَ ما دلَّتْ عليه آيات الكتاب والسُّنة الصحيحة التي تواترتْ ولو بالطريق المعنوي، ولو كان كما يقول أولئك، لبطَلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها؛ بل يجب الإيمان بما ثبَت من السمعيات، فإن عقِلناه فبتوفيق الله، وإلا اكتفيْنا باعتقاد حقيقته على وفق مراد الله سبحانه" اهـ.

 

ونجد الحافظ لا يشترط موافقة خبر الواحد للعقل؛ بل يُثبت به الأحكام ابتداءً، فإن قيل: كيف ذلك وهو يؤوِّل الأخبار؟ قلت: يؤول أدلة الصفات كلها، سواء وردتْ في الكتاب أو السنة، ولم يقصر ذلك على خبر الآحاد بعينه، ولم أقف أثناء بحثي كلِّه على قول للحافظ ابن حجر - رحمه الله - ردَّ فيه خبرًا قبولاً أو تأويلاً بحجة أنه خبر آحاد.

 

قال الحافظ في "فتح الباري" 13 / 248، بعد أن ذكر بعض الأدلة على قبول خبر الآحاد، وردَّ على بعض الشُّبه التي تثار حوله:

"وصدقُ خبر الواحد ممكن؛ فيجب العمل به احتياطًا، وإن إصابة الظن بخبر الصدق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تترك المصلحة الغالبة؛ خشية المفسدة النادرة" اهـ.

 

وقال في "فتح الباري" 13 / 252:

"قال ابن القيم في الردِّ على من ردَّ خبر الواحد إذا كان زائدًا على القرآن، ما ملخصه: السُّنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن توافقه من كل وجه، فيكون من باب توارد الأدلة.

ثانيًا: أن تكون بيانًا لما أُريدَ بالقرآن.

ثالثًا: أن تكون دالة على حكمٍ سكَتَ عنه القرآن.

 

وهذا الثالث يكون حكمًا مبتدَأً من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتجب طاعتُه فيه، ولو كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يطاع إلا فيما وافق فيه القرآن، لم تكن له طاعةٌ خاصة، وقد قال - تعالى -: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وقد تناقض من قال: لا يُقبَل الحكم الزائد عن القرآن إلا إن كان متوترًا أو مشهورًا، فقد قال بتحريم المرأة على عمَّتها وخالتها، وتحريم ما يَحرُم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط، والشفعة، والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمَة إذا أُعتقت، ومنْع الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب الكفارة على من جامَعَ وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر، وأن أقلَّ الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السُّدس مع البنت، واستبراء المسبية بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رِجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ، مما يطول شرحه، وهذه الأحاديث كلها آحاد، وبعضها ثابت وبعضها غير ثابت، ولكنهم قسموها إلى ثلاثة أقسام، ولهم في ذلك تفاصيل يطول شرحها، ومحل بسطها أصول الفقه، وبالله التوفيق" اهـ.

 

لذا قال عنه ابن عبدالهادي في "الرياض اليانعة":

"كان محبًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية، معظِّمًا له، جاريًا في أصول الدين على قاعدة المحدِّثين، ولهذه العلة كثيرٌ من الشافعية ينتقص حقَّه، ولا يبلغ به في التعظيم منزلته، كفعلهم ذلك مع ابن ناصر الدين" اهـ.

كما خالفهم الحافظ - رحمه الله - في كثيرٍ من المسائل، وعلى رأسها مسألةُ الإيمان، فالإيمان عند الأشاعرة هو التصديق فقط.

 

قال البيجوري في "تحفة المريد":

وَفُسِّرَ الإِيمَانُ بِالتَّصْدِيقِ ♦♦♦ وَالنُّطْقُ فِيهِ الخُلْفُ بِالتَّحْقِيقِ

 

فأخرجوا العمل بالكلية من الإيمان، فلم يعتبروا عمل القلب ولا عمل الجوارح فيه، وقد دفع شيخ الإسلام ابن تيمية اعتقادَهم هذا أيما دفع، فقال في كتاب "الإيمان" ص 183:

"والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبَّادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفارٌ مع تصديق قلوبهم - أي: بخلاف قول الأشاعرة في هاتين القضيتين[4] - ولكنَّهم إذا لم يُدخِلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضًا" اهـ.

 

وقال د.سفر بن عبدالرحمن الحوالي في "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي" 2 / 473 وما بعدها:

"يُطْلِق المرجئة اسم الإيمان على كل من هؤلاء:

أ- جبريل ومحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - "بدلالة الإجماع".

ب- من أقرَّ بالإيمان ولم يعمل شيئًا "بدلالة حديث الجارية بزعمهم"[5].

جـ- من صدَّق بقلبه ولم يقرَّ بلسانه "بدلالة اللغة؛ ولأن الكلام عندهم هو الكلام النفسي".

وطبيعي أن بين هذه الدرجات في الإيمان درجاتٍ، كإيمان أواسط الصحابة وإيمان الفاسق من أهل الصلاة، ولكن هذه المراتب الثلاث هي كالأركان نظريًّا.

 

2- فلمَّا أرادوا استخراج القدْر الكلي المشترك بين هذه الدرجات؛ ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته مع حذف صفاته العرضية، كان طبيعيًّا ألا يُدخِلوا الأعمال في الإيمان؛ لأنها مفقودة بكاملها عند أصحاب الدرجة (ج)، واختلفوا في إدخال النطق باللسان، الذي هو موجود عند أصحاب الدرجة (ب)؛ لكنه مفقود عند أصحاب الدرجة (ج): أهو ذاتي داخلٌ في الماهية، أم لازم عرضي؟[6]

 

3- ومن هنا جاءت حدودُهم - أو تعريفاتهم - للإيمان خاليةً من ذِكر عمل الجوارح، بل محصورة في عمل قلبي واحد، هو التصديق أو الاعتقاد؛ كقولهم: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بدليل، أو: التصديق بما جاء به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان معلومًا بالضرورة، أو: اعتقاد صدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخبر به، وما أشبه ذلك مما تجلَّى عند ذكر نصوصهم في اشتراط النطق أو عدمه.

 

والمهم أنَّ قاعدة: "تساوي أفراد النوع في حقيقته وماهيته" التي استعاروها من المنطق وطبَّقوها هنا، أفسدتْ عليهم تصوُّرَهم، وجعلتْهم يُعرِضون عن كل النصوص الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه، وتفاضُل أهله فيه، ودخول الأعمال فيه، ويتعسفون في تأويلها؛ حتى تَسلَم لهم هذه القاعدة.

 

ومن أخطر النتائج التي رتَّبوها على ذلك قولُهم بتساوي إيمان الملائكة والأنبياء كجبريل ومحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع إيمان الفساق المنهمكين في الفسق؛ بل وإيمان من لم يقل: لا إله إلا الله بلسانه، وإنما صدَّق بقلبه بزعمهم.

 

وهذه النتيجة مع منافاتها للبديهيات الثابتة عند عوام المسلمين، سطروها وقرَّروها بإطناب وإسهاب، فلما صدمهم اعتراضُ المسلمين، التمسوا تقْيِيداتٍ واهيةً تغض من مقام النبوة أكثرَ مما ترفعه عن مستوى الانهماك في الفسق.

 

ونكتفي من كلامهم بنصين عن رجلين من كبار أئمتهم المتقدمين:

1- أبو بكر بن فورك: أحد كبار الأشاعرة المتوفَّى سنة 403 هـ أو بعدها.

 

وقد شرح كتاب "العالم والمتعلم" المنسوب للإمام أبي حنيفة، وأطال في تقرير هذه القاعدة حتى استغرقت منه أكثر من عشر لوحات[7]بكلام فلسفي مجرد، نذكر منه ما نقله عن المتن المنسوب للإمام، وهو:

"قال المتعلم: أخبرْني من أين ينبغي لنا أن نقول: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، وقد نعلم أنهم كانوا أطوعَ لله منا؟!

قال العالم: وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا صدَّقنا بوحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده، بمثل ما أقرتْ به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - فمن ها هنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكلِّ شيء آمنتْ به الملائكة مما عاينتْه الملائكة من عجائب الله - تعالى - ولم نعاينه"[8].

 

ثم شرحه مبيِّنًا أن التصديق جنس واحد لا يفضل بعضه بعضًا، وعلَّل ذلك بقوله:

"لأن تصديق القلب هو الإيمان، فإذا اعتقد النبي صِدقَ الله في أخباره، واعتقدْنا صدقه في أخباره تعالى، كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقه بلا تفاوت[9].

ثم أسهب في بيان أن فضل الأنبياء في الإيمان على سائر الخلق إنما هو بالنظر للعاقبة والثبات، فإيمان الأنبياء معصوم عن الردَّة والكفر، بخلاف غيرهم، فاحتمال طروء ذلك عليهم قائم.

وأخيرًا أجاب عن إشكال وارد، وهو إذا كان إيمان سائر البشر كإيمان الأنبياء، فلماذا فضَّل الله الأنبياء عليهم في الأجر والثواب؟


ونقل ما في المتن ثم شرحه، وهو:

"قال المتعلم: لحسن ما فسرت، ولكن أخبرني: إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فلِمَ فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا، واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة؟

وإن كان ثواب إيماننا في الدنيا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلمًا إذا كان إيماننا مثل إيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟

قال العالم: قد أعظمتَ المسألة؛ ولكن نثبت في الفتيا، ألستَ تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنتْ به الرسل؟ ولهم بعدُ علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله - تعالى - كما فضَّلهم بالنبوة على الناس، كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء.

 

ولم يظلمنا ربُّنا إذ لم يجعل لنا مِثلَ ثوابهم؛ ولكنه كان إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقَّنَا فأسخطنا، فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقَّنا، وأعطانا حتى أرضانا، فإن ذلك ليس بظلم"[10].

 

2- أبو المعالي الجويني: كبير الأشعرية في عصره، وشيخ أبي حامد الغزالي[11]:

يقول: "فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملناه على التصديق فلا يَفضُل تصديقٌ تصديقًا، كما لا يفضل علم علمًا[12]، ومن حمله على الطاعة سرًّا وعلنًا - وقد مال إليه القلانسي[13] - فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نُؤثِره.

 

فإن قيل: أصلكم يُلزِمكم أن يكون إيمانُ منهمكٍ في فسقه كإيمان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قلنا: النبي - عليه الصلاة والسلام - يفضل من عدَاه باستمرار تصديقه، وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الريب.

 

والتصديق عَرَضٌ[14] لا يبقى، وهو متوالٍ للنبي - عليه الصلاة والسلام - ثابتٌ لغيره في بعض الأوقات، زائل عنه في أوقات الفترات[15]، فيثبت للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر.

فلو وُصف الإيمان بالزيادة والنقصان وأريد بذلك ما ذكرناه، لكان مستقيمًا، فاعلموه"[16].

وهذه النصوص تغني عما عداها، ومجرد الاطلاع عليها كافٍ في تصوُّر فسادها، والحكم بمخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول!

وعلى مِثْل هذه الشُّبه الواهية اعتمد أتباعُهم في الحكم على من يُدخِل العمل في الإيمان، بأنه موافق لمذهب الخوارج[17]، ناسين أن هؤلاء موافقون موافقة تامة لرأي الفلاسفة!

 

هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن المنطق في ذاته لا يقتضي بالضرورة إخراج العمل من الإيمان، أو القول بأنه لا يزيد ولا ينقص، ونزيد هذا إيضاحًا فنقول: إن المرجئة لو تركوا مبحث التعريف بالمرة، واكتفوا بما يذكره المناطقة في مبحث الأسماء - نسبة الاسم للمعنى - وهو قولهم: "إنَّ الكُلِّي ينقسم إلى قسمَيْن:

القسم الأول: المتواطئ، وهو الذي تستوي جميع أفراده في صدق الكلي عليها واشتراكها فيه، مثل: إنسان، ومثلث، وشجرة...

والقسم الثاني: المشكك، وهو الذي لم تتساوَ أفراده في صدق الكلي عليها، وذلك بأن يكون المعنى المقصود من الكلي أولى في بعضها من البعض الآخر، أو أقدمَ منه، أو أشدَّ، أو أقوى، وذلك مثل الضوء، فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح"؛ اهـ.

 

أقول: لو فعلوا ذلك واعتبروا الإيمان من القسم الأخير، لأراحوا واستراحوا، لكن الذي حصل هو العكس، فإنه لما فطن متأخِّروهم إلى هذا، أخذوا يتعَسَّفون في تخريجه؛ كي يوافق المذهب، وخاضوا في "ماهية المشكك"، فعاد الأمر إلى قضية الماهية التي لم يستطيعوا التخَلِّي عنها!

 

يقول صاحب "المسامرة بشرح المسايرة":

(والحنفية، ومعهم إمام الحرمين، وغيره)، وهم بعض الأشعرية (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات، هي)؛ أي: تلك الجهات (غير نفس الذات)؛ أي: ذات التصديق، (بل بتفاوته)؛ أي: بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم، لا بسبب تفاوت ذات التصديق.

 

(ورُوِيَ عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قال: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: مثل إيمان جبريل؛ لأن المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه)؛ أي: لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها.

 

فلا أحد يسوِّي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء من كلِّ وجه؛ (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء، غير أن ذلك التفاوت (هل هو بزيادة ونقص في نفس الذات؟)؛ أي: ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب[18]، (أو) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات؛ بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا)؛ يعني: الحنفية وموافقيهم (الأول)؛ وهو التفاوت في نفس الذات)[19].

 

أقول: هنا أحس المؤلف بأن الاعتراض سيَرِد على كلامه عن مدى ضرورة التفريق، ولِمَ لا يعتبر من قبيل المشكك ويلغي موضوع "النوع"؟

فقال: (فنحن - معشر الحنفية ومن وافقنا - نمنع ثبوتَ ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه يكون التفاوت عارضًا لها، خارجًا عنها، لا ماهية لها، ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها!

 

و(لو سلَّمنا ثبوت ماهية المشكك)، فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشدة؛ فقد يكون بالأولوية وبالتقَدُّم والتأخُّر! (و) لو سلمنا (أن ما به التفاوت) في أفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج)... (مأخوذ في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج، (لا نسلم أنَّ ماهية اليقين منه)؛ أي: من المشكك.

 

(ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا نسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية)؛ أي: أجزائها، (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها، العارضة لها؛ كالإلف للتكرار ونحوه..." اهـ[20].

 

وانظر معي إلى كلامهم الذي يُخرِج العملَ من الإيمان، وينفي الزيادةَ والنقصان في الإيمان، وإلى ما حرره الحافظ في "فتح الباري" 1 / 61:

"فأمَّا القول، فالمراد به النطق بالشهادتين، وأمَّا العمل فالمرادُ به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح؛ ليدخل الاعتقاد والعبادات، ومرادُ من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه، إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرطٌ في كماله، ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي، والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط، والكرَّامية قالوا: هو نطق فقط، والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته، والسلف جعلوها شرطًا في كماله، وهذا كله - كما قلنا - بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا، فالإيمان هو الإقرار فقط، فمَن أقرَّ أُجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر، إلا إنِ اقترن به فعلٌ يدلُّ على كفْره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمانَ فبالنظر إلى إقراره، ومن نفي عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فعْل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته، وأثبتت المعتزلة الواسطةَ فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.

 

وأما المقام الثاني، فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين، وقالوا: متى قيل ذلك كان شكًّا، قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد ويَنقص بكثرة النظر، ووضوح الأدلَّة؛ ولهذا كان إيمان الصدِّيق أقوى من إيمان غيره؛ بحيث لا يعتريه الشُّبهة، ويؤيِّده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقينًا وإخلاصًا وتوكُّلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرَّح به عبدالرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وابن جريج، ومَعْمَر، وغيرهم، وهؤلاء فقهاءُ الأمصار في عصرهم، وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في "كتاب السنة" عن الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيتُ أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.

 

وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمعٍ كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السُّنَّة والجماعة، وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من "الحلية" من وَجْهٍ آخر عن الربيع، وزاد: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية" اهـ[21].

 

وإنما وقع للأشاعرة وغيرهم ما وقع من إخراج العمل من الإيمان؛ لأنهم فصَلوا كل واحد من مكوناته عن الآخر، وهذا خلافُ ما كان عليه اعتقاد سلف هذه الأمَّة، فالإيمان عندهم حقيقة مركَّبة، لا ينفك شيء منها عن الآخر.

 

فالمرجئة قصَروه على التصْديق فقط، بينما الكرامية قصروه على نُطق اللسان، وقصره الخوارج على الأعمال، فضلُّوا جميعًا؛ لأنَّ الإيمان هو مركب من مجموع هذه الأشياء الثلاثة مجتمعة.

 

ومما مرَّ يتبيَّن لنا أن الناس اختلفوا في حقيقة الإيمان: هل هو بسيط أم مركب؟ على أقوال:

قال أحمد بن حجر آل بوطامي في "العقائد السلَفيَّة" ص 315:

"والخلاصة أن الخلاف في كون الإيمان مركبًا أو بسيطًا يرجع إلى خمسة أقوال:

1- مبني على كونه بسيطًا، كالتصديق وحده بالقلب، وهذا مذهب جهم بن صفوان ومن وافقه من الأشاعرة وغيرهم، وعلى هذا يكون اليهود الذي عرَفوا بقلوبهم رسالته مؤمنين، وكفى بذلك قبحًا، قال - تعالى -: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].

2- هو القول فقط، وهذا قول الكرّامية، وعلى قولهم فالمنافقون مؤمنون، والله قد نفى عنهم الإيمان بقوله - تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].

3- العمل وحده، وقد نُسب لبعض المعتزلة، وهو واضح البطلان.

4- مبني على كونه مركبًا، والقول والاعتقاد فقط، وترُد عليهم الآيات المتقدِّمة، وهذا مذهب الحنفية.

5- قول واعتقاد وعمل، وهذا مذهب السلف والخوارج والمعتزلة، والخلاف بيننا وبينهم، هل العمل شرط كمال، أم شرط صحة، أم لا؟"؛ اهـ.

 

ومع ذلك قال د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي - حفظه الله - في "منهج الأشاعرة في العقيدة" ص 15:

"الحافظ في "الفتح" قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح، وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلاً خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير"؛ اهـ.

 

قلت: وسيأتي ذكرها في الفصل القادم - إن شاء الله - والذي نذكر فيه مخالفات الحافظ - رحمه الله - لأهل السُّنَّة.

 

ومن المسائل التي خالفهم فيها أول واجب على العبيد، فالأشاعرة يقولون: إن الإنسان إذا بلغ سنَّ التكليف، وجب عليه النظر ثم الإيمان، واختلفوا في من مات قبل النظر أو في أثنائه، أيحكم له بالإسلام أم بالكفر؟!

وأنكر الأشاعِرةُ المعرفة الفطريَّة، ويقولون: إنَّ مَن آمن بالله بغير طريق النظر، فإنما هو مقلد، وانقَسَموا فيه بين مكفر ومكتفٍ بتعصيته.

 

قال عبدالقاهر البغدادي في "أصول الدين" ص 254:

"قال أصحابُنا: كلُّ مَنِ اعتقد أركان الدِّين تقليدًا من غير معرفة بأدلتها، ننظر فيه، فإن اعتقد مع ذلك جواز ورود شبهة عليها، وقال: لا آمن من أن يرد عليها من الشُّبه ما يفسدها، فهذا غير مؤمن بالله ولا مطيع له؛ بل هو كافر، وإن اعتقد الحقَّ ولم يعرِف دليلَه، واعتقد مع ذلك أنه ليس في الشُّبه ما يُفسد اعتقادَه، فهو الذي اختلف فيه أصحابنا: فمنهم من قال: هو مؤمن، وحكم الإسلام له لازم، وهو مطيع لله - تعالى - باعتقاده وسائر طاعاته، وإن كان عاصيًا بتركه النظر والاستدلال المؤدِّي إلى معرفة أدلة قواعد الدين.

 

وإن مات على ذلك، رجوْنا له الشفاعة وغفران معصيته برحمة الله، وإن عوقب على معصيته لم يكن عذابًا مؤبَّدًا، وصارت عاقبة أمره الجنة بحمد الله ومنِّه" اهـ.

 

قال الحافظ دافعًا كلامهم - كما في "فتح الباري" 13 / 361 -:

"وقد تمسَّك به - يعني: حديث بعثة معاذ إلى أهل اليمن - من قال: أول واجب المعرفة، كإمام الحرمين، واستدل بأنه لا يتأتَّى الإتيان بشيء من المأمورات على قصْد الامتثال، ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار، إلا بعد معرفة الآمر والناهي، واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال، وهو مقدمة الواجب، فيجب، فيكون أول واجب النظر، وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك، وتُعُقِّب بأن النظر ذو أجزاء يترتَّب بعضها على بعض، فيكون أول واجب جزءًا من النظر، وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني: أول واجب القصدُ إلى النظر، وجمع بعضهم بين هذه الأقوال بأن من قال: أول واجب المعرفة، أراد طلبًا وتكليفًا، ومَن قال: النظر أو القصد، أراد امتثالاً؛ لأنه يسلم أنه وسيلةٌ إلى تحصيل المعرفة، فيدلُّ ذلك على سبق وجوب المعرفة، وقد ذكرت في "كتاب الإيمان" مَن أعرض عن هذا من أصله، وتمسَّك بقوله - تعالى -: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، وحديث: ((كل مولودٍ يولَد على الفطرة))[22]؛ فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلةٌ بأصْل الفطرة، وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه))، وقد وافق أبو جعفر السمناني - وهو من رؤوس الأشاعرة - على هذا، وقال: إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة؛ وتفرع عليها أن الواجب على كل أحدٍ معرفةُ الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. انتهى" اهـ.

 

كما خالفهم في أصل قولهم في "القدر"، ألا وهي: "نظرية الكسب" التي تعرضنا لها في نقد أصول الأشاعرة التي خالفوا فيها أصل أهل السُّنَّة، والتي هي من طوامهم؛ حيث إنهم اختلفوا في تفسيرها وتضاربوا فيها - كما مرَّ بنا آنفًا.

 

قال الحافظ في "فتح الباري" 1 / 145:

"والقدر مصدر، تقول: قدَرتُ الشيء - بتخفيف الدال وفتحها - أقدره - بالكسر والفتح - قدْرًا وقدَرًا، إذا أحطتَ بمقداره، والمراد أن الله - تعالى - علِم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدَثٍ صادرٌ عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثتْ بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة" اهـ.



[1] ولا يعني ذلك أن الأشاعرة على الحق في كل شيء، أو أن ما لديهم من العقليات أقوى وأظهر، لا؛ بل أخطاؤهم أكثر من صوابهم؛ لأنهم لا يثبتون إلا بعض صفات الذات، ويتلاعبون بالنصوص فيما عداها - كما هو معروف.

[2] "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" 2 / 33.

[3] انتشر المذهب الأشعري في عهد وزارة نظام الملك، الذي كان أشعريَّ العقيدة، وصاحب الكلمة النافِذة في الإمبراطورية السلجوقية، وكذلك أصبحت العقيدة الأشعرية عقيدةً شبه رسمية تتمتَّع بحماية الدولة، وزاد في انتشارها وقوَّتها مدرسة بغداد النظامية، ومدرسة نيسابور النظامية، وكان يقوم عليها رواد المذهب الأشعري، وكانت المدرسة النظامية في بغداد أكبر جامعة إسلامية في العالم الإسلامي وقتها، كما تبنَّى المذهب وعمل على نشره المهدي بن تومرت مهدي الموحدين، ونور الدين محمود زنكي، والسلطان صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اعتماد جمهرة من العلماء عليه، وبخاصة فقهاء الشافعية والمالكية المتأخرين؛ ولذلك انتشر المذهب في العالم الإسلامي كله، وما زال المذهب الأشعري سائدًا في أكثر البلاد الإسلامية، وله جامعاته ومعاهده المتعددة.

[4] لأن الأشاعرة ينفون التصديق عمَّن ورد الشرع بتكفيره.

[5] التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمولاها - معاوية بن الحكم السلمي -: ((اعتقها؛ فإنها مؤمنة)) بعد إقرارها.

[6] انظر الخلاف بينهم في النطق بالشهادتين: أهو شطر أم شطران؟ في مبحث حكم ترك العمل ص 491 حتى نهاية الباب - يعني من كتاب "ظاهرة الإرجاء".

[7] اللوحات من 61 – 71 من الشرح (مخطوط).

[8] لوحة  61-62.

[9] لوحة 62 -63.

[10] لوحة 69.

[11] توفي سنة 487 هـ، وقد ندم آخر عمره على الاشتغال بعلم الكلام، وألَّف النظامية التي صرح فيها باعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، ولكنه لم يفرِّق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية في الصفات، فظنَّ أن مذهبهم هو الأول.

[12] أي: في الماهية المجردة، أما في الآحاد والأعيان فالجويني وغيره معترفون بأن إمام مذهبهم "الشافعي" أعلم منهم، وأن الناس أعلم من بعض.

[13] أبو العباس القلانسي أحد المتكلمين المنتسبين للأشعري؛ لكنه موافق لأهل السُّنَّة في الإيمان، انظر: "الإيمان" لابن تيمية، ص 114.

[14] وهذا أثر آخر من آثار الفلسفة اليونانية.

[15] ويمثِّلون لذلك بأوقات النوم والإغماء والغفلة؛ حيث يزول العرض بزعمهم.

[16] "الإرشاد"، ص 399 - 400.

[17] كما ذكر ابن الهمام في المسامرة، حين قال: "إن ضم الطاعة إلى التصديق هو قول الخوارج؛ ولذا كفَّروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية"؛ انظر"المسايرة شرح المسامرة"، ص 14، وتبعه الزبيدي.

[18] حتى الإذعان عندهم محلُّه القلب، ولا يعنون به الامتثال والعمل!

[19] ما نقلناه من كلام ابن فورك أوضح من هذا التفلسُف في الدلالة على مذهبهم.

[20] ص 18-19، ويلاحظ أن الجملة الأخيرة المتعلقة بتفاوت اليقين هي رد على من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط، ثم قال مع ذلك: إن اليقين يتفاوت، كالنووي في شرح مسلم (1 / 146 - 148)، وقد تنبه لذلك المحشي الآخر "قاسم"؛ انظر : ص 219.

[21] وكلام الحافظ - رحمه الله - وإن كان مخالفًا لقول الأشاعرة في مسألة الإيمان، إلا أن فيه مؤاخذاتٍ ومخالفات واضحات لمنهج أهل السُّنَّة في مبحث الإيمان، نأتي عليها برمتها عند ذكر مخالفات الحافظ في مبحث الإيمان من الفصل القادم - إن شاء الله.

[22] متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه.

أخرجه البخاري في صحيحه: (كتاب الجنائز / باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلَّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ / ح1358)، (كتاب الجنائز / باب: ما قيل في أولاد المشركين / ح1385).

ومسلم في صحيحه: (كتاب القدر / باب: معنى "كل مولود يولد على الفطرة"، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين / ح22، 23، 24، 25).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (1 / 6)
  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (2 / 6)
  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (4 / 6)
  • كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ / 1361م)
  • الرد على الذين يكفرون الأشاعرة
  • نشأة الأشاعرة وتأثرها بالفرق الأخرى: معلومات ووقفات

مختارات من الشبكة

  • البدور السافرة في نفي انتساب ابن حجر إلى الأشاعرة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أحوال الآخرة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في علوم الآخرة (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أمور الآخرة (نسخة ثانية)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة البدور السافرة في أمور الآخرة(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • ترجمة البدر السابع من البدور السبعة ( علي الكسائي ) وراوييه(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • وصف البدر وأحواله في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبدالرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • البدور المنيرة في ثلاثيات مسند أبي هريرة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • أرجوزة ضوء البدر في نظم أسماء الصحابة من أهل بدر رضي الله عنهم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأربعون النورانية (تلألؤ البدور بجمع أربعين حديثا عن النور)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب