• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أربع هي نجاة الإنسان في الدنيا والآخرة (خطبة)
    د. أحمد بن حمد البوعلي
  •  
    وحدة المسلمين (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد وأحكام من قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    نعمة الماء (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    تدبر خواتيم سورة البقرة
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (خطبة)
    حسان أحمد العماري
  •  
    تحريم الإهلال لغير الله تبارك وتعالى
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    مشاهد عجيبة حصلت لي!
    أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (2)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الدرس السابع عشر: آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    خطبة: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    سورة الكافرون.. مشاهد.. إيجاز وإعجاز (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
  •  
    من آداب المجالس (خطبة)
    الشيخ عبدالله بن محمد البصري
  •  
    خطر الميثاق
    السيد مراد سلامة
  •  
    أعظم فتنة: الدجال (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / فقه وأصوله
علامة باركود

حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (9)

يوسف قاسم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/6/2010 ميلادي - 11/7/1431 هجري

الزيارات: 20314

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (9)

الباب الثاني

في الحالات المشابهة والأحكام المكملة

 

الحالات المشابهة هي تلك الحالات التي تُشبِه الطلاق، فتأخذ أحكامه كلَّها أو بعضها، ولكنَّها تُذكَر بأسماء مختلفة.

فـ(الظِّهار): اصطِلاحٌ شرعي لحالة مُعيَّنة استُعمِل فيها لفظٌ خاصٌّ، وقد نزلت الآيات القرآنية الصريحة تبيِّن حكم الظهار.

 

و(الإيلاء): اصطِلاح شرعي أيضًا نصَّ القرآن الكريم على حكمه صراحةً، وكذلك الحال بالنسبة للخُلْع جاءَتْ أحكامه في الكتاب والسنَّة مُبيَّنة غايَة البَيان.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّنا بصَدَد الأحكام المكملة للطلاق والتطليق، نُشِير في إيجازٍ إلى الرجعة والعدَّة والمتاع.

 

وهكذا نقسم دراستنا في هذا الباب إلى الفصلَيْن الآتيين:

الفصل الأول: في الظِّهار والإيلاء والخلع.

الفصل الثاني: في الرجعة والعدَّة والمتاع.


الفصل الأول: في أحكام الظِّهار:

نتكلَّم عن هذه الحالات الثلاث بنفس الترتيب؛ فنذكر الظِّهار وأحكامَه في المبحث الأوَّل، ثم الإيلاء في المبحث الثاني، وأخيرًا نتكلم عن الخلع في المبحث الثالث.

 

المبحث الأول: في أحكام الظِّهار:

معنى الظِّهار:

(الظِّهار): هو لفظة كان يقولها الرجل في الجاهليَّة فتصير بها زوجته محرَّمة عليه.

 

وبَيان ذلك: أنَّ الزوج كان إذا غَضِبَ من زوجته، وقال لها: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي، فإنَّه يُعتَبَر قد ظاهَر منها، وتصبح هي محرَّمة عليه، ومن هنا جاءت كلمة الظِّهار[1].

وقد عابَ الله سبحانه عليهم هذا اللفظ، ووصَفَه بأنَّه مُنكَر من القول وزور.

 

الظِّهار والطلاق:

ووجه الشبه بين الظِّهار والطلاق: أنَّ كُلاًّ منهما يرفَع حلَّ الزوجة لزوجها، غير أنَّ الظِّهار لا يُعتَبر طلاقًا، ولا يُحتَسَب من عدد الطلقات، وإنما هو يَمِين يترتَّب عليها تحريم الزوجة فقط، وهذا التحريم ليس دائمًا؛ ولكنَّه يرتفع إذا كفَّر الزوج عن يمينه.

 

النصوص الواردة فيه:

يقول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 2 - 4].

 

هذا بيانٌ من الله عزَّ وجلَّ في غايةٍ من الوضوح والجَلاء؛ فالظِّهار منكَر وزور من القول، لا ينبَغِي للمؤمن أن يتلفَّظ به، ومع ذلك فمَن خالَف ونطَق به حرمت عليه زوجته؛ لأنَّه دعا بدعوى الجاهليَّة، فاستحقَّ نفس الجزاء، ولكن رحمة الله الواسعة بعِباده المؤمنين فتَحَتْ أمامَهم بابَ الأمل والرَّجاء في التوبة النَّصُوح والعودة إلى الطريق المستقيم.

 

ولذلك فمَن ندم على تلفُّظه ذاك، وأراد أن تَعُود زوجته إليه حلالاً بعد أن حرَّمها على نفسه بذلك القول، فلا بُدَّ من أن يُكَفِّر عن هذا الإثم الذي ارتكَبَه بأنْ يفعل أحدَ الأمور الثلاثة المنصوص عليها.

 

كفَّارة الظِّهار:

حدَّد النصُّ القرآني المُبارَك كفَّارة الظِّهار بأحد أمور ثلاثة مُرتَّبة ترتيبًا أولويًّا؛ بمعنى: أنَّ الأمر الأوَّل وحدَه هو الواجب دون غيره متى كان ذلك مُمكِنًا، فإن عجَز عن الأوَّل وجَب الالتِجاء إلى الثاني، ولا يجوز مُطلَقًا الالتِجاء إلى الأمر الثالث إلا عند العجز عن الثاني.

 

الأمر الأول (عتق رقبة):

يُقصَد من (عتق الرقبة) تحريرها من الرقِّ، وقد فتَح الله هذا الباب على مِصراعَيْه حتى يَقضِي على تلك المشاكل قضاء خاليًا من أيِّ تَعقِيد.

 

ونقول بلا فخرٍ: إنَّ الإسلام هو أوَّل مَن فتَح باب التحرير أمامَ العَبِيد، فله الفضلُ الأعظم في هذا المجال بدون مُنازِع على الإطلاق.

 

وقد جعَل الله تعالى عِتْقَ الرقبة كفَّارةً للظِّهار أمرًا أوليًّا واجبًا متى كان المُظاهِر قادِرًا على ذلك؛ بأن كان مالِكًا لرقيقٍ حيث يجب عليه أن يَعتِقَه حتى يرتَفِع التحريم المُشار إليه، وإذا لَم يكن مالِكًا لرَقِيقٍ ولكن في إمكانه أن يشتري رقبةً فيُعتِقها، وجَب عليه ذلك.

 

وفي هاتين الحالتين لا ينفعه الأمران الثاني أو الثالث.

 

أمَّا إذا لَم يجد رقبة؛ لا ملكًا ولا شراء - كما هو الحال في العصر الحديث - فعليه أن يلجأ إلى الوسيلة التالية التي حدَّدها القرآن الكريم.

 

الأمر الثاني (صيام شهرَيْن متتابعَيْن):

نصَّ الله تعالى على ذلك بقوله سبحانه: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ [المجادلة: 4].

 

ولله الحكمةُ البالغة؛ حيث قال: ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ﴾ إشارة إلى أنَّ أسلوب القرآن في تَحرِير الرَّقِيق هو المنهج الأمثل الذي سيَقضِي على الرِّقِّ تِلقائيًّا في المستقبل، وحينئذٍ فلا بُدَّ من تَنفِيذ حكم الله - جلَّ شأنه - في الظِّهار، وذلك بصيام شهرين مُتتابعَيْن، فلا يرتفع التحريم إلا بذلك متى كان الإنسان قادِرًا على هذا الصيام، فإن عجَز عن الصِّيام كانتْ أمامه وسيلة أخرى.

 

الأمر الثالث (إطعام ستين مسكينًا):

وهذا الأمر الأخير لا يُجدِي إلا عندَ العجز عن الأمرَيْن الأول والثاني - كما أكَّدنا هذا أكثر من مرَّة - فإذا لَم يجد رقبةً، ولم يستَطِع الصوم شهرين مُتواليَيْن، فإنَّه يُطعِم ستين مسكينًا، وذلك بأن يُقدِّم لهم وجبةً كاملة مُشبِعة (غداء أو عشاء) من أوسط ما يُطعِم منه أهله وأولاده، وقد أشار الله - سبحانه وتعالى - إلى حُكم مُماثِل في كفَّارة أخرى إلى قيمة الطعام الواجب تقديمه؛ فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾ [المائدة: 89]، فهو توجيهٌ قرآني حكيم يجب مُراعَاته في كفَّارة الظِّهار أيضًا.

 

وهكذا ألغى الله عادات الجاهليَّة بما فيها من ظلمٍ فادح على المرأة، ومع ذلك فقد ألزَم الرجل بعبارته وحاسَبَه عليها؛ عِقابًا له على تلفُّظه بالمنكَر والزور من القول، فأنزَل الرخصة رحمةً بعباده.

 

فقد كان أهل الجاهليَّة يحرِّمون أزواجهم، ويجعلونهن كظهْر الأم، فلا يَقرَبوهنَّ بعد ذلك أبدًا، وفي ذلك من المفْسدة ما لا يخفى، فلا هي زوجةٌ لها حقوقها، ولا هي أَيِّمٌ يكون أمرها بيدها، فلمَّا وقعت تلك الواقعة المُشار إليها في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم واستُفتِي فيها، أنزل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾ إلى قوله: ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، والسرُّ فيه: أنَّ الله تعالى لم يجعَل قولهم ذلك هدرًا بالكليَّة؛ لأنَّه أمرٌ ألزَمَه على نفسه، وأكَّد فيه القول بمنزلة سائر الأيمان، ولم يجعله مؤبَّدًا كما كان في الجاهلية؛ دفعًا للحَرَج الذي كان عندَهم، وجعَلَه مؤقتًا إلى كفارة؛ لأنَّ الكفارة شُرعت دافعة للآثام، ناهية لما يجده المكلَّف في صدره، أمَّا كون هذا القول زورًا فلأنَّ الزوجة ليست بأمٍّ حقيقةً، ولا بينهما مشابهة أو مجاورة.

 

وأمَّا كونه مُنْكَرًا فلأنه ظلم وجور وتضييق على مَن أُمِر بالإحسان إليه، وإنما جُعِلت الكفَّارة عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكينًا، أو صيام شهرين مُتتابعَيْن؛ لأنَّ مقاصد الكفَّارة أن يكون بين عيني المكلَّف ما يكبَحه عن الاقْتِحام في الفعل؛ خشيَة أنْ يلزمه ذلك، ولا يكون هذا إلا بكونها طاعة شاقَّة تغلب على النفس، إمَّا مِنْ جهة كونها بذل مال يشحُّ به، أو من جهة مُقاساة جوع وعطش مفرطين[2].

 

المبحث الثاني: في أحكام الإيلاء:

معنى الإيلاء:

(الإيلاء) في لغة العرب هو الحلف[3]، وهو في اصطِلاح الفُقَهاء: "أن يحلف الرجل على أن يبتَعِد عن زوجته فلا يقربها"[4].

 

النص الوارد في الإيلاء:

وقد نصَّ الله - جلَّ شأنُه - على هذا النوع من الحلف بقوله سبحانه: ﴿ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 226 - 227].

 

وقد نزلت هذه الآية الكريمة لإبطال ما كان عليه أهلُ الجاهلية من إطالة مُدَّة الإيلاء، فقد كان الرجل يحلف على أن يبتَعِد عن امرأته سنة أو سنتين، فأبطَلَ الله ذلك[5]؛ لما فيه من ظلمٍ للمرأة وإعنات لها[6].

 

غير أنَّه - سبحانه وتعالى - نظَر إلى النفس البشرية، وما قد يعتَرِيها من ضجَر أو ضِيق، فهو الله الذي خلَقَها وسوَّاها وهو أعلم بها، فما قد يصدر من الرجل وهو في حالة نفسيَّة سيِّئة لا يعدو أن يكون نتيجة طبيعيَّة لانفعالاته وأحاسيسه؛ ولذلك فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - لم يحرِّم هذا الإيلاء، ولكنَّه مع ذلك لم يترك للرجل مطلق التصرُّف في مثل هذه الظروف؛ فقد يكون ظالمًا يريد إيذاء زوجته والإضرار بها نفسيًّا وعصبيًّا، فوضَع حدًّا أقصى للإيلاء وهو أربعة أشهر، فإنْ فاء قبل تَمام هذه الشُّهور الأربعة فلا يعتبر هذا اليمين طلاقًا بإجماع الفقهاء؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 226]، والمراد بالفيء هنا: الرُّجوع إلى ما كان عليه من قبل؛ حيث تَعُود الحياة الزوجية بينه وبين زوجته إلى سيرتها الأولى؛ فيقوم بواجباته الزوجية من جميع الوجوه.

 

ولكن عليه في هذه الحالة كفارة يمين[7]؛ لأنه حلف ثم رجَع عمَّا حلف عليه.

 

أمَّا إنْ مضت المدَّة المحدَّدة، فقال جمهور الفُقَهاء: لا يُعتَبر ذلك طلاقًا أيضًا؛ لأنَّ الله تعالى خيَّر المُؤْلِين في الآية بين الرُّجوع وبين الطلاق، فلو كان الطلاق يقع بمُضِيِّ المدَّة لما كان للتخيير فائدة، وهذا ما فَهِمَه الصحابة رضِي الله عنْهم فقد رُوِي عن ابن عمر رضِي الله عنْهما أنَّه قال: "إذا مضت أربعة أشهر وقف المولي حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق"؛ أخرجه البخاري[8]، فهذه الرواية كالتفسير للآية الكريمة[9].

 

وقد أخرج الدارقطني من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: "سألت اثنى عشر صحابيًّا عن الرجل يُولِي، فقالوا: ليس عليه شيءٌ حتى تَمضِي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلَّق"[10].

 

والمراد بوقفه: أنَّ القاضي يأمره بأحد هذين الأمرين، فإن عاد إلى زوجته فبها ونعمت، وإلا أمَرَه أنْ يطلِّق[11]؛ رفعًا للضرر عن المرأة.

 

وهذا ما يدلُّ عليه ظاهرُ قولِه تعالى: ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 227]، يدلُّ على أنَّ الطلاق يقع بقولٍ يتعلَّق به السمع، ولو كان الطلاق يقع بِمُضِيِّ المدَّة لكَفَى قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾، وذلك لما هو معروف من مُلاءَمة القرآن العظيم ودلالة كلِّ كلمة؛ بل كل حرف على معنًى يُرِيده الله - عزَّ وجلَّ - وقال الجمهور أيضًا: إنَّ الطلاق يُعتَبَر طلاقًا رجعيًّا[12].

 

وذهب الحنفيَّة إلى أنَّ مُضِيَّ المدَّة يُعتَبَر طلاقًا بذاته؛ أي: إنَّ المرأة تعتبر طالقًا بمجرَّد انقضاء أربعة أشهر، وهو طلاق بائن لا يحتاج في وقوعه إلى إجراء آخر، فهو لا يحتاج إلى تلفُّظ من الزوج، فابتِعاده عنها تلك الفترة دليلٌ على أنه لا يريدها، كما أنَّ هذا الطَّلاق لا يحتاج إلى حكمٍ من القاضي، بل إنَّه يقع تِلقائيًّا[13]؛ لأنَّه رفعٌ للضرر عن المرأة، وذلك بتَخلِيصها من الظُّلم الواقِع عليها، وهو طلاق بائن؛ لأنَّه لو كان رجعيًّا لَما تحقَّقت الحكمةُ منه؛ حيثُ يستَطِيع الزوجُ إعادتها إلى عصْمته، وبالتالي يُمكِن له أن يُؤذِيها مرَّة أخرى.

 

ولا شكَّ لدَيْنا في أنَّ الراجح هو المذهب الأوَّل، فهو مذهب الجَماهِير من عُلَماء الصحابة والتابعين والأئمَّة المجتَهِدين من بعدهم، وهو المذهب الذي تُؤيِّده نصوص الكتاب الكريم[14].

 

أمَّا المذهب الثاني فلا دليل عليه لا من كتاب ولا من سُنَّة ولا من قول سلف، فضلاً عن خلوِّه من تحقيق أيِّ مصلحةٍ لأيِّ فردٍ من أفراد الأسرة؛ بل إنَّ في الأخْذ به ضررًا بالغًا لكلِّ فردٍ من أفراد الأسرة.

 

فالزوج قد سُلِب حقه في الطلاق الثابت له شرْعًا، وهو قد يكون - وهذا هو الغالب فعلاً - مُرِيدًا للإصلاح بهذه الوسيلة التي هي الهجر في المَضاجِع، فكيف يُقال بوقوع الطَّلاق تلقائيًّا بمجرَّد انتِهاء المدَّة؟ كما أنَّ الأَخْذَ بهذا الرأي إلحاقُ أعظمِ الضرر بالمرأة ذاتها، فهي قد تكون صابرة على موقف زوجها منها؛ مراعاةً لمصلحتها ومصلحة بيتها وأولادها، فكيف يُقال: إنَّ مثل هذه المرأة الصابرة تجد نفسَها تلقائيًّا مطلَّقة طلاقًا بائِنًا لا رجعة فيه؟

 

وأمَّا عن مصلحة الأولاد فحدِّث ولا حرَج؛ إذ كيف يُلقَى بهم في خِضَمِّ الحياة، فيَجِدُوا أنفسهم بلا أمٍّ رغمًا عن إرادة الأب والأم؟

 

المبحث الثالث: في أحكام الخلع:

معنى (الخلع): الخلع هو فِراق الرجل لزوجته نظيرَ مالٍ تدفَعه المرأة؛ لتفتَدِي من عصمته[15].

 

وسُمِّي خلعًا؛ لأنها تخلَع نفسَها من عصمته حيث لا تُطِيق الحياة معه، وهو لا يريد أن يطلقها طلاقًا معتادًا.

 

الحكمة من تشريع الخلع:

وقد شرَع الله تعالى هذا النوع من التفريق بين الزوجَيْن، باعتِباره أحد الأبواب التي يفتَحها الله - عزَّ وجلَّ - ليفرج بها كرب امرأة تبغض زوجها بغضًا شديدًا، ولا تستطيع منه فِكاكًا إلا بأن تدفع له مالاً في نَظِير طلاقها؛ ذلك أنَّ العصمة بيد الرجل، ولسببٍ أو لآخَر فإنَّ زوجته لا تُرِيد مُواصَلة الحياة معه، ولا تستَطِيع ذلك، وفضلاً عن هذا، فإنها لا تُرِيد أن ترفَع أمرَها إلى القضاء؛ فقد لا تستَطِيع إثبات الضرر، أو هي لا ترغَب في إشاعة أمرِها على الكافَّة، ولعلَّ حضور أهل الخير يَكفِي للتوفيق بين وجهات النظر المُتعارِضة، فإذا ما قَبِلَ الزوج ما تُقَدِّمه المرأة من مال أو تَنازُل عن حقوق ماليَّة، فإنَّ هذا يُعتَبر سبيلاً لحلِّ مشكلة تلك المرأة التي تُحاوِل أن تتخلَّص من زوجٍ لا تُطِيق الحياة معه.

 

النصوص الواردة في الخُلع:

والأصل في ذلك قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].

 

فالله - جل شأنه - حرَّم على الرجال أن يأخذوا شيئًا أعطوه لنسائهم قبل الطلاق.

 

ولكنَّه - جلَّت حكمته - استَثنَى حالة واحدة، هي ما إذا وجدت المرأة في نفسها أنها هي الكارِهة للرجل، "ولا تُطِيق عشرته لسببٍ يخصُّ مشاعرها الشخصيَّة، وتحسُّ أن كراهيَّتها له أو نفورها منه سيَقُودها إلى الخروج عن حدود الله؛ من حسن العشرة أو العفَّة أو الأدب، فهنا يجوز أن تطلُب الطلاق منه، وأن تُعوِّضه عن تحطيم عشِّه بلا سبب مُتعمَّد منه بردِّ الصداق الذي أمهَرَها إيَّاه، أو بنَفَقاته عليها كلها أو بعضها؛ لتعصم نفسها من معصية الله، وتعدِّي حدوده، وظلم نفسها وغيرها في هذه الحال، وهكذا يُراعِي القرآن جميعَ الحالات الواقعيَّة التي تَعرِض للناس، ويراعي مشاعر القلوب الجادَّة التي لا حيلةَ للإنسان فيها، ولا يقسر الزوجة على حياة تَنفِر منها، وفي الوقت نفسِه لا يضيع على الرجل ما أنفق بلا ذنبٍ جناه"[16].

 

وقد روى الإمام البخاري وغيره من أئمَّة الحديث عن ابن عباس رضِي الله عنْهما أنَّ امرأة ثابت بن قيسٍ أتت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أتَرُدِّين عليه حديقتَه؟))، فقالت: نعم، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة))[17].

 

وتتلخَّص أحكام الخلع التي تكلَّم عنها عُلَماء الشريعة في موضوعَيْن:

الأول: المال الذي يجوز للرجل أن يأخذه من المرأة.

الثاني: وصف الخلع؛ هل هو طلاقٌ أو هو فسخ؟

 

الموضوع الأول: المال الذي يجوز أخذه:

اختَلَف الفُقَهاء في هذا الموضوع إلى مذهبين:

المذهب الأول: مذهب جمهور الفقهاء، وهو أنَّه يجوز للرجل أن يأخُذ من المرأة ما يتَّفِقان عليه، سواء قلَّ عن الصداق أم كثر، فمتى تَراضَيَا على شيءٍ صحَّ الخلع بِناءً على ذلك، رُوِي هذا عن عثمان بن عفَّان، وعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، وهو قول أكثر أهل العلم[18].

 

وحجَّة ذلك قول الله تعالى: ﴿ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: 229]، ووجه الاستِدلال بهذا النصِّ المُبارَك: أنَّه جاء مُطلَقًا من غير تحديد، فطالما أنهما قد اتَّفقَا على شيءٍ تَدفَعه لتفتَدِي به من عصمته، فلا جُناح عليهما في هذا الإنفاق، ويقع الخلع بِناءً عليه... ومن الحجَّة أيضًا أنَّه قولُ جمعٍ من الصحابة؛ فقد رُوِي أن الربيع بنت معوذ قالت: اختلعتُ من زوجي بما دون عقاص رأسي[19]، فأجاز ذلك عثمان بن عفَّان رضِي الله عنْه ومثل هذا يشتَهِر فلم يُنكَر، فيكون إجماعًا[20].

 

المذهب الثاني: أنَّه لا يجوز للرجل أن يأخذ من المرأة أكثر من الصداق الذي دفَعَه لها؛ رُوِي هذا عن عطاء، وطاوس، والزهري، وعمرو بن شعيب، واحتجُّوا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لامرأة ثابت بن قيس: ((أتَرُدِّين عليه حديقته؟))، قالت: نعم، فأمَرَه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛ رواه ابن ماجه، ولأنَّه بدلٌ في مقابلة فَسْخٍ فلم يَزِدْ على قدره في ابتِداء العقد[21].

 

ومع ذلك فالراجح هو المذهب الأوَّل على ما يبدو لنا - والله أعلم - ذلك أن النصَّ القرآني قاطِع في إفادته شمول الكثير والقليل[22].

 

وأمَّا الحديث[23] فيُستَفاد منه بيان الأفضل، فمن الأفضل ألاَّ يأخذ الرجل منها أكثر ممَّا أعطاها، وهذا ما يقول به فريقٌ من العلماء القائلين بالمذهب الأوَّل، فهم يقولون: إنَّه يجوز لهما أن يتَّفِقَا على مال أيًّا كان قليلاً أو كثيرًا، ولكن من الأفضل عدم الزيادة على الصَّداق الذي دفَعَه الرجل لها من قبلُ[24].

 

الموضوع الثاني: آراء العلماء في تكييف الخُلْع:

اختَلَف عُلَماء الشريعة في تكييف الخُلع[25]؛ أي: ذكر وصفه هل هو فسخ أم هو طلاق؟

 

فذهَب جمهور الفُقَهاء إلى أنَّ الخلع طلاقٌ بائن، وحجَّتهم في ذلك أنَّه لفظٌ لا يَملِكُه إلا الزوج، فكان طلاقًا، ولو كان فسخًا لَما جاز على غير الصَّداق[26].

 

والخلع يجوز على أيِّ مال، قليلاً كان أو كثيرًا، سواء كان من الصداق أو من غيره، فدلَّ ذلك على أنَّه طلاق لا فسخ، ومن أقوى الأدلَّة على أنَّه طلاق قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث المشار إليه: ((اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقة))[27].

 

وذهَب ابن عباس وآخَرون - وهو مشهور مذهب أحمد - أنَّ الخلع فسخ، وليس بطلاق، ويستدلُّ أصحاب هذا الرأي بما جاء في بعض الرِّوايات من أن العِدَّة في الخلع تختَلِف عن العدَّة في الطلاق، ولو كان الخلع طلاقًا لما اختلفت العدَّة فيه[28].

 

ثم إنَّ القائلين بأنَّه طلاقٌ يقولون: إنَّه طلاق بائن؛ لأنه لو كان للزوج الرجعة لم يكن للافتِداء فائدة[29]؛ بمعنى: أنَّه لو كان طلاقًا رجعيًّا لضاعَت الحكمة من تشريع الخلع، وهو تخليص المرأة من زَواجٍ لا ترغبه، ومن حياةٍ زوجيَّة لا تُطِيقها.

• • •


الفصل الثاني: في الرجعة والعدة والمتاع

 

هذه الأمور الثلاثة من الأحكام المكملة للطلاق أو التطليق أو التفريق بين الزوجين على العموم.

 

وفيما يَلِي نتكلَّم عن هذه الأمور الثلاثة في مباحث متوالية بنفس الترتيب المذكور، مع مُحاوَلة الإيجاز قدر الإمكان.

 

المبحث الأول: في الرجعة:

أشرنا فيما سبَق إلى أنَّ الطّلاق الرجعيَّ هو الذي يستَطِيع الزوجُ بعدَه أن يُراجِع زوجته قبل أن تنقَضِي عدَّتها، فيُعِيدها إلى عصمته بإرادته وحدَه، دون حاجة إلى عقدٍ جديد، أو إلى أيِّ إجراءٍ آخَر.

 

وقد عرَّف الفقهاء الرجعة بأنها: استِدامة الزوجيَّة القائمة بالقول أو بالفعل أثناء العدَّة[30].

 

والأصل في الرجعة قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ﴾ [البقرة: 228]، وقول الله تعالى: ﴿ ... إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ [الطلاق: 1].

 

فالنصُّ الأول يُرشِد إلى أنَّ الأزواج هم أصحاب الحقِّ في إعادة زوجاتهم إلى عصمتهم إن أرادوا الإصلاح، وخاصَّة إذا تبيَّن أن المطلقة حامل، فالتوجيه الإلهي الكريم يُرشِد إلى الإصلاح مُراعاةً لمصلحة ذلك الطفل القادم.

 

وأمَّا النصُّ الثاني، فبيَّن الطريقة المُثلَى للطلاق - كما سبَق أن بينَّا - ثم إنَّ هذا المنهج بذاته يتضمَّن في طيَّاته الخطوات العمليَّة نحو الإصلاح والعودة إلى الحياة الزوجية مرَّة أخرى، فما دامت المطلَّقة لا تخرج من بيت مطلقها، فإن ذلك أدعى إلى الإصلاح والمراجعة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ [الطلاق: 1]، فلعل الزوج يُراجِع نفسه ويَتَروَّى في اتِّخاذ قراره النهائي، فيعود إليه صوابُه ويُقرِّر استِيفاء العلاقة الزوجية بدلاً من فصمها، وذلك من حقه تمامًا دون تدخُّل من أحد، ودون حاجة إلى رِضاء المرأة، ودون حاجة إلى عقدٍ أو صداق أو أيِّ أمر آخَر، اللهم إلا أن يكون الطلاق رجعيًّا على النحو السابق بيانه.

 

وهذا الحق وإن كان ثباتًا للزوج فهو أيضًا من الحقوق الثابتة لله تعالى مُراعاةً للمصلحة العامَّة والمصلحة الخاصَّة، لا سيَّما مصلحة الأولاد والأسرة في مجموعها؛ وعلى ذلك فلا يستَطِيع الزوج أن يُسقِط هذا الحق، وإن أسقَطَه فلا يسقط؛ لما هو مقرَّر من أنَّ حقوق الله تعالى غير قابلة للإسقاط أو التنازُل.

 

كيفيَّة الرجعة:

تتمُّ الرجعة بكلِّ ما يُستَفاد منه استِدامة الحياة الزوجيَّة؛ فلو صدرت منه عبارة تُفِيد هذا المعنى، فإنَّ الرجعة تتمُّ بهذه العبارة، وتصبح الزوجيَّة بينهما حقيقية بكلِّ معانيها، بعد أن كانت مُهدَّدة بالانفِصال.

 

وكما تتمُّ الرجعة باللفظ تتمُّ بأيِّ موقف يُستَفاد منه استِدامة عشرتها، فلو لمسها بشهوة أو قبَّلها، لكان ذلك دليلاً على مراجعته لزوجته، واستدامتها في عصمته.

 

وكلُّ ما يُشتَرَط في الرجعة أن تكون في فترة العِدَّة؛ أي: قبل انتهاء مُدَّتها[31]، على النحو الذي سنفصِّله بعد قليل.

 

ومن الأحكام المرتبطة بهذا الموضوع أنَّ المرأة تجب لها نفقتها أثناء فترة العِدَّة؛ لأن المطلَّقة رجعيًّا تُعتَبَر زوجة حكمًا؛ إذ الطلاق الرجعي لا يُنهِي العصمة - كما بينَّا فيما تقدَّم.

 

وغنيٌّ عن البيان أنَّ الرجعة - كما يدلُّ عليها اسمها - لا تكون إلا في الطلاق الرجعي.

 

على أنَّه إذا كانت الرجعة باللفظ، وجَب أن يكون هذا اللفظ دالاًّ دلالةً صريحة على استِبقاء الزوجيَّة واستدامتها في الحال، فيتعيَّن لذلك أن تكون الصيغة مُنجَزة غير معلَّقة على شرطٍ، ولا مُضافَة إلى أجل.

 

وفي كلِّ الأحوال يُشتَرَط في الزوج أن يكون أهلاً لِمُباشَرة عقد الزواج، فإذا كان عديم الأهليَّة فلا تصحُّ منه الرجعة.

 

المبحث الثاني: في العدَّة:

(العدَّة) في اللغة: أصلها من العدِّ والحساب؛ أي: إنَّ المرأة تعدُّ الأيام وتحسبها[32].

وهي في الشرع: اسمٌ للفترة التي تنتَظِرها المرأة بعد فراقها من زوجها؛ بحيث لا يجوز لها التزوُّج إلا بعد انتهاء هذه الفترة[33].

 

وقد شرع الله - سبحانه وتعالى - الانتظار هذه الفترة لِحِكَم تشريعيَّة جليلة منها:

(أ) التأكُّد من براءة الرَّحِم، وذلك أمرٌ في غاية الأهميَّة؛ إذ لا بُدَّ من التأكُّد من ذلك، حتى لا تختَلِط الأنساب، فإن ظهر أنَّ المرأة حامل، وجَب الانتظار حتى تضع حملها؛ أي: إنَّ عِدَّتها لا تنتَهِي إلا بوضع الحمل - كما سيأتي تفصيله.

 

وهنا علينا أن نلحظ التوجيه الإلهي الكريم للنساء وللرجال على سواء؛ يقول الله سبحانه: ﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ﴾ [البقرة: 228].

 

(ب) تهدئة الخواطر، فإن كان الطلاق رجعيًّا واقتَنَع الزوج بتهوُّره وتسرُّعه كانت أمامه الفرصة واسعة لإعادة زوجته إلى عصمته.

 

(جـ) من حكمة الانتِظار أيضًا إظهارُ التأسُّف على نعمة الزواج التي انفصَمَتْ عُراها بالطلاق البائن.

 

(د) حقُّ الزوج المتوفَّى في أن تُظهِر زوجته الحداد على فراقه بعد وفاته؛ احتِرامًا للعشرة التي كانت بينهما، ومراعاة لشعور أهله وذَوِيه.

 

أسباب وجوب العِدَّة:

أوجب الله العدَّة لأحد السببين الآتيين:

السبب الأول: التفريق بين الزوجَيْن بعد الدُّخول الحقيقي أو الحكمي بالطَّلاق أو الفسخ، فإذا أبرم عقد الزواج ثُم دخل الزوج بزوجته، فإن طلقها بعد ذلك وجبت العدَّة، كذلك تجب العِدَّة ولو لم يحصل دخول، ولكن تمَّت الخلوة الصحيحة بين الزوجين، على النحو السابق تفصيله في موضعه.

 

وهذا الحكم في الظُّروف العادية؛ أي: بالنسبة لعقد الزواج الصحيح، أمَّا عقد الزواج الباطل فقد سبَق أن قلنا: إنَّه لا أثَر له مُطلقًا، فإن حصل دخولٌ في هذا الزواج الباطل، وجب إقامة حدِّ الزنا على الزوجَيْن، ولكن لا تجب العِدَّة، ولا يثبت به نسب؛ لأنَّ الزواج الباطل لا ينتج عنه أي أثر شرعي.

 

أمَّا في حالة العقد الفاسد، فإنَّه وإن كان حرامًا ويجب التفريق بين الزوجَيْن إذا ما حصَل دخولٌ بِناءً عليه، إلاَّ أنَّ شبهة العقد هنا تَدرَأ الحدَّ إذا كانا غير عالِمَيْن بالفساد، كما أنَّ هذا الدخول يُثبِت النسب ويُوجِب العِدَّة.

 

السبب الثاني: وفاة الزوج:

السبب الثاني المُوجِب للعِدَّة هو وفاة الزوج، وهذا السبب لا صلة له بالدخول؛ أي: إنَّه يجب على المرأة المتوفَّى عنها زوجها أن تعتدَّ عدَّة الوفاة، سواء دخل بها زوجها أو لم يدخل؛ ذلك أنها زوجةٌ لرجل تُوُفِّي، فوجبت عليها عدَّة الوفاة، سواء مات قبل أن يدخل بها أو بعد ذلك، فالعدَّة واجبة في الحالين.

 

حالات وجوب العدَّة:

للعدَّة حالات أربع، فقد تكون بسبب الطَّلاق، أو بسبب الوَفاة، وفي كلٍّ من هاتين الحالتين قد تكون المرأة حامِلاً أو غير حامل.

 

الحالة الأولى: إذا كانت المرأة معتدَّة من طلاق أو فسخ وهي حامل، فالمرأة في هذه الحالة تعتدُّ بوضع حملها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 4].

 

وهذه الحالة وأمثالها لا مجال فيها لخلاف.

 

الحالة الثانية: إذا كانت المرأة معتدَّة من طلاق أو فسخ وهي غير حامل، وعدَّة المرأة في هذه الحالة تختلف باختلاف حالتها في الحيضة الشهريَّة الذي يعتَرِي بنات حواء، وذلك على النحو التالي:

(أ) المرأة التي ترى حيضتها، عدَّتُها ثلاثة قروء؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228].

 

وقد فسَّرَها الجمهور على أنها ترى حيضتها ثلاث مرَّات، وقال الحنفية: أن تطهر من هذه الحيضة ثلاث مرات.

 

(ب) إذا كانت المرأة لَم ترَ الدم لأنها صغيرة، أو كانت قد بلغت سنَّ اليأس فانقطع عنها، فإنها تعتدُّ بثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ... ﴾ [الطلاق: 4]، أي: فعدَّتهن ثلاثة أشهر كذلك.

 

الحالة الثالثة: إذا كانت المرأة مُعتَدَّة من وَفاة وهي غير حامل، فعدَّتها أربعة أشهر وعشرة أيام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234].

 

الحالة الرابع: إذا كانت المرأة مُعتدَّة من وفاة وهي حامل، فقد اختَلَف الفقهاء في كيفيَّة إتمامها للعدَّة؛ هل تنتَهِي عدتها بوضع الحمل؟ أم لا بُدَّ أن يُؤخَذ في الاعتِبار أنها مُتوفَّى عنها زوجها، فتراعي الأربعة أشهر وعشرة أيام كذلك؟

 

ذهَب فريقٌ من الصحابة وأئمَّة الفقه إلى أنَّ مثلَ هذه المرأة تعتدُّ بأبعد الأجلَيْن: إمَّا وضْع الحمل، وإمَّا أربعة أشهر وعشرة أيام، أيهما أطول، وهذا مذْهب منسوبٌ إلى بعض الصحابة؛ منهم: عبدالله عباس - رضِي الله عنْهم.

 

وذهَب فريقٌ آخَر إلى أنَّ عدَّتها وضع حملها، وهو منسوبٌ إلى عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنْه.

 

وفي الأخْذ بالمذهب الأول الاحتِياط الكامل في تطبيق نصوص القرآن الكريم.

 

لكن المذهب الثاني مُؤيَّد بنصوص كثيرة في السنَّة وردت من طرق صحيحة، تُؤَكِّد أنَّ عدَّة الحامِل بوَضْعِ حملها، سواء كانت مطلقة أو مُتوفَّى عنها زوجها؛ من ذلك ما رُوِي عن أم سلمة أم المؤمنين - رضِي الله عنْها - أنَّ سبيعة الأسلميَّة وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطَبَها رجلٌ يُقال له: أبو السنابل، فلمَّا نفست[34] جاءت إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فأذن لها[35].

 

الوقت الذي تبدأ فيه العدَّة:

وغنيٌّ عن البَيان أنَّ العِدَّة في كلِّ هذه الحالات المتقدِّمة[36] تبدأ من وقت الفرقة بالطلاق أو الوفاة، ولو لم تعلَم المرأة بالطلاق أو الوفاة[37].

 

غير أنَّ القانون رقم 44 لسنة 1979م جاء بحكم جديدٍ؛ حيث أضاف إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920 المادة (5) مكررًا، والتي تقول: يجب على المُطلِّق أن يُبادِر إلى تَوثِيق إشهاد الطلاق لدى الموثق المختص، وترتُّب آثار الطلاق بالنسبة للزوجة من تاريخ علْمِها به.

 

وقد علَّقت المذكرة التفسيرية على هذا النص فقالت: "ولما كان قد ظهَر من استِقصاء حالات الطلاق أنَّ بعض الأزواج قد لجؤوا إلى إيقاع الطلاق في غيبة زوجاتهم، وأخفَوْا عنهن خبره، وفي هذا إضرارٌ بالمطلَّقات، وتعليق لهن بدون مبرِّر، بل إنَّ بعض الأزواج كان يوثق الطلاق رسميًّا لدى الموثق، ثم يحتَفِظ بورقتي الطلاق لديه مُتظاهِرًا للزوجة باستدامتها، حتى إذا ما وقَع خلافٌ بينهما أبرز سند الطلاق شاهِرًا إيَّاه في وجهها، مُحاوِلاً به إسقاط حقوقها.

 

وليس هذا بدعًا جديدًا؛ فقد سبق فقهاء المذهب الحنفي أن واجهوا حالة إخفاء الطلاق بتأخير بدء العِدَّة إلى وقت الإقرار من الزوج بحدوث الطلاق، فقالوا: لو كتَم طلاقها لم تُنقَض العِدَّة زجرًا له؛ بمعنى: أنَّ الزوج إذا طلَّق زوجته وأَخفَى عنها الطلاق، ثم أقرَّ بعد ذلك به، لَم تبدأ العدَّة إلا من وقت هذا الإقرار، ولا يُعتَدُّ بإسناد الطلاق إلى تاريخ سابق".

 

هذا بعض ما جاء في المذكرة التفسيرية تعليقًا على المادة الخامسة مكررًا، من القانون 44 لسنة 1979.

 

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المسالك الملتوِيَة التي يسلُكُها بعض الأزواج مسالِك غير حميدة لا تتَّفِق مع مبادئ الإسلام وقواعده ومُثُله العليا، وهذا أمرٌ يدعو إلى تقرير ما يراه وليُّ الأمر مُناسِبًا من عبء مالي يَتلاءَم مع ما قد يَعُود على الزوجات من أضرارٍ نتيجةَ هذه المسالك الملتوية.

 

غير أنَّه من المُقرَّر في علم أصول الفقه أنَّ الأسباب جعليَّة؛ بمعنى: أنَّ الله - سبحانه وتعالى - جعَلَها سببًا للأحكام المترتِّبة عليها؛ فزَوال الشمس سببٌ لوجوب صلاة الظهر، ورؤية الهلال سببٌ لوُجُوب صوم رمضان، والسرقة سببٌ لوجوب قطع يد السارق، والطلاق سببٌ لوجوب العدَّة... وهكذا، فلا مجال لتدخُّل البشَر في هذا الأسباب.

 

أمَّا استِناد المذكرة التفسيريَّة إلى ما جاء عن فقهاء المذهب الحنفي، وبالذات إلى ما قالَه الحصكفي في "الدُّر المختار"، فهو استِناد غير دقيق؛ ذلك أنَّه بالرُّجوع إلى هذا الكتاب تبيَّن عكس ما قالَتْه المذكرة التفسيرية تمامًا.

 

وإليك عبارة صاحب "الدر" من أولها: "ومبدأ العدَّة بعد الطلاق وبعد الموت على الفور، وإن جهلت المرأة بهما - أي: بالطلاق والموت - لأنَّها أجلٌ فلا يُشتَرَط العلم بمُضِيِّه سواء اعتَرَف بالطلاق أو أنكَرَ.

 

فلو طلَّق امرأتَه ثم أنكره وأقيمت عليه بيِّنة، وقضَى القاضي بالفُرقَة، كأن ادَّعَتْه عليه في شوال وقضى به في المحرم، فالعدة من وقت الطلاق، لا من وقت القضاء.

 

وفي الطلاق المبهم من وقت البيان، ولو شَهِدَا بطلاقها، ثم بعد أيام عدَلاَ، فقضى بالفرقة، فالعدَّة من وقت الشهادة لا من وقت القَضاء، بخلاف ما لو أقرَّ بطَلاقها منذ زمانٍ ماضٍ؛ فإنَّ الفتوى أنها من وقت الإقرار نفيًا لتهمة المواضعة[38].

 

لكن إن كذبته في الإسناد، أو قالت: لا أدري، وجبت العِدَّة من وقت الإقرار، ولها النفقة والسكنى، وإن صدَّقته فكذلك.

 

ولا نفقة لها ولا سكنى؛ لقبول قولها على نفسها.

 

وفي أوَّل طلاق "جواهر الفتاوى"[39]: أبانَها وأقام معها، فإن اشتهر طلاقها بين الناس تنقضي عدَّتها، وإلا لا، وكذا لو كتَم طلاقها لم تنقض زجرًا.

 

وحينئذٍ فمبدؤها من وقت الظهور والثبوت[40].

 

هذا نصُّ ما قاله الحصكفي صاحب "الدر المختار" في المسألة.

 

ولعلَّه ظهَر للقارئ الكريم أنَّ العِبارة التي استندت إليها المذكرة التفسيرية لا تُفِيد شيئًا في تبرير الحكم الذي جاء به القانون المذكور؛ لأنَّ واضعي المذكرة قد اكتفوا بهذه العِبارة دون إشارة إلى ما قبلَها، أو إلى ما بعدَها، فما قبلها الموضوع بتمامه أنَّ العدَّة تنقَضِي وإن جهلت المرأة بالطلاق أو الوفاة، هذا هو الموضوع الذي بحثه صاحب "الدر" بتمامه، وتمام العِبارة التي ساقتها المذكرة التفسيرية يؤكِّد عكس الحكم الذي نصَّ عليه القانون حتى في الجزئيَّة التي ساقَتْها المذكرة التفسيرية، فالجملة بتمامها هكذا: "وكذا لو كتَم طلاقها لَم تنقض زجرًا، وحينئذٍ فمبدؤها من وقت الظهور والثبوت".

 

وليس لهذه العبارة أيُّ معنى لا من اللغة ولا من الفقه، إلا ما قاله علماء الحنفية أنفسهم من أن الزوج لو كتَم طلاق زوجته، فإنَّ العدَّة لا تنقضي بل لا تبدأ إلا من وقت ظهور الطلاق وثبوته.

 

وهذا ما أكَّده العلاَّمة ابن عابدين؛ حيث قال رحمه الله تعليقًا على عبارة صاحب "الدر المختار": "إذا لَم يكن الطلاقُ مُشتهرًا يكون مبدأ العدَّة من وقت الثبوت؛ أي: ثبوت الطلاق وظهوره[41].

 

ولا أجد بُدًّا من أن أُعِيد العبارة التي استندتْ إليها المذكرة التفسيرية، غير أنِّي أسوق العبارة بتمامها: "وكذا لو كتَم طلاقها لَم تنقض زجرًا، وحينئذٍ فمبدؤها من وقت الثبوت والظهور"[42].

 

ولما كان القانون المصري يشترط التوثيق، وهو أعلى درجات الظهور والثبوت، فلا معنى لأن يؤخِّر بدء سريان العدَّة إلى وقت علم المرأة.

 

ومع ذلك كله، فإن التسرُّع هو السبب فيما حدث - على ما يبدو لنا - فلو أنَّ واضِعِي المذكرة التفسيرية تريَّثوا في الأمر - أو كانت لديهم مهلة للتريُّث - ورجعوا إلى مذهب العلاَّمة ابن حزم الذي يقول: "ومَن طلَّق امرأته وهو غائب لَم يكن طلاقًا، وهي امرأته كما كانت، يتوارثان إن مات أحدهما، وجميع حقوق الزوجية بينهما، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، ثلاثًا أو أقل، إلا حتى يبلغ إليها، فإذا بلغها الخبر مَن تصدقه، أو بشهادة تقبل في الحكم، فحينئذٍ يَلزَمها الطلاق إن كانت حامِلاً، أو طاهِرًا في طهرٍ لم يمسَّها فيه؛ برهان ذلك قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1]، فهذه صفة طلاق المدخول بها، وقال تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ [البقرة: 236]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6]، فهذه صفة طلاق غير المدخول بها، ويدخل فيه طلاق الثلاث المجموعة وآخر الثلاث، وبالضرورة يُوقِن كلُّ ذي حسٍّ سليم أنَّ مَن طلَّقها فلم يبلغها الطلاق فقد ضارَّها، ومضارَّتها حرام، ففعله مردود باطل، والمعصية لا تَنُوب عن الطاعة، وبالضرورة يُوقِن كلُّ أحدٍ أنَّ مَن فعَل ذلك فلم يسرحها سراحًا جميلاً"[43].

 

المبحث الثالث: في المتاع:

(المتاع) في الفقه: كلُّ ما يُنتَفَع به؛ مثل الطعام والثِّياب وأساس البيت، وأصل المتاع ما يُتبَلَّغ به من الزاد.

و(المتاع) شرعًا - وفي هذا المقام - مالٌ فرَض الله إعطاءَه للمطلقات؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 241].

 

وقد تكلَّم الفقهاء عن هذا المال بعنوان: "المتعة"، ولكنِّي آثَرت التعبير القرآني الوارد في هذا النص الكريم، والمتاع غير النفقة، وممَّا يتمشَّى مع الإيحاءات القرآنية تقرير المتاع للمطلَّقة؛ لما فيه من تندية لجفاف جوِّ الطلاق، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق، وفي الآية استِجاشةٌ لشعور التقوى، وتعليق الأمر به، وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد[44]؛ ولذلك جاءت الآية الكريمة بهذا التعقيب العظيم: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61].

 

هل المتاع لكل مطلقة؟

أوجب الله تعالى المتاع للمطلقات كما هو ظاهرٌ من النص القرآني الكريم المشار إليه، ولكنَّه نص عام، فهل يظلُّ على عمومه أم قد يدخله التخصيص؟

 

ذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ المتاع واجِبٌ للمطلَّقة بعد الدخول، سواء فُرِض لها صداق أم لم يُفرَض، وللمطلَّقة قبل الدخول التي لم يُفرَض لها صَداق؛ لأنَّ هذه هي الحالات التي واجَهَها القرآن الكريم، وفرَض فيها المتاع للمطلَّقات، أمَّا المطلَّقة قبلَ الدخول والتي فُرِض لها صداق، فإنها تستحقُّ نصفَ الصداق المفروض، فليس لها متاعٌ بعد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ [البقرة: 237].

 

وذهَب فريقٌ آخر إلى أنَّ النص عامٌّ في كلِّ مطلَّقة؛ ولذلك فإنَّه حتى المطلَّقة قبل الدخول، وحتى التي استحقَّت نصفَ الصَّداق يجب لها المتاع، بجانب نصف الصَّداق المفروض.

 

موقفنا مِن هذا الخلاف:

من استعراضِنا للرأيَيْن السابقَيْن يتبيَّن أنَّ الاتِّفاق في حالتين، والاختِلاف في حالة واحدة:

فقد أجمع الفقهاء على أنَّ المطلقة بعد الدخول تستحقُّ المتاع بالنص الكريم الثابت: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 241]، كما أنَّ المطلقة قبل الدخول دون أن يُفرَض لها صداقٌ تستحقُّ المتاع؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236].

 

وأمَّا حالة الاختِلاف فهي المطلَّقة قبل الدخول وقد فُرِض لها صداق، والذي نَراه بالنسبة لهذه الحالة أنها إن تنازلت عن نصف الصداق وجَبَ لها المتاع بلا شك؛ لأنَّها امتثلت لتوجيه الله تعالى فاستحقَّت ما فرَضَه الله للمطلَّقات من متاعٍ بالمعروف، وأمَّا إن لم تَتنازَل عن نصف الصداق فأرى - والله أعلم - أنها لا تستحقُّ متاعًا؛ لأنها لم تلجأ إلى جانب العفو الذي وجَّه إليه القرآن الكريم، ولم تتعفَّف عن المطالبة بمال رجلٍ لم يأخذ منها شيئًا، فلا يجمع لها بين نصف الصداق وبين المتاع بالمعروف، وهذا ما يتَّفِق مع فهمنا لقول الله سبحانه: ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237].

 

مقدار المتاع:

أوجب الله المتاعَ للمطلقات، ولكنَّه سبحانه وتعالى ترَك تحديد مِقداره اكتِفاءً بالتوجيه الحكيم، أن يكون المتاع بالمعروف حسب حالة الزوج يسرًا وعسرًا، فالغني يُعطِي على قدر غِناه، والفقير على قدر حالته وجهده؛ قال سبحانه: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236].

 

القانون 44 لسنة 1979م: أضافت المادة الأولى من هذا القانون إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1920 المادة 18 مكررًا، والتي تقول: "الزوجة المدخول بها في زواج صحيح إذا طلَّقها زوجها بدون رِضاها، ولا بسببٍ من قِبَلِها تستحقُّ فوقَ نفقة عِدَّتها متعة تُقدَّر بنفقة سنتين على الأقلِّ، وبمراعاة حال المطلِّق يسرًا وعسرًا وظروف الطلاق ومُدَّة الزوجية، ويجوز أن يرخص للمطلق في سداد هذه المتعة على أقساط".

 

ولنا على هذا النص ملاحظتان:

الأولى: أنَّ النص خروجٌ صريح على حكم الله تعالى الذي يقول: ﴿ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 236]، فالمادَّة 18 مكررًا خرَجت على هذا المبدأ من حيث التقدير، ومن حيث المبالغة في هذا التقدير؛ حيث جعلت الحدَّ الأدنى للمَتاع ما يُساوِي نفقة سنتين، وفوق هذا وذاك فإنَّ القانون المصري خرَج كليةً من جانب المعروف الذي أرشد إليه القرآن.

 

الملاحظة الثانية: أنَّ هذا النَّص أساء إلى المرأة كثيرًا من حيث لا يشعر واضِعُوه، فقد جاء بقيدَيْن لم يُشِر إليهما القرآن الكريم الذي يهتمُّ بالمعروف والإحسان والتقوى، بل ولم يتكلم عن هذين القيدَيْن أحدٌ من الفُقهاء، والقيدان: أن يكون الطلاق بدون رِضاها وليس بسببٍ من قِبَلِها، أمَّا الأوَّل فمعقولٌ، وأمَّا الثاني فهو بابٌ واسع للتحايُل والخروج على أحكام القانون وضَياع كلِّ حقٍّ للمرأة في المتاع، بل ومن غير تحايُل: فمَن ذا الذي يُطلِّق زوجته ويهدم سعادته بلا سبب؟ ومن ناحية أخرى فإنَّ هذه المادة تُشجِّع مَن لا خَلاق له من الأزواج على اصطِناع الأسباب والمبرِّرات التي دفعَتْه إلى الطلاق دفعًا، وما أكثر شهود الزور! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

• • •


الفصل الثالث: في حقوق الأولاد والأقارب:

﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72].

﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ [البقرة: 215].

((وابدأ بِمَن تَعُول...)).

((أمك وأباك وأختك، ثم أدناك أدناك))؛ صدق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

 

تمهيد وتقسيم:

البحث في هذا الموضوع يتطلَّب مِنَّا أن نبيِّن حقوق الأولاد بصفة أساسيَّة، ثم نتكلَّم عن حقوق الأقارب، غير أنَّ هذه الحقوق وإن كانت كثيرةً إلا أنَّ الجانب البارز فيها هو نفقة الأقارب، أمَّا الحقوق الأخرى؛ مثل: حسْن الصلة، والكلمة الطيِّبة، والزيارة المرضية، والمودة القائمة، فكلُّ ذلك متروكٌ إلى ضمير الإنسان ومَدَى صلته بالله - عزَّ وجلَّ - الذي أمَر بصلة الأرحام.

 

وعلى ذلك، فإنَّنا نقسِّم هذا البحث إلى البابين الآتيين:

الباب الأول: حقوق الأولاد.

الباب الثاني: نفقة الأقارب.

 

الباب الأول: في حقوق الأولاد:

حقوق الأولاد كثيرة، أظهَرُها ثبوت النَّسَب والرضاع والحضانة، ثم الإشراف والتوجيه، وهو ما يسمَّى بالولاية، نتكلَّم عن هذا الحقوق الأربعة في الفصول الأربعة التالية.

 

الفصل الأول: في ثبوت النَّسَب:

من الحقوق المهمَّة التي أثبتَتْها الشريعة الإسلامية للولد والوالدين الحقُّ في ثبوت النَّسَب[45]، فهو حقٌّ للولد أولاً وقبل كلِّ شيء، وقد حرَص الإسلام على تقرير هذا الحق وإثباته، وتأكيد وجوده بالنسبة لهذا الولد، وقد كان لهذا أعظمُ الأثر في حماية المجتمع الإسلامي وتماسُكه وقوَّته، وهذا الحق ثابتٌ كذلك للمرأة، فالذي يَعنِيها أن يثبت نسب طفلها من أبيه؛ تأكيدًا لشرفها، وحمايةً لعرضها وكرامتها، وهو أخيرًا حقٌّ للوالد الذي يُسعِده أن ينتَسِب أولادُه إليه فيَحمِلوا اسمه، ويَرِثوا ماله، وتكون تربيتهم الصالحة ودعاؤهم له بعد وفاته زيادةً له في حسناته.

 

أسباب ثبوت النَّسَب:

جعَل الشرع الإسلامي الحنيف للنَّسَب سببًا رئيسًا ظاهرًا ومحدَّدًا، ألاَ وهو فِراش الزوجية، ذلك السبب الذي يقوم على الطُّهْرِ والعفاف.

 

وقد أبطَلَ الإسلام كلَّ الأسباب التي تَتَنافَى مع كرامة الإنسان ولا تَتلاءَم مع الحقيقة والواقع؛ يقول الله تعالى: ﴿ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾ [الأحزاب: 5].

 

ولقد حذَّر الإسلام أشدَّ التحذير من المساس بمبدأ ثبوت النسب، فملعونٌ مَن دعَا نفسَه إلى غير أبيه، وملعونٌ مَن جحَد نسَب ولدِه، وملعونةٌ ملعونةٌ مَن أدخلت على قومٍ طفلاً ليس منهم.

 

فقد روى البخاري عن أبي عثمان عن سعد رضِي الله عنْهم قال: سمعت النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((مَن ادَّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فالجنة عليه حرام))[46].

 

وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وصحَّحه ابن حبَّان عن أبي هريرة رضِي الله عنْه أنَّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول حين نزلت آية المتلاعنين: ((أيما امرأة أدخلت على قومٍ مَن ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يُدخِلَها الله جنَّته، وأيُّما رجل جحَد ولدَه وهو ينظر إليه[47]، احتَجَب الله عنه، وفضَحَه على رؤوس الأوَّلين والآخرين))[48].

 

وبجانب ذلك السبب الرئيس هنالك سببان آخران هما: أدلة الإثبات العادية: البيِّنة والإقرار... نتكلم عن هذه الأسباب الثلاثة في المباحث الثلاثة الآتية بنفس الترتيب.

 

المبحث الأول: في فراش الزوجية:

يقصد بفراش الزوجية هنا الرابطة الزوجية القائمة فعلاً بين الرجل والمرأة، بِناءً على عقد زواج صحيح، فمتى كانت المرأة تُقِيم مع زوجِها في بيت الزوجية، فنسَب ولدها ثابت من أبيه، دونما حاجة إلى إقرار أو بيِّنة، وقد أقام الشارعُ الحكيم فراش الزوجية الصحيحة مقام السبب الحقيقي الذي هو اتِّصال الرجل بزوجته؛ لأن ذلك أمر خفيٌّ لا يُمكِن الاطِّلاع عليه، فكانت الزوجية الصحيحة دليلاً يثبت به النسَب دونما حاجة إلى أيِّ سببٍ آخَر[49].

 

شروط ثبوت النَّسَب بالفراش:

يُشتَرَط في الفراش الذي يَثبُت به النَّسَب الشروط الثلاثة الآتية:

الشرط الأول: إمكان حمل الزوجة من زوجها:

يُشتَرط في الفِراش حتى يَثبُت به النسب أن يكون حملُ الزوجة من زوجها ممكنًا؛ بأن يكون الزوج بالِغًا قادرًا على الإنجاب، فإذا كان صغيرًا فلا يَثبُت بهذا الفراش نسب؛ نظَرًا لعدم تصوُّر الحمل من الزوج غير البالغ.

 

الشرط الثاني: أن تكون الولادة في المدَّة الممكنة:

والولادة في المدَّة الممكنة يُنظَر إليها من ناحيتين: الأولى أقل مدَّة الحمل، فمن المتَّفَق عليه أنَّ أقل مدَّة الحمل هي ستة أشهر، فإذا كانت الولادة في نِطاق هذه المدَّة ثبَت نسَب الولد بهذا الفراش: فلو أنَّه تزوَّجها ثم ولدت بعد ستَّة أشهر من تاريخ الزواج، فالولد من هذا الزوج؛ بِناءً على فراش الزوجية.

 

والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا ﴾ [الأحقاف: 15]، وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، فمن هذين النَّصَّيْن الكريمين يَثبُت أنَّ أقلَّ مدَّة الحمل ستَّة أشهر؛ لأنَّ الحمل والفصال - الذي هو الفطام - ثلاثون شهرًا، فإذا كان الفِطام وحده أربعة وعشرين شهرًا فإنَّ الباقي وهو ستَّة أشهر هي أقل مدَّة الحمل.

 

والناحية الثانية: أقصى مدَّة الحمل، ويُنظَر إلى ذلك عند فِراق الزوجين فإذا افتَرَق الزوجان بالطلاق أو الوفاة، ثم ولدت المرأة، فالأصل أنَّ الولد ثابت النسب من الزوج طالما كانت الولادة في حدود أقصى مُدَّة الحمل، وقد اختلف الفقهاء في تحديد هذه المدَّة اختلافًا كبيرًا.

 

وقد أخَذ القانون المصري بأنَّ أقصى مدَّة الحمل هي سنة شمسية كاملة (365 يومًا)، فإذا كانت الولادة في خلال هذه المدَّة من تاريخ الفرقة، ثبت نسب الولد من أبيه، وهو زوج هذه المرأة التي انفصلت عنه بالطلاق أو الوفاة.

 

الشرط الثالث: ألا يَنفِي الزوج نسب الولد:

يُشتَرَط لثبوت النسب بالفِراش ألاَّ ينفي الزوجُ نسَب الولد عنه، فلو فعَل ذلك انتَفَى نسب الولد منه، وقد نظَّمت الشريعة لذلك طريقًا محدَّدًا وهو اللِّعان، وهو - كما أشرنا - عبارةٌ عن موقف يتمُّ عَلَنًا بين الرجل والمرأة أمام القاضي وجمعٍ من الناس - على خلافٍ في الرأي حول التفاصيل - يَشهَد الرجل أربع شهادات بالله أنَّ هذا الولد أو الحمل ليس منه، ثم يقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تشهَد المرأة أربع شهادات بالله إنَّه لَمِن الكاذبين، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وبهذا ينتفي نسَب الولد عن أبيه ويلحَق بأمِّه.

 

غير أنَّ إجراء اللعان في هذه الحالة لا بُدَّ فيه من شروط مُعيَّنة، وإلا فلا ينتَفِي نسَب الولد، وهذه الشروط تتلخَّص فيما يأتي:

1 - أن يكون نفيُه للولد بمجرَّد الولادة[50]، وينبَنِي على هذا الشرط أنَّه لو أقرَّ بنَسَب الولد صراحةً أو دلالةً، فلا يستطيع نفيَه بعد ذلك.

2 - أن يكون الولد حيًّا عند الحكم بقطع نسبه بعد إجراء اللعان والقضاء يَنفِيه، فلو مات الولد قبل ذلك لا ينتفي نسبه؛ لأنَّ النسب يتقرَّر بالموت[51].

 

المبحث الثاني: في الإقرار بالنَّسَب:

الإقرار بالنَّسَب هو ما يُسمِّيه الفقهاء بالدِّعوة[52]؛ أي: إنَّه يَثبُت عن طريق إقرار الشخص نفسه وادِّعائه، فسُمِّي دعوةً لهذا السبب.

 

وأهميَّة الإقرار بالنسب تَرجِع إلى أنَّ ثبوت النسب بالفِراش مقصورٌ على حالة إثبات نسَب الولد بِناءً على العلاقة الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.

 

ولكن هنالك حالات قد تستَوجِب إثبات نسَب غير الولد بقَرابَة مُباشِرة، أو إثبات نسَب الولد في زوجيَّة قائمة، ومضى على انفِصالها زمن بعيد، فالاستِناد إلى الفراش الصحيح لا يسعف ولا يفيد، فكان الإقرار مهمًّا في هذا المجال.

 

ويُعرَف الإقرار بالنَّسَب عند الفقهاء بأنَّه: إخبار المُقِرِّ بوجود قرابةٍ بينَه وبين شخص آخر[53]، وهذا يقتَضِي التلفُّظ بعِبارة تُفِيد ذلك، ويَنشأ عنه إلحاق نسَب شخصٍ بنسَب شخصٍ آخَر[54].

 

والإقرار بالنَّسَب نوعان: إقرار الشخص بالنَّسَب على نفسه، وإقراره بالنسب على غيره.

إقرار الشخص بالنسب على نفسه:

إقرار الشخص بالنَّسَب على نفسه هو الأصل في الإقرار بالنَّسَب؛ ولذلك يقول الفقهاء: إنَّه الإقرار بأصل النَّسَب؛ إذ يكون إقرارًا بالولد الصلبي - ولد الإنسان من صلبه - وبالوالدين المُباشِرَيْن؛ أي: بالأب أو بالأم دُون الأجداد أو الجدَّات[55]، مثال ذلك أن يقول: هذا ابني، أو: هذه بنتي، أو يقول: هذا أبي، أو: هذه أمِّي.

 

فإذا صدَر الإقرار بالبنوَّة المُباشِرة، وتَوافَرت الشروط المطلوبة شرعًا في الإقرار، صار المُقَرُّ له ابنًا للمُقِرِّ[56].

 

شروط الإقرار بالنَّسَب على النفس:

يُشتَرَط في هذا النَّوْع من الإقرار حتى يترتَّب عليه ثبوت النسب توافُر الشروط الآتية:

الشرط الأول: أن يكون المقرُّ له مجهولَ النَّسَب: وهو شرطٌ بدَهِيٌّ يستَلزِمه الواقِع وتقتَضِيه ظروف الحال؛ إذ لو كان معلوم النسب لكان الإقرار عبَثًا؛ بل منكرًا من القول وزورًا، فالنَّسَب الثابت لا يجوز إبطاله، بل ولا المساس به، وملعونٌ مَن غيَّره، فكيف يتأتَّى إقرارٌ بعد ذلك؟

 

الشرط الثاني: أن يكون فارِق السن بينهما ملائِمًا؛ أي: بحيث يكون فارِق السن بين المُقِرِّ والمُقَرِّ له يسمَح بأن يُقال: الأوَّل والد الثاني، فإذا كان المُقِرُّ في الثلاثين من عمره والمُقَرُّ له في الخامِسة مثلاً، فإنَّ فارِق السن بينهما يُعتَبر ملائمًا.

 

الشرط الثالث: أن يُصادِق المُقَرُّ له على هذا، إذا كان أهلاً للمصادقة؛ بمعنى: أنَّه يتعيَّن على المُقَرِّ له أن يُصَدِّق المُقِرَّ في إقراره إذا كان عاقِلاً مميِّزًا؛ أي: تصوَّر أن يصدر منه إقرارٌ صحيح، والتميُّز يكفي لصدور الموافقة منه على الإقرار بالنَّسَب؛ ذلك أنَّ الإقرار حجَّة قاصرة، فلا يتعدَّى أثرُه إلى الغير، إلا ببيِّنةٍ على ذلك، أو بتصديق هذا الغير وموافقته، فإذا كان المُقَرُّ له غير مميِّز فلا تُشتَرط موافقته؛ لأنها غير مُمكِنة فيثبت نسَبُه دونَ حاجةٍ إلى تَصدِيق.

 

الشرط الرابع: ألاَّ يصرِّح المُقِرُّ بأنَّ المُقَرَّ له ابنه من طريقٍ غير مشروع، فإن صرَّح بعدم المشروعيَّة، فلا ولن يثبت نسبٌ أبدًا.

 

فالنسب نعمةٌ من الله - تبارك وتعالى - مَنَّ بها على عباده، فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ [الفرقان: 54]، ويقول - جلَّ شأنه -: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾ [النحل: 72].

 

والنعمة التي عظَّم الله شأنها، ورفَع قدرَها، لا يُعقَل أن تثبت من طريقٍ غير مشروع، فما بالُك بجريمةٍ هي أبشَع الجرائم؟


ويُلاحَظ أن المقِر غيرُ مُطالَب بإعلان السبب في إقراره، وذلك من الشريعة حملاً للناس على الصَّلاح في ظاهِر أحوالهم إلى أن يثبت العكس.

 

الإقرار بالنَّسَب على الغير:

الإقرار بالنَّسَب على الغير عبارةٌ عن الإقرار بقرابةٍ غير مُباشِرة، أو هو الإقرار بفرع النَّسَب؛ كالإقرار بالأخوة، والأجداد، وأولاد الأولاد، فهذا الإقرار يتضمَّن تحميل نسب الغير على الغير، فهو في حالة الإقرار بالأُخُوَّة يكون حملاً للنَّسَب على الأب؛ إذ لا يكون المُقَرُّ له أخًا إلا إذا ثبَت نسَبُه من الأب أو الأم أو منهما معًا، ولا يكون عمًّا إلا إذا انتَسَب إلى جدِّه أو جدَّته... وهكذا.

 

والواقع أنَّ هذا الإقرار لا يَثبُت به نَسَبٌ؛ إذ لا يملك إنسانٌ أن يُلحِق نسبَ شخصٍ لآخَر بمجرَّد التلفُّظ؛ بل إنَّه لا أثَر لهذا الإقرار حتى ولو صدَّقه المُقَرُّ له؛ ذلك أنَّ تصديق المُقَرِّ له لا يَثبُت به نسبٌ من المقر عليه؛ لأنَّه قد يكون للمقر له مصلحة في هذا التصديق؛ فهو إذًا مُتَّهم بجلب النفع لنفسه، أمَّا الغير الذي حمل النسب عليه وهو الأب مثلاً في حالة الإقرار بالأخوَّة، فإنَّه إذا صادَق على هذا الإقرار كان التصادُق منه إقرارًا منه بالنَّسَب على نفسِه، فيثبت به النسب، فهو كأنَّه أقرَّ بالبنوَّة لهذا الشخص.

 

فطالما أنَّ الغير الذي حمل عليه النسب لَم يُصادِق على هذا الإقرار، فإنَّه لا يثبت به نسبٌ أبدًا، وإن صادَق كان النسب ثابتًا؛ بِناءً على المصادقة، لا بناءً على الإقرار بالنَّسَب على الغير.

 

نعم، قد يكون لهذا النوع من الإقرار بعضُ الآثار غير ثبوت النسب، فإذا أقرَّ لشخصٍ بالأخوَّة، فإنَّه تثبُت للمقر حقوق الأخ على أخيه؛ من حيث المودَّةُ والصلة ووجوب النفَقَة عند العجز عن الإنفاق، والميراث إذا لم يوجد للمقر وارثٌ حقيقي آخَر، هذا ما أقرَّه فُقَهاء المذهب الحنفي[57].

 

المبحث الثالث: في البيِّنة الشرعيَّة:

البيِّنة هي الحجَّة الواضحة، وسُمِّيت الحجَّة بيِّنة لبيان الحق وظهوره بها[58].

 

وقد جعلت الشريعة الغرَّاء الشهادة أحدَ الوجوه التي يظهَر بها الحق ويتبيَّن، فإذا أخبَر شاهدان عدلان بحدوث واقعة مُحدَّدة، كان ذلك حجَّة على حدوثها وظهورها.

 

والبيِّنة التي يَثبُت بها النَّسَب في هذا المقام هي الشهادة، وهي: إخبارٌ من صادقٍ في مجلس الحكم بلفظ الشهادة[59]، لإثبات حقٍّ معيَّن، وسمي الشاهد كذلك لأنه كان مشاهدًا للواقعة التي يشهد عليها[60].

 

أهميَّة البيِّنة في الموضوع:

وللبيِّنة في إثبات النَّسَب أهميَّة بالغة؛ ذلك أنَّ السبب الأوَّل الذي يَثبُت به النَّسَب - وهو فِراش الزوجيَّة - هو في حقيقته محدود الأثر؛ حيث لا يَثبُت به إلا نسب الولد، أمَّا غير الولد - مثل الأخ أو العم - فلا يَثبُت نسبُه بَداهةً عن هذا الطريق، وعلى ذلك فالسبب الأوَّل لا يسعف في إثبات كلِّ حالات النَّسَب.

 

وأمَّا السبب الثاني - وهو الإقرار - فإنَّه حجَّة قاصرة؛ بمعنى: أنَّ أثَرَه مقصورٌ على صاحبه (الذي هو المُقِرُّ) لا يتعدَّاه؛ بل إنَّ الإقرار - حتى في هذا المجال - قد لا يكفي بذاته لإثبات كثيرٍ من حالات النَّسَب؛ ذلك أنَّه لا بُدَّ من مُصادَقة المُقَرِّ له (الطرف الآخِر) على هذا الإقرار، متى كان أهلاً للمصادقة.

 

وهكذا تظهَر حتميَّة البيِّنة في كثيرٍ من حالات النَّسَب؛ حيث إنَّ كلاًّ من السبب الأوَّل والسبب الثاني غير كافٍ لإثبات النَّسَب في كلِّ صورة.

والبيِّنة المقصودة هنا هي شهادة الشهود العدول - كما أشرنا.

 

نِصاب الشهادة:

يُقصَد بنِصاب الشهادة - كما بينَّا[61] - العدد المطلوب من الشهود العدول الذين يثبت النسب بشهادتهم.

وخلاصة القول في ذلك: أنَّ فقهاء المذهب الحنفي يقولون: إنَّ النَّسَب يَثبُت بشهادة رجلَيْن عدلَيْن - أو رجل وامرأتين - تتوافَر فيهما شروط الشهادة، وأهمُّها العدالة.

 

ويرى الشافعيةُ والجعفريَّةُ وغيرهم منَ الفُقَهاء أنَّ الشهادة في هذا الموضوع لا بُدَّ أن تكون من الرِّجال، فلا يكفي لأدائها رجلٌ وامرأتان؛ بل لا بُدَّ من رجلين عدلين.

 

هذا، وقد سبَق لنا عرضُ آراء العلماء في موضوع الإشهاد على عقد الزواج، وقد رجَّحنا هنالك أهميَّة حضور الرجال في إبرام عقد الزواج؛ لأن هذا هو ما يؤيِّد الواقع العملي على مرِّ العصور.

 

ولكن في هذه المسألة أرى - والله أعلم - أنَّ الشرع الإسلامي الحنيف يحرص دائمًا على إثبات النَّسَب؛ محافظةً على الولد أولاً، وعلى الوالدة ثانيًا، وعلى المجتمع سمعةً وشرفًا، وكرامةً وحفظًا.

 

لذلك فإنِّي أرجِّح مذهب الحنفيَّة القائل بأنَّ النَّسَب يَثبُت بشهادة رجلَيْن أو رجل وامرأتين تَتوافَر فيهم شروط الشهادة، وأهمُّها العدالة - كما بينَّا - وذلك لأنَّ في الأخْذ بهذا المذهب تيسيرًا وتوسِعةً لدائرة النَّسَب الثابت التي يحرص الشرع الإسلامي على توسيعها دائمًا.

 

والأصل في الشهادة أن تكون عن مُعايَنة ومشاهدة، فالشاهد يُدلِي بشهادته على ما حدَث أمامه فعلاً وشاهَدَه ورآه، وقد استَثنَى فُقَهاء المذهب الحنفي من هذا الأصل بعضَ أمورٍ منها: الشهادة في دعوى النَّسَب؛ حيث تجوز الشهادة فيها بالتَّسامُع ممَّن يُوثَق بهم دون مشاهدة أو مُعاينة.

 

والتسامُع هو اشتِهار النَّسَب بين الناس واستِفاضة خبر بينهم، وقد أخَذ الإمام أبو حنيفة بهذا المعنى، وأمَّا أبو يوسف ومحمد - صاحبا أبي حنيفة - فقد توسَّعَا في مدلول التَّسامُع بهذا الشأن، وقالا: إذا أخبَرَه عدلان - رجلان أو رجل وامرأتان - بنسب فلان من فلان، جازَ له أن يشهد بذلك، ويعتبر هذا شهادة بالتسامع عندهما.

 

البيِّنة ودعوى النَّسَب:

إذا رُفِعت الدعوى لإثبات النَّسَب المُباشِر - أي: الأبُوَّة أو البنوَّة - وكان المُدَّعَى عليه حيًّا، فلا شكَّ في قبول الدعوى، فإن أقرَّ المُدَّعَى عليه بالبنوَّة أو الأخوَّة، وصدَّقه المُدَّعي ثبَت النسب، فلا حاجةَ إلى أيِّ إجراءٍ آخر، وإن لم يقرَّ المُدَّعَى عليه أمكن إثبات النَّسَب بالبيِّنة على النحو السابق[62]، ولا يُشتَرَط في هذه الحالة[63] أن تكون الدعوى ضمن حقٍّ آخر؛ بمعنى: أنَّ الادِّعاء بالنَّسَب المُباشِر يُسمَع مجردًا عن أيِّ اعتبارٍ آخر، وهذا الاعتِبار قد يكون الحق في الميراث أو في النفقة أو حتى في إثبات الزوجية، كلُّ ذلك غير مطلوبٍ في حالة رفْع الدعوى بالنسب المُباشِر على المُدَّعَى عليه الموجود على قيد الحياة، فيصح أن يدَّعِي شخصٌ على آخر أنه ابنه دعوى مجرَّدة من غير مصاحبة حقٍّ آخر، فإن أقرَّ ثبَت النَّسَب، وإن أنكر أمكن الإثبات بالبيِّنة[64].

 

وكلُّ ما يُشتَرط في هذه الدعوى أن تكون معقولة، ولا يكذبها الظاهر فلا تسمع الدعوى بنَسَب مَن لا يُولَد مثله لمثله[65]؛ بأن كان فارِق السنِّ بينهما لا يسمَح أن يكون هذا ابنًا لذاك، فلا تُسمَع الدعوى حينئذٍ لاستِحالتها عقلاً، كما لا تُسمَع الدعوى من شخصٍ ثابت النسب بفِراش الزوجية الصحيحة؛ لأنَّ الظاهر يُكذِّب هذه الدعوى قبلَ التفكير فيها، وقد سبَق أن أشرْنا إلى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ملعونٌ مَن ادَّعَى إلى غير أبيه)).

 

أمَّا إذا كان المُدَّعَى عليه بالنَّسَب المباشر ميتًا، فلا تُسمَع هذه الدعوى إلا إذا كانت تبَعًا لحقٍّ آخر؛ ذلك أنها دعوى على شخصٍ يُرِيد أخذَ نصيبٍ مُعيَّن من الميراث، فلا يستَطِيع - وهو مجهول النَّسَب - أن يصل إلى هذا الحق إلا بإثبات النَّسَب، ودعوى النَّسَب لا تُسمَع ضد المُتَوفَّى، ولكنَّها تُسمَع تبعًا لدعوى الميراث؛ إذ لا ميراث إلا بثبوت النَّسَب.

 

وكذلك الحال بالنسبة للدعوى بالنَّسَب غير المباشر؛ مثل: الأخوَّة والعمومة، لا تُسمَع إلا ضمن حقٍّ آخر؛ والسبب  واضح ممَّا تقدَّم. ذلك أنَّ هذه الدعوى فيها تحميلٌ للنسب على الغير، فدعوى الأخوَّة فيها تحميلٌ للنسب على الأب، ودعوى العمومة فيها تحميلٌ للنسب على الجد، ولمَّا كان هذا الغير - الأب أو الجد - غائبًا، فإن هذه الدعوى لا تُسمَع إلا ضمن حقٍّ آخر يُراد إثباته لحاضر[66].

 

مثال ذلك: شخصٌ يُرِيد إثباتَ أخوَّته لشخصٍ آخَر، فرفَع دعوى بذلك، فإنَّ هذه الدعوى تتضمَّن تحميلاً للنَّسَب على الغير، فلو كانت مجرَّد دعوى لإثبات الأخوَّة فإنها لا تُقبَل؛ لأنَّ تحميل النَّسَب على الغير لا يُفِيد في إثبات النَّسَب؛ ولكن إذا كان المُدَّعي فقير الحال والمُدَّعَى عليه مُوسرًا، وأراد المُدَّعي أن يأخذ حكمًا بالنفقة على أخيه المُوسِر، فإنَّ الدعوى تُقبَل حينئذٍ ضمن دعوى النفقة المراد الحكم باستِحقاقها.

 

شهادة الميلاد وإثبات النسب:

شهادة الميلاد ورقة رسميَّة دون شكٍّ، ولكنَّها مُعَدَّة لكي يُدوَّن فيها اسم المولود، ولقبه وديانته، واسم والديه، وتاريخ الميلاد، ومكان الولادة.

 

وعلى الرغم من أنها ورقة رسميَّة، إلا أنها لا تُعتَبر حجَّة قاطعة في إثبات النَّسَب؛ ذلك أنَّ الموظف المكلَّف بتحرير هذه الورقة، إنما يقوم بتدوين البيانات المشار إليها عندما تبلغه دون التأكُّد من صحَّتها، ودون البحث والتحرِّي.

 

غير أنَّ القانون رقم 260 لسنة 1960 الخاص بالسجل المدني نصَّت المادة 11 منه على أنَّه: "تُعتَبر السجلاَّت بما تَحوِيه من البيانات والصُّوَر الرسميَّة المُستَخرَجة منها حجَّة بصحَّتها ما لم يَثبُت عكسها أو بطلانها أو تزويرها بحكم".

 

وهكذا أصبحت شهادة الميلاد - التي يُدوَّن أصلها في سجلات خاصَّة بها في مكتب مختصٍّ هو مكتب السجل المدني - حجَّة في إثبات النَّسَب وغيره من المعلومات التي دُوِّنت فيها فهي حجَّة في إثبات النَّسَب وغيره من المعلومات التي دُوِّنت فيها، غير أنها حجَّة غير قاطعة؛ فهي قابلة لإثبات العكس إذا ثبت عكسها أو ثبت بطلانها أو تزويرها بحكم قضائي.

 

الراجح من المذهب الحنفي، وخلاصة ذلك أنَّ الرضاع واجبٌ على الأم ديانةً فيما بينها وبين الله تعالى وتجبر قضاء على إرضاع الطفل في الحالات الآتية:

1 - إذا لم يكن للأب ولا للطفل مالٌ يَستَأجِر به مَن يرضعه ولم توجد متبرعة.

2 - إذا وُجِد المال ولم تُوجَد مَن تُستَأجر للرضاع.

3 - إذا لم يقبل الطفل إلا لبن أمِّه.

 

وقد نظَّم مشروع قانون الأحوال الشخصية أحكام الرضاع في المادة "200" منه:

(أ) لا يجب على الأم إرضاع ولدها إلا إذا تعذَّرت تغذيته من غير لبنها لأيِّ سببٍ كان.

(ب) إذا امتنعت الأم عن إرضاع ولدها ولم يكن واجبًا عليها، فعلى أبيه أن يَستَأجِر مَن تُرضِعه، أو تقوم بتغذيته عن الأم.

 

وهذا النصُّ مَعِيب في نظرنا، وينبَغِي تعديله على النحو التالي:

(أ) "يجب على الأم إرضاع ولدها، ولا يسقط هذا الواجب إلا لعذر شرعي".

(ب) في حالة انفِصال الأم عن والد الطفل، فلا يكون الرضاع واجبًا عليها إلا إذا تعذَّرت تغذيته من غير لبنها.

(جـ) إذا امتنعت الأم عن إرضاع ولدها في حالة عدم وجوبه عليها، فعلى الأب أن يستأجر مَن ترضعه، أو تقوم بتغذيته عن الأم.

 

ومن ناحية أخرى، فإنَّ الرضاع وإن كان حقًّا للطفل وواجبًا على الأم، فإنَّه في نفس الوقت حقٌّ للأم ذاتها باعتِبار الأمومة، وما أودَعَه الله في قلبها من حنانِ وعطف نحو طفلها.

 

الأجر على الرضاع:

إذا كانت الأم هي القائمة بالرضاع، فلا أجرَ لها طالما أنها زوجة لأب الرضيع، حقيقةً أو حكمًا، فمتى كانت الرابطة الزوجيَّة قائمة بينهما فعلاً، فإنَّ إرضاعَها لطفلها أداء لواجب شرعي، أو استعمال منها لحقِّها في إرضاع ولدها بدافِع الأمومة التي أسبَغ الله عليها نعْمةَ العطف والحنان، وكذلك لو أنَّ الزوجيَّة في حكم القائمة كما هو الحال بالنسبة للمُعتدَّة من طلاقٍ رجعي؛ لأنها في حكم الزوجة.

 

أمَّا إذا كانت الزوجيَّة غير قائمة، والحال أنها لا تستحقُّ نفقةً على والد الطفل، فإنه يكون من حقِّها أن تُطالِب بأجرة الرضاع؛ بشرط أن تكون الرضاعة في مُدَّتها المُحَدَّدة شرعًا؛ أي: في الحولَيْن الأوَّلَيْن من حياة الطفل، وحق الأم في هذه الحالة ثابِتٌ؛ سواء كان إرضاعها للولد باتِّفاق أو بغير اتِّفاق؛ أي: إنها تستحقُّ أجرة الرضاع ولو لم تكن قد اتَّفقت على أجرٍ طالما أنها لا تستحقُّ نفقةً على والد الطفل.

 

أمَّا إذا كانت المُرضِعة غير الأم، فإنها إذا تبرَّعت بالرضاع فلا أجر لها، وإن كانت غير متبرِّعة وجَب لها الأجر حسب الاتِّفاق المبرَم بينها وبين والد الطفل أو وليِّه.

 

فإن لم يحصل اتِّفاق بأن أرضعت دون أن تطلب شيئًا أو دون أن تحدِّد أجرًا، فإنَّ هذا يفسَّر منها على أنها متبرِّعة بالرضاع.

 

والفرق بينها وبين الأم في هذه الحالة واضح تمامًا؛ فالأم إذا أرضعت ولدَها تكون مدفوعةً إلى ذلك بدافع الأمومة التي جُبِلت عليها بفطرتها، فسكوتها عن الأجر لا يُفسَّر على أنَّه تَنازُلٌ منها، أمَّا غير الأم فليس لديها ما يدفعها إلى أن تُرضِع الطفل قبلَ الاتِّفاق، فسكوتها عن ذلك يُفسَّر على أنَّه تنازُلٌ منها عن الأجر، وإلا فلو لم تكن متبرِّعة لما أقدَمت على الإرضاع إلا بعد الاتِّفاق على أجر محدَّد.

 


[1] فهذا هو أصل اشتقاقه في اللغة، وعرَّفه فقهاء الشريعة بأنه: تشبيه الرجل زوجتَه بامرأةٍ محرَّمة عليه تحريمًا مُؤبَّدًا، أو تشبيه بجزءٍ منها؛ ("نيل الأوطار" جـ 7 ص 53، "سبل السلام" جـ 3 ص 186).

[2] الدهلوي: "حجة الله البالغة" ص 140.

[3] في "المصباح المنير": آلَى إيلاء إذا حلف فهو مُؤْلٍ، وتألَّى وائتَلى كذلك، باب الألف واللام وما يثلثهما).

[4] "سبل السلام" جـ 2 ص 182.

[5] "سبل السلام" جـ 3 ص 185.

[6] فقد كان أهل الجاهلية يَحلِفون بالابتِعاد عن أزواجهم أبدًا، أو مدَّة طويلة، وفي ذلك جور وضرر، فقضى الله تعالى بالتربُّص أربعة أشهر، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة:226]، "وأمَّا السرُّ في تعيين هذه المدَّة، فإنها المدَّة المناسبة لحالة الرجل النفسيَّة، ومدى إمكان الابتِعاد عن زوجته؛ ولأن هذه المدَّة ثلث السنة، والثلث يضبط به أقل من النصف، والنِّصْف يُعَدُّ مدَّة كثيرة"، (الدهلوي - "حجة الله البالغة" جـ 2 ص 141).

[7] وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمَن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.

[8] "صحيح البخاري" جـ 3 ص 171، رواه البخاري عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال الإمام البخاري: ويُذكَر ذلك عن عثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

[9] "سبل السلام" جـ 3 ص 184.

[10] "سبل السلام" جـ 3 ص 185.

[11] لكن القاضي لا يطلِّق؛ بل إنَّ الزوج هو الذي يُوقِع الطلاق بعزمه وإرادته وعبارته.

وقد أوضح العلامة ابن حزم هذا الحكم بقوله: "فإن فاء داخِل الأربعة أشهر فلا سبيل عليه، وإن أبى لم يعترض حتى تُقْضَى الأربعة أشهر، فإذا تمَّت أجبره الحاكمُ على أن يَفِيء أو يُطَلِّق حتى يفعل أحدهما كما أمَرَه الله - عزَّ وجلَّ"، ("المحلى" جـ 10 ص 42 المسألة 1889).

[12] "سبل السلام" جـ 3 ص 185.

[13] وهو منسوبٌ إلى ابن مسعود وزيد بن ثابت وبعض التابعين رضِي الله عنْهم وتتلخَّص أدلتهم في الآتي:

أولاً: قراءة ابن مسعود: (فإن فاؤوا فيهن) فإضافة الفيئة إلى المُدَّة تدلُّ على استحقاق الفَيْئة فيها.

ثانيًا: أنَّ الله سبحانه جعَل مُدَّة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئة بعدَها لزادَتْ مُدَّة النص، وهذا لا يجوز.

ثالثًا: أنَّه لو رجَع إلى امرأته وعامَلَها مُعامَلة الأزواج في مُدَّة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها؛ فدلَّ ذلك على استِحقاق الفيئة فيها؛ ("زاد المعاد" جـ 4 ص 110).

[14] استَنبَط جمهور الفقهاء من آية الإيلاء عشرة أدِلَّة منها:

1 - أنَّ الله تعالى أضاف مُدَّة الإيلاء إلى الأزواج، وجعَلَها لهم، ولم يجعلها عليهم، فوَجَبَ ألَّا يستحقَّ المطالبة فيها، بل بعدها كأجل الدين.

2 - ذكر الله الفيئة بعد المُدَّة بفاء التعقيب، وهذا يقتَضِي أن يكون بعد المدة.

3 - العزم هو إرادة حازمة لفعْل المعزوم عليه أو تركه، والرأي المعارض يوقع الطلاق بمجرَّد مضي المُدَّة، فأين العزم المنصوص عليه في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ﴾ [البقرة: 227]؟

4 - أنَّ التخيير بين أمرَيْن يَقتَضِي أن يكون فعلهما إليه، ومضي المدَّة ليس إليه، فكيف يقع الطلاق بِمُضِيِّ المدَّة؟

5 - قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ ﴾ يقتضي أن يكون الطلاق قولاً يُسْمَع؛ لِيحسن خَتْم الآية بصِفَة السمع.

6 - أنَّه لو قال لغريمه: لك أجل أربعة أشهر، فإن وفَّيتني قبلت منك، وإن لَم توفني حبستُك، كان مقتضاه أن الوفاءَ والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يعقل المخاطبُ غير هذا.

فإن قيل: ما نحن فيه نظير قوله: لك الخيار ثلاثة أيام، فإن فسخْت البيع وإلا لزمك، ومعلومٌ أن الفسخ يقع في الثلاث لا بعدها، قلنا: هذا من أقوى حججنا عليكم، فإن موجب العقد إلزام فجعل له الخيار في مُدَّة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يفسخ عاد العقد إلى حكمه، هكذا الزوجة لها حقٌّ على الزوج كما له حق عليها، فجعَل له الشارع امتناع أربعة أشهر لا حق لها فيهن، فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجب العقد، وهو المطالبة لا وقوع للطلاق، وحينئذٍ فهذا هو الدليل السابع.

وأمَّا قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربُّص لا على استحقاق المطالبة، وأمَّا القول بأن الفيئة لو كانت بعد المدة لزادت على أربعة أشهر فليس بصحيح؛ لأن الأربعة أشهر مدة لزمن الصبر"، (زاد المعاد جـ 4 ص 111 - 113).

[15] يقول الصنعاني في تعريف (الخلع) شرعًا: هو فِراق الزوجة على مالٍ، "سبل السلام" جـ 3 ص 166.

أمَّا معناه اللغوي فمأخوذٌ من خلع الثوب؛ ففي "المصباح المنير": خالعت المرأة زوجَها مخالعة إذا افتدت منه، وطلقها على الفدية، فخلعها هو خلعًا، والاسم الخُلع بالضم، وهو استعارة من خلع اللباس؛ الخاء مع اللام.

[16] "الظلال" جـ 1 ص 248.

[17] "صحيح البخاري" جـ 3 ص 169، "نيل الأوطار" جـ 7 ص 34 ص 35، "سبل السلام" جـ 3 ص 166، وقد علَّق الصنعاني رحمه الله على قولها: "ما أعتب عليه في خلق ولا دين"، فقال: رُوِي بالمثنَّاة الفوقيَّة مضمومة ومكسورة من العتب، وبالمثنَّاة التحتيَّة ساكنة من العيب، وهو أوفق بالمراد.

[18] "المغني"؛ لابن قدامة، جـ 8 ص 175.

[19] أي: بكل شيء تملكه.

[20] "المغني" جـ 58 ص 176.

[21] بمعنى: أن الفسخ بردِّ المتعاقدَيْن إلى ما كانا عليه قبل التعاقد، وفسْخ عقد الزواج يقتَضِي ردَّ الصَّداق دون زيادة، ولكن يُلاحَظ أنَّ الفسخ غير مسلم، فالبعض يراه فسخًا، والبعض يراه طلاقًا - كما سيأتي.

[22] يقول العلامة ابن حزم: قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: 229]: عموم لا يحلُّ تخصيصه بالدعاوى؛ ("المحلى" جـ 10 ص 241).

[23] جاء في بعض الرِّوايات عندما قال لها النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أتَرُدِّين عليه حديقته؟))، قالت: الحديقة زيادة، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَّا الزيادة فلا))، يقول ابن حزم: إنَّ هذا الجزء من الحديث مرسل؛ فلا يصلح الاستدلال به، ونحن نقول: وحتى إن صحَّ الاستِدلال به في بعض الأحوال، فلا يصلح المرسل هنا بتَخصِيص عموم القرآن - والله أعلم.

[24] وفي هذا جمعٌ بين الآية والحديث؛ فالآية تدلُّ على الجواز، والحديث يدلُّ على أنَّه من الأفضل الاقتصار على الصَّداق، والله ولي التوفيق؛ ("المغني" جـ 8 ص 176).

[25] اعتَرَض البعض على كلمة (تكييف) بحجَّة أنها مستوردة أو مترجمة، وبحمد الله تعالى فقد كان العنوان الذي اختارَهُ الإمامُ البخاري رحمه الله قاطعًا في الرد على كلِّ معترض؛ فقد ساق العنوان على النحو التالي: "باب الخُلع وكيفيَّة الطلاق فيه"؛ ("صحيح البخاري" جـ 3 ص 169).

[26] وبيان ذلك أنَّ الفسخ يستَوجِب ردَّ حالة المتعاقِدين إلى ما كان عليه قبل التعاقُد، وبالتالي فلو كان الخلع فسخًا لوَجَب على المرأة أن تردَّ إلى الرجل ما قبضَتْه من صداق؛ لأنَّه من آثار عقد الزواج، كما أنَّه بِناءً على هذا الاعتبار لا يصحُّ له الاتِّفاق على أيِّ مال آخَر؛ لأنَّ مُقتَضى الفسخ ردُّ الصداق فقط، أما وإنَّه يجوز للمرأة أن تقدِّم أيَّ عِوَضٍ آخَر قليلاً كان أو كثيرًا، فدلَّ ذلك على أنَّ الخلع طلاق، وليس فسخًا.

[27] تبنَّى ابنُ حزم القولَ بأنَّه طلاقٌ تمسُّكًا بعِدَّة آثارٍ واردة، واعتِمادًا على هذا الحديث الصحيح الذي أخَذ به من جميع الوجوه، فبَعد أن تَناوَل أدلَّة المعارض بالردِّ، إذا به يقول: "أمَّا نحن فلا نلتَفِت إلى شيءٍ من هذا - أي: من الضعيف - وإنما هو ما صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قلنا به، والحمد لله رب العالمين، ("المحلى" جـ 10 ص 239).

[28] فقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: أنَّ امرأة ثابت بن قيس اختَلعَتْ منه، فجعل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عدَّتها حيضة؛ ("سنن أبي داود" جـ 2 ص 269)، وبهذا تختَلِف عدَّة المختلعة عن عدَّة المطلقة، فالأولى تعتدُّ بقرءٍ واحد، والثانية تعتدُّ بثلاثة قُرُوء، وهذا دليلٌ على أن الخلع فسخ في نظر القائلين بذلك.

[29] تلك هي عبارة الصنعاني بنصِّها ("سبل السلام" جـ 3 ص 168")، ولعلَّه لم يلتَفِت إلى خلاف ابن حزم الذي رجَّح أنَّه طلاق رجعي قائلاً: قد بيَّن الله تعالى حكم الطلاق، وأنَّ بعولتهن أحق بردهن، فلا يجوز خلاف ذلك، وما وجدنا قط في دين الإسلام عن الله تعالى ولا عن رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه إلا الثلاث مجموعة أو مفرقة، أو التي لَم يطأها ولا مزيد، وأمَّا ما عدا ذلك فآراء لا حجَّة فيها، ("المحلى" جـ 10 ص 240)، ورَحِمَ اللهُ ابنَ حزم؛ فإن في قول الله تعالى: ﴿ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾ [البقرة: 229] ما يؤكِّد أنَّ الافتِداء والفدية إنما لأمرٍ خطير ألَمَّ بها، ومشكلة عويصة تريد التخلُّص منها، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للأسير الذي يدنو من الخلاص ولو بدفع فداء، فهذه المسكينة البائسة التي دفعت مالها للافتِداء لا يُعقَل في قواعد الشريعة أن تقاد إلى الأَسْر مرَّة أخرى بإرادة الزوج الذي أخذ المال لتخليصها ممَّا هي فيه.

ولذلك فقد صرَّح ابن القيِّم بأنَّه ثبَت بالإجماع أنَّه لا رجعَة في الخلع؛ "زاد المعاد جـ 4 ص 5".

[30] شلبي، المرجع السابق ص 504.

[31] هذا هو الشرط الجوهري والأساسي، وقد اختَلَف الفقهاء في اشتراط الإشهاد يقول ابن قدامة: "إنَّ الرجعة لا تفتَقِر إلى ولي ولا صداق، ولا رضا المرأة، ولا علمها بإجماع أهل العلم؛ لأنَّ المطلَّقة رجعيًّا في حكم الزوجة، والرجعة إمساك لها واستِبقاء لنكاحها، ولهذا سمَّى الله تعالى الرجعة إمساكًا، وترك الرجعة فراقًا وسَراحًا؛ فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [الطلاق: 2].

وفي آية أخرى: ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229]، وإذا تشعث النكاح بالطلقة وانعقد به سبب زواله، فإنَّ الرجعة تزيل شعثه، وتقطع مضيه إلى البينونة، فلم يحتج إلى ما يحتاج إليه ابتداء النكاح.

وأمَّا الشهادة ففيها روايتان:

إحداهما: تجب، وهذا أحد قولي الشافعي؛ لأنَّ الله تعالى قول: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2].

والرواية الثانية: لا تجب الشهادة، وهي اختِيار أبي بكر، وقول مالك وأبي حنيفة؛ لأنها لا تفتَقِر إلى قبولٍ فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، وعند ذلك يحمل الأمر على الاستِحباب؛ ("المغني" جـ 8 ص 481 - 482").

[32] "لسان العرب": العين مع الدال، "المصباح المنير" باب العين مع الدال وما يثلثهما، وورد في "اللسان": "وعدَّة المرأة أيَّام قُرئِها، وعدَّتها أيضًا أيام إِحْدَادها على بعْلِها وإمساكها عن الزينة، شهورًا كانت أو أَقْراءً، أو وضْع حمل حملَتْه من زوجها، وقد اعتدَّت المرأة عدَّتها من وفاة زوجها أو طلاقه إيَّاها، وجمْع عِدَّتها عِدَد، وأصل ذلك كلِّه من العَدِّ".

[33] يقول الصنعاني: (العِدَّة) هي اسمٌ لمدَّة تتربَّص بها المرأة عن التزويج بعد وفاة زوجها، في الأصل: أو فراقه لها، إمَّا بالولادة وإمَّا بالأقراء، أو بالأشهر، "سبل السلام" جـ 3 ص 196.

[34] أي: انتهت فترة نفاسها.

[35] "نيل الأوطار" جـ 7 ص 85 - 89.

[36] وهي الحالات الأربع التي ذكرناها بالتفصيل.

[37] البري - المرجع السابق ص 28 من القسم الثاني.

[38] أي: الاتِّفاق بينهما على التعجيل بانتهاء العدَّة وإسقاط الحقوق ابتِغاء مصلحتها.

[39] "جواهر الفتاوى" كتاب من كُتُب الحنفية.

[40] "الدر المختار وحاشية ابن عابدين" جـ 3 ص 522 - 524 طبعة سنة 1386هـ.

[41] "حاشية ابن عابدين على الدُّر المختار" جـ 3 ص 522.

[42] يقول ابن عابدين في شرح هذه العبارة: "وحين إذ علمت هذا التفصيل الذي ذكرنا حاصله ظهر أنَّ هذه المسائل إذا لم يكن الطلاق فيها مشتهرًا يكون مبدأ العدَّة من وقت الثبوت؛ أي: ثبوت الطلاق وظهوره بينهم، فقوله: والظهور، عطف تفسير؛ أي: يكون مبدؤها من وقت إقراره بين الناس، فتكون هذه المسائل مستثناة أيضًا من قوله: ومبدأ العِدَّة بعد الطلاق، بخلاف ما إذا كان مشتهرًا من الأصل، فإنها تكون من وقت الطلاق، وقد علمت أنَّ الإقرار في عبارة الخانية بمعنى الإشْهار بين الناس من حين التطليق، هكذا ينبغي حلُّ هذا المقام، فافهم"؛ ابن عبادين المرجع السابق نفس الموضوع.

[43] "المحلى" جـ 10 ص 197 - 198 المسألة رقم 1962.

ويقول في موضعٍ آخر (من كتاب العدد): وتَعْتَدُّ المطَلَّقة غير الحامل والحامل المتوَفَّى عنها، من حين يأتيها خبر الطلاق أو خبر الوفاة، وتَعْتَدُّ الحامل المتوَفَّى عنها من حين موته فقط؛ المرجع السابق جـ 10 ص 311 المسألة رقم 2009.

[44] "الظلال" جـ 1 ص 259.

[45] يقول العلامة الدهلوي رحمه الله: "اعلم أنَّ النسب أحد الأمور التي جُبِل على محافظتها البشرُ، فلن ترى إنسانًا في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يحبُّ أن يُنسَب إلى أبيه وجده، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما، اللهم إلا لعارضٍ، من دناءة النسب، أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع أو نحو ذلك، ويحبُّ أيضًا أن يكون له أولاد يُنسَبون إليه، ويقومون مقامَه، وربما اجتَهدوا أشدَّ الاجتِهاد وبذلوا طاقتهم في طلب الولد، فما اتَّفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنًى من جبلَّتهم، ومبنى شرائع الله على بَقاء هذه المقاصد التي تجري مجرى الجبلَّة، وتجري فيها المناقشة والمشاحَّة، والاستِيفاء لكلِّ ذي حقٍّ منها، والنهي عن التَّظالُم فيها؛ فلذلك وجَب أن يبحث الشارع عن النسب؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الولد للفِراش، وللعاهر الحجرُ))"؛ الدهلوي: "حجة الله البالغة" جـ 2 ص 143.

[46] رواه البخاري، سنده عن سعد رضِي الله عنْه وفي نهايته: فذكرتُه لأبي بكرة، فقال: وأنا سمعَتْه أذناي ووَعاه قلبي من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم "صحيح البخاري" جـ 4 ص 105، وفي نفس الموضع ساقَ البخاري رحمه الله حديثًا عن أبي هريرة رضِي الله عنْه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لا ترغبوا عن آبائِكم، فمَن رَغِبَ عن أبيه فهو كفر))، ومع نظر الولد إلى أبيه فإنَّ الأب يستمرُّ في جحوده لولده، وقد يكون النظر من الأب أيضًا فهو ينظر إلى ولده؛ لأنَّه قِطعةٌ منه، فلا يستطيع أن يغالب بصره، ولكنَّه مع ذلك يستمرُّ في جحوده ويُغالِط نفسَه فيُنكِر ولده، فالجنَّة عليه حرام.

[47] ((وهو ينظر إليه))؛ بمعنى: وهو يعلم أنَّه ولده، والنظر قد يكون من الطفل بدافع ما أودَع الله فيه من حسب لأبيه.

[48] أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه ابن حيان "سبل السلام" جـ 3 ص 195، وعلَّق عليه الدهلوي رحمه الله فقال: لَمَّا كانت المرأةُ مُؤتَمنة في عرْضها وفي العدَّة ونحوها، مأمورة ألا تلبِّس عليهم أنسابهم، وجَب أن تُرَهَّب في ذلك، وإنما عُوقِبت على هذا؛ لأنَّه سَعْيٌ في إبطال مصلحة العالم، ومناقضة لما في جِبِلَّة النوع، وذلك جالِبٌ بُغضَ الملأ الأعلى؛ حيث أُمِروا بالدُّعاء لصلاح النوع... والرجل إذا أنكَر ولدَه فقد عرَّضَه للذلِّ الدائم والعار الباقي طول الدهر"؛ "حجة الله البالغة" جـ 2 ص 144.

[49] كان أهل الجاهليَّة يبتغون الولد بوجوه كثيرة لا تُصَحِّحها قوانين الشرع، فلمَّا بعَث الله النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سدَّ هذا الباب، وخيب العاهر، وذلك من المصالح الضرورية التي لا يُمكِن بَقاء بني الإنسان إلا بها، اختِصاص الرجل بامرأته، ومن مُقتَضى ذلك أن يخيب مَن عصى هذه السنَّة الراشدة، وابتغى الولد من غير اختِصاص، إرغامًا لأنفه، وازدِراء بأمره، وزجرًا له أن يقصد مثل ذلك، وإلى هذا الإشارةُ في قوله عليه الصلاة السلام: ((وللعاهر الحجر))، إن أريد معنى الخيبة، كما يُقال: بيده التراب، و: بيده الحجر.

وأيضًا فإذا تَزاحَمت الحقوق، وادَّعى كلٌّ لنفسه، وجب أن يرجح مَن يتمسَّك بالحجَّة الظاهرة المسموعة عند جماهير الناس، أمَّا مَن يتمسَّك بما يَزِيد اللائمة عليه، ويفتَح باب ضرْب الحدِّ، أو يعتَرِف بأنَّه عصى الله، وكان مع ذلك أمرًا خفيًّا لا يُعلَم إلا من جهة قوله، فمن الحق أن يُؤَجَّل ذلك ويُترَك، بل يُعاقَب العقابَ الرادع"؛ الدهلوي: "حجة الله البالغة" جـ 2 ص 143.

[50] على خلافٍ في الرأي حول الزمن اللازم بعد الولادة، أو مُدَّة النِّفاس، أو عند قبول التهنئة.

[51] وينبغي أن نؤكِّد أن الفراش الذي يثبت به النَّسَب هو القائم على عقد زواج صحيح، فإن كان العقد باطلاً فلا أثَر له مطلقًا، ويجب الحدُّ بالدخول فيه ولا يثبت به نسب، وأمَّا العقد الفاسد فيندَرِئ الحد فيه للشبهة ويثبت به النسب.

[52] بكسر الدال.

[53] شلبي، المرجع السابق ص 694.

[54] "الحقوق المتعلقة بالتركة"؛ للمؤلف ص 323، طبعة سنة 1971.

[55] لأنهم والدون غير مباشرين.

[56] وتَصِير المقر لها بالبنوَّة بنتًا، والمقر له بالأبوَّة أبًا، والمقر لها بالأمومة أمًّا.

[57] فهم يقولون: إنَّه يُعامَل بمقتضى إقراره في حقِّ نفسه، فإذا أقرَّ الشخص بأنَّه أخوه، فإنه وإن لَم يثبت له النسب من أبيه، يُعامَل بإقراره في حقِّ نفسه، فإذا مات المقر وليس له وارث مطلَقًا، فإن المُقَرَّ له يستحقُّ التركة كلها أو ما تبقَّى منها بعد سداد الديون، وتنفيذ الوصية في حدود الثلث، واستِحقاقه لها يكون بطريق الميراث عند الحنفية، ولكن لا يعتبر وارثًا عندهم إلا بتوافر الشروط الآتية:

1 - أن يصدِّقه المُقَرُّ له على هذا الإقرار.

2 - أن يُولَد مثل المقر له لمثل ذلك الغير الذي حمل النسب عليه.

3 - أن يموت المقر مُصِرًّا على الإقرار؛ لأنه من حق المقر أن يَرجِع عن هذا الإقرار.

4 - أن يكون المقر له حيًّا وقتَ موت المقر أو الحكم باعتباره ميتًا.

5 - ألا يقوم به مانع من موانع الميراث.

ويقول الحنفيَّة: إن هذا المُقَرَّ له يُشارِك المقر في ميراثه؛ بمعنى: لو أن للمقرِّ نصيبًا في تركة الغير، فإن المُقَرَّ له يُشارِك المُقِرَّ في ميراثه متى توافرت الشروط الأخرى.

أمَّا الشافعيَّة فلا يعتَبِرون ذلك ميراثًا؛ لأنَّ الإقرار إمَّا أن يَثبُت به النسب، وهنا يأخُذ المُقَرُّ له درجتَه بين الورثة الحقيقيين، وإمَّا لا يثبت به النسب، وكيف يرث مَن لا نسَب له؟

راجِع تفصيل ذلك: "الحقوق المتعلِّقة بالتركة"؛ للمؤلف ص 281 - 282.

[58] "سبل السلام" جـ 4 ص 129.

[59] أي: بأن يقول أمام القاضي، أو أمام الهيئة التي يُدلِي بشهادته أمامَها: أشهد بكذا.

[60] وهذا ما يؤكِّده المعنى اللغوي لكلمة (شهد)، ففي "الصباح المنير": شهدت الشيء؛ أي: اطَّلعت عليه وعايَنتُه، شُوهِدت لمجلسٍ وحضرته، فأنا شاهد وشهيد أيضًا، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب؛ أي: إن الحاضر يعلم ما لا يعلمه الغائب، وشهد بكذا يتعدَّى بالباء؛ لأنه بمعنى أخبر به، ولهذا قال ابن فارس: الشهادة الإخبار بما قد شُوهِد، وقد جرَى على ألسنة الأئمَّة سلفها وخلفها في أداء الشهادة بلفظ: "أشهد"، مُقتَصِرين عليه دون غيره من الألفاظ الدالَّة على تحقيق الشيء؛ نحو: أعلم وأتيقَّن، وهو مُوافِق لألفاظ الكتاب والسنَّة أيضًا، فكان كالإجماع على تعيين هذه اللفظة دون غيرها، ولا يخلو من معنى التعبُّد؛ إذ لم يُنقَل غيره، ولعلَّ السر فيه أنَّ الشهادة اسمٌ من المشاهدة، وهي الاطِّلاع على الشيء عيانًا، فاشترط في الأداء ما يُنبِئ عن المشاهدة، وأقرب شيء يدلُّ على ذلك ما اشتقَّ من اللفظ، وهو "أشهد" بلفظ المضارع، ولا يجوز "شهدتُ"؛ لأنَّ الماضي موضوعٌ للإخبار عمَّا وقع، نحو: فهمت، فيما مضى من الزمان، فلو قال: شهدتُ، احتمل الإخبار عن الماضي، فيكون غير مُخبِر به في الحال، والمضارع موضوعٌ للإخبار في الحال، فإذا قال: أشهد، فقد أخبر في الحال؛ "المصباح المنير" باب الشين مع الهاء وما يمثلهما.

[61] سبق أن تكلَّمنا عن شروط صحَّة الزواج، وتكلَّمنا بالتفصيل عن الشهادة، وذلك في القسم الأوَّل من هذه الدِّراسة.

[62] بشهادة رجلين أو رجل وامرأتان تتوافَر فيهم شروط الشهادة وأهمها العدالة.

[63] حالة الادِّعاء بالنسب المباشر.

[64] أبو زهرة، "الأحوال الشخصية"، ص 468.

[65] مدكور، "الوجيز" ص 436.

[66] وغنيٌّ عن البيان أنَّ الدعوى لو رُفِعت على هذا الغير مُباشرةً؛ على الأب في دعوى الأخوَّة، أو على الجد في دعوى العمومة، فإنها تخرج حينئذٍ عن كونها بنسبٍ غير مباشر إلى كونها دعوى بنسب مباشر وهنا تُسمَع دون شكٍّ؛ حيث تأخذ وصفًا آخر هو البنوة أو الأبوَّة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (1)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (2)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (3)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (4)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (6)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (7)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (8)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (10)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (11)
  • الزوجة والانشغالات الدعوية

مختارات من الشبكة

  • في حقوق الأخوة من النسب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بريطانيا: استبيان لمفوضية حقوق الإنسان عن حقوق المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • التبيان في بيان حقوق القرآن (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أثر الموت في حقوق الشخص والتزاماته في الفقه الإسلامي(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ميانمار: منظمة التعاون الإسلامي تدعو إلى ضرورة حماية حقوق مسلمي الروهنجيا(مقالة - المسلمون في العالم)
  • بريطانيا: فوز عضو المجلس الإسلامي بجائزة حقوق الإنسان والتآلف(مقالة - المسلمون في العالم)
  • حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: من أعظم حقوق الناس حق الجوار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الإسلام وحقوق المعاقين: دراسة فقهية في كيفية حماية حقوق المعاقين في المجتمعات الإسلامية وفق الشريعة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من حقوق ومكانة أهل الأعذار عند السلف وحقوقهم علينا (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب