• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    علامات الساعة (1)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    تفسير: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    الشباب والإصابات الروحية
    د. عبدالله بن يوسف الأحمد
  •  
    من فضائل الصدقة (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / دراسات شرعية / فقه وأصوله
علامة باركود

حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (2)

يوسف قاسم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 28/4/2010 ميلادي - 14/5/1431 هجري

الزيارات: 36011

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (2)

القسم الأول

في عقد الزواج والحقوق الناشئة عنه


﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].

خلق الله آدم - عليه السلام - وهو - سبحانه - أعلم بمدى حاجة هذا المخلوق إلى ما يصلح أمره، ويشد مِن أزره، ويؤنسه في وحدته، فخلق له من نفسه زوجه حواء - عليها السلام - ليسكن إليها [1] سكن المطمئن المستقر، وذلك أمرٌ لا يستغني عنه الإنسان السَّوي، فبعد سعيه وكدِّه في شؤون الحياة لا بد له من العودة إلى مستقره ومأواه في آخر نهاره، وبعد انتهاء أعماله.

 

ولذلك فإن الزواج هو النظام الإلهي الذي شرعه الله - عز وجل - لحكمةٍ إلهيَّة بالغة، تتمثَّل في بقاء النوع الإنساني على أكمل وجهٍ، وأتَمِّ نظام.

 

فالأساس الذي تقوم عليه سعادة البشريَّة، وصلاح المجتمعات الإنسانيَّة، يبدو جليًّا في تكوين الأسرة على أساس من الدين متين؛ إذ هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإن كانتْ صالحة كانت الجماعة كذلك من القوة والصلاح، بحيث تثبت وجودها، وتأخذ مكانها من الرفعة والارتقاء، وإذا كانت الأخرى انحلَّ المجتمع، وفسدت أخلاقه، وصار مستضعفًا ذليلاً، ولن يصونه من ذلك إلا التمسُّك بالطُّهر والعفاف، ولا يكون ذلك إلا بعقد الزواج الذي شرعه ربُّ العالمين؛ لتحقيق سعادة الناس أجمعين.

 

وكلامنا في هذا القسْم سيكون على مرحلتَيْن:

الأولى: في نشأة العقد.

والثانية: في آثاره ببيان الحقوق الناشئة عنه.


الباب الأول في عقد الزواج:

يُعرف عقد الزواج [2] بأنه: "ميثاق ترابُط وتماسُك شرعي بين رجل وامرأة على وجه البقاء، غايته الإحصان[3]، والإعفاف [4]، مع تكثير سواد[5] الأمة بإنشاء أسرة تحت رعاية الزوج على أُسس مستقرة، تكفل للمتعاقدَيْن تَحمُّل أعبائها في طمأنينة وسلام، وودٍّ واحترام"[6].

 

وهذا التعريف استحدثتْه بعض التشريعات المقتبسة من الفِقه الإسلامي، وقد آثرنا البَدء به؛ لأنه يعبِّر عن المراد من هذا العقد تعبيرًا صادقًا.

 

ولقد ذكر الفقهاء تعريفات عديدة لعقْد الزواج، تدور في جُملتها حول كونه عقدًا بين رجل وامرأة من شأنه حل العشرة ودوامها بينهما[7]، والكلام عن عقْد الزواج يدْعونا إلى الكلام عن حُكمه، وحكمة مشروعيته ومقدماته، ثُم عنْ أركانه وشُرُوطه.

 

بيد أنه يلاحظ أنَّ بحث بعض هذه الأمور قد يحتاج إلى شيءٍ من التفصيل أكثر مما يحتاجه البعض الآخر، وعلى وجه التحديد فإن الكلام عن شروط عقد الزواج مجاله في غاية الاتِّساع، ومع ذلك فسوف نُحاول إيجاز الكلام فيه بقدر الإمكان.

 

وبناءً على ذلك فإنَّ بحثنا في هذا المقام سيكون على النحو التالي:

الفصل الأول: في حكم الزواج وحكمته ومُقدماته.

الفصل الثاني: في أركان عقْد الزواج وشروطه.

 

الفصل الأول: في حكم الزواج وحكمته ومُقدماته:

مرادنا منَ الحكم هنا الحُكم التكليفي؛ أي مِن حيث كون العباد مكلفين من الله - تعالى - بعمل معيَّن أم أنهم غير مكلفين به، هذا ما نبيِّنه في المبحث الأول بالنسبة للزواج، وأما المبحث الثاني فسوف نتكلم فيه عن الحكمة من مشروعية عقد الزواج، وأخيرًا نتكلم في المبحث الثالث عن مقدمات هذا العقد.


المبحث الأول في حكم الزواج:

1 - الزواج سُنَّة في الظروف العادية.

2 - حكم الزواج في الظروف الأخرى.

3 - آراء الفُقهاء في حكم الزواج.


شاءتْ رحمة الله - عزَّ وجل - أن يكلفَ عباده بأوامر ومنهيات تحقيقًا لمصلحة العباد أنفسهم في دنياهم وآخرتهم، ولكن هل يدخل الزواج في إطار هذا التكليف؟ أو أنه مجرَّد ملك أو عمل من أعمالهم الاختيارية إن شاؤوا فعلوه، وإن شاؤوا تركوه؟


القاعدة في هذا الشأن، والتي يمكن تعميمها - في الظروف العادية - أن الزواج سُنَّة[8]، فقد رغَّبت الشريعةُ الإسلاميَّة فيه، لما يترتب عليه منَ الطُّهر والعفاف، وبقاء النوع، وصَوْن الأعراض.


ومرادنا بالظروف العادية أن يكونَ الإنسانُ في حال معتدلة، سواء الناحية الماليَّة أو الناحيَّة النفسيَّة والجسميَّة، فمتى كان الإنسانُ قادرًا على القيام بأعباء الزواج، وهو في حالةٍ صحية جيدة، وهو مع ذلك لا يَخشى على نفسه فتنة الوقوع في معصية، فإنَّ الزواج بالنسبة له يعتبر سُنَّة مؤكَّدة - بغَضِّ النظر عن الظروف الأخرى.


وبيان ذلك أن وجود ظروف أخرى بجانب الحالة العادية - التي بيَّناها فيما سلف - قد يجعل من الزواج واجبًا، أو قد تؤثر فيه من ناحية أخرى؛ فيكون الزواج مع توافرها غير مباح.


ويُمكن تفصيل ذلك الإجمال في الحالتين الآتيتَيْن:

الحالة الأولى: وجوب الزواج:

يكون الزواج واجبًا متى كان الشخصُ قادرًا على أعباء الزواج، مع إمكانه القيام بما يترتَّب عليه من حقوق أخرى، وهو في نفس الوقت يخشى على نفسه الوقوع في المحظور إن لَم يتزوَّج.


وأساس الوجوب في هذه الحالة أن الامتناع عن الزواج سيترتب عليه الوقوع في المحرَّمات، وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام، وواجب كل مؤمنٍ أن يفعل ما يحول بينه وبين المحظور، فكان الزواج واجبًا لهذا الاعتبار.


الحالة الثانية: عدم إباحة الزواج:

وأمَّا إذا كان الشَّخصُ غير قادرٍ على أعباء الزواج، وهو مع ذلك يخشى الظلم إن تزوَّج، فإنَّ الزواج بالنِّسبة له حينئذٍ يكون غير مباحٍ، وعدم الإباحة هنا يأخذ صورتَيْن:

الصورة الأولى: تحريم الزواج:

ويكون الزواج حرامًا عندما يكون الشخْص على يقينٍ مِن أنه سيظلم زوجته، ولا يستطيع القيام بسائر الحقوق الناشئة عن عقد الزواج، ووجه التحريم هنا ظاهر؛ لأن الزواج سيؤدِّي إلى الظلم، وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام.


الصورة الثانية: كراهة الزواج:

ويكون الزواج مكروهًا إذا انتفى اليقين من الحالة السابقة بأن كان الشخص غير متيقن من وقوعه في الظلم، ولكنَّه مع ذلك يخشى الوقوع فيه إن تزوج، فإنَّ الزواج بالنسبة له يكون مكروهًا في هذه الحالة.


آراء الفقهاء في حُكم الزواج:

ما بيَّناه في الفقرات السابقة كان هو الحكم العام الذي ظهر لنا على ضوء المبادئ العامة للفقه الإسلامي، بغَضِّ النظر عن اتجاهات المذاهب الفقهيَّة المختلفة، ذلك أنَّ للفقهاء تفصيلات كثيرة تدور حول هذا الموضوع، وخاصة فيما قدَّمناه أول الأمر على أنه قاعدة عامَّة.


فقد ذَهَب جمهورُ الفُقهاء إلى أنَّ الزواج سُنَّة - مستحب أو مندوب - بالنِّسبة للشخص المعتدل، الذي يأنس في نفسِه القدرة على تأْدِية واجباته، والقيام بأعبائِه.


وأدلتهم على ذلك الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الموضوع، والتي تدعو إلى الزواج وترغب فيه، بل لقد نصَّت بعض الأحاديث على هذا الحكم صراحة؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: جاء ثلاثة رهط يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإنِّي أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكن أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوج النساء، فمَن رغب عن سُنَّتي فليس منِّي))[9].


فهذا الحديث قد دلَّ صراحةً على أن الزواج سُنَّة من سُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذهب الظاهرية وبعض الفقهاء إلى القول بأن الزواج واجب مفروض حتى في الظروف العادية؛ وذلك أخذًا منهم بظاهر النصوص التي جاء فيها الأمر بالزواج، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع الباءة منكم فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لَم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))[10].

فقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فلْيتزوج)) أمرٌ بالزواج[11]، والأمر للوجوب، فيكون الزواج واجبًا مفروضًا.

ويرى الشافعية في المشهور عنهم أنَّ الزواج مباح بحسب الأصل[12].


وتتلخص أدلتهم على ذلك فيما يأتي:

1 - أنَّ القرآن الكريم عبَّر عن ذلك بلفظ الحِل، والحِل يقتضي أن يكون الفعل مباحًا؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5].

وأيضًا قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾ [النساء: 24][13].


2 - أن الزواج من الأمور التي يعتادها الناس في حياتهم، ويميلون إليه بطبعهم، مثَل الزواج في ذلك كمثَل الطعام والشراب، وهما من المباحات، فكان الزواجُ مباحًا كذلك.

وقد أشارت النصوصُ السابقة إلى هذه المماثلة؛ حيث قال الله - سبحانه - في الآية الأولى: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُم ﴾ [المائدة: 5]، ثم عطف على ذلك ما يفيد حِل الزواج؛ فقال - سبحانه -: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [المائدة: 5]، فدلَّ ذلك على أنَّ الكلَّ منَ المُباحات.


رأينا في هذا الموضوع:

وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإن الذي نراه بالنسبة لحكم الزواج هو رُجحان ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزواج في الظروف العادية سُنَّة مؤكَّدة للأسباب الآتية:

أولاً: كثرة ما ورد في الزواج من أحاديث صحيحة تدعو إليه، وترغب فيه؛ مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة))[14]، ((إذا نظر إليها سرَّتْه، وإذا غاب عنها حفظتْه، وإذا أمرها أطاعتْه))[15].

هذا فضلاً عن أن الحديث الذي استدلَّ به الجمهور قطع الشك باليقين، حيث نصَّ صراحة على أنَّ الزواج سُنَّة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فمَن رغب عن سنتي فليس مني)).


ثانيًا: ما استند إليه الظاهريَّة في قولهم بالوجوب لا يُفيدهم؛ لأنَّ النصوص التي تمسكوا بظاهرها تشتمل في ثناياها على ما يصرف الأمر عن هذا الظاهر؛ إذ القاعدة الأصوليَّة أنَّ الأمر للوجوب ما لَم توجد قرينة تصرفه عن ذلك الوجوب، وفي الحديث السابق وجدت القرينة الدالة على أن الأمر ليس للوجوب، بل هو للندب والاستحباب، وعلى ذلك يكون الزواج مستحبًّا أو مندوبًا، يعني من السُّنَّة التي رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، يظهر ذلك جليًّا من الحديث المشار إليه عند الكلام عن مذهب الظاهريَّة، فقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فليتزوج)) ليس أمرًا للوجوب والفرضيَّة، وإنما هو للندب والاستحباب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من الشباب غير القادر على نفقات الزواج الاستعانة بالصوم، وما كان الصوم هنا مطلوبًا طلب إلزام، بل كان إرشادًا، فدلَّ هذا على أنَّ صيغة الطلَب للزواج التي تقابل طلب الصوم ليستْ للإلزام؛ إذ لو كان الزواج لازمًا للزم أن يكون مقابله لازمًا ولَم يقلْ أحدٌ بذلك[16].


وسياقُ الحديث يدلُّ قطعًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد أن يرشد الشباب إلى صوم التطوُّع في غير شهر رمضان الذي فرض الله صومه على الجميع.


ثالثًا: ما استند إليه الشافعيَّة لا يفيدهم أيضًا في الدلالة على الإباحة؛ لأنَّ هذه النصوص وأمثالها جاءت في سياق الكلام عن التحريم، فكان من المناسب أن تتكلَّم النصوص بعد ذلك عن الحل.


فمثلاً قوله - تعالى -: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ [النساء: 24]، جاء مباشرة بعد بيان الله - عز وجل - للمحرَّمات من النساء[17]، وقوله - سبحانه -: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ.. ﴾ [المائدة: 5]، جاء في سياق الإجابة على سؤالهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ماذا أحل لنا؟ فنزلت الآيات من سورة المائدة في هذا الخصوص[18].


على أن التعبير بالحل يقصد به مجرد الإذن، وهو يصدق على الوجوب والندب والإباحة، فتعيَّن البحث عن مرجح، وقد وجدناه في الأحاديث الصحيحة التي تدلُّ صراحةً على أن الزواج سُنَّة - كما بيَّنا ذلك بالتفصيل.


وهكذا ثبت أن الراجح هو مذهب الجمهور القائل باستحباب الزواج، وأنه سُنَّة مؤكَّدة؛ لما يترتب عليه من الطُّهر والعِفَّة، ولما ينتج عنه من الذرية الصالحة التي هي نواة المجتمع الفاضل[19].


المبحث الثاني: في الحكمة من تشريع الزواج:

1 - رأينا في الحكمة.

2 - حكمة تشريع الزواج - كما بيَّنها الفقهاء.

3 - حكمة تشريع الزواج - كما بيَّنها المعاصرون.

تكلَّم علماء الشريعة قديمًا وحديثًا عن هذه الحكمة بما فتح الله عليهم من معارف وعلوم وأفهام على ضوء دراساتهم لكلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم.


وإنِّي سوف أتناول بعض ما قالوه في هذا الصدد بعد بيان فَهمٍ خاصٍّ بدا لي في هذا الموضوع، رأيت عرْضه على القارئ الكريم، فإن كان صوابًا فهو من الله - تعالى - وله سبحانه الحمد والشكر والثناء الحسن الجميل، وإن كان غير ذلك فإنِّي أستغفر الله مِن زلة قلم أو خطأ غير مقْصود.


رأينا في الحكمة مِن تشريع الزواج:

الذي نراه في هذا الموضوع - والله أعلم - أن الزواج هو تكريم للمرأة، وحِرْص على عفَّتها، وصَوْن لها من الابتذال.

إلى جانب ذلك فإن الزواج تكريم للنوع الإنساني على العموم، فلقد خلق الله الخلق، وفضَّل بعضهم على بعض، وكان من حكمته - عز وجل - أن كرَّم بني الإنسان، وفضَّلهم تفضيلاً عظيمًا على كثير من خلقه، ومن مظاهر هذا التكريم أن جعل له شرفًا لا يهدر، وكرامة لا تمس، فصان عرضه بسياج من الحماية، ووضع له في نفس الوقت ضوابط محددة لقضاء حاجاته المشروعة، وإشباع رغباته في إطار من الشرَف والتكريم.


بحيث يؤدي ذلك إلى المقصد الإلهي من الزواج، وهو حفْظ النوع الإنساني من حيث لا يشعر هذا الإنسان، فكان ذلك تحقيقًا للحكمة الإلهيَّة مِن شرعيَّة عقد الزواج الذي صان به عِفَّة المرأة، وحفظ به كرامتها، وفي ذلك تكريم للناس جميعًا؛ يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ * فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 72 - 74].


حكمة تشريع الزواج كما بيَّنها الفُقهاء:

تكلَّم فقهاء الشريعة - على مرِّ العصور - عن الحكمة من تشريع الزواج بما لا يتَّسع المقام لذِكْره، ولكنَّنا في هذا المقام نكتفي كما جاء عن الإمام الغزالي - رحمه الله - في بعض حكم الزواج، حيث يقول: "ولا تزال لطائف نعم الله على العالمين تَتْرَى، فهي تتوالى عليهم اختيارًا وقهرًا، ومن بدائع ألطافه أنه خلق من الماء بشرًا، فجعله نسبًا وصِهرًا، ثم عظم أمر الأنساب، وجعل لها قدرًا، فحرم بسببها السفاح، وبالغ في تقبيحه ردعًا وزجرًا، وجعل اقتحامه جريمة فاحشة وأمرًا إمرًا [20]، وندب إلى النكاح - وهو الزواج - وحثَّ عليه استحبابًا وأمرًا؛ لأنه معين على الدِّين، ومُهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسببُ التكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين"[21].


أمَّا في الأبحاث المعاصرة، فإنَّ الكلام عن حكمة تشريع الزواج يدور حول الأُمُور الثلاثة الآتية:

أولاً: الزواج هو الأساس الذي يقوم عليه بناء الأسرة وكيانها؛ إذ هو الرابطة المقدسة التي تجعل من علاقة الرجل بالمرأة علاقة روحيَّة "تليق برُقي الإنسان، وتسمو به عن درك الحيوانيَّة"[22]، وقد أشار الله - سبحانه - إلى تلك الصلة؛ فقال - عز وجل -: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].


فإذا قامت الأسرة على هذا الأساس المتين مِن شرع الله ربِّ العالمين، كانت هي البيئة الوحيدة التي يترعرع فيها النشْء الطيِّب، وتتربَّى فيها الذريَّة الصالحة التي تمدُّ المجتمع بعناصر القوة والعِزَّة والاستقامة.


ثانيًا: بقاء النوع الإنساني:

وهكذا نصل إلى الحكمةِ الأساسيَّة والنتيجة الحتميَّة التي أرادها الله ربُّ العالمين من تلك العلاقة التي شرعها بالحق والعدل؛ لعمارة الكون وبقاء الحياة الإنسانيَّة إلى حين قيام الساعة، ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - خلق هذا العالم وقدَّر بقاءَه إلى أَجَلٍ مُسمَّى، ولكن هذا البقاء إلى ذلك الأجل يتوقَّف على بقاء النَّوْع الإنساني المتوقف بالضرورة على التناسُل الذي لا يتمُّ ولا يفي بالغرض المقصود منه إلا بالزواج الشرعي، وذلك أمرٌ بدهي الثبوت، لا يحتاج إلى دليلٍ أو برهان[23].


ولقد حثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على طلب النَّسْل؛ فعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التزوج بامرأة ذات حسن وجمال، وحسب ومنصب ومال، غير أنها لا تلد، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التزوُّج بها، ثم أتاه الثانية فقال مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإنِّي مكاثر بكم الأمم))[24].


ثالثًا: السكن النفسي:

كذلك تكلَّم الباحثون عن السكن النفسي والاطمئنان القلبي، باعتبار أنَّ ذلك أثر من آثار الزواج، حيث يجد الزوج ذلك عندما يكون قد وفق في اختيار الزوجة الصالحة - كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين[25] - عند تفسيرهم قول الله - تعالى -: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ﴾ [الروم: 21].


ففي ذلك امتنان من الله - تعالى - بنعمة الزواج التي هي داعية التواد والتراحُم، ومجْلبة الألْفة والوفاق، وفي هذا النَّص الكريم ما يُنبئ عن تكريم المرأة، وأنها ليستْ كالمتاع، بل خلَقَها الله - سبحانه - ليسكن إليها الرجل ويستأنس بها، ويجد فيها معينًا على تدبير منْزله ومسكنه، فيقوم هو بما تتطلبه المعاشَرة وتفرضه المؤازرة، وتحتِّمه الصداقة والموَدَّة[26].


وإذا نظرت نظرةً فاحصة - مجرَّدة من التصنُّع والتكلُّف والتعصُّب، لَوَجَدْت حقيقة لا شكَّ فيها، هي أنَّ الزواج هو الراحة الحقيقيَّة للرجل والمرأة على السواء؛ ذ إنَّ المرأة تعكف على البيت ترعاه، وعلى الأولاد ترأمهم، وفي ذلك ما يتَّفق مع طبعها، وكل ما يتفق مع طبيعة الإنسان يجد فيه راحته الحقيقيَّة، وإن كان في ظاهره من المشَقَّة أحيانًا، والرجل بعد لأواء الحياة ومتاعبها يجد في بيت الزوجيَّة جنة الحياة، كأنه واحة في وسط صحراء الدنيا ومتاعبها، ولولا الزواج لكان أفاقًا لا مأوى له، ولا سكن ولا مستقر[27].


والخلاصة منَ كلِّ ما تقدَّم أنَّ النصوص الكريمة - سواء من القرآن العظيم أو السُّنَّة النبويَّة - قد جمعتْ كلَّ أسرار التشريع ومقاصده والحكمة منه؛ إما تصريحًا، وإما إشارة وتلميحًا.


وبخصوص الحكمة مِن تشريع الزواج يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تزوَّجوا الودود الولود؛ فإنِّي مُكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)).


المبحث الثالث: في مقدمات عقد الزواج:

عقد الزواج يمتاز عن سائر العقود بأنَّ له قُدسيَّة خاصة ترتفع به إلى أعلى درجات الأهميَّة، بل إن طبيعة هذا العقد توحي بتلك الخطورة التي يختص بها عقد الزواج من بين سائر العقود، فهو عقد يُبْرم على أساس الدوام والاستمرار إلى نهاية الحياة؛ لذا كانتْ له مقدمات بمثابة التمهيد له فترة من الزمن - بلا تحديد - للتفكير والتروِّي، والتأكُّد من الرغبة الحقيقيَّة في الإقدام على هذا الترابُط الدائم.


بل إن هذا التمهيد مُبالغة في الاحتياط، يتمثَّل في مرحلتَيْن:

الأولى: هي مرحلة الاختيار.

الثانية: هي مرحلة الخِطبة.

وإذا كان الاختيارُ أمرًا نفسيًّا في غالب أحواله، قد لا يحتاج إلى تفصيل كثير؛ فإن للخطبة أحكامًا تفصيليَّة أفاض الفقهاء في بيانها.


ولذلك فإننا حينما نتكلم عن مرحلة الاختيار في المطلب الأول، فإنَّ كلامنا فيه سيكون محدودًا بالقدر اللازم لبيان الحكمة من هذه المرحلة، وبيان ما قد ينتج عنه من أحكام.


وأما المطلب الثاني فسوف نبحث فيه الخطبة، وما يتعلق بها من أحكام، مما يدعونا إلى ذِكْر بعض التفصيلات التي يتطلبها استيفاء الموضوع.


المطلب الأول: في مرحلة الاختيار:

1 - أهمية هذه المرحلة.

2 - حُسن اختيار الزوجة.

3 - حُسن الاختيار من الجانبين.

4 - إباحة النظر في هذه المرحلة.


الاختيار - كما أشرنا - أمرٌ نفسي أولاً وقبل كلِّ شيء؛ إذ على مَن يريد الزواج أن يفكِّر في هذا الأمر الخطير، الذي سوف تترتب عليه نتائج لا يُمكن تداركها ولا الرجوع عنها، بل ولا التغيير فيها.


ولئن كان التفكير مطلوبًا بالنسبة للقُدرة على أعباء الزواج وتكاليفه ومطالبه؛ فإنَّ تركيز التفكير أشد لزومًا، وأكثر إلحاحًا بالنسبة للشخص الذي سيختاره شريكًا له في حياته، فليس الأمرُ متعلِّقًا بسلعة تُباع أو تُشترى؛ بل بحياة أبديَّة دائمة مستقرَّة، ولقد عبَّر بعض الفقهاء عن هذا المعنى حينما قال عن عقد الزواج إنه: "عقد عمري"؛ أي: عقد يدوم طوال العمر.


من أَجْل ذلك كان التسرُّع في الإقدام على الزواج من غير تحكيم العقل في غاية الخطورة على هذا الميثاق ذاته؛ إذ الاندفاع يؤدِّي حتمًا إلى نتائج عكسيَّة في كثيرٍ من الأحوال وفي معظم الأمور؛ فما بالنا بالزواج الذي هو ارتباطٌ بين شخصَيْن مدى الحياة، وليس ذلك مقصورًا على شخص الشريكين؛ بل سيتعدَّى ذلك حتمًا إلى الذريَّة؛ مما يجعل للتسرُّع والاندفاع آثارًا سيِّئة إلى أبعد الحدود.


حُسن اختيار الزوجة:

ومن هنا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حسن اختيار الزوجة؛ فإنَّ في ذلك - أي: في حُسن الاختيار هذا - الخير الكثير للزوجين أولاً، وللأولاد ثانيًا، بل وللمجتمع بأسره، ولذلك فقد جاءت الأحاديث الصحيحة تبيِّن الأوجُه التي يرغب الرجال في التزوُّج بالنساء مِنْ أجْلها، وهي المال والحسب والجمال والدِّين، ثُم قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فاظفر بذات الدين تربتْ يداك))[28].


ومعنى ذلك أنه إذا كان الرجال يرغبون في النساء لهذه الأسباب، فإنَّ الذي يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدين، أما غيره من الأسباب الأخرى فليستْ هي أساس الاختيار، "فاللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمع نظره في كلِّ شيءٍ، لا سيِّما الزوجة؛ فهي أولى مَن يعتبر دينه؛ لأنها شريكة حياته، وأم أولاده، وأمينته على ماله ومنزله وعلى نفسها"[29].


وليس معنى الظفر بذات الدين قصر الاختيار عليه وحده، والعدول عما سواه من الصفات الأخرى، "وإنما القصد اعتبار الدين أساسًا في التخيُّر، ولا يمنع هذا من التطلُّع بعد ذلك إلى شيء من الاعتبارات الأخرى، أما اعتبار الجمال وحدَه، فهو جدير ألا يحقق الحياة الزوجيَّة المنشودة؛ فإنَّ الجمال كثيرًا ما يُوَلِّد الغيرة والشك، على أنه عرضةٌ للزوال، فتزول الرغبة بزواله وتغيُّره[30]، كما أن المال والجاه قد يكونان السبب في إفساد الحياة الزوجيَّة وانفصامها، إذا ما طغت المرأة، وتعالت غرورًا بجاهها ومالها، ومعنى ذلك أن غير الدين من الأمور الأخرى التي يميل إليها الناس، ويجعلونها وحدها أساس الاختيار قد تكون هي ذاتها سببًا في الهمِّ والنَّكد والشَّقاء، ولقد ورد في حديث عبدالله بن عمرو عند ابن ماجه والبزَّار مرفوعًا[31]: ((لا تزوجوا النساء لحسنهِنَّ؛ فعسى حسنهُنَّ أن يرديهِنَّ، ولا تزوجوهُنَّ لأموالهِنَّ؛ فعسى أموالهنَّ أن تطغيهنَّ، ولكن تزوجوهنَّ على الدين، ولأمة سوداء ذات دين أفضل)).


حسن الاختيار من الجانبَيْن:

وما بيَّناه في الفقرات السابقة ليس خاصًّا بالرجل، بل إنه ينطبق على طرفي عقد الزواج؛ الرجل والمرأة، على حدًّ سواء.


بيد أنَّ الرجُل يختار لنفسه، والأب يُحسن الاختيار لابنته، مع ضرورة التأكُّد مِن رضاها واقتناعها بالشخص الذي سوف تعيش معه، كما سنبيِّن ذلك في موضعه.


وإذا كانت النُّصوص في مُعظمها تُخاطب الرجل، فما ذلك إلا مِنْ باب التغليب - المقصود به الجانبان - وما جرى عليه عُرْف الناس في غالب أحْوالِهم.


ومع ذلك فإننا نجد نصوصًا كريمة تشير إلى حُسن الاختيار بالنسبة لولي المرأة، حيث ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أتاكم مَن ترضون خُلُقه ودينه فزوِّجوه، إلا تفْعلوا تكنْ فتنة في الأرض، وفسادٌ كبير))[32].


إباحة النظر في هذه المرحلة:

حرَّم الله - تعالى - النظر إلى المحرَّمات، وذلك في قوله - سبحانه -: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ [النور: 30 - 31]، إلى آخر النص الكريم.


غير أنَّ الإنسان إذا كان في مرحلة الاختيار، وفكَّر مليًّا في التزوُّج بامرأة مُعَيَّنة، فإنَّ الشرع يُبيح له أن ينظر إليها؛ حتى يكونَ ذلك أقرب إلى حُسن الاختيار المطلوب، وأدعى إلى دوام العِشرة بينهما.


وإباحة النظر إلى مَن وقع عليه اختيارها؛ لكي تكون شريكة حياته إنما يكون قبل التقدُّم لخطبتها دون أن تعلم بذلك؛ لأنَّ النظر على هذه الصورة لن يترتب عليه أذى بها، ولن يخدش كرامتها فيما لو عدل عن اختياره لها، أو ظهر له أنها غير صالحة في نظرِه، فيكون ذلك أَوْلَى بالمحافظة على كرامة الناس ومشاعرهم.


فقد روى أحمد بسنده عن عبدالله عن أبي حميد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خطب أحدُكم امرأةً، فلا جناح عليه أن ينظرَ إليها، إذا كان إنما ينظر إليها لخطبة، وإن كانتْ لا تعلم)).


والقدر الذي يُباح النظر إليه شرعًا في هذه الحالة: هو الوجه والكَفَّان فقط عند أكثر أهل العلم [33]، ولا يتجاوز ذلك؛ لأنَّ الاقتصار على هذا الحدِّ فيه الكفاية.


ومِن ناحية أخرى، فقد أجمع فقهاء الشريعة على أن النظر إلى من يريدها زوجة له لا يجوز أن يكون في خلوة؛ لما رُوي عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَخلونَّ بامرأة ليس معها ذو محرم؛ فإنَّ ثالثهما الشيطان)) [34].


كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد.


المطلب الثاني في الخطبة:

تبدو أهميَّة الخطبة في أن يصبحَ لدى كلٍّ مِن طَرفي عقد الزواج معلومات كافية عن الطرف الآخر، ولا نقول: علم اليقين، بل يكفي على الأقل وجود الأسباب المعقولة التي تجعل الشخْص مُقتنعًا بصاحبه، عند ذلك يكون عقد الزواج قد نشأ على أساس سليم؛ فيكون ذلك أدعى إلى دوام العِشرة، واستمرار الأُلْفة والمودَّة.


وإذا كانت المرحلة الأولى - وهي الاختيار - أمرًا نفسيًّا في الغالب، فإن الخطبة تأخذ مظْهرًا خارجيًّا يتمثَّل في إعلان تلك الرغبة التي كانتْ كامنةً في النفس.


ونحن هنا نتكلَّم عن الخطبة، فنبيِّن معناها وشروطها وآثارها، ثم نتكلم بعد ذلك عن العدول عنها، وأثر ذلك بالنِّسبة للطرفين، نبحث هذه الأمور في الفرعَيْن الآتيين:

الفرع الأول: حقيقة الخطبة وشروطها وآثارها.

الفرع الثاني: العدول عن الخِطْبة.


الفرع الأول في حقيقة الخطبة وشروطها وآثارها:

1 - تعريف الخِطْبة.

2 - صيغة الخِطْبة.

3 - شروطها

4 - خِطْبة المعتدة.

5 - التعريض بالخطبة.

6 - الخِطْبة على الخطبة.

7 - طبيعة الخطبة.

8 - آثار الخطبة.


تعريف الخطبة:

تعريف الخطبة: الخطبة في حقيقتها الشرعيَّة [35] هي: تواعُد مُتبادل بالزواج في المستقبل.

وظاهر من هذا أن الخِطبة مرحلة متَوَسِّطة بين الاختيار وإبرام العقد؛ حتى لا يكون الزواج مُعَرَّضًا للانهيار، فيما لو تَمَّ هكذا فجأة دون تمهُّل وبلا رَويَّة، أو تعرُّف على أخلاق الطرف الآخر.


والأصلُ أن الخطبة تكون من الرجل؛ فهو الذي تقدَّم لطلب يد المرأة من وليِّها، وهذا ما دعا الباحثين والشُّرَّاح إلى القول بأن الخِطبة هي أن يُعلن الرجلُ رغبته في الزواج مِن امرأةٍ مُعيَّنة.


فطبيعة المرأة وما جبلتْ عليه من حياء - بِحُكْم فطرتها - يحول بينها وبين إبداء رغبتها في الزواج، وقد تزداد حرجًا فيما لو كانتْ هذه الرغبة في رجلٍ بعَيْنه.


وإذا كان التاريخ قد شهد الخِطبة من جانب المرأة أو وليِّها، فذلك يرجع في نظَرِنا إلى بعض الحالات النادرة التي تزول فيها الفوارق بين الناس، ويرتفع ما بينهم من حَرَجٍ؛ لقوة اتِّصالهم جميعًا بالله - تعالى - حيث لا يخشى أحد منهم في الحق لومة لائم، كما هو الحال بالنِّسبة لما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد توفِّي زوج ابنته حفصة - رضي الله عنها - وصادف أن توفيتْ زوجة عثمان - رضي الله عنهما - فعرض عمر ابنته حفصة على عثمان، فأعرض عثمان عن ذلك لمعنى في نفسه، أو لمعنى فهمه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند ذلك وجد عمر في نفسه شيئًا، فعرض ما حدث على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الله زوَّج ابنتك خيرًا من عثمان، وزوَّج عثمان خيرًا من ابنتك)) [36].


ولقد توارد على ألسنة الناس حتى صار مثلاً: "اختَرْ لابنتك"، فأساس هذا المثل أن البنت أحوج ما تكون إلى حُسن الاختيار، وإلى التروِّي والتفكير قبل أن يزوجها أبوها؛ فإنها بحكم الشرع ملزمة بطاعة زوجها، والعصمة ليستْ في يدها؛ فهي أكثر احتياجًا من الابن إلى حُسن الاختيار، وفي هذا توجيه للآباء ألا يزوجوا بناتهم إلا عند التأكُّد مِنْ خُلُق الزوج، وحُسن معاملته، وتمسُّكه بدينه.


صيغة الخطبة:

نظرًا لأن الخطبة مُجرد وعدٍ، أو تواعد بالزواج، فإنها لا تحتاج إلى صيغة خاصة، ولا إلى إجراء مُعيَّن، بل تصح بكلِّ ما يدلُّ على المقصود منها، ويظهر الرغبة في التزوج، على أن يكون ذلك متبادلاً بين الطرفين، دالاًّ على إرادتهما وصدْق رغبتهما في إتمام عقْد الزواج مُستقبلاً.


وطبقًا للمعتاد الغالب، فإنَّ الخاطب يتقدَّم لولي خطيبته بإِبْداء الرغبة في الزواج منها - وهي كما قلنا: لا تحتاج إلى إجراء مُعيَّن، ولا إلى لفظٍ خاص - غير أن تلك الرغبة المعلنة تحتاج إلى قَبولٍ واستجابة لها من ولي المخطوبة بعد التأكُّد مِنْ مُوافقتها تمامًا، أو منها هي شخصيًّا إذا كانتْ أهلاً لذلك[37]، كما يأتي تفصيله، فالمدار على وُجُود الرغبة الصادقة المتبادلة في إتمام عقْد الزواج.


وإذا كان الناسُ قد اعتادوا قراءة الفاتحة، فذلك للتبرُّك بقِراءتها، ولتأكيد تلك الرَّغبة المتبادَلة، وهذا لا ينفي أن الخطبة في جُملتها مرحلة تمهيد؛ للتأكُّد من جِديَّة مشْروع الزواج، وصلاحيته بالنِّسبة للطرفَيْن.


شروط الخطبة:

خلاصة ما يُشترط في الخِطبة ألا تمسَّ حقًّا من حقوق الغير، وهذه الجملة على إيجاز عبارتها واختصار كلماتها قد جمعت من المعاني ما يحتاج إلى بيان وتفصيل.


ذلك أن الخطبة - كما أشرنا - مُقدمة لعقد الزواج؛ ولذلك فلا تباح خطبة امرأة إلا إذا كانت صالحة لأن تكون زوجة في الحال؛ حتى يمكن أن يتمَّ العقد بناءً على مقدمات صحيحة؛ إذ الخطبة وسيلة لغاية هي الزواج، فإن كانت الغاية ممنوعة فالوسيلة غير جائزة، ولذلك اشترط الفقهاء لإباحة الخطبة ألا تكون المرأة محرَّمة على الرجل حُرْمة مُؤبَّدة، ولا حرمة مؤقَّتة.


ومن الأمور التي لا تحتاج إلى بيانٍ أنه لا يتصور توجيه الخطبة إلى امرأةٍ مُتزوجة؛ فهي منَ المحرَّمات المنصوص عليها في القُرآن الكريم نصًّا صريحًا [38]، فلا حاجة لنا إلى تفصيلٍ في هذه المسألة بعد ذلك.


أمَّا ما يحتاج إلى تفصيل وبيان، فهو تحريم خطبة المُعتدَّة، ومدى إمكان التعْريض بالخطبة في هذه الحالة، ثم منع الخطبة على الخطبة.


تحريم خطبة المعتدة:

يقصد بالمعتدَّة: المرأة التي هي في العدَّة [39]، غير أن تفصيل الحكم في هذه الحالة يختلف باختلاف ما إذا كانت امرأة في عدة طلاق، أو عدة وفاة، والطلاق قد يكون رجعيًّا، وقد يكون بائنًا، وكل ذلك يحتاج إلى تفصيل، غير أننا نبدأ بالمعتدَّة مِن طلاق رجْعي، ثم بالمعتدَّة من وفاة، ثم بالمعتدَّة من طلاق بائن [40].


المعتدة من طلاق رجعي:

أما المعتدَّة من طلاق رجعي، فلا يجوز خطبتها بأيِّ حالٍ من الأحوال؛ لأنها زوجة، إذ الطلاق الرجعي - كما سيأتي - لا ينهي العصْمة الزوجيَّة، ولا يفصم عُرَاها، وإنما يكون من حقِّ الزوج أن يُراجع زوجته في فترة العدة، دونما حاجة إلى أيِّ إجراءٍ.


وعلى هذا الأساس، فلا تصح مُطلقًا خِطبة المعتدة مِنْ طلاق رجعي - لا تصريحًا ولا تلْميحًا - بل إن الخطبة هنا تُعتبر اعتداءً صريحًا على حقِّ الزوج في مراجعة زوجته.


المعتدة مِنْ وفاة:

القاعدة: أنه لا تجوز خطبة المعتدَّة من وفاة؛ مراعاة لحقِّ الزوج، واحترامًا لشعور ذويه، فلئن كان الزوج قد مات إلا أنه لا يزال من مظاهر الحقوق الثابتة له إظهار الحزن عليه، والتأسُّف على فراقه مدة العدة التي حدَّدها الله ربُّ العالمين.


ومن ناحية أخرى، فإن مثل هذا الإجراء قد يؤدِّي إلى المساس بشعور أقارب الزوج الآخرين، وعلى ذلك تحرم شرعًا خِطبة المرأة في فترة العدَّة، فلا يجوز لأحدٍ أن يتقدَّم لخطبة مَن مات عنه زوجها إلا بعد مُضي أربعة أشهر وعشرة أيام [41] من تاريخ الوفاة؛ مراعاة لحقِّ الزوج، واحترامًا لمشاعر ذويه.


التعريض بالخطبة في هذه الحالة:

ولكن نظرًا لأنَّ هذه الاعتبارات ليستْ في حقيقتها إلا اعتبارات أدبيَّة، لا تمس حقَّ الغير إلا من هذا الجانب المعنوي، كما أن العدة ستنتهي حتْمًا بانقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام، فلا مجال لأخذ أقوال المرأة في هذه الحالة [42]؛ لأن عدة الوفاة محددة بالنص القرآني، والكل يَعرف تمامًا وقت الوفاة، وبمُضِي المدَّة المحددة تنتهي العدة دون الرجوع إلى أمر آخر.


نظرًا لذلك كله، فإن الله - سبحانه - أباح في هذه الفترة التعريض بالخطبة دون التصريح بها؛ يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [البقرة: 235].


يقول القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة: "أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدَّة الوفاة، والتعريض ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره، وهو مِن عَرض الشيء: أي جانبه، كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره"[43].


المعتدة من طلاق بائن:

والمعتدة مِن طلاق بائن تحرم خطبتها إجماعًا - كما قدَّمنا - لأنه دون شكٍّ قد تعلَّق بها بعض الحقوق بالنسبة للآخرين، وهذا لا مجال فيه لِخِلاف.


وإنما الاختلاف يدور حول مدى إمكان التعريض بخطبة المعتدة من طلاق بائن؛ نظرًا لأنها طُلقت طلاقًا بائنًا، والطلاق البائن ينهي العصمة الزوجيَّة - كما سيأتي - ولكن من ناحية أخرى إذا كانت الطلقة البائنة دون الثلاث، فإنه يجوز لِزَوْجها أن يعيدَها لعصمتِه بعقْدٍ ومَهْر جديدين، متى تمَّ الاتِّفاق بينهما على ذلك.


من أَجْل ذلك اختلف الفقهاء في إمكان التعريض بخطبة المعتدة من طلاق بائن؛ فذهب الحنفيَّة إلى أن المعتدة مِنْ طلاق بائن لا يجوز التعريض بخِطْبتها، واستدلوا على ذلك بأن مثل هذا التعريض قد يفتح الباب أمام المرأة للادِّعاء الكاذب.


وبيان ذلك أن عدة المتوفَّى عنها زوجها معروفة: وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، أما المعتدة مِن طلاق، فالغالب أنه يُرجع فيها إلى المرأة نفسها حَسب ما تراه من حيضها الشهري ثلاثة قروءٍ - كما سيأتي - فإذا سمعتْ حتى مجرد التعريض بالخطبة، فقد تستعجل وتدَّعي - كذبًا - أن عدتها قد انقضتْ؛ لذلك منع الحنفيَّة التعريض بالخِطبة في هذه الفتْرة.


أمَّا المالكيَّة والحنابلة، فإنهم وإن منعوا خِطبة المعتدَّة من طلاق بائن، فإنهم أجازوا التعريض بهذه الخطبة؛ لعموم قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ﴾ [البقرة: 235].

وللشافعيَّة قولان: أحدهما يوافق الحنفيَّة في المنْع منَ التعْريض، والثاني يُوافق المالكيَّة والحنابلة في قولهم بإجازة التعريض.


رأينا في هذا الموضوع:

والذي أراه - والله أعلم - أنه يتعيَّن النظر إلى طبيعة الطلاق البائن، هل هو بائنٌ بينونة صُغرى؟

والطلاق البائن بينونة كُبرى: هو الطلاق المكمِّل للثلاث، وبناءً عليه تنفكُّ العلاقة الزوجيَّة نهائيًّا، ولا تحل له إلا بعد تتزوَّج زوجًا غيره - كما سيأتي بيانُه - ففي هذه الحالة يجوز في نظري التعريض بالخطبة في فترة العدة؛ لأن عُرى الزوجيَّة قد انفصمتْ تمامًا، ولم يبقَ لها مِن أثر إلا العدة؛ مراعاة لبراءة الرَّحِم، وامتثالاً لأمر الله - تعالى.


وأما الطلاق البائن بينونة صغرى: فهو ينهي العلاقة الزوجيَّة، ولكنه لا يفصم عُراها تمامًا، بل يظلُّ من حقِّ الزوجين أن يعود كل منهما للعلاقة الزوجيَّة بعقدٍ ومَهْرٍ جديدين.


نظرًا لهذا الاعتبار، وأن هنالك أملاً في إعادة المياه إلى مجاريها، وأن أمامها فرصة تسمح بهذه العودة، فأنِّي أرى أنه لا يجوز التعريض بخطبة مثل هذه المرأة، حتى وإن كانتْ معتدة مِنْ طلاق بائن، ذلك أنه وإن كان بائنًا إلا أنه ليس نهائيًّا؛ لاحتمال عودة العلاقة الزوجيَّة بينهما، فلا يصحُّ في نظري التعريض بالخِطبة في هذه الحالة.


تحريم الخطبة على الخطبة:

روى البخاري، وأحمد، والنسائي، وأبو داود عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يخطب الرجل على خِطبة الرجل، حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له))[44]؛ متفق عليه [45]، وروى مسلم وأحمد عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاعَ على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبة أخيه حتى يذر))[46]، والذي يُستفاد من هذه النصوص الكريمة في هذا الخصوص أنه إذا ما تقدَّم إنسانٌ فطلب يد امرأة، فلا يجوز لغيْره أن يطلبَ يدها، إلا بعد أن يتبيَّن الموقف بالنِّسبة للخاطب الأول، فالنصوص تنطق صراحةً بتحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه متى كان يعلم بخطبة الأول؛ إذ الأصل أن النَّهْي يفيد التحريم ما لَم توجدْ قرينة تصرف التحريم إلى غيره، ولا قرينة، فالخطبة على الخِطبة التامة المعلومة حرام.


والحكمة التشريعيَّة من التحريم ترجع إلى ما تجرُّه الخطبة الثانية مِن العداوة والبغضاء بين الخاطبَين، الأمر الذي تأباه روح الإسلام الحنيف، كما أوضحتْ ذلك النصوص النبويَّة الكريمة.


ودراسة هذا الموضوع تحتاج إلى تفصيل لا يخرج - في نظرنا - عن أحوال ثلاثة:

أولى هذه الحالات: أن تجدَ الخِطبة قَبولاً:

فإذا ما صادفت الخطبة استجابةً من أولياء المخطوبة أو منها إن كانتْ أهلاً لذلك، فإن الخطبة الثانية تكون محرَّمة بلا جِدال؛ لأنها في هذا الحال تكون الخطبة الثانية اعتداءً صريحًا على حقِّ الخاطب الأول الذي ثبت حقه بالفعل، فلا يجوز لأحدٍ عند ذلك أن يَتَقَدَّم، وهذه الحالة هي أول ما تصدق عليها النصوص السابقة مباشرة بلا تردُّد.


ثانيها: أن ترفض خطبة الأول:

إذا ما رفضت خطبة الأول، فلا مجال لأيِّ نقاشٍ أيضًا في إباحة الخطبة من أيِّ شخصٍ آخر بعد ذلك، وهذا من الأحكام المتفق عليها إجماعًا بين الفقهاء؛ "لأن الخاطب الأول لم يثبت له شيء، فلا يحل له أن يَغضبَ مِن تقدُّم الخاطب الثاني، وإن غَضِبَ لا يُؤْبَه لغضبه[47]، وإلا ما تقدَّم أحدٌ لطلب يد مَن خطبت قبل ذلك ورفضت خِطبتها.


والحالة الثالثة والأخيرة:

هي حالة التردُّد بين القَبول والرفض، أما إذا تقدَّم للخطبة ولكنَّ الطرف الآخر لم يظهر موقفه منها لا بالقبول ولا بالرفض، فقد اختلف الفقهاء بشأن هذه الحالة.


فذهب فريق منهم إلى تحريم خطبة الثاني؛ لأن خطبة الأول لا تزال محلَّ بحثٍ ونظر، وبالتالي فإنَّ للخاطب الأول بعض الحقِّ؛ إذ قد تُقبَل خِطبته لو لَم يتقدَّم الخاطب الثاني، فتكون الحكمة من النَّهي قائمة: وهي التعدِّي على حقوق الغَيْر، مما يوغر الصدور، ويوقد العداوة والبغضاء بين الخاطبَين.


وذهب فريق آخر من الفقهاء إلى إباحة خطبة الثاني في هذه الحالة؛ لأن عدم إظهار القبول بالنِّسبة لخطبة الأول دليل على رفْض خطبته، أو على الأقل لَم يثبت له حق[48]، وما دام الأمر كذلك، فلا حرج على الثاني أن يتقدم، وقد استدلوا على ذلك بما رُوي: أن فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأشار عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج أسامة بن زيد - رضي الله عنهما.


ومن رأينا أنه لا ينبغي التسرُّع في إباحة الخطبة الثانية في حالة التردُّد؛ لأنَّ الحكمة التشريعيَّة من التحريم قائمة، يشهد بذلك الواقع الذي لا مجال لإنكاره، فما من شخصٍ يتقدَّم لخطبة فتاة إلا ويغضب عندما يتقدَّم غيره عليه قبل البتِّ في مصير خِطبته.


ولعلَّ النصوص الكثيرة الواردة في هذا الموضع - والتي أشرنا إلى بعضها - تؤكِّد على هذه الناحية؛ حيث قال - عليه الصلاة والسلام - في بعض الأحاديث: ((حتى يأذن له))، وفي البعض الآخر: ((حتى يأخذ أو يدع))، مما يفيد أهميَّة البتِّ في الخطبة الأولى.


ولا يُقال: إن السكوت في معنى الرفض الضِّمني، ذلك أن الزواج لا تَخفى خطورته على أحَد، وبالتالي فالتردُّد ليس دليلاً على الرفض في تلك الأحوال، بل على النقيض من ذلك، فالغالب أن السكوت إنما هو من أَجْل التحرِّي والبحث؛ للتأكُّد من أخلاق الطرف الآخر.


وأما الاستدلال بحديث فاطمة بنت قيس، فلا حُجة فيه - كما قال الإمام النووي - رحمه الله -: "لاحتمال أن يكون معاوية وأبا جهم قد خطباها معًا، أو لَم يعلم الثاني بخطبة الأول، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أشار بأسامة ولَم يخطب"[49].


بل سياق القصة يؤكِّد أنه لا صلة لها بهذه الحالة التي نحن بِصَددها، فنحن نتكلم عن حالة التردُّد في الخطبة المعروضة؛ حيث لَم يتبيَّن موقف المخطوبة أو أهلها مِن هذه الخطبة، أما ما رُوي عن السيدة فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - فقد ثبت أنها طُلِّقت ثلاثًا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فلم يجعل لها نفقة ولا سكنى، ثم قال لها - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تسبقينا بنفسك)).


معنى ذلك أنه عند انتهاء عدتها لا تبت في أمر زواجها إلا بعد إذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه يريد لها خيرًا، فلما انتهت عدتها وخُطبت، عرضت الأمر على النبي - عليه الصلاة والسلام - فأشار عليها بأن تتزوجَ أسامة بن زيد - رضي الله عنهما[50].


حُكم العقْد مع الخطبة المحرّمة:

ولكن ما حكم العقد فيما لو تقدَّم الثاني فقبل بالرغم من علْمه بخطبة الأول؛ أي إنه بالرغم من العلم بخطبة الأول إلا أنَّ الثاني تقدَّم فقبلوه وألغوا خطبة الأول، وأبرم الثاني بعد ذلك عقد الزواج بالرغم من النهي الصَّريح الوارد في هذا الشأن، فهل هذا العقْد يُعتبر باطلاً؟


للفقهاء في ذلك آراءٌ ثلاثة:

الرأي الأول: أن العقد صحيح، وهو مذْهب جُمهور الفُقهاء، ولكن بالرغم مِن صحة العقد، فإنَّ الخاطب الثاني يعتبر آثمًا؛ لأنه تعدَّى على حقِّ أخيه، غير أن هذا الإثم لا يؤثِّر في صحَّة العقد؛ إذ العقْد قد تمَّ بشروطه وأركانه، والمعصية التي ارتكبَها الخاطب الثاني كانت أمرًا سابقًا على العقد وبعيدًا عن مُقوماته.


الرأي الثاني: أن العقد باطل، وهو مذهب داود الظاهري؛ لأن النهي منصبٌّ على الزواج، لا على مجرد الخطبة؛ إذ الخطبة مقدمة الزواج، ولما كانت الخطبة باطلة من أساسها، فإن العقد باطل كذلك، وهو واجب الفسْخ؛ سواء حصل دخول أم لَم يحصل.


الرأي الثالث: أن العقد غير صحيح، وهو مَروي عن مالك - رحمه الله - إلا أن أثر هذا العقد غير الصحيح يختلف باختلاف الحالتين الآتيتين:

الحالة الأولى: إذا لم يحصل دخول، وهنا يجب فسخ هذا العقد.

الحالة الثانية: إذا حصل دخول بناءً على هذا العقد، فإن الزواج لا يُفسخ؛ نظرًا لأن العقد وإن كان غير صحيح إلا أنه تأكَّد بالدخول، فلا يفسخ ويبقى الإثم على المعتدي[51].


والذي نراه أن الراجح مذهب الجمهور القائل بصحة العقد، ويأْثم المتعدِّي على حقِّ أخيه؛ ذلك أن النهي موجَّه أساسًا إلى الخطبة، وهي في ذاتها غير ملزمة - كما سنرى - حيث شرعت للتأكُّد من صلاحيته عقد الزواج وجدِّيته، ومدى ملاءمة كلٍّ مِن الطرفين للآخر.


وإذا كان الأمر كذلك، فمِن حق ولي المخطوبة - كما هو حقٌّ ثابت للطرفَيْن جميعًا - أن يعدل عن الخِطبة، إذا رأى أن مصلحة ابنته تقْتضي ذلك.


وهذا بذاته يكفي للردِّ على الرأي المعارض؛ لأنه طالما أن الخطبة غير ملزمة، فإن العدول عنها سائغٌ، ولا يعدو أن يكون فسخًا لها وهو جائز شرعًا - كما سنرى - وعلى ذلك فلم يبقَ إلا إثم الخاطب الثاني، لأنه خالَف النصَّ الشرعي، فيأْثم من هذه الوجهة، وأما العقد فهو صحيح بكل آثاره، والله أعلم.


آثار الخطبة:

ليس للخطبة أثرٌ ملزمٌ من الناحية الماليَّة؛ أي: إنها لا تلزم الخاطب بدفع مال أيًّا كان على سبيل النفقة؛ إذ المهر والنفقة مِنْ آثار العقد، أمَّا الخطبة فليستْ إلا مجرد وعْد بإبرامِ عقْد الزواج مُسْتقبلاً - كما سيأتي تفصيلُه بعد قليل.


وبالنظر إلى الحكمة من تشريع الخطبة، حيث أبيحت لتكون تمهيدًا لعقد الزواج، وحتى تتحقق هذه الحكمة ينبغي أن يكونَ مِن حقِّ كلٍّ من الخاطبَين أن يتعرَّف كلٌّ منهما على الآخر في الحدود المشروعة، وهذا يتطلبُ الكلام عن حُكم النظر إلى المخطوبة، ثم الكلام عن تحريم الخلوة بها.


أولاً: النظر إلى المخطوبة:

الأصل في إباحة النظر إلى المخطوبة ما ثبت أنَّ المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه - خطب امرأة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما))[52].

وعن محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - قال سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا ألقى الله - عز وجل - في قلب امرئ خطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها))[53].


والنظر المباح شرعًا[54] طبقًا لهذه النصوص وغيرها: هو أن ينظر إلى الوجْه والكَفَّين فقط عند أكثر العلماء[55]، وأجاز أبو حنيفة النظر إلى الكَفَّين أيضًا[56].


على أنَّ الأصل في هذا النظر هو المنع والحظر، وقد رخَّص فيه الشارع للحاجة، والحاجة هنا كالضرورة تقدَّر بقدرها، وفي النظر إلى الوجه والكفين ما يؤدِّي إلى المقصود: وهو التعرُّف على خُلقها وروحها؛ إذ الوجه مجمع المحاسن وأساريره تنطق بكثير من المعاني النفسيَّة والصحيَّة والخُلقيَّة [57].


أمَّا النظر إلى الكَفَّين، فلأن الغالب إظهارهما ولَم يأمنِ الشرع بإخفائهما، إلا في حالة الفتنة، ولذا فلا بأس على الخاطب مِنْ أنْ ينظر إليهما، أما ما عدا ذلك مما أمر الله بستره وإخفائه وعدم إظهاره، فلا يجوز النظر إليه؛ منعًا للمفاسد، وغلْقًا لأبواب الشرور، وصَوْنًا للعِرْض والكرامة.


أما الحكمة من إباحة النظر المشروع، فقد أشار إليها الحديث الشريف؛ حيثُ قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يُؤْدَمَ بينكما))؛ أي: تحصل الملاءَمة والمُوافَقة بينكما[58].


ومن ناحية أخرى، فإن الحكمة نفسها تقْتَضي القول بإباحة نظر المرأة إلى الرجل الذي يريد أن يتزوَّجَها، وقد أباح الشارع ذلك، وإذا كانت النصوص لَم تتكلمْ صراحةً إلا عن نظر الرجل إلى المرأة، فذلك لأن الشأن في المرأة الصون والحجاب وعدم الظهور، فكان مِن حقِّه أن ينظر إليها حتى يتحققَ من وجود الأوصاف التي تدعوه إلى الزواج بها، وهذا على العكس من الرجل الذي مِنْ شأنه الظهور، فإنَّ الوقوف على حاله سهلٌ وميسور، وفي وسع المرأة وذويها أن يتعرَّفوا على أوصافه وأحواله، وذلك لكثرة تنقُّله وتَجْواله، وانتشاره في الأسواق، وذيوع أخباره، وبناءً على ذلك فإنَّ النصوص لَم تتعرَّض صراحةً لنظر المرأة إلى الرجل، وإنما اتجهتْ إلى بيان نظر الرجل إليها؛ إذ الأصل في حياة المرأة أنَّها مبنيَّة على الستر في منزلها وفي ملبسها، فهي باعتبارها امرأة مسلمة لا تخرج من دارها إلا لمامًا، وإن خرجتْ فإنها تخرج في ثيابٍ ساترة محتشمة، بحيث لا يُرى منها شيءٌ، ثم إنه ليس من شأنها أن تغشى مجالس الرجال ولا تخالطهم، فاقتضى ذلك أن تبيِّن النصوص حكم التطلُّع إلى رؤية ما كان الشأن فيه الاحتجاب والتستُّر والبُعد عن الأنظار[59].


ثانيًا: تحريم الخلوة:

روى البخاري ومسلم، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إياكم والدخول على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الحمو الموت))[60].


وروى البخاري ومسلم، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلو رجل بامرأة إلا مع ذي محرم))، فقال رجل: يا رسول الله، امرأتي خرجت حاجَّة، وقد اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ارجع فحج مع امرأتك))[61].


وعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَخلونَّ بامرأةٍ ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان))[62].


ومِن هذه النصوص المباركة يثبت قطعًا تحريم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيَّة - وهي التي ليست زوجة ولا محرم - وهذا الحكم لا يقبل أدنى استثناء من أيِّ وجهٍ.


وإذا كان الشريعة الإسلاميَّة قد استثنت من تحريم النظر حالة الخطبة لِحِكْمة تشريعيَّة بيَّنَّاها[63]؛ فإنه بخصوص تحريم الخلوة للاستثناء مُطلقًا، فالخلوة بالمرأة مُجْمع على تحريمها بلا أيِّ استثناء؛ لأنه لا مصلحة في ذلك على الإطلاق، بل إن في خلوة الرجل والمرأة الشرَّ كل الشرِّ، ويكفي ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فإنَّ ثالثهما الشيطان))، وهو الذي لا يدعو إلا إلى الشرِّ؛ يقول الله - تعالى -: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].


وهذا المنْهاج الذي سلكتْه الشريعة الغرَّاء هو المنْهاج السليم؛ إذ أجاز للخاطب أن يرى المخطوبة في غير خلوة، وهذا المسلك هو الوسط بين مغالاة المتشدِّدين في التَّستُّر الذين حرَّموا على الخاطب كلَّ سبيلٍ لأن يُلقي على مخطوبته نظرة قبل أن تُزفَّ إليه، مكتفين بوصْف الواصفات اللائي يبالغْن في الاستحسان أو الاستهجان، وبين إسراف الذين أسرفوا وأباحوا للرجُل أن يصطحب مخطوبته في الغدوات والروحات، وفي الحدائق والملاهي في النهار وفي طرف الليل، وكشفوا للخاطب كلَّ أستار البيت، وأزالوا من بين يديه الحُجُب فكانت النتائج الخطيرة أن لَم يتم الزواج!


وقد زعم المسرفون أنَّ الذي يدفع إلى سلوك ذلك المسلك أو قبوله: تسهيل التعارُف التام بين الخاطب والمخطوبة، فيعرف كلُّ واحدٍ منهما صاحبه على حقيقته، ويقدم على بيِّنةٍ، وهذا زعمٌ باطل؛ لأن الخاطب مهما دام اختلاطُه بمخطوبته فإنه لا يستطيع التعرُّف على طباعها، ولا تستطيع أن تعرف حقيقة طباعه؛ لأن كليهما يتكلَّف لصحابه ما ليس في طبعه، ويكسو نفسه من المظاهر ما ليس من عاداته.


والتحرِّي عن الأخلاق والطباع والعادات إنما يكون بالسؤال والبحث، وذلك أهدى سبيلاً، وإن لكل أسرة عادات، وتقاليد مشهورة معروفة تغني معرفتها أحيانًا عنْ غيرها من أساليب المعرفة، ولله در القائل: "يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة عادات نسائها الصلاح، فالنساء معادن كمعادن الذهب والفضَّة، وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان بمنزلة الأمر المجهول عليه".


طبيعة الخطبة:

الخطبة وعْد أو تواعُد بإنشاء عقْد الزواج مُستقبلاً، فهي إذًا عبارة عن اتِّفاق تَمْهيدي يُعطي كلاًّ من طرفيه الحقَّ في دراسة فِكْرة الزواج ومدى جدِّيَّتها؛ بل ومدى صلاحيتها بالنِّسبة له.


وقد يُمكن أن تتصوَّر في المسائل المدنيَّة إمكان وُجُود وعْد بالتعاقُد بين الطرفَيْن مثلاً، وحتى في هذه الحالة، فإنَّ جُمهور الفقهاء لا يجعلون للوعْد بالتعاقُد - على إطلاقه - قوة مُلزمة[64].


غير أن الخطبة في الواقع ليستْ من هذا القبيل، بل هي مجرد فكرة تمهيديَّة مطروحة للدِّراسة، ولذلك فإن الفقهاء يقولون: إنه يجوز لكلٍّ من الطرفَيْن العُدُول عن الخطبة؛ لأنها غير ملزمة على الإطلاق.


فإذا لَم يقتنع الخاطب بخطيبته كان العدول عن الخطبة بلا أدنى حَرَجٍ أو تَردُّد، وللمخطوبة أو وليِّها نفس الحق تمامًا، وهو ما دعا بعض الفقهاء إلى التصريح حتى بعدم الكراهة، يقول ابن قُدامة - رحمه الله -: "ولا يكره للولي الرجوع إذا رأى لها مصلحة في ذلك، ولا يكره لها أيضًا الرجوع إذا كرهت الخاطب؛ لأنه عقد عمري يدوم الضرر فيه، فكان لها الاحتياط لنفسها والنظر في حظها، وإن رجعا - أي الولي أو المخطوبة - لغير غرَض - أي بدون سبب - كره هذا الرجوع؛ لما فيه من إخلاف الوعد، ولم يحرم؛ لأن الحق بعدُ لَم يلزمهما"[65].


وهذا الحكم من القواعد العامة التي يُمكن القول بأن الفقهاء قد أجمعوا على الأخذ بها دون خلاف، بل حتى ما رُوي عن بعض المالكيَّة من قولهم بأن للوعد بالتعاقُد أثرًا ملْزمًا في بعض الأحوال، فإن هذا القول عن الوعد بصفة عامة دون الإشارة إلى الخطبة[66]، على أن المالكيَّة قد صرَّحوا بما يؤكِّد أنَّ الإلزام في الزواج لا يكون إلا بالعقْد[67].


وما نصَّ عليه فقهاء الشريعة أمرٌ له وزنه واعتباره؛ حتى يقوم عقد الزواج على أساس متكامل من التراضي الحقيقي؛ فإن ذلك من مصلحة الجميع، فمصلحة الخاطبين ومصلحة الأسرة، بل ومصلحة المجتمع بأسْرِه أن يكون لكلٍّ منَ الخاطبَيْن الحُرِّيَّة التامَّة قبل إبرام عقْد الزَّواج؛ لأنه عقْد الحياة الذي يلتزم به طرَفاه إلى نهاية العُمر، فوجب التروِّي والتثبُّت، وتقليب الأمر من جميع جوانبه، فإن بدا لأحدهما الرجوع عن الخطبة، فهذا حقُّه تمامًا؛ لأنَّ الخطبة - كما أكَّدنا أكثر من مرة - مجرد تواعُد غير مُلزم[68].


أثر العدول عن الخطبة:

ليس لمجرَّد العدول عن الخطبة أثر على الإطلاق؛ لأنَّ الذي يعدل عن الخطبة إنما يستعمل حقَّه المشروع، ومَن استعمل حقَّه استعمالاً مشروعًا، فلا مسؤولية عليه مطلقًا، ولا مجال للقول بتعويض ما؛ إذ التعويض إنما يلزم به المعتدي، ومَن يستعمل حقَّه لا يعتبر معتديًا، طالما كان الاستعمال في دائرة المشروعيَّة.


ولكن قد يكون العدول في صورة تُسيء إلى الطرف الآخر، فهنا وإن كان حين عدل قد استعمل حقَّه، إلا أنه قد استعمله بصورة غير مشروعة؛ أي إنه أساء استعمال هذا الحقِّ، فسبَّب ضررًا للغير أثناء استعماله إياه، كما أن العدول قد يكون من جانب المخطوبة، أو من جانب وليِّها، في الوقت الذي يكون الخاطب قدَّم فيه بعض الهدايا، أو ما تعارف عليه الناس من تقديم ما يُسمَّى بالشَّبْكَة، وربما يكون قد دفع المهر، أو بعضًا منه.

وفيما يلي نبذة مُختصرة عن إساءة استعمال الحقِّ في العدول عن الخطبة، ثُمَّ عن استرداد الهدايا والشَّبْكَة والمهر.


أ - التعويض عن إساءة فَسْخ الخطبة:

يُقصد بفَسْخ الخطبة: العدول عنها؛ أي: التحلُّل من الوعد أو التواعد الذي تَمَّ بين الطرفَيْن بشأن الزواج مستقبلاً.

وقد أكَّدنا القول مِرارًا بأن العدول المجرَّد لا تنشأ عنه أيةُ مسؤولية؛ لأن العادل عنها إنما يستعمل حقَّه، غير أنه قد يُسيء أحد الطرفَيْن استعمال هذا الحقِّ، فهنا ينشأ مجال البحْث عن التعويض، لا بسبب استعمال الحقِّ في العدول عن الخطبة، وإنما بسبب إساءة هذا الاستعمال الذي ترتَّب عليه ضررٌ للغير.


فلو أنه عدل عن الخطبة، ولكنه ذكر أسبابًا تُسيء إلى المخطوبة، فإنه في هذه الحالة يكون مسؤولاً عن هذه الإساءة، ويُمكن رفع الدعوى عليه بالتعويض عن الأضرار التي لحقتْ بالفتاة أو أُسْرتها، وإن كان هذا من الأحوال النادرة، إلا أنه ليس منَ المستبْعَد وُقُوعه.


غير أن الذي تكثر مشاهدته: هو أن يترتب على الخطبة أن يبدأ الطرفان في الاستعداد للزواج، فيطلب الخاطب من خطيبته ترْك عملها مثلاً، أو أن توقف تعليمها عند مرحلة مُعيَّنة، ثم يقوم بفسْخ الخطبة من جانبه بعد أن استجابتْ لما طلب، فهنا نكون أمام أمرَيْن الأول: العدول عن الخطبة، وهو حقٌّ مشروع لا مسؤولية عليه في استعماله، والأمر الثاني: أنه تسبَّب بعدوله عن الخطبة في الإضرار بالمخطوبة، المُتَمَثِّل في أنها تركتْ عملها، أو أوقفت تعليمها، وإذا كان مثل هذا الشخص غير مسؤول عن العدول المجرَّد، فإنه بلا شكٍّ يعتبر مسؤولاً عن الأضرار التي نالتْ المخطوبة بسبب عدوله.


وقد يحدث من ناحية أخرى أن الخاطب - بناءً على طلب المخطوبة أو أهلها - ينقل نفسه من مَقَرِّ عملِه الأصلي إلى مكانٍ آخر، الأمر الذي ترتَّب عليه ترْك مسْكنه الأول، ودفْع مبالغ طائلة في الحصول على مسكنٍ قريب من محل إقامة أُسرة المخطوبة، ثم يكون العدول من جانبها، فيكون قد أصابه ضررٌ لا مِن مجرد العدول، ولكن تسبَّب العدول في هذا الضرر المتمثِّل في الانتقال، وتغيير المسكن، وما ترتَّب على ذلك من نفقات، فهي هنا تكون مسؤولة عن تعويض الخاطب عمَّا ناله من ضررٍ؛ نتيجة عدولها عن الخطبة.


استرداد المهر وما في حكمه:

سبق أن أشرنا إلى أن الخاطب قد يستعجل فيدفع المهر، أو جزءًا منه، قبل إبرام عقد الزواج، فإذا ما حدَث عُدُول عن الخطبة من أيِّ طرفٍ كان، فإنَّ ما دَفَعَهُ هذا الخاطب على أساس أنه مهر، أو أنه جزءٌ من المهر، فلا شكَّ في وجوب استرْداده؛ لأنَّه قد دفعه على أساس أنه أثرٌ من آثار عقد الزواج الذي سيتمُّ مُستقبلاً، أما وإن العقد لَم يتم؛ حيث حصل العُدُول عن الخطبة، فلا شكَّ في وُجُوب رده أو استرداده؛ لأنه خالص حقِّ الخاطب بإجماع الفقهاء؛ سواء كان العدول من الخاطب أم كان من المخطوبة على حدٍّ سواء، فكل ما دُفِع على أنه مهر أو جزء من المهر لا بد من رده لصاحبه.


هذا عن المهر، فما هو الموقف بالنسبة للأشياء الملحقة بالمهْر؟

الواقع أنه يتعيَّن الرجوع إلى العُرْف السائد في بلدٍ ما، فإذا كان العُرْف ينظر إلى الأشياء أو المبالغ المقدَّمة على أنها جزءٌ من المهر، فإنها تأخذ حكم المهر في وُجُوب ردِّها، بغَضِّ النظر عن كون العدول من الخاطب، أو من المخطوبة، أو مِنْ وليِّها، وإذا كان العُرْف ينظر إلى هذه الأشياء على أنها ليستْ من المهر، فإنها لا تأخذ حكم المهر في وُجُوب الردِّ المذكور.


والعُرْف السائد الآن بالنسبة لما يُسمَّى "بالشَّبْكَة" أنها جزءٌ من المهر، ومتى كان الأمر كذلك، فإنها تأخذ حكم المهر المشار إليه، فتكون واجبة الرد عند العُدُول عن الخطبة.


فإذا كان العدول من جانب المخطوبة، وَجَبَ عليها ردُّ المهر والشَّبْكَة، وإذا كان العدول من جانب الخاطب، كان له حقُّ استرداد المهر والشَّبْكَة، وعلى المخطوبة أن تجيبه إلى طلبه وتردَّ إليه ما دفعه على هذا الأساس.


وهنا تجب ملاحظة أن الشيء الذي قدَّمه إذا كان موجودًا بذاته، وجب عليها ردُّه بعينه إلى صاحبه، فإذا كان ما قدَّمه لها عقدًا ثمينًا وكان موجودًا عند فَسْخ الخطبة وَجَبَ عليها أن تردَّ هذا العقد إلى صاحبه الذي قدَّمه لها على أساس أنه جزءٌ من المهر.


أما إذا كان قد حصل في هذا الشيء تغيير أو تبديل، فإنه يجب عليها أن تردَّ مثل هذا الشيء إن كان مثليًّا، أو قيمته يوم تقديمه إن كان قيميًّا[69].


فلو أنها غيَّرت العقد الذي قدَّمه لها، أو ضاع منها، كان عليها أن تردَّ له عقدًا مثله، إن كان له مثَل ونظير، وإن لَم يكنْ له مثَلٌ نظيرٌ وَجَبَ عليها ردُّ قيمة هذا العقد، والقيمة الواجب دفعها هي قيمة الشيء يوم تقديمه[70].


وقد نصَّت المادة الثانية من مشروع قانون الأحوال الشخصيَّة على ما يأتي:

أ - إذا عدل أحدُ الطرفين عن الخِطبة، فللخاطب أن يستردَّ المهر الذي أدَّاه، أو قيمته يوم القبض إن تعذَّر ردُّ عينه.

ب - ويعتبر من المهر الهدايا التي جَرَى العُرْف باعتبارها منه؛ أي: التي جرى العُرْف باعتبارها مهرًا، وقد نصَّت المذكرة التفسيريَّة لهذا المشروع على أن الشَّبْكَة تُعتبر من المهر؛ أخذًا بما جَرى به العُرْف في هذا الشأن.


الهدايا:

أما الهدايا التي قدَّمها الخاطب لخطيبته، فإنَّ حكمها عند فَسْخ الخطبة يختلف عن حكم المهر الذي بيَّناه في الفقرات السابقة.


ذلك أن المهر قُدِّم على أساس أنه أثرٌ من عقد الزواج، وبما أن العقد لَم يُبرم أصلاً، فوجب ردُّ المهر وما في حكمه على النحو الذي بيَّنَّاه تفْصيلاً.


أمَّا الهدايا فالأصلُ في تقديمها أنَّها قُدِّمت على أساس التبرُّع تدْعيمًا للمودَّة القائمة بين الطرفين، وبناءً على ذلك، فإن بعض الفقهاء نظر إلى التبرُّع باعتباره الأساسَ الذي انبنى عليه تقديم الهدايا، وهؤلاء الفقهاء قالوا بعدم ردِّ الهدايا، أما مَن نظر إلى أنَّ مَن قدَّم الهديَّة قد ناله ضررٌ من العدول، فإنه قال بوجوب الردِّ في بعض الحالات.


وفي الفقرة التالية شيءٌ من التفْصيل عن آراء الفقهاء في هذه المسألة:

يرى فقهاء المذْهب الحنفي أنَّ الهدايا المقدَّمة في هذا الصَّدَد تأخذ حكم الهِبة، وهذا الحكم في المذهب الحنفي هو وجوب ردِّ الهبة ما لَم تهلك أو تستهلك[71].


وعلى ذلك فإنَّ الهدايا التي قدَّمها الخاطب لمخطوبته يجب ردُّها إذا كانتْ باقية، أما إذا هلكت أو استهلكت، فلا حقَّ للخاطب فيها.


والقاعدة في القانون المصري: أنه في المسائل التي ليس فيها نصٌّ خاص، قال القاضي: يؤخذ بأرجح الأقوال في المذْهب الحنفي، وذلك تطبيقًا للمادة (280) من المرسوم بقانون رقم (78) لسنة 1931.


ونظرًا لأنَّ هذه المسألة ليس فيها نصٌّ خاص، فإن الحكم الواجب تطبيقه قضاءً هو مذهب الحنفيَّة الذي بيَّنَّاه من وجوب ردِّ الهدايا ما لَم تهلك أو تستهلك، فلا يجب ردُّها.


أم فُقهاء المذْهب الشافعي، فيُوافقون المذْهب الحنفي في قولِهم بوجوب ردِّ الهدايا إن كانتْ قائمة لم تهلك ولَم تستهلك، ولكنَّهم يزيدون على ذلك قولهم بوجوب دفْع قيمة الهدايا أو ردِّ مثلها في حالة الهلاك أو الاستهلاك؛ بمعنى أنهم يقولون بوجوب ردِّ الهدايا في جميع الأحوال.


أما فُقهاء المذْهب المالكي، فإنهم يُفَرِّقون بين ما إذا كان العدول من جانب المخطوبة أو الخاطب:

فإذا كان العدول مِنْ جانب الخاطب، فلا حق له في استرداد ما قدَّمه من هدايا.

وأمَّا إذا كان العدول من جانب المخطوبة، فإنه يتعيَّن عليها ردُّ كل ما قدَّمه لها من هدايا، فإذا كانت الأشياء التي قدَّمها موجودة بذاتها وَجَبَ عليها ردُّها، وإن كانت قد هلكت أو استهلكت، وَجَبَ عليها ردُّ مثلها، أو دفع قِيمتها.

"وذلك عدل بلا ريب، فلا يجمع على المخطوبة بَيْن أَلَم العُدُول وأَلَم الاسترداد إن لَم يكن العدول مِن جانبها، ولا يجمع على الخاطب بين أَلَم العُدُول والغُرم المالي، إن كان العُدُول من الجانب الآخر"[72].


وبالنظر إلى أن هذا التفْصيل الذي قال به المالكيَّة له وجاهتُه من حيث العدالة، ومن حيث الرِّفق بالناس، فإنَّ مشروع قانون الأحْوال الشخصيَّة المُشار إليه قد أخذ بتفصيل قريب من هذا اقتبسه من مذهب الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد.


فقد نصَّت المادة الثالثة من هذا المشروع على ما يأتي:

أ - إذا عدل أحدُ الطرفَيْن عن الخطبة بغير مُقتضى، فلا حق له في استرداد شيءٍ مما أهداه للآخر.

ب - وإن كان العدول بمقتضى، فله أن يستردَّ ما أهداه إن كان قائمًا، أو قيمته يوم القبض إن كان هالكًا أو مُستهلكًا.

ج - وذلك كله ما لم يكن شرط أو عُرْف.


ونصَّت المادة الرابعة من المشروع المذكور على ما يأتي:

أ - إذا انتهت الخطبة بعدول من الطرفين، فإن كان بسببٍ مِنْ أحدهما اعتبر عدول الآخر بمُقْتَضى، وإلا استردَّ كلٌّ منهما ما أهداه للآخر لو كان قائِمًا.

ب - وإذا انتهت الخطبة بالوفاة، أو بعارضٍ حَالَ دون الزواج، فلا يُستردُّ شيءٌ منَ الهدايا[73].


الفصل الثاني

في أركان عقد الزواج وشروطه

نشأة الزواج:

ينشأ الزواج بإبرام العقْد صحيحًا بين الزوجَيْن، وحتى ينتج العقْد آثاره يتعيَّن أن تتوافرَ فيه الأركان والشروط اللازمة شرعًا لنشأته وصحته.


أركان عقد الزواج:

جَرْيًا على منهج فقهاء المذهب الحنفي يُمكن القول بأن الرُّكن الجوهري في عقْد الزواج يَتَمَثَّل في صيغة هذا العقد، وقد عبَّر بعضُ الفقهاء عن ذلك بما يفيد أنَّ أركان عقْد الزواج تنحصر في الإيجاب والقبول[74].


أما جمهور الفقهاء، فقد توسَّعوا في ذكر الأركان باعتبار أن الركن هو الأمر الذي لا يوجد الشيء بدونه؛ بمعنى أنه إذا تخلَّف هذا الأمر انهدم الشيءُ من أساسه أو انعدم، بحيث لا يكون موجودًا، ومن هنا قال جمهور الفقهاء: إن أركان عقد الزواج هي: الصيغة والعاقدان، وأضاف بعضهم المهر والولي [75].


ولعلَّ فقهاء المذهب الحنفي اكتفوا بالصيغة؛ لأنَّ بقية الأركان الأخرى هي منَ الأمور المفترض وُجُودها بداهة، بحيث لا نحتاج إلى النصِّ عليها صراحةً.


وعلى أية حال، وبغَضِّ النظر عن هذا الاتجاه أو ذاك، فإنه لا بُدَّ من توافر هذه الأمور؛ إذ من المحتَّم شرعًا توافُر شروط مُعيَّنة في كلٍّ منها على حِدَة.


فالصيغة لها شروط مُعيَّنة، كما أنَّ كلاًّ من الزوجين يتعيَّن عليه أن تتوافر فيه شروط خاصة، وقد يُعبَّر عن بعض هذه الشروط بشروط الانعقاد، فإذا ما انعقد العقد، وَجَبَ البحث عن شروط أخرى؛ حتى يمكنَ القولُ بصحَّة هذا العقد.


وأثناء دراسة كلِّ هذه الشروط سنجد أنفسنا أمام الإشارة إلى موانع الزواج، والإشارة إلى بعض المحرَّمات من النِّساء؛ مما يدعونا إلى دراسة هؤلاء المحرَّمات بشيءٍ منَ التفْصيل.


ومن ناحية أخرى فإنَّ العقْد قد يُباشره صاحب الشأن بنفسه، وقد يقوم الولي أو الوكيل بإبرام هذا العقد نيابةً عن صاحب الشأن؛ مما يدعونا إلى الكلام عن الولاية والوكالة، ثم إننا أثناء هذه الدراسة سنشير إلى مدى الكفاءة بين الزوجَيْن، ولذلك فلا بُدَّ مِنْ بيان معنى الكفاءة وآراء الفقهاء فيها.


وأخيرًا، فإنَّ العقد الصحيح المتكامل من جميع الوجوه قد يقترن بشروط أخرى يشترطها الزوجان أو أحدهما؛ تحقيقًا لمصلحة يراها، ولذلك فإنَّ الشروط المقترنة بالعقد هي من الموضوعات التي تستحق البحث والدراسة، وخاصة إذا كانتْ مقترنةً بعقد الزواج.


وهكذا، فإن دراستنا في هذا الفصل ستكون على الوجه الآتي:

المبحث الأول: في صيغة عقْد الزواج وشُرُوطها.

المبحث الثاني: في شروط صحة عقد الزواج.

المبحث الثالث: في شروط نفاذ عقْد الزواج وشروط لزومه.

المبحث الرابع: في المحرَّمات من النِّساء.

المبحث الخامس: الولاية والوكالة في عقد الزواج.

المبحث السادس: في الكفاءة بين الزوجين.

المبحث السابع: في الشروط المقترنة بعقد الزواج.

المبحث الثامن: في الشروط القانونيَّة.


المبحث الأول: في صيغة عقْد الزواج وشروطها:

1 - الإيجاب والقَبول.

2 - عقد الزواج يتمُّ باللَّفْظ الصريح.

3 - انعقاد الزواج بغَيْر العربيَّة.

4 - هل ينعقد الزواجُ بغَيْر الألفاظ.

5 - شروط الصيغة.

6 - الشروط العامة.

7 - الشروط الخاصة.


تتكوَّن صيغة عقْد الزواج - شأن هذا العقْد في ذلك شأن سائر العُقُود - من إيجاب وقَبول، والإيجاب: هو إبداء الرغبة الأولى في إبرام العقد، وهذه الرغبة تختلف عن التَّقَدُّم للخِطبة؛ إذ الرغبة في إبرام العقد تكون بعد الاقتناع الكامل بفِكْرة الزواج.


فإذا ما عرض هذا الإيجاب الدال دلالةً قاطعة على إرادة إبرام العقد كل بصدد إيجاب بعقد الزواج، فلنبحثْ عن العنصر الآخر للصيغة، وهو القَبول.


فالقبول إذًا: هو المُوافقة التامة على هذا العرض؛ أي: ما يصدر ثانيًا من الطرف الآخر دالاًّ صراحة على قَبول إتمام عقد الزواج[76].


فإذا قال الرجل: تزوجتُ ابنتك فلانة على مهْر قَدْره كذا، فقال الولي: قبلتك زوجًا لابنتي فلانة على هذا المهر، فإن عقْد الزواج يكون قد أُبرم بينهما على هذه الصورة، والموجب هنا هو الزوج والقابل هو ولي الزَّوْجة.


ولكن إذا قال الولي: زوجتك ابنتي فلانة على مهر قَدْره كذا، فقال الآخر: قبلتُ زواج ابنتك فلانة على هذا المهر، انعقد الزواج بينهما أيضًا، وكان ولي الزوجة هو الموجب، وكان الزوج هو القَابل.


عقد الزواج يتم باللفظ الصريح:

والأصْل في هذه الصيغة بعُنصريها - الإيجاب والقبول - أن تتمَّ بالألْفاظ الصريحة الدالَّة على إرادة الزواج.

والقاعدة الأساسيَّة أن عقد الزواج يتمُّ انعقاده بالألفاظ الدالة دلالةً صريحة على التصميم القاطع في إرادة التزوُّج، وذلك بالنظر إلى أهميَّة عقد الزواج وقُدْسِيَّته وخطورته.


غير أن هذه الدلالة قد تكون عن طريق الحقيقة اللغويَّة؛ أي اللفظ الموضوع في اللغة للدلالة على الزواج، وقد تكون مجازًا مشْهورًا وصل إلى درجةِ الحقيقة اللغَويَّة، وقد تكون مجازًا وضحتْ فيه القرينة، واستبان المعنى بها حتى صار الكلام صريحًا في إرادة الزواج[77].


والفقهاء متفقون على أن عقد الزواج ينعقد بلفظ الزواج، وذلك بأن يقول والد الفتاة: زَوَّجْتُك ابنتي على مهْرٍ قَدْره كذا، فيقول الفتى: قبلتُ زواجها على هذا المهْر المُسمَّى، وكذلك اتَّفَقُوا على أن عقد الزواج ينعقد بلفْظ النِّكاح؛ لأنَّ هذا اللفظ وَرَدَ في القرآن الكريم في أكثر مِنْ آية، ويُراد به عقْد الزواج - كما سبق أن أَشَرْنا.

ولكنهم اختلفوا بعد ذلك بالنسبة لما عدا هذين اللفظين بين موسع ومضيق[78].


وفيما يتعلَّق باللغة التي يتمُّ بها عَقْد الزواج، فقد اتَّفق الفقهاء على أنه إذا كان العاقدان أو أحدهما لا يفهم اللغة العربيَّة؛ فإن العقد يصح باللغة التي يفهمها العاقدان، أيًّا كانت هذه اللغة، بشرط أن تكون هذه اللغة مفهومة للشهود أيضًا.


أمَّا إذا كان المتعاقدان يستطيعان التلفُّظ بالعربيَّة، فقد اختلف الفُقهاء في صحَّة عقد الزواج بغَيْر هذه اللغة للقادر عليها؛ فذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى أن عقد الزواج لا ينعقد بغَيْر اللغة العربيَّة متى كان المتعاقدان قادرين على التلفُّظ بالعربيَّة، والتعبير بها عن إرادتها، وحُجته في ذلك أن الزواج حقيقة شرعيَّة رتَّبت الشريعة عليها آثارَ الشرعيَّة، مَثَل الزواج في ذلك كمَثَل الصلاة، فلا تصح الصلاة بغير العربيَّة للقادر على النطق بها، وقد قال بهذا الرأي أيضًا بعضُ فقهاء الشِّيعة.


وذهب جُمهور الفُقهاء إلى أن عقد الزواج يصح بغير اللغة العربيَّة، حتى ولو كان المتعاقدان قادرين على النُّطق بالعربيَّة، وذلك بشرط أن تكون اللغة التي يتعاقدان بها مفهومة بين المتعاقدَيْن وبين الشهود، وأن تكون ألفاظ تلك اللغة المتعاقَد بها دالة دلالة صريحة على إرادة إبرام عقد الزواج بلا أدنى شكٍّ، وحُجة الجُمهور في ذلك أنَّ صيغة العقد إن هي إلا مظهر للتراضي الحقيقي الكامن في نفس المتعاقدين، والمطلوب شرعًا التعبير عن هذه الإرادة بأيِّ لغةٍ، متى جاءت هذه اللغة صادقة ومعبِّرة عن ذلك التراضي الذي يقوم عليه التعاقُد، أما وإن العاقدين قد عبَّرا عن إرادتهما بلغة مفهومة لهما وللشهود، فإن عقد الزواج ينعقد بينهما صحيحًا.


وقد قام العلاَّمة ابن تيميَّة - رحمه الله - بالتقريب بين هذين الرأيين في هذه المسألة، فقال: "إنه - أي الزواج - وإن كان قربة، فإنما هو كالعتق والصدقة، لا يتعيَّن له لفظ عربي ولا عجمي... ثم الأعجمي إذا تعلَّم العربيَّة في الحال، ربما لا يَفهم المقصود من ذلك اللفظ، كما يفهم من اللغة التي اعتادها - أي: لغته الأصليَّة.


نعم لو قِيل: تُكره العقود بغير العربيَّة لغير حاجة كما تُكره سائر أنواع الخطاب بغير العربيَّة لغير حاجة، لكان متوجِّهًا كما رُوي عن مالك والشافعي وأحمد كراهية اعتياد المخاطبة بغير العربيَّة لغير حاجة"[79].


ومعنى ذلك أن ابن تيميَّة - رحمه الله - يُفرِّق بين العربي الذي نشأ على هذه اللغة، فإنَّ إبرامه عقد الزواج بلغةٍ أخرى بدون ضرورة تدعو لذلك يكون مكْروهًا.


أما الأعجمي الذي تعلَّم العربيَّة، فقد لا يَفهم أسرار اللغة العربيَّة، فإنْ أَبْرَمَ عقد الزواج بلغته الأصليَّة، فإنَّ ذلك لا يكون مكروهًا في حقِّه؛ لأنَّ عذرَه قائمٌ.


وهذا الرأي هو الراجح في نظرنا؛ لأنه المتفِق مع القواعد العامة، فضلاً عن أنه يقول بالحلِّ المعقول، فمن يُبرم عقدًا بلغة مفهومة بينه وبين المتعاقد الآخر وبين الشهود، فإن العقد صحيح؛ لأنه تمَّ بناءً على رضا صحيح، وتفاهُم كامل بين الطرفَيْن، ومع ذلك فإنه يُكره التعاقُد بغَيْر اللغة العربيَّة لمن نشأ في ظلِّها، وتربَّى على التحدُّث بها.


والخُلاصة أنَّ الأصْل في عقْد الزواج أنه ينعقد بالألْفاظ الدالة على حقيقتِه دلالةً مؤَكدة، وأن يكون ذلك بلُغة التخاطُب التي اعتادها المتعاقدان بشَرْط أن تكونَ هذه اللغة مفهومة لدى الشاهدَيْن على تفصيل في آراء الفقهاء بيَّنَّاه فيما تقدَّم.


هل ينعقد الزواج بغير الألفاظ؟

يمكن القول بأن الأصل المتقدم لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا لعذرٍ حقيقي.

ومعنى ذلك أنه متى كان المتعاقدان حاضرين، ولديهما القدرة على التلفُّظ بالعبارة الدالة على إبرام عقد الزواج، فلا يجوز لهما العدول عن اللفظ إلى غيره مِن وسائل التعبير عن الإرادة، مثل: الكتابة أو غيرها من الوسائل الأخرى.


فالكتابة لا تصحُّ أن تكونَ وسيلةً للتعبير عن التراضي في عقد الزواج طالما كان الطرفان حاضرين في مجلس العقد، وقادرين على النُّطق بالعبارة الدالة صراحة على رضا كلٍّ منهما بعقد الزواج؛ حيث لا بد لكلٍّ منهما من ذلك، فمن المحتَّم على الموجب أن ينطقَ بالعبارة الدالة صراحة على الإيجاب، وفي مقابل ذلك من المحتَّم على الطرف الآخر أن يتلفَّظ صراحة بالعبارة الدالة على القبول دلالةً أكيدة، فالتجاؤهما إلى الكتابة، أو التجاء أحدهما إليها في هذه الحالة لا يجوز مُطلقًا، حتى ولو كانت الكتابة واضحة بيِّنة، والسبب -كما أشرنا - هو قُدْسية عقد الزواج، وأهميته الخاصة التي تجعله مميزًا عن سائر العقود الأخرى.


أما إذا كان أحدهما غائبًا عن مجلس العقد، كمن سافر إلى مكان بعيد والحال أنه أتمَّ فترة الخطبة وصمَّم على الزواج، وكان هذا الإيجاب مكتوبًا بخطِّه وعليه توقيعه، فقرأه الوليُّ في مجلس العقد أمام الشهود، وصدر القبول في هذا المجلس أمامهم، انعقد الزواج بناءً على ذلك، ومن باب أولى لو توسَّط بين الطرفين رسولٌ ينقل إرادة الطرف الغائب.


وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى الكتابة، فإنَّ القول بالنِّسبة إلى الإشارة يُعتبر في غاية الوضوح، فلا يجوز مطلقًا الالتجاء إلى الإشارة طالما أن التلفُّظ ممكن بالنسبة للطرفين، والإشارة هنا مع القدرة على النطق لا يَنعقد بها الزواج على الإطلاق.


أمَّا في حالة العجز عن النُّطق، وعدم القُدرة على الكتابة، فإنَّ عقد الزواج يَنعقد بالإشارة المفهمة الدالة على إرادة الزواج، ما دامتْ قد صدرتْ في مجلس العقد، أما الشهود الفاهمون لتلك الإشارة... وهذا لا خلاف فيه بين الفُقهاء.


إنَّما الخلاف بالنِّسبة للعاجز عن النُّطق بالعبارة، ولكنه مع ذلك يستطيع الكتابة، فهل يجوز له أن يُبرم عقد الزواج بإشارة حتى مع القدرة على الكتابة؟ لأنَّ القاعدة في نظرهم: أن العقد يَنعقد باللفظ، فإذا عجز عنه قامتْ مقام اللفظ أيُّ وسيلةٍ أخرى من الوسائل البديلة عن اللفظ من وسائل التعبير عن الإرادة التي تُعتبر كلها من الوسائل غير العادية، وهي جميعًا في نزلة واحدة، فاستوتْ عندهم الإشارة مع الكتابة في هذا الشأن.


وقد أخذ مشروع قانون الأحوال الشخصيَّة بالقاعدة العامة المتَّفق عليها، وهي أن اللفظ هو الأساس في إبرام عقد الزواج، وعند العجز عن النطق تقوم الكتابة مقام اللفظ، فإن كان المتعاقد عاجزًا عنهما، فإن العقد ينعقد بالإشارة المفهمة، فقد نصَّت المادة السادسة من هذا المشروع على ما يأتي:

1 - يكون الإيجاب والقَبول مشافهة بالألفاظ التي تفيد معناه ولو عُرْفًا بأيِّ لغةٍ.

2 - ويجوز أن يكون الإيجاب عن الغائب بكتاب أو بواسطة رسول.

3 - وفي حالة العجز عن النطق تقوم مقامه الكتابة، فإن تعذَّرت فالإشارة المفهِمة.


شروط الصيغة:

شروط الصيغة في هذا المقام نوعان:

النوع الأول: الشروط العامة، وهي تلك الشروط التي يجب توافرها في صيغة كلِّ عقدٍ؛ سواء في ذلك عقد الزواج وغيره من العقود الأخرى.

والنوع الثاني: الشروط الخاصة بعقد الزواج، وهي تلك الشروط التي يتعيَّن توافرها في صيغة عقد الزواج بصفة خاصة؛ نظرًا لطبيعة عقد الزواج التي تميِّزه عن سائر العقود، وأيضًا لأهميَّة هذا العقد وخطورته.


وقبل الكلام عن هذين النوعين من الشروط، نرى من المحتَّم أن نتعرَّض لأمر مهم يتمثَّل في الملاحظة الآتية:

ملاحظة هامة:

ما قام به فقهاء الشريعة من دراسة لشروط عقد الزواج وتطبيق بعض الشروط العامة في صيغة العقود على صيغة عقد الزواج، أدَّى ببعض المستشرقين ومَن نحا نحوهم إلى الخلط بين عقد الزواج، وبين العقود الأخرى.


ونحن هنا نودُّ أن نُؤَكِّد - من الآن وكما سبق أن أوضحنا - أن عقد الزواج له قُدْسيته وخطورته، وهو وإن سُمِّي عقدًا، إلا أنه ليس كسائر العقود، بل هو - كما قلنا - ميثاق ترابط وتعاهد على حياة مشتركة وتكوين أُسرة.


فعُقُود المعاملات موضوعها الأشياء التي يقع عليها التعامُل، أما موضوع عقْد الزواج فهو الحياة المشتركة والمستقبل المشترك والتعاوُن على تكْوين الأسرة، وبناء مستقبل الأجيال.


والذي دعاني إلى تأكيد هذه الملاحظة المفهومة لدى كلِّ باحثٍ موضوعيٍّ بعيدٍ عن كلِّ تعصُّبٍ أنَّ بعض المستشرقين ومَن سار على دَرْبهم، أراد أن يتصيَّد بعض ألفاظ وردت في كُتب الفقه؛ ليُسيء إلى مركز المرأة في الإسلام.


ذلك المركز من التكريم والرعايا الذي أرست الشريعةُ الإسلاميَّة قواعده من قَبْل أن تَعرف القوانين الوضعية شيئًا عنه بمئات السنين.


ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة تُدْفن حيَّةً في التراب، إذ بالإسلام يقرِّر حقَّها في الحياة، ويرفع من منزلتها، ويردُّ لها كرامتَها، ويرفع مِن قَدْرها ويَصون عِفَّتها.


يقصُّ القرآن الكريم علينا ما كانتْ تُلاقيه الأنثى في الجاهليَّة من أهلها وذويها وأقرب الناس إليها، بل من أبيها الذي تنتسب إليه، يقول الله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58 - 59].


هكذا كان حالهم وموقفهم من المرأة، وتلك كانتْ منْزلتها عندهم، وإذا بالنبيِّ الأمين محمد - عليه أفضل الصلاة والتسليم - يُخاطب هؤلاء أنفسهم، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان له بنت فأدَّبها فأحسن أدبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نِعم الله التي أسبغ عليه، كانت له سترًا وحِجابًا من النار))[80].


هذا ما فعلتْه الشريعةُ الإسلاميَّة بالمرأة، ردَّت إليها كرامتها، ورفعتْ منْزلتها، وصانتْ لها عِفَّتها، بل وأعطتها الأهليَّة الماليَّة الكاملة، الأمر الذي لم تعرفه القوانين الوضعيَّة إلا في العصْر الحديث[81].


وإذا ببعض الحاقدين من المستشرقين ومَن معهم من بعض الشرقيين (المتسغربين)، يتصيَّدون بعض ألفاظٍ وردت في بعض كُتب الفقه الإسلامي أثناء دراسة عقد الزواج، وعلى سبيل المثال عند بحث الشروط العامة لصيغ العقود ومنها عقد الزواج، فحاولوا الإيهام بوجود شَبَهٍ بين المرأة في عقد الزواج وبين موضوع العقود الأخرى، حيث قال البعض منهم: إنَّ الشريعة الإسلاميَّة تنظر إلى المرأة على أنها سلعة؛ ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾ [الكهف: 5].


فالشريعة الإسلاميَّة: هي كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأينا أن الله كرَّم المرأة ووضعها في المنزلة اللائقة بها، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن لأولئك الذين كانوا يدفنون البنت في التراب أن هذه البنت - إذا علَّمها أبوها وربَّاها وأدَّبها - تكون سببًا في نجاته من عذاب الله يوم القيامة.


وعلى الرغم مِنْ قُدْسية الزواج، إلا أنه مع ذلك اتِّفاق وتعاقُد وترابط لا يتمُّ إلا برضا المرأة ذاتها، وكم كنت أتمنى ألا يُوقِعوا أنفسهم في الحَرَج، ولكنهم خاضوا بغير تَريُّثٍ في أمرٍ خَفِيَت عليهم أسرارُه[82]، فموضوع عقد الزواج هو الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة، والتعاون المشترك بينهما على إنشاء الأسرة وتربية الأولاد.


وبعد هذه الملاحظة التي لا بد منها نبدأ في الكلام عن شروط الصيغة، على النحو الذي أشرنا إليه قبلُ، فنتكلَّم عن الشروط العامة، ثم نتبعها بالكلام عن الشروط الخاصة، وأخيرًا نُشير في عبارة موجزة إلى شروط الانعقاد.


الشروط العامة:

يُشترط في صيغة عقد الزواج ما يُشترط في صِيَغ العقود بصفة عامة، وهي التطابق الكامل بين الإيجاب والقَبول واتصالهما، وأن يظلَّ الإيجاب قائمًا حتى يصدر القَبول[83].


أما التطابق الكامل بين القبول والإيجاب، فمعناه أن يصدر القبول موافقًا للإيجاب توافُقًا تامًّا، فإذا ما صدر الإيجاب ثم تلاه القَبول موافقًا له في كلِّ بنوده، انعقد العقدُ بلا إشكال.


أمَّا إذا حدثتْ مُخالفة في جوْهر العقد بين الإيجاب والقبول، فلا ينعقد بهذه الصيغة عقدٌ أبدًا، وهذا أمر يكاد يكون مُسلَّمًا به دون حاجةٍ إلى نصٍّ عليه صراحةً؛ إذ لا يتصور أن يحدث تخالف بين الإيجاب والقَبول إلا في بعض شروط التعاقد، مثل: المهر المُسمَّى وما إلى ذلك، والغالب أن الأمور التفصيليَّة يُتفق عليها فيما بعد.


أما الاختلاف بالنسبة للزوجة، فهو أمرٌ يكاد يكون مستحيلاً؛ إذ المفروض أنه خطب الفتاة التي اختارها شريكةً له، وبعد التأكُّد والتروِّي أقدم على إبرام عقد الزواج مع هذه الفتاة بعينها، والتي لا بد من رضاها حتى ينعقد الزواج بناءً على هذا.


ولذلك فإننا نقول: إن الاختلاف قد يكون بالنسبة للمهر، فإذا كان القَبول قد ذكر مبلغًا أقل من المُسمَّى في الإيجاب، فإن العقد لا ينعقد، أما إذا جاء ذاكرًا مبلغًا أكثر، فإن التطابق يكون قد تمَّ بالنسبة لحدٍّ مُعيَّن، ولذا فإن العقد ينعقد عند هذا الحدِّ، ولا نظر إلى الزيادة[84].


وأما الاختلاف بالنسبة للزوجة، فأعتقد أنه أمرٌ مستبعد[85]، ومع ذلك فلو حدث، فإن العقد لا ينعقد على الإطلاق.


والمراد من اتِّصال القبول بالإيجاب أن يصدر القبول في نفس المجلس الذي صدر فيه الإيجاب، وهو مجلس العقد، فإذا قال له: زوجْتُك ابنتي فلانة على مهر قَدْره كذا، وجب حتى ينعقد العقد أن يصدر القبول في نفس المجلس بأن يَرد عليه، فيقول: قبلت التزوُّج بابنتك فلانة على نفس المهر المُسمَّى.


ويلاحظ أن الفاصل الزمني اليسير إذا كان لعذرٍ طارئ لا يُعتبر إنهاءً لمجلس العقد؛ بمعنى أنه لا يؤثِّر في شرْط الاتصال، بل إن العقد ينعقد رغم هذا الفاصل الزمني اليسير طالما أنه لَم يصدر من الطرفَيْن أو من أحدهما ما يفيد الإعراض عن إبرام العقد، ومن ناحية أخرى فإنَّ الإعراض عن الإيجاب يُعتبر إعْراضًا عن التعاقُد، وبالتالي فهو إنهاءٌ لهذا الإيجاب وإلغاءٌ له، وذلك على الرغم من أن صورة المجلس من الناحية الشكليَّة لم تتغيَّر؛ أي إن كلاًّ منهما ظلَّ مستقرًّا في مكانه لَم ينتقل منه لحظة واحدة، وهذا ما يؤكِّد فكرتنا من أنه يتعيَّن النظر إلى مجلس العقد من الناحية المعنويَّة لا من الناحية الشكليَّة.


وهذا الذي ذكرناه في الفقرة السابقة يصدق على الحالة التي اعتاد الناس عليها دائمًا؛ حيث يُبرم عقد الزواج في مجلس واحدٍ بين الزوج وأهله وأقاربه، وبين الزوجة وأهلها وأقاربها.


ولكن قد يحدث نادرًا، أو من الناحية النظريَّة يمكن أن يتمَّ عقد الزواج بطريق الرسالة أو الكتاب، فيكون مجلس العقد هو مجلس تبليغ الرسالة أو قراءة الكتاب أمام الشهود، فلو بلَّغ الرسول الرسالة إلى المرأة أو وليِّها أمام الشهود فقبلت، انعقد العقد، فإذا انشغلت أو انشغل وليُّها بأمرٍ آخر، كان هذا إعراضًا يلغي الإيجاب.


وفي بيان الحدِّ الفاصل بين ما يُعَدُّ إعراضًا عن الإيجاب فيلغيه، وبين ما لا يُعد إعراضًا، فينعقد العقد رغم وجوده في بيان هذا الحدِّ، يُمكن الاهتداء بالعُرْف السائد في هذا الشأن.


وأمَّا الشرط الثالث من الشروط العامة، فهو أن يظلَّ الإيجاب قائمًا حتى يصدر القبول، فإذا قال: زوجْتُك ابنتي فلانة على مَهْر قَدْره كذا، ثم رجع عن إيجابه قبل صدور القَبول، فإن الزواج لا ينعقد، بناءً على القبول الذي صدر بعد الرجوع؛ لأنه حين صدر مثل هذا القَبول لم يصادف إيجابًا؛ حيث رجع الموجب عنه فلا ينشأ عقد الزواج.


وغنيٌّ عن البيان أنه من تمام الشروط العامة: أن يكون كلٌّ من الموجب والقابل أهلاً لمباشرة العقد، بأن يكون كلٌّ منهما مميزًا على الأقل، وأن يعلم كلٌّ من المتعاقدين ما يصدر من الآخر، بحيث يسمع كلامه أو يرى إشارته ويفهم مراده تمامًا، وألا يكون هنالك مانعٌ من الزواج بينهما تحريمًا قاطعًا؛ بمعنى ألا تكون المرأة من المحرَّمات من النساء - كما سيأتي تفصيلُه.


الشروط الخاصة:

أما الشروط الخاصة بصيغة عقد الزواج فتتلخَّص في شرطين:

الأول: أن تكون صيغة عقد الزواج منجزة، والثاني: أن تكون صيغة عقد الزواج مؤبَّدة.


الشرط الأول: أن تكونَ صيغة عقد الزواج مُنجزة:

يُشترط في صيغة عقد الزواج أن تكون منجزة؛ بمعنى أن تكون منتجةً لأثرها في الحال، غير معلَّقة على شرطٍ، ولا مُضافة إلى أَجَل، كأنْ يقول: زوجْتُك ابنتي، فيقول: قَبِلْتُ، أما إذا صدرت الصيغة معلَّقة على شرط أو مضافة إلى أَجَل، فإن عقد الزواج لا ينعقد، فإذا قال: زوجْتُك ابنتي إذا نجحت في الامتحان، فلا يَنعقد الزواج بهذا القول، بل ولا يُعتبر هذا اللفظ إيجابًا؛ لأن الصيغة غير منجزةٍ.


وإذا قال: تزوجتُ ابنتك بعد الانتهاء من الدِّراسة، لا ينعقد الزواج بهذه العبارة أيضًا؛ لأنها مضافة إلى زمن في المستقبل، ومثل ذلك لو قال: بعد شهر، أو: بعد سنة، فكلُّ هذه عباراتٌ مضافة إلى زمنٍ في المستقبل، ولا تصلح أن تكون صيغة أو عنصرًا من صيغة عقد الزواج، ذلك أن صيغة عقد الزواج ينبغي أن تكون مفيدةً معناها في الحال دون أيِّ تحفُّظٍ على إفادة هذا المعنى، وسبب ذلك أن الشارع وضع هذا العقد بصيغته المنجزة؛ ليفيد حكمه في الحال دون تأخيرٍ، فتعليقه على أمر سيحدث في المستقبل، يخرجه عمَّا وضعه الشارع له، ويجعله محلاًّ للمنازعة، واحتمال حصول آثاره أو عدم حصولها، وإضافته تعطيل لعمله في فترة الزمن ما بين صدور الصيغة إلى مجيء الوقت المضاف إليه، فكان كلٌّ منهما منافيًا لوضعه الشرعي، فيبطل العقد معهما"[86].


الشرط الثاني: أن تكون صيغة عقد الزواج مؤبَّدة:

يُشترط في صيغة عقد الزواج أن تكون مؤبَّدة؛ أي دالة على أن عقد الزواج مستمرٌّ دائمًا أبدًا إلى نهاية الحياة؛ "لأن مُقتضى عقْد الزواج حِلُّ العِشرة ودوامها، وإقامة الأُسرة وتربية الأولاد، والقيام على شؤونهم، وذلك لا يكون على الوجه الكامل إلا إذا كانتْ عقدة الزواج باقية لا يفرقها إلا الموت"[87].


وعلى هذا، فلو كان في صيغة عقد الزواج ما يدل على التأقيت، فإن العقد يكون باطلاً[88].


تلك هي الشروط الواجب توافُرها في صيغة عقد الزواج، وهي الشروط التي بدونها لا ينعقد الزواج صحيحًا، ولذلك فإنَّ هذه الشروط تُسمَّى أحيانًا بشروط الانعقاد، والواقع أنَّ معظم شروط الصيغة يعتبر من شروط الانعقاد، إلا أنَّ شرط تأبيد صيغة عقد الزواج يُعتبر من شروط صحة هذا العقد، غير أنه يُضاف إلى الشروط السابقة شرطًا آخر كما يظهر ذلك مما يأتي:

شروط الانعقاد:

وخلاصة القول في شروط الانعقاد: أنها هي ذات الشروط التي تناولناها فيما تقدَّم بعنوان شروط الصيغة باستثناء شرط التأبيد؛ فهو من شروط صحة العقد، كما أشرنا إلى بعضها إجمالاً.


وعلى ذلك، فإن شروط انعقاد الزواج تتلخَّص في الشروط الآتية:

1 - أن تتوافَر شُرُوط الإيجاب والقبول التي بيَّناها تفصيلاً، وهي: التطابق الكامل بينهما، واتِّصال القبول بالإيجاب، وأن يظلَّ الإيجاب قائمًا حتى يصدر القَبول.

2 - أن تكون صيغة عقد الزواج منجزة.

3 - أن يكون كلٌّ من العاقدين أهلاً لِمُباشرة العقد.

4- ألا تكون المرأة محرَّمة على الرجل تحريمًا قطعيًّا، وبيان هذا الشرط أن الزواج لا ينعقد بين رجل وامرأة نصَّ الله - تعالى - على تحريم الزواج بينهما.


فإذا كانت صلة القرابة بين هذا الرجل وتلك المرأة تحرِّم زواج كلٍّ منهما بالآخر - كما نصَّ على ذلك القرآن - فإنَّ الصِّيغة التي قد يتلفَّظ بها كلٌّ من الطرفين لا ينعقد بها زواجٌ أبدًا، حتى لو توافرت سائر الشروط التي قدَّمناها؛ لأنَّ بينهما مانع يحرِّم الزواج بينهما تحريمًا قطعيًّا لا مجال فيه لشكٍّ أو تردُّد، وذلك مثل: الأم والأخت، وبنت الأخ وبنت الأخت، والأم والأخت من الرَّضاعة، وهكذا سائر المحرَّمات المنصوص على تحريمهنَّ في كتاب الله.


وسيأتي تفصيل ذلك في المبحث الخاص بالمحرَّمات من النِّساء.


المبحث الثاني: في شُرُوط صحَّة عقْد الزواج:

إذا توافرت الشروط المتعلِّقة بالصيغة على النحو الذي بيَّناه، فإنَّ عقد الزواج ينشأ ويصير موجودًا، إلا أنه على الرغم مِنْ ذلك، فإنه يتحتَّم لكي يكون هذا العقد صحيحًا أن يتوافرَ فيه الشرطان الآتيان:

الشرط الأول: الإشهاد على عقْد الزواج.

الشرط الثاني: أن تكونَ صيغة عقد الزواج مؤبَّدة.


وقد سبق أن تكلَّمنا بالتفصيل عن الشرط الثاني أثناء كلامنا عنْ شُرُوط الصيغة، وبقي أمامنا تفصيل القول في الشرْط الأول على النحو الآتي:

الإشهاد على عقد الزواج:

يُشترط في عقْد الزواج حتى يكونَ عقْدًا صحيحًا منتجًا لآثاره الشرعيَّة أن يحضرَه شهود عدول يشهدون على انعقادِه، ودون هذا الشرط لا يترتَّب على عقْد الزواج أيُّ أثرٍ منَ الآثار الشرعيَّة التي تنتج عن الزواج الصحيح.


والحكمة مِن اشتراط الشَّهادة على عقْد الزواج دون غيره من العقود الأخرى ترجع إلى الأهميَّة الخاصة بعقد الزواج، تلك الأهميَّة التي تَتَمَثَّل في ضرورة التفرقة الواضحة بين الحلال والحرام، والتمييز الكامل بين النَّكاح والسِّفاح، ولهذا ندب الشارع جمع الناس وإقامة الولائم، وضرب الدفوف لعقْد الزواج وإتمامه.


وقد اتَّفق جُمهور الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة العلم والفقه على ضرورة هذا الشرط وأهميته الخاصة بالنِّسبة للزواج[89].


والأصْلُ في ذلك:

1- ما رواه أحمد عن عِمران بن حُصَيْن - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نكاح إلا بولي وشاهِدي عدْل)).

2 - ما رواه الدارقطني عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاح إلا بِوَلِي وشاهِدي عدْل)).

3 - ما رواه الترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البغايا اللاتي ينكحن أنفسهنَّ بغَيْر بيِّنة)).

4 - ما رواه مالك في "الموطَّأ" عن أبي الزبير المكِّي أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجلٌ وامرأة، فقال: "هذا نكاح السرِّ، ولا أجيزه ولو كنتُ تقدَّمتُ فيه، لرجمتُ".


ومن هذه النصوص الكريمة يظهر لنا أن الشهادة على الزواج أمرٌ في غاية الأهميَّة؛ حتى تتحقق الحكمة التشريعيَّة من اشتراطها، ألا وهي الإعلان عن الزواج؛ حتى يكون الحلال بيِّنًا ظاهرًا على رؤوس الأشهاد.


ولكن إذا تحققت الشهادة على عقد الزواج، إلاَّ أنَّ الزوجين والشهود تواصوا على كِتمان هذا الزواج، فهل يُعتبر الزواجُ صحيحًا لِوُجُود الشُّهود؟ أو أنه يُعتبر باطلاً؛ نظرًا لعدم الإعلان؟


ذهب الحنفيَّة والشافعيَّة والحنابلة إلى أنَّ الزواج يُعتبر صحيحًا؛ لأن وجود الشاهدين يكفي لإعلان الزواج، ذلك أن السرَّ إذا ما خرج عن شخصَيْن فإنَّه لا يُعتبر سرًّا، كما قالوا: "وَكُلُّ سِرٍّ عَدَا الاثْنَيْنِ مُنْتَشِر"، وهنا حضر عقد الزواج أكثر من اثنين؛ حيث حضر الزوجان والشاهدان، وعلى ذلك فلا سر في هذه الحالة، والزواج على ذلك صحيح.


وذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنَّ التواصي بالكتمان يجعل عقد الزواج باطلاً؛ لأنَّ هذا الاتفاق على كتمان عقد الزواج يتنافى مع الحكمة التشريعيَّة من اشتراط الشهادة، وهي الإعلان عن الزواج.


فإذا تواصى الزوجان والشاهدان على كتمان الزواج لَم يكن هنالك إعلان بالزواج، بل يكون زواج سرٍّ وهو باطل؛ حيث أَمَر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإعلان الزواج، فقال: ((أعلنوا النكاحَ، واضربوا عليه بالدفوف)).


والذي يظهر لنا - والله أعلم - رجحان هذا الرأي؛ ذلك أنه على الرغم من وجاهة ما أسند إليه الأئمة الثلاثة من أنَّ السرَّ إذا خرج عن اثنين لَم يعد سرًّا، إلا أننا نرى مع ذلك أنَّ عقد الزواج له أهميَّة خاصة وقُدْسية تميِّزه من سائر العقود - كما أشرنا غير مرة - تلك القُدْسيَّة توجب أن يكون هذا العقد بعيدًا كلَّ البعد عن السِّريَّة، بل تحتم أن يكون علنًا واضحًا لا خفاء فيه ولا كتمان، والشأن في الكتمان أن يكون في حالة وجود أمرٍ يكره أصحابه اطلاع الناس عليه، فلولا وجود شُبهة أيًّا كانتْ لما تواصوا بالكتمان، يرشد إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلعَ عليه الناسُ)).


هذا فضْلاً عن النصوص الكثيرة الدالة صراحةً على وجوب إعلان الزواج، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف، وليولم أحدُكم ولو بشاة))[90].


ولقد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحكمة من ذلك تمامًا، حينما قال: ((فَصْلُ ما بين الحلال والحرام الدُّف والصوتُ في النكاح))[91].


شُرُوط الشَّهادة:

يُشترط في الشهود الذين يحضرون عقْد الزواج شُرُوطًا عديدة، منها ما هو متَّفق عليه: وهو الكثير الغالب، ومنها ما هو مختلف فيه: وهو قليل محدود.


فالشروط المتفق عليها هي: العقل، والبلوغ، والتعدُّد، والإسلام، إذا كان الزوجان مسلمَيْن، وأن يسمعَ الشهود عبارة العاقدين، مع فَهْم المقصود منها بصِفة عامة، وأمَّا الشروط المختلفة فيها، فهي العدالة، وفي حالة زواج المسلم بالكتابيَّة، فقد اختلف الفُقهاء في مدى اشتراط إسلام الشُّهود.


وفيما يلي بيان هذه الشروط بشيءٍ من التفصيل:

الشُّروط المتفق عليها:

اتَّفق الفقهاء على أنه يُشترط في الشاهد الذي يحضر عقد الزواج أن يكون بالغًا عاقلاً مُسلمًا - إذا كان الزوجان مسلمَيْن - سامعًا عبارة الزَّوْجَيْن أو الزوج وولي الزوجة، فاهمًا لمعناها.


الشرط الأول: العقل والبلوغ:

هذا شرط لا بدَّ مِنْ توافُره بداهة؛ ذلك أنَّ حُضُور الشاهد حتى يمكن الاعتماد على شهادته في الإثبات، وعند التنازع أمام القضاء، ولا يتصور ذلك إلا من البالغ العاقل؛ إذ المقصد من حضور الشهود تكريم عقد الزواج، وإلزام الزوجين بأحكام هذا العقد أمام القضاء، فالشهادة نوع من الولاية، ولا يتأتَّى بشهادة الصبي أو غير العاقل شيءٌ من ذلك[92].

بل إن الصبي أو غير العاقل ليستْ له ولاية على نفسه، فكيف تكون له ولاية على غيره؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.


الشرط الثاني: تعدُّد الشهود:

يشترط في الإشهاد على عقد الزواج أن يكون من أكثر من رجل واحد، غير أن الفقهاء اختلفوا بعد ذلك في تحديد نصاب الشهادة بالنسبة لعقْد الزواج، والمراد بالنِّصاب العدد المطلوب حضوره من الشهود.


فذَهَبَ الحنفيَّة إلى أن العقد يَصحُّ إذا شَهِد عليه رجلان، أو رجل وامرأتان، وقد استدلوا على ذلك بقول الله - تعالى -: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ [البقرة: 282]، فظاهر الآية يفيد أن العقود تعتبر صحيحة إذا شهد عليها رجلان أو رجل وامرأتان.


والأصل في الشهود أن يكونوا من الرجال، ولا تُقبل شهادة النساء وحدَهنَّ في غير المواضع المستثناة، وهي التي لا يطلع عليها الرجال، فلا تكفي شهادة النساء منفردات في الزواج؛ لأن مِن أغراض الشهادة إعلان الزواج، وهو لا يَتَحَقَّق بوُجُودهنَّ؛ لأنه يغلب عليهنَّ - إذا كُنَّ مسلمات متأدِّبات بأدب الإسلام - الاستتار، وعدم حضور مجالس الرجال، فإذا وُجِد معهنَّ رجلٌ، تحقَّق الإعلان بين الرِّجال والنِّساء[93].


وذهب جمهور الفقهاء من المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة إلى أن الإشهاد على عقد الزواج يتعيَّن أن يكون من الرجال فقط، بأن يشهد على هذا العقد رجلان، فلا يصح أن يشهد عليه رجل وامرأتان، ومن باب أولى لا يصحُّ عقد الزواج إذا شهد عليه النساء فقط.


وقد استدل جمهور الفقهاء على ذلك بالكتاب والسُّنَّة، أما الكتاب فقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ [الطلاق: 2]، ووجه استدلالهم بهذا النصِّ الكريم أن الله - تعالى - أمر بإشهاد رجلين عدل عند الطلاق أو عند الرجعة، كما يدل على ذلك سياق الآية[94].

وإذا كانت شهادة الرجال العدول مطلوبة عند الطلاق أو عند الرجعة، فمعنى ذلك أنها مطلوبة أيضًا عند إبرام عقد الزواج.


وأمَّا السُّنة فقد بيَّنت صراحة وجوب شهادة رجلَيْن عدل عند الزواج؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)).


وذهب ابن حزم الظاهري إلى أن عقد الزواج صحيح إذا شهد عليه أربع نسوة، وحُجَّته في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل)).


والذي أراه - والله أعلم - أن الفيصل في هذا الأمر هو الرجوع إلى نصوص القرآن الكريم الصريحة والواضحة تمام الوضوح؛ فالله - تعالى - يقول: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282].


هذا النصُّ الكريم ورد في آية الدَّين[95]، وهو مع ذلك يؤكِّد لنا أن الأصل في الشهادة حتى في المسائل المدنية، أنها تكون برجلين، بصراحة النصِّ الكريم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، هذا هو الأصل، وأما الاستثناء فهو صحَّة الشهادة من رجلٍ وامرأتَيْن، هذا ما أفْهمه مِنْ ظاهر النصِّ الكريم ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]"[96].


وبالنظرِ إلى الواقع المشاهَد بخصوص عقد الزواج يُمكننا أن نقول: إن المذهب الراجح من المذاهب الثلاثة التي قدَّمناها هو مذهب جمهور الفقهاء؛ ذلك أن الواقع يؤكِّد ندرة حالة الزواج التي يتعذَّر فيها وجود رجلَيْن يشهدان على هذا العقد.

فعلى مرِّ القرون الطوال تُبرم عقود الزواج، ولا يشْهد عليها إلا الرجال.


هذا فضلاً عن أن جمهور الفقهاء أيَّدوا ما ذهبوا إليه بنصوص صريحة في القرآن الكريم والسُّنَّة المباركة، تؤكِّد أهميَّة وجود الرجال في مسائل الزواج والطلاق، بل تأمر بشهادة الرجال في هذه المسائل؛ فقوله - تعالى -: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم ﴾ [الطلاق: 2]، جاء بخصوص الطلاق والرجعة، ولَم تذكر هذه الآية أيَّ استثناء من وجوب شهادة رجلَيْن عدْل، في حين أن الاستثناء ورد في آية الدَّين.


كما أنَّ النُّصوص الكثيرة الواردة في السُُّنَّة تؤكِّد أن الزواج لا ينعقد صحيحًا إلا بوُجُود شاهدي عدل، وقد سبق أن عرضنا بعض هذه الأحاديث الشريفة، ونكتفي بالإشارة إلى ما رواه الدارقطني عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل))".


والذي عليه العمل في مصر هو الراجح من المذهب الحنفي، وذلك في المسائل التي ليس فيها نصٌّ خاص، ونصاب الشهادة من بين تلك المسائل، والمذهب الحنفي - كما أشرنا - يأخُذ بشهادة رجلَيْن، أو بشهادة رجل وامرأتَيْن.


وقد أخذ بهذا الحكم أيضًا مشروع قانون الأحوال الشخصيًة؛ حيث نصَّ على أنه: "يشترط لصحة الزواج حضور شاهدين بالِغَيْن عاقلَيْن رجلين، أو رجل وامرأتين".

الشرط الثالث: أن يسمع الشاهدان صيغة العقد في وقت واحد، وأن يكونا فاهمَيْن لها.


يُشترط في الإشهاد على عقد الزواج أن يسمع الشاهدان صيغة العقد؛ أي: عبارة كلٍّ من الموجب والقابل في وقت واحد.


فلو سمعا الإيجاب فقط دون قبول، أو سمعا القبول فقط دون الإيجاب، فإن العقد لا يصح؛ إذ لا بد من سماع صيغة العقد كاملة بعُنصرَيْها: الإيجاب والقَبول.


وكذلك لو شهد واحد فقط بأن سمع عبارة كلٍّ من الموجب والقابل، في حين أن الشاهد الثاني لم يسمع هذه الصيغة في نفس الوقت، ولكنه سمعها في وقت آخر؛ حيث أعيد التلفُّظ بها أمام الشاهد الثاني - بعد مجلس العقد - فإن هذه الشهادة لا تكفي، وذلك بسبب اختلاف المجلس الذي سمع فيه كلُّ شاهدٍ صيغة العقد.


فمن أَجْل أن يكون العقدُ صحيحًا يجب أن يسمعَ كلٌّ من الشاهدَيْن صيغة العَقْد بعُنصرَيْها في وقت واحدٍ.


وليس فقط مجرَّد السماع هو المطلوب لصِحة الشهادة؛ بل لا بُدَّ أن يصحبَ هذا السماع الفَهْم الصحيح لعبارة العقد، ذلك أنهما لَوْ سمعاها دون فَهْم لها، فإنهما لَم يشهدا على شيءٍ؛ لأنهما لم يفْهما شيئًا، فلا يعتبر الزواج صحيحًا.


وغنيٌّ عن البيان أن الشاهد إذا كانتْ حالته الصحيَّة لا تسمح له بإدراك مضْمون الشهادة، فإنَّ شهادته لا تصح، وعقد الزواج يُعتبر غير صحيح، فالشخص الذي لا يستطيع أن يسمع عبارة العاقدين لا تصح شهادته، وكذلك إذا طرأ عليه عارضٌ من عوارض الأهليَّة، مثل: النوم، والسُّكر، والجنون، وهكذا.


ولكن يُلاحظ من ناحية أخرى أن العقد إذا أبْرِم بطريق الإشارة على النحو السابق بيانه، فإنه يشترط في كلٍّ من الشاهدين أن يتمكَّنا من رؤية هذه الإشارة، فاهمين لمضمونها، عالمين بالمقصود منها، فإذا لم يرَ الشاهدان - أو أحدهما - تلك الإشارة لعارض في النظر، فإنَّ الشهادة لا تصحُّ، والعقد يعتبر غير صحيح، وكذلك الحال فيما لو تمكَّن الشاهد مِنْ رُؤية الإشارة، ولكنه لَم يفهم المراد منها، فإن الشهادة لا تصح، والعقد يعتبر غير صحيح.


الشرط الرابع: الإسلام:

يشترط في شاهدي عقد الزواج أن يكونا مسلمين، وهذا الشرط محتَّم توافره بإجماع العلماء متى كان الزواج بين مسلم ومسلمة، وهو من البداهة بحيث لا يحتاج إلى شرح أو توضيح؛ إذ هو بذاته في غاية الوضوح؛ فالحكمة التشريعيَّة من اشتراط الشهادة تتلخَّص في شيوع أمر الزواج بين المسلمين، ولا تتم تلك الحكمة إلا بحضور شاهدين مسلمَيْن، كما أن "الشهادة من باب الولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم بمقتضى حكم الإسلام، ولأن لعقد الزواج اعتبارًا دينيًّا، فلا بد أن يكون الحاضرون فيه - الذين يمضي الزواج بشاهدتهم - من أهل العبادة الإسلاميَّة"[97].


الشروط المختلف فيها:

التعبير عن هذا الموضوع بالشروط المختلف فيها يتضمَّن شيئًا من التجاوز[98]، دل على أن الفقهاء اختلفوا في اشتراط عدالة الشهود، كما أنهم اختلفوا في حالة خاصة، وهي ما إذا كان الزواج بين مسلم وكتابيَّة[99]، فهل يشترط في الشاهدين أن يكونا مسلمَيْن؟ أو يكفي أن يكونا - أو أحدهما - من أهل دين الزوجة؟


ونظرًا لقُرْب عهدنا بتلك الحالة، فإنَّنا نبدأ بها، ثم نتكلم بعد ذلك عن عدالة الشهود.


الشهادة على زواج المسلم بالكتابيَّة:

أباح الله - تبارك وتعالى - المسلم أن يتزوَّج بالكتابيَّة: وهي التي تدين بدين سماوي، وسوف نتناول هذه المسألة بالتفصيل المناسب فيما بعدُ.


والذي نريد بيانه هنا أن الفقهاء اختلفوا بالنسبة للشهادة على هذا العقد.


فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لا يُشترط إسلام الشاهدَيْن في هذه الحالة، فيصحُّ أن يشهد على هذا العقد شاهدان مِنْ أهل الكتاب، كما يصحُّ أن يشهد عليه شاهدان من المسلمين.


وسند هذا الرأي أن الشهادة هنا على الزوجة، وهي في هذه الحالة كتابيَّة فتصح شهادة الكتابيين عليها.


وذهب محمد بن الحسن، وبعض الفقهاء إلى أن شهادة الكتابيين لا تصح حتى في هذه الحالة؛ لأن الزواج هو زواج مُسلم، فلا بُدَّ أن يُذاع أمرُه بين المسلمين، وذلك لا يكون إلا بحضور شاهدين مسلمَيْن، هذا فضلاً عن أن الشهادة من باب الولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم.


والذي عليه العمل في القضاء المصري هو المذهب الأول؛ إذ هو أرجح الأقوال في المذهب الحنفي، وهو ما أوجب التشريع المصري الأخذ به عندما لا يوجد نصٌّ يخالفه.


عدالة الشهود:

اشترط جُمهور الفقهاء في شاهدي عقد الزواج أن يكونا عدلين.


وشرط عدالة الشهود معترف بأهميته في سائر الفروع؛ سواء في ذلك الشهادة على عقد الزواج، أم غيره من التصرفات الأخرى التي تلزم الشهادة فيها شرعًا، ومن باب أولى الشهادة أمام القضاء.


ولذلك فإن جمهور الفقهاء يشترطون في الإشهاد على عقد الزواج أن يتمَّ من شاهدي عدلٍ، وإلا كان عقد الزواج غير صحيحٍ.


وإلى جانب الاعتبار العام الذي قدَّمنا به دراسة الموضوع، فإن الأحاديث الصحيحة الواردة في خصوص عقد الزواج تؤكِّد صراحة ضرورة اشتراط العدالة فيمن يشهد على عقد الزواج؛ فقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل))، وقد رُوي هذا الحديث من طُرق عديدة - كما سبق أن بيَّنا.


ومن ناحية أخرى، فإن علماء المسلمين من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين قد نظروا إلى أن الحكمة من تشريع الشهادة - في بعض صورها - ترجع إلى إظهار شأن هذا العقد وتكرمه، ولا يحصل التكريم بشهادة الفَسَقَة؛ لأنهم ليسوا أهلاً للكرامة في أنفسهم، فلا يكرم العقد بحضورهم، كما أن مِن أغراض الشهادة توثيق العقد والتمكُّن من إثباته عند إنكاره والتنازُع فيه، وشهادة الفَسَقَة لا يثبت بها الزواج أمام القضاء بالاتِّفاق[100].


على أن جمهور الفقهاء يعتبرون الشاهد عدلاً باعتبار دلائل الحال في ظاهر أمر الإنسان ومعظم أحواله؛ بمعنى أنهم يأخذون في القول بتوفُّر شرط العدالة من عدمه بمعيار "ظاهر الحال".


فطالما أن الشخص مُعتدل في أحواله، لَم تظهرْ عليه دلائل الفِسْق، أو أمارات المعصية، فهو عدل في ظاهر الحال، وتصح شهادته.


فإذا شهد رجل مستور الحال على عقد زواج صحتْ شهادته، حتى ولو ثبت بعد ذلك أنه قد صدر منه ما يؤثِّر في عدالته؛ إذ العِبرة في توافر هذا الشرط بظاهر الحال.


ولم يخالف في شرط العدالة إلا فقهاء المذهب الحنفي، فقد ذهبوا إلى أن العدالة ليستْ شرطًا في شاهدي عقد الزواج، وقد قالوا في ذلك: "إن مَن يصح أن يصدر منه العقد، يصح له أن يشهد عليه"، والفاسق كما يجوز له أن يبرمَ عقْد الزواج، يجوز له أن يشهدَ عليه"، والذي نراه - والله أعلم - أن شرط العدالة ينبغي ألا يكون محلاًّ لخلافٍ.


وقد يبدو للقارئ الكريم ضَعف وجهة النظر التي استند إليها فقهاء المذهب الحنفي[101]، بل إنَّ العلامة "الكاساني" - وهو فقيه حنفي كبير - ذكر أن شهادة الفَسَقة لا تصحُّ في حال تلبسهم بالفِسْق.


ولقد نصَّ الحديثُ صراحة على ضَرُورة اشتراط العدالة في شاهِدي عقْد الزواج، بل إنَّ منطوق الحديث يؤكِّد عدم وُجُود هذا العقد إلا بوجود "ولي وشاهدي عدل"، فأية محاولة بعد ذلك إنما هي مجرد تكلُّف يصعُب التفكير حتى في مجرَّد النظر إليها؛ حيث لا مقال لأحدٍ بعد كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم.


المبحث الثالث: في شروط نفاذ عقد الزواج وشروط لزومه:

نتكلم في هذا المبحث عن الشروط التي بتوافرها يصبح عقد الزواج نافذًا، بحيث إذا تخلفت أو تخلف شرطٌ منها أصبح العقد غير نافذ، ثم نتبع ذلك بالبحث عن شروط لزوم هذا العقد، وهكذا فإن دراستنا في هذا المبحث ستكون على الوَجْه الآتي:

المطلب الأول: في شروط نفاذ عقد الزواج.

المطلب الثاني: في شروط لزوم عقد الزواج.


المطلب الأول: في شروط نفاذ عقد الزواج:

1 - أن يكون كامل أهليَّة الأداء.

2 - أن تكون له ولاية إبرام هذا العقْد شرْعًا.


العقد النافذ: هو العقْد الصحيح الذي يصدر مِن شخص رشيد كامل أهليَّة الأداء، بحيث يكون من سلطته إبرام هذا العقد[102]، وعلى ذلك فشروط نفاذ عقد الزواج يقصد بها - كما أشرْنا - تلك الشروط التي أن توافرتْ صار عقد الزواج نافذًا، أمَّا إنْ تخلفت أو تخلَّف شرطٌ منه، كان عقد الزواج غير نافذ.


وتتلخَّص شُرُوط نفاذ عقد الزواج في كون العاقد كامل أهلية الأداء، وبعبارة أخرى: أن يكون بالغًا عاقلاً، له سلطة إبرام عقد الزواج شرعًا.


وبناءً على ذلك، إذا أبرم الرجلُ عقد زواجه وهو كامل الأهليَّة، نفذ العقد، وترتَّبَتْ عليه كلُّ آثاره الشرعيَّة، أما إذا كان ناقص الأهليَّة، مثل: الصغير المميز أو المعتوه، فإنَّ الزواج الذي يبرمه لا يكون نافذًا، بل يكون موقوفًا على إجازة الولي، أو القائم على شؤون ناقص الأهليَّة[103].


وإذا كان الرشد شرطًا جوهريًّا في نفاذ عُقُود المعاملات، فإنه ليس كذلك بالنِّسبة لعقد الزواج، بل إن هذا العقد - أي: الزواج - يصح وينفذ من السفيه، ولو كان محجورًا عليه، وكذلك ذو الغفلة؛ لأن موضوع الحَجْر على السفيه وذي الغفلة هو التصرُّفات الماليَّة، وأما التصرفات الشخصيَّة فليستْ موضع حَجْر، فيجوز الزواج ولكن لا يثبت من المهر أكثر من مهر المثل، إذا كان السفيه هو الزوج[104]، ويثبت لها مهر مثلها على الأقل، إذا كان السفيه هو ولي الزوجة.


ومن ناحية أخرى، فإن للفقهاء آراء مختلفةً في مدى حقِّ الأب في إجبار ابنته البكر على الزواج، وبغض النظر عن آراء الفقهاء، فإن الشرع الإسلامي الحنيف يوجب رضاها في كل حالٍ، وسوف ندرس هذه المسألة في موضعها المناسب - إن شاء الله.


ونريد أن نوضِّح في هذا المقام أن المذهب الحنفي يُعطي المرأة البالغة كامل الولاية في أمر زواجها، فالعقد يصح، بل وينفذ بعبارتها.


غير أن مشروع قانون الأحوال الشخصيَّة - الذي لم يرَ النور بعدُ![105] - جاء بتفصيل له بعض الوجاهة؛ حيث نصَّ على أن زواج الصغير والصغيرة قبل البلوغ زواج باطل.


فإذا ما بلغت الفتاة البلوغ الشرعي، كان لعبارتها أثرٌ في إنشاء عقد الزواج، ولكن هذا الأثر محدود طالما أنها لم تبلغ سِنَّ الرُّشد، فقد نصَّ المشروع المذكور في مادته الرابعة والعشرين على أن الفتاة إذا باشرت العقد في هذه الفترة بعد رضا الولي صحَّ العقد، وإذا انفرد أحدهما - الفتاة أو الولي - بالعقد قبل رضا الآخر كان العقد موقوفًا على إجازة الآخر، فلو أن الولي انفرد بعقد الزواج كان العقد غير نافذ؛ أي: موقوفًا على إجازة الفتاة، وبالعكس لو أن الفتاة أبرمت العقد كان العقد غير نافذ؛ أي: موقوفًا على إجازة الولي.


واللجنة التي وضعتْ هذا المشروع تهدف إلى حماية الفتاة في هذه الفترة من أن يُغرر بها، أو من أن تندفع وراء عاطفة وقتيَّة جامحة دون أن تتبيَّن مصلحتها، وحماية للأسرة أيضًا من أن تقع في الحَرَج، وهو اتجاه حميد يضمن للفتاة حياة زوجيَّة سليمة؛ لأنَّ الولي لا يملك أن يستبد بالزواج دون رضاها، كما لا تملك الفتاة - ما بين بلوغها الحلم وسِن الرشد الحالي - من أن تنفرد بتزويج نفسها دون رضا وليِّها، فإن فعلت ذلك أو قصر وليها، كان العقد موقوفًا على إجازة الآخر[106] - كما بيَّنا.


أما إذا بلغت الفتاة رشدها، فإنه يجوز لها أن تستقل بمباشرة عقد زواجها أخْذًا بالمذهب الحنفي، ولنا على هذا الحكم ملاحظة نبديها في حينها عند الكلام عن الولاية في المباحث التالية.


وهذا الذي قلناه فيما تقدَّم إذا كان الزواج يتعاقد أصالة عن نفسه، أما إذا كان الولي هو الذي يتعاقد عن أحد الزوجين، أو كان المتعاقد فضوليًّا، فإن الحكم يختلف تمامًا عن هذا الذي قلناه.


ففي حالة تعاقد الولي عن المولى عليه، يتعيَّن حتى يكون عقدًا نافذًا أن يملك الولي سلطة إبرام العقد شرعًا، والولي الذي يملك هذه السلطة هو أقرب العصبات الذين تثبت لهم شرعًا هذه الولاية[107]، فإذا باشر العقد وليٌّ أبعد من وجود وليّ أقرب، كان العقد موقوفًا على إجازة الولي الأقرب، فلو أن الجد هو الذي أبرم عقد زواج الفتاة مع وجود أبيها، فإن العقد يكون موقوفًا على إجازة الأب؛ لأن الولي الأقرب هو صاحب الحق شرعًا في إبرام العقد، ومن باب أولى إذا باشر العقد فضوليٌّ - وهو الشخص الذي ليس له صلة بهذا الموضوع، ولكنه تدخَّل من تلقاء نفسه فأبرم العقد لغيره - فإن عقده يعتبر موقوفًا على إجازة الشخص الأصلي الذي أبرم العقد من أجله.


ورغم أن هذه المسألة تعتبر من المسائل النظريَّة في عقد الزواج؛ حيث يندر وقوعها في هذا المجال[108]، إلا أن مشروع قانون الأحوال الشخصيَّة نصَّ على هذه الحالة في المادة 22 منه، حيث قال:

أ- "زواج الفضولي متى وقع صحيحٌ، يتوقَّف على إجازة صاحب الشأن".

ب- "إذا جاوز الوكيل في الزواج حدود وكالته، كان فضوليًّا".


المطلب الثاني في شروط لزوم عقد الزواج:

1- بجمع هذه الشروط ينشأ عقد الزواج نشأة شرعيَّة سليمة من كلِّ عيبٍ يؤثِّر فيها.

2 - أن يكون الزوج كفئًا.

3 - أن يكون المهر مهرَ المثل.

4 - ألا يباشر العقد غير الأب والجد.


العقد اللازم: هو العقد الذي لا يقبل الفسخ إلا بتراضي الطرفَيْن معًا، وعلى ذلك فالعقد غير اللازم: هو الذي يستطيع أحد طرفيه أن يستقل بفسْخه دون موافقة الطرف الآخر.


والأصل أن عقد الزواج من العقود اللازمة؛ لأن المقاصد الشرعيَّة من هذا العقد لا يمكن أن تتحقق إلا مع كونه عقدًا لازمًا؛ فالعشرة الزوجيَّة وتربية الأولاد والقيام على شؤونهم، كل هذا وغيره من مقاصد هذا العقد، لا يتحقق إلا بلزومه وعدم المساس به، غير أن لزوم عقد الزواج لا يتم إلا إذا نشأ العقد صحيحًا مستوفيًا كلَّ أركانه وشروطه.


ولذلك فإنَّنا نستطيع تلخيص هذه الشروط في عبارة واحدة، ألا وهي: أن ينشأ عقدُ الزواج نشأةً شرعيَّة صحيحة سليمة من كلِّ عيب يؤثِّر فيه.


ويمكننا تفصيل هذه العبارة المجملة، فنقول: إن شروط لزوم عقد الزواج هي:

1 - أن يكون الزوج كفئًا للزوجة على النحو الذي سيأتي تفصيله فيما بعد.

وعقد الزواج يكون غير لازمٍ في هذه الصورة إذا كانت المرأة - وهي بالغة عاقلة رشيدة - قد زوَّجت نفسها من غير كفءٍ؛ حيث يجوز لوليِّها أن يفسخ هذا العقد؛ "لأن الكفاءة حقٌّ مشترك بين الزوجة وأوليائها، فإذا أسقطت حقَّها، بَقِي حق الأولياء، لكن هذا الحق ثابت؛ حتى تلد أو تحبل حبلاً ظاهرًا، فإن حدث ذلك سقط حق الاعتراض؛ لأن حق الولد هنا في المحافظة عليه وتربيته أقوى من حقِّ الأولياء في الاعتراض"[109].


2 - أن يكون المهر في حدود ما يدفع لأمثالها بنات قومها.

فإذا زوَّجت المرأة الرشيدة نفسها من شخص كفءٍ لها، ولكن بمهر أقل من مهر المثل، فإنَّ عقد الزواج هنا يكون غير لازم أيضًا؛ إذ من حق الولي أن يعترض على هذا الزواج، ويطلب فسخه ما لم يقبل الزوج زيادة المهر إلى الحدود المشروعة، وذلك بأن يرفعه إلى مهر المثل، وقد وضع الفقهاء حدًّا لحقِّ الاعتراض في هذه الحالة أيضًا، وهو نفس الحد السابق؛ أي: ما لم تلد أو تحبل حبلاً ظاهرًا؛ حيث يسقط حق الولي في الاعتراض على الزواج عند ذلك؛ مراعاة لحقِّ الطفل.


3 - ألا يكون الولي الذي يزوج فاقد الأهليَّة أو ناقصها غير الأب والجد، فإذا تولَّى عقد الزواج ولي غيرهما، كان العقد غير لازم، وجازت المطالبة بفسخه إذا ثبتت مصلحة المولى عليه في فسخ هذا الزواج.


فلو أن الأخ أو العم هو الذي أبرم عقد الزواج في الحالة المشار إليها، ثم ظهرت المصلحة في غير هذا الزواج، فإن العقد هنا يكون غير لازم حتى لو كان الزواج من كفء وبمهر المثْل؛ لأنَّ شفقة غير الأب لا تبلغ درجة الكمال، وذلك يبرر للأب أو للجد - ومن باب أولى لناقص الأهليَّة عند البلوغ، أو لفاقدها عند رجوعها إليه - حقَّ فسخ العقد الذي يسمِّيه الفقهاء: خيار الإفاقة[110]، أو: خيار البلوغ[111].

ــــــــــــــــــــ
[1] يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [النساء: 1]، فقد خلق الله - عز وجل - حواء - عليها السلام - من الضلع الأيسر لآدم - عليه السلام - خلقها من ضلعه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته فأنس إليها وأنست به؛ "تفسير القرآن العظيم"؛ للإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ج (1)، ص (448)، طبعة 1400هـ - 1980م.

[2] ما نذكره في المتْن هو تعريف عقد الزواج في اصطلاح الفقهاء، حسب المعنى الذي يبدو لنا ملاءمته لآراء الفقهاء، وتحقيق المعنى المقصود من هذا العقْد.

أما تعريف الزواج في اللغة العربية، فإنه يرجع في أصل معناه إلى كملة زوج، وهي كلمة منَ العموم بحيث تصدق على كلِّ ما له نظير؛ كالأصناف والألوان، أو يكون له مقابل؛ كالرطب واليابس، والذَّكر والأنثى، والليل والنهار، والحلو والمر، قال ابن دُريد: والزوج كل اثنين ضد الفرد، وتبعه الجوهري، فقال: ويُقال للاثنين المتزاوجين: زوجان وزوج أيضًا، والزوج عند الحساب خلاف الفرد، وهو ما ينقسم بمتساويين، والرجل زوج المرأة، وهي زوجه أيضًا، هذه هي اللغة العالية وبها جاء القرآن، نحو: ﴿ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، والجمع فيهما أزواج، قاله أبو حاتم، وأهل (نَجْد) يقولون في المرأة: زوجة، وأهل الحرم يتكلمون بها، وجمعها زوجات، والفقهاء يقتصرون في الاسْتِعمال عليها للإيضاح، وخوف لبس الذكَر بالأنثى؛ إذ لو قيل: ترِكَةٌ فيها (زوج) و(ابن)، لَم يعلمْ أهو ذكَر أم أُنثى؛ "المصباح المنير"، باب الزاي مع الواو مثيلتهما، "القاموس المحيط"، باب الجيم فصل الزاي.

ويُلاحظ مِنْ ناحيةٍ أُخرى أنَّ الفُقهاء يعبِّرون عنْ هذا العقد بعقْد النكاح، وهم يقصدون منه عقد الزواج، وسبب هذا التعبير أسلوب القرآن الكريم؛ مثل قوله تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 3].

[3] الإحصان والإعفاف كلمتان متقاربتان، يقول علماء اللغة: امرأة حصان؛ أي: عفيفة، من الحصانة وهي العِفَّة، بيد أن كلمة إحصان يُراد بها في الحدود معنًى خاصًّا: هو الدخول الحقيقي في زواج صحيح، فيقال: إنه محصن، ويرجع هذا من الناحية الفقهيَّة إلى أن حد الزنا، هو الجلد بالنسبة للبكر، والرَّجم بالنسبة للمحصن؛ أي: المتزوج أو المتزوجة، أو اللذان سبق لهما الدخول في زواج صحيح.

[4] نفس الحاشية السابقة.

[5] سواد الأمة؛ أي: كثرة أفرادها، فالسواد العدد الكثير؛ "المصباح"، باب السين مع الواو.

[6] هذا هو نصُّ التعريف الذي أخذ به القانون المغربي الصادر في 22/ 11/ 1957.

[7] فقد عرَّفه بعض الفقهاء بأنه: عقْد يُفيد حل استمتاع الرَّجُل بامرأة لَم يمنع مِن زواجها مانع شرعي؛ راجع في هذا "الدر المختار شرح تنوير الأبصار"، هامش حاشية ابن عابدين، ج (3) ص (3 - 4)، طبعة سنة 1386 هـ - 1966م.

وإذا كان الفقهاءُ في تعْريفاتهم لعقد الزواج قد أشاروا إلى الاستمتاع، حيث يجعل العقد ذلك حلالاً بالنِّسبة للزوجَيْن على سواء، فإنه ليستْ هي كل أغراضه، ولا أسمى أغراضه في نظر الشارع الإسلامي، بل إنَّ غرضه الأسْمى هو التناسُل، وحِفْظ النوع الإنساني، وأن يجدَ كلٌّ منَ العاقدين في صاحبه الأُنْس الروحي الذي يؤلِّف الله تعالى به بينهما، وتكون به الراحة وسط متاعب الحياة وشدائدها، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، والفقهاءُ أنفسهم لاحظوا هذا المعنى، فقد قال بعضهم في هذا: "ليس المقصود بهذا العقْد قضاء الشهوة، وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة، ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضًا ليرغب فيه المطيع والعاصي: المطيع للمعاني الدينية، والعاصي لقضاء الشهوة، بمنزلة الإمارة ففيها قضاء شهوة الجاه، والنفوس ترغب فيها لهذا المعنى، حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر، ولكن ليس المقصود بها في الشرع قضاء شهوة الجاه، بل المقصود بها إظهار الحق والعدل؛ "أبو زهرة الأحوال الشخصية" ص 18.

[8] السُّنَّة والمندوب والمستحب، كل هذه المصطلحات في هذا المقام بمعنًى واحدٍ.

[9] "صحيح البخاري"، ج(3)، ص (147).

[10] الباءة هي القدرة على أعباء الزواج ومؤنه وتكالفه، وأغض للبصر بمعنى أن الزواج يعين الإنسان على غضِّ بصره، فلا ينظر إلى المحرمات، وأحصن للفرْج: أدعى إلى العفة والطهر، والوجاء بمعنى: القاطع للشهوة.

[11] حيث اقترنتْ لام الأمر بالفعل المضارع، والأمر للوجوب - كما بيَّنَّا.

[12] أي القاعدة العامة.

[13] وهذه الآية الكريمة جاءتْ عقب الآيات المباركات التي ذكر الله فيها المحرَّمات من النِّساء.

[14] رواه مسلم عن عمر بن العاص؛ "نيل الأوطار"، جـ 6 ص 226.

[15] المرجع السابق ص 227، والزيادة عند ابن ماجه (1857).

[16] أبو زهرة؛ "الأحوال الشخصيَّة"، ص (27 - 28).

[17] فقول الله - تعالى -: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ ﴾ هو قول كريم من الآية المبارَكة رقم (24) من سورة النساء، تسبقها الآية رقم (23) من نفس السورة وهي: قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ... ﴾ إلى آخر النص الكريم، ثم جاءت الآية رقم (24)، فتكلَّمت في جزء منها عن الحلِّ، وهو ما بيَّناه.

[18] أن قول الله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ إلى آخر الآية رقم (5) من سورة المائدة قد سبقه بطبيعة الحال الآية رقم (4) من نفس السورة، وهي قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... ﴾ إلى آخر الآية.

[19] تكلَّم العلماء هنا عن المسالة الآتية:

وهي: حكم الزواج بالنِّسبة للرجل الذي يخشى على نفسه الوقوع في المحظور إن لَم يتزوَّج، وهو مع ذلك يخشى ظلم زوجته إن تزوَّج، وخلاصة القول في ذلك: أنَّ المحرَّم لا يبيح المحرَّم؛ فالخوف من الوقوع في الفاحشة لا يبيح له الظلم، وكذلك الخوف من الظلم لا يبيح الفاحشة - والعياذ بالله - فهذا الشخص وأمثاله مكلف بالامتناع عن الظلم وبالامتناع عن الفواحش، فعليه أن يهذِّب نفسه، فلا يظلم، وليقم بأسهل الأمرَيْن على نفسه، ولعلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قدَّر هذه الحال، فقال - عليه الصلاة والسلام - في ختام حديثه المشار إليه: ((ومَن لَم يستطعْ فعليه بالصوم))، فقد أمن في هذه الحالة بالصوم؛ لأن الصومَ بروحانيته يمنع النفس عن الشهوات، ويُقَوِّي العزيمة والإرادة، وفي الجملة: مَن ترَدَّد بين حرامَيْن فالواجب ألا يقعَ في واحدٍ منهما؛ أبو زهرة؛ "عقد الزواج"، ص (49 - 50).

[20] أمرًا إمرًا؛ أي: أمرًا عظيمًا منكرًا؛ راجع "تفسير الجلالين"، و"حاشية الصاوي عليه"، ج (3) ص (20) طبعة الحلبي.

[21] "إحياء علوم الدين"؛ للإمام الغزالي، ص (682)، طبعة الشعب.

ثُمَّ تكلَّم - رحمة الله - بعد ذلك عن فوائد الزواج، وذكر تفصيلات كثيرة لا تحتمل هذه السطور عرضها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الإمام الغزالي ذكر أن للزواج فوائد خمسة، هي: الولد، وكسْر الشَّهْوة، وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهنَّ، ثم تناول - رحمة الله - كل فائدة من هذه الفوائد الخمس بالشرح التفصيلي، غير أننا نقتصر على نبذة مما شرح به الفائدة الأولى، حيث تكلَّم عن الودِّ، مُبينًا أنه هو الأصل وله وُضِعَ الزواج، والمقصود إبقاء النسل، وألا يخلو العالم من جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة، كالتلطُّف بالطير في بثِّ الحَبِّ الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة، وكانت القدرة الأزليَّة غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداءً من غير ازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها؛ إظهارًا للقدرة، وإتمامًا لعجائب الصنعة، وتحقيقًا لما سبقت به المشيئة، وحقت به الكلمة، وجرى به القلم، وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجُه: الأول: موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان، والثاني: طلب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تكثير مَن به مباهاته، والثالث: طلب التبرُّك بدعاء الولد الصالح بعده، والرابع: طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله.

ثُمَّ شرع في شرح هذه الأوجه الأربعة بما لا يتسع المقام لعرضه وتتبعه؛ ("إحياء علوم الدين" من ص 688 إلى ص 703).

وبعد ذلك تكلم الغزالي - رحمه الله - عنْ آفات الزواج، وهي ثلاثة: الأولى: العجز عن طلب الحلال، والثانية: القصور عن القيام بحقهن، والصبر على أخلاقهن، واحتمال الأذى منهن، الثالثة: أن يكون الأهل والولد شاغلاً له عن الله تعالى، وجاذبًا إلى طلب الدنيا؛ (للتوسُّع راجع "إحياء علوم الدين" ص 703 - 708).

[22] أبو زهرة؛ "الأحوال الشخصيَّة" ص 19.

[23] الأستاذ محمد زيد الأبيان؛ "شرح الأحكام الشرعيَّة في الأحوال الشخصيَّة"، ص (4)، طبعة بيروت.

[24] "سنن أبي داود"، ج (2)، ص (220)، "سُبل السلام"، ج (3)، ص (111)، "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (232).

[25] العلاَّمة القرطبي في تفسيره لسورة المائدة.

[26] الأبياني؛ المرجع السابق، ص (3).

[27] أبو زهرة؛ المرجع السابق، ص (21).

[28] روى أئمة الحديث - رضي الله عنهم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربتْ يداك))؛ راجع: "صحيح البخاري"، ج (3)، ص (150)، طبعة سنة 1346 هـ، "سنن أبي داود"، ج (2)، ص (219)؛ تحقيق محي الدين عبدالحميد، "سبل السلام"، ج (2)، ص (111)، طبعة سنة 1369 تحقيق: ....، "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (232)، وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: ((إن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك))؛ رواه مسلم، والترمذي، وصححه، "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (232 - 233).

والحَسب: الفعل الجميل من الرجل وآبائه، وحكى ابن العربي أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((تربتْ يداك)): بمعنى استغنت، ويقول الصنعاني: إن الذي يدعو الرجال إلى التزوُّج إحدى هذه الأربع، وآخرهم عندهم الدين، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - إذا وجدوا ذات الدين، فلا يعدلوا عنها؛ "سُبل السلام"، و"نيل الأوطار"، نفس المواضع المشار إليها.

[29] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (233)، "سبل السلام"، ج (3)، ص (111 - 112).

[30] مذكور، المرجع السابق، ص (40).

[31] أي مرفوعا إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

[32] "الجامع الصغير"، (الألف مع الذال).

[33] - "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (239).

[34] - المرجع السابق نفس الموضع.

[35] أما حقيقتها اللغويَّة، فأصل اشتقاقها من كلمة "خاطب" مخاطبة وخطابًا، وهو الكلام بين متكلم وسامع، ومنه اشتقاق الخُطبة - بضم الخاء - في الموعظة، والخِطبة - بكسر الخاء - طلب التزوُّج بالمرأة، يُقال: خطب المرأة إلى القوم إذا طلب أن يتزوَّج منهم، والاسم، والخطبة بالكسر فهو خاطب، واختطبه القوم دعوه إلى تزْويج صاحبتهم؛ "المصباح المنير"، باب الخاء مع الطاء، وما يثلثهما، "القاموس المحيط"، باب الباء فصل الخاء، "لسان العرب"، باب الخاء فصل الطاء.

[36] روى البخاري بسنده عن سالم بن عبدالله أنه سمع عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - يحدِّث أن عمر بن الخطاب حينما تأيَّمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذاقة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضتُ عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليَّ شيئًا، وكنت قد أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فلقيني أبو بكر، فقال لعلَّك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة، فلم أرجع إليك فيما عرضت عليّ، إلا أني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ "صحيح البخاري"، ج (3)، ص (153)، وأما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقد تزوَّج كريمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا ما جاء في الحديث: ((إن الله زوَّج ابنتك خيرًا من عثمان))، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((وزوَّج عثمان خيرًا من ابنتك))؛ حيث تزوَّج عثمان بنت رسول الله - عليه الصلاة والسلام.

[37] يقول ابن قدامة الحنبلي - رحمه الله -: "والتعويل في الردِّ والإجابة على الولي إن كانت مُجْبرة، وعليها - أي الرد والإجابة على الخطبة - إن لم تكن مجبرةً، فهي أحقُّ بنفسها من وليِّها، ولو أجاب الولي ورغبت هي عن النكاح، كان الأمر أمرها، وإن أجاب وليُّها فرضيت فهو كإجابتها، وإن سخطت فلا حكم لإجابته؛ لأن الحق لها، ولو أجاب الولي في حق المجبرة فكرهت المجاب واختارت غيره، سقط حكم إجابة وليِّها؛ لكون اختيارها مقدمًا على اختياره؛ "المغنى"، ج (6)، ص (604 - 606).

[38] ذكر الله - تعالى - المحرَّمات من النساء في الآية رقم (23) من سورة النساء، ثم قال - عزَّ وجلَّ - في صدر الآية رقم (24): ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [النساء: 24]؛ بمعنى المتزوِّجات منهنَّ؛ لأنهن في عِصْمة أزواجهن، فلا مجال لطلبِ الزواج بعد مراعاة حقِّ هؤلاء الأزواج.

[39] سيأتي تفصيل الكلام عن العدة فيما بعدُ.

[40] لأن المعتدة من طلاق رجعي لا خِلاف بشأنها، وكذلك المعتدة مِن وفاة، أما المعتدة من طلاق بائنٍ، فهي محل الخلاف بالنسبة لبعض الأحكام.

[41] يقول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة : 234].

[42] وفي معظم الحالات الأخرى تكون العدة برؤية المرأة حيضها الشهري ثلاث مرات، فهنا يؤخذ بقول المرأة في انتهاء عدَّتها.

[43] "تفسير القرطبي"، ص (996)، ثم يقول بعد ذلك: "وقيل: التعْريض من قولك عرضت الرجل؛ أي أهديت إليه تحفة، فالمعرض بالكلام يوصّل إلى صاحبه كلامًا يفهم معناه، قال ابن عطيَّة: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نصٌّ في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعيَّة إجماعًا؛ لأنها كالزوجة"، (ص 996).

ويقول الشوكاني: "اتَّفَق العلماء على أن المراد بهذا الحكم مَن مات عنها زوجها، واختلفوا في المُعتدة مِن الطلاق البائن... والحاصل أن التصريح بالخِطبة حرام في جميع المعتدات والتعريض البائن... والحاصلُ أنَّ التَّصريح بالخطبة حرامٌ في جميع المعتدات، والتعرُّض مباح في الأولى - أي: المتوفى عنها زوجها - وحرام في الأخيرة؛ أي المعتدة من طلاق رجعي، مختلف فيه في البائن؛ "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (238).

[44] "صحيح البخاري"، ج (3)، ص (155)،. "سُنن أبي داود"، ج (2)، ص (288)؛ مراجعة محيي الدين عبدالحميد، "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (237).

[45] متفق عليه بين البخاري، ومسلم، واللفظ للبخاري؛ "سُبل السلام"، ج (3)، ص (111).

[46] سنن أبي داود، ونيل الأوطار، نفس المواضع المشار إليها.

تعرضت هذه الأحاديث لأمرين ظاهرين: الأول: تحريم البيع على البيع، والثاني: تحريم الخطبة على الخطبة.

وقد تناولنا بالتفصيل الأمر الأول في كتابنا: "التعالم التجاري في ميزان الشريعة" ص 45 وما بعدها طبعة سنة 1400 هـ.

[47] أبو زهرة "الأحوال الشخصيَّة"، ص (23).

[48] "فالسكوت في معنى الرفض الضمني؛ لأن خطبة الأول مع التردُّد لَم تتم، فكان الحال كالرفض، ولأنه مع التردد لَم يثبت له حقٌّ حتى يكون ثمة اعتداءٌ عليه، فإن غَضِب فبغير حقٍّ"؛ راجع في معرض هذا الرأي، والذي قبله كتاب أبي زهرة المرجع السابق، ص (24).

[49] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (236).

[50] ويلاحظ أنَّ لابن حزم الظاهري - رحمه الله - رأيًا خاصًّا في هذا الموضوع، حيث يقول: "لا يحل لمسلم أن يخطب على خطبة مسلم؛ سواء ركنًا وتقاربًا أو لم يكن شيءٌ من ذلك، إلا أن يكون أفضل لها في دينه وحسن صحبته، فله حينئذ أن يخطب على خطبة غيره ممن هو دونه في الدين وجميل الصُّحبة، أو إلا أن يأذن له الخاطب الأول في أن يخطبها، فيجوز له أن يخطبها، أو إلا أن يدفع الخاطب الأول، فيكون حينئذٍ لغيره أن يخطبها، أو إلا أن ترده المخطوبة، فلغيره حينئذ أن يخطبها، وإلا فلا"؛ "المحلى"، ج (10)، ص (23).

[51] وفي بعض الروايات عن مالك: أنه يوافق الجمهور في قولهم بصحَّة العقد مطلقًا، والإثم على الخاطب الثاني، باعتبار أنه ارتكب ذنبًا لا صلة له بالعقد.

[52] رواه الخمسة، إلا أبا داود، "نيل الأوطار" ج (6)، ص (329).

[53] رواه أحمد وابن ماجه، المرجع السابق، نفس الموضع.

[54] سبق أن أشرنا إلى إباحة النظر في مرحلة الاختيار؛ استدلالاً بحديث شريف ورد في هذا الخصوص.

[55] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (339).

[56] جاء في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"؛ ابن رشد: "وأما النظر إلى المرأة عند الخطبة فأجاز ذلك مالك إلى الوجْه والكفين فقط، ومنع ذلك قومٌ.

والسبب في اختلافهم أنه ورد الأمر بالنظر إليهن مطلقًا، وورد بالمنْع مطلقًا، وورد مقيَّدًا؛ أعني بالوجه والكفين على ما قاله كثيرٌ من العلماء في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾} [النور: 31]: إنه الوجه والكفان، وقياسًا على جواز كشْفهما في الحج، ومَن مَنَعَ تمسَّك بالأصْل، وهو تحريم النظر إلى النساء"؛ ج (2)، ص (3).

ولعل المقصود بالمانعين على الإطلاق مَن أشار إليهم الشوكاني - رحمه الله - بأنهم القائلون بالكراهة، ولكنَّه ردَّ هذا القول على أساس أنه مخالف للأدلة ولأقوال أهل القلم؛ "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (240).

[57] الأستاذ زكريا البري؛ "أحكام الأسرة في الشريعة الإسلاميَّة"، ص (9)، طبعة سنة 1391 هـ - 1971م.

[58] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (240).

[59] مدكور؛ المرجع السابق، ص 44.

[60] "صحيح البخاري"، ج (3)، ص (64)، "صحيح مسلم"، ج (7)، ص (7)، طبع التحرير سنة 1384 هـ، وروى مسلم عن الليث بن سعد أن الحمو: أخ الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج، مثل: ابن العم ونحوه، ج (7)، ص (7).

[61] "صحيح البخاري"، و"صحيح مسلم"، نفس المرجع.

[62] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (240).

[63] خلاصتها ضمان دوام العِشرة بين الزوجين.

[64] أبو زهرة، المرجع السابق، ص (30).

[65] "المغني"، ج (6)، ص (604 - 605).

[66] أورد هذا القول بعضُ الباحثين مع الإشارة إلى الخطاب إشارة مجملة.

وبالرجوع إلى رسالة العلامة الحطاب التي أسماها: "تحرير الكلام في مسائل الالتزام"، وجدناه - رحمه الله - يقول عن الوعد، وقد عبَّر عنه بالعِدَة - بكسر العين، وفتح الدال المخففة -: "وأمَّا العِدَة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئًا الآن، وإنما هي - كما قال ابن عرفة - إخبار عن إنشاء المخبر معروفًا في المستقبل، ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد.

وقد قال مالك: "فمَن هلك وعليه مشي إلى بيت الله - عزَّ وجلَّ - فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، أما إذا وعده فإنِّي أحب أن لو فعل ذلك؛ أي: أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك، قال ابن رشد في هذه المسألة: المعنى أن مالكًا استحب له أن يفيَ لأبيه بما وعده من المشي عنه، وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا ثواب فيها، فالوفاءُ بالعِدَة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وُجُوب القضاء بها على أربعة أقوال، حكاها ابن رشد في كتاب "جامع البيوع": فقيل: يقضى بها مطلقًا، وقيل: لا يُقضى بها مطلقًا، وقيل: يقضى بها إن كانتْ على سبب، وإن لَم يدخل الموعود بسبب العِدَة في شيء؛ كقولك: أريد أن أتزوج، أو: أن أشتري كذا، أو: أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو: أريد أن أركبَ غدًا إلى مكان كذا فأَعِرْني دابتك، أو: أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال: نعم، ثُمَّ بدا له قبل أنْ يَتَزَوَّج أو أن يشتري أو أن يسافر، فإن ذلك يلزمه ويُقضى عليه به، وكذا لو لَم تسألْه وقال لك هو مِن نفسه: أنا أسلفك كذا، أو: أهب لك كذا؛ لتقضيَ دينك أو لتتزوّج، أو نحو ذلك؛ فإن ذلك يلزمه ويقضى به عليه، ولا يقضى بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا، ولم تذكرْ سببًا، أو: أعِرْني دابتك أو بقرك ولَم تذكر سفرًا ولا حاجة؛ فقال: نعم، ثم بدا له، أو قال هو مِنْ نفسه: أنا أسلفك كذا، أو: أهب لك كذا، ولَم يذكرْ سببًا ثم بدا له.

والرابع - أي: والقول الرابع -: يقضى بها إن كانت على سبب، ودخل الموعود بسبب العِدَة في شيء، وهذا هو المشْهُور من الأقوال؛ "فتح العلي المالك في الفقه على مذهب الإمام مالك" جـ 1 ص 254 - 255؛ حيث قام مؤلف هذا الكتاب - وهو العلاَّمة الشيخ محمد أحمد عليش - بنقل رسالة الخطاب في هذا الكتاب، فجزاه الله خير الجزاء، طبعة سنة 1256هـ 1957م).

[67] يقول العلاَّمة ابن رشد: "النكاح من العقود اللازمة التي تلزم بالعقد"؛ "المقدمات الممهدات"، ج (2)، ص (41)، طبعة 41، أولى سعادة.

[68] وقد تعرَّض بعضُ شرَّاح القانون، وبعض أحكام القضاء في مصر لهذا الموضوع، وكان البعض يرى أن الخطبة تلزم كلاًّ من طرفَيْها بإجراء العقْد النِّهائي في موْعِده، طبْقًا للقاعِدة القانونيَّة التي تقضِي بأن الوعد بالتعاقُد يلزم الطرفَيْن بإبرام العقد، وإذا كان لا سبيل إلى إلزام الخاطب بإتمام العقْد، فإن عدوله عن الوفاء بالتزامه ووعده يوجب الحكم عليه بالتعْويض، وليس في الحكم بالتعويض ما يمس حريَّة الزواج مطلقًا؛ فلكلٍّ من الطرفين العُدول، ولكن إذا حصل ذلك في تهوُّرٍ وعنف، أو كان العدول لغير مسوِّغ مشروع، ولمجرد الهوَس والطيْش، وجب الحكم بالتعويض، وليس في الحكم بالتعويض ما يمس حريَّة الزواج مطلقًا؛ فلكلٍّ من الطرفَيْن العدول، ولكن إذا حصل ذلك في تهوُّرٍ وعنف، أو كان العدول لغير مسوِّغ مشروع ولمجرد الهوس والطيش، وجب الحكم بالتعويض؛ ردًّا لكرامة المعدول عنه؛ حكم لمحكمة سوهاج الأهليَّة في 30 مايو سنة 1948، منشور في مجلة المحاماة سنة 1948 ص (434).

وقريب من هذا الرأي: القول بوجوب التعويض، ولكن على أساس إساءة استعمال الحق؛ حيث لا يجوز استعمال العدول عن الخطبة لغير الغرَض الذي شرع مِنْ أجله؛ لأنَّ في ذلك إضرارًا بالغير، ومساسًا بالأعراض، فالشرائع لَم تقرر الحقوق متعًا للأفراد يلْهون ويعبثون، وغنمًا قررتها وأوجبت حمايتها لتحقيق أغراض نظاميَّة سامِية، وبقدْر تحْقيق تلك الأغْراض تكون حمايتها لتلك الحقوق؛ "محكمة الإسكندرية الأهليَّة" في 10/ 12/ 1929، المجموعة الرسميَّة س (31) ص (53)، ومحكمة استئناف مصر 30/ 6/ 1931، المحاماة، على رقم (267)، ص (539)، ومِن هذا المسلك أيضًا مَن أوجب التعويض بناءً على القواعد العامة في المسؤوليَّة التقْصيريَّة؛ "فإذا ما نال أحدَ الطرفَيْن ضررٌ - ماديًّا كان أو أدبيًّا - بسبب خطأ وقع ممن عدل عن الخطبة، فإنه يكون مسْؤولاً عن تعويضه عمَّا ناله من ضرر؛ محكمة الفيوم الجزئيَّة في 3/ 11/ 1929، المحاماة، س (11) بند (110)، ص (539).

ومن ناحية أخرى رأى البعض أن العدول عن الخطبة حقٌّ ثابت لا تترتَّب عليه مسؤولية مُطلقًا؛ إذ هو عمل مباح، والمباح لا ينشأ عن فعله أيُّ نوع من المسؤولية، والقول بالتعويض فيه معنى توقيع العقاب على من فعل مباحًا؛ استئناف مصر في 23/ 5/ 1926، المحاماة، س (6)، ص (798).

وقد حسمتْ محكمة النقض المصريَّة هذه الاتجاهات المتعارضة في حكمها الصادر في 14/ 12/ 1939، حيث قالت: "إن الخطبة ليست إلا تمهيدًا يُعدل عنه في أيِّ وقتٍ شاء، وخصوصًا أنه يجب في هذا العقد أن يتوافَرَ للمتعاقدين كامل الحريَّة في مباشرته؛ لما للزواج من الخطر في شأن المجتمع، وهذا لا يكون إذا كان أحد الطرفين مُهَددًا بالتعويض، ولكن إذا كان الوعدُ بالزواج والعدول عنه باعتبارهما مجردَ وعدٍ، فعدولٌ قد لازمتهما أفعالٌ أخرى مستقلة عنهما استقلالاً تامًّا، وكانت هذه الأفعال قد ألقت ضررًا ماديًّا أو أدبيًّا بأحد المتواعدين، فإنها تكون مستوجبة للتضمين على مَن وقعتْ منه، وذلك على أساس أنها هي في حدِّ ذاتها - بغَضِّ النظر عن العدول المجرد - ضارَّة مُوجبة للتعويض".

[69] المال المثلي هو ما يوجد له مثل ونظير بأعداد وفيرة في الأسواق، والمال القيمي هو الذي يعتد بقيمته؛ لأن آحاده يختلف بعضُه عن بعض، بحيث يكون لكل قيمةٍ خاصة، وقد يتحوَّل المثلي إلى قيمي إذا انعدمتْ آحاده منَ الأسواق، بحيث لَم يَبْقَ منها إلا ما يعطيها قيمة خاصة؛ راجع كتبانا: "مبادئ الفقه الإسلامي"، ص (263 - 264).

وبالنسبة لموضوعنا، فإنَّ الأسْورة من الذهَب قد تكون مثليَّة، إذا كان لها نظائرُ كثيرةٌ عند بائعي الذَّهَب، فإذا انعدمتْ نظائرها، فإنها تعتبر قيميَّة، وهكذا.

[70] فإن كان الشيءُ باقيًا بنفسه، فلا عِبْرة بالقيمة، ولا يُنظر إليها مُطْلقًا؛ حيث يجب شرعًا ردُّ هذا الشيء نفسه إلى صاحبِه، وأما في حالة عدم وجود هذا الشيء لأي سببٍ كان: الهلاك أو الاستهلاك أو التغيير أو التصرُّف أو ما إلى ذلك، فيجب ردُّ المثل إن وجد، أو القيمة والعِبْرة بقيمَتِه يوم تقديمه لها.

[71] يرى فقهاء المذْهب الحنفي أنه يجوز للواهب أن يرجعَ في هِبَتِه، ولكن يمتنع عليه هذا الرجوع إذا هلك الشيء الموهوب أو استهلك، وهناك ستة موانع أخرى نصُّوا عليها في كُتُبهم؛ راجع في ذلك "حاشية ابن عابدين"، المسمَّاة: "رد المحتار على الدُّرِّ المختار"، ج (5)، ص (698 - 703)، طبعة سنة 1386هـ - 1966م، طبعة المليجي.

[72] أبو زهرة؛ المرجع السابق، ص (44).

[73] علقت المذَكِّرة التفسيريَّة على هاتَيْن المادتَيْن، فقالتْ: إن المشرِّع عُنِي بأحكام هذه الهدايا، وتخيَّر أحكامها مما جاء بمذاهب الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد في الهِبات التي تكون لغرَض من الأغراض ولم تتم، وإن لم يكن في مقابلة عوض مالي، وبسبيل ذلك كله جعل المشرِّع هذه الهدايا على نوعَيْن:

أولهما: ما جرى العُرْف باعتباره منَ المهر، وهذا يَجْري عليه حكم المهر في جميع الأحوال: حالة العدول عن الخطبة، وحالة ما بعد العقْد، والفرقة قبل الدخول والخلوة، وحالة ما بعد العقد، وبعد الدخول أو الخلوة، ومثله البارز الهدية المعروفة باسم "الشَّبْكَة"، فهي اليوم مِنْ أهم وأول ما تتناوله مُفاوضات الزواج، وقد تكون بالنظر إلى قيمتها هي المهر الحقيقي، أو تمثِّل جانبًا كبيرًا منه، ولا تُقبض إلا بسبب الزواج.

ثانيهما: ما لا يعتبر منَ المهْر عُرْفًا.

أ - فإن كان العدول مِنْ أحد الطرفين: فإما أن يكون بغير مقتضى، وحينئذٍ لا يسترد مَن عدل شيئًا مما أهداه، وإما أن يكون العدول بمقتضى، وفي هذه الحالة يستردُّ ما أهداه عينًا أو بدَلاً، ويطبق ذلك في الحالين ما لَم يكنْ شرط، فإنه يُعمل به للرضا به من الطرفَيْن، والعُرْف في ذلك بمنْزلة الشرْط.

ب - وإن كان العدول من الطرفَيْن، وبسبب مِن أحدهما، فإنه يطبق حكم الفقرتَيْن: (ب) و(ج) من المادة الثالثة؛ لأن مَن كان منه السبب هو الذي حال بمسلكه بين الآخر وبين الزواج، وإذا لم يكنْ ثمة سببٌ مِن أحدهما، فلكلٍّ منهما أن يستردَّ القائم فقط مما أهداه للآخر وَفقًا للتشريع القائم، وما يقتضي العدول لا يُمكن ضبْطه أو حصره، وهو متروك للقضاء يقدِّره مستهديًا في كلِّ واقعةٍ بملابساتها وظروفها، وعلى أساس منَ الشريعة والعُرْف.

جـ - وان انقضت الخطبة بالوفاة، أو بعارض حال دون الزواج كجنون أحد الطرفَيْن أو أسره؛ لم يسترد شيء من الهدايا؛ لأن عدم الزواج ليس من جِهة المتوفَّى أو المجنون أو الأسير.

[74] يقول العلاَّمة ابن عابدين الفقيه الحنفي: "العقد ربط أجزاء التصرُّف؛ أي: الإيجاب والقبول؛ لأن الشرع يعتبر الإيجاب والقبول أركان عقد النكاح"؛ "حاشية ابن عابدين"، ج (3)، ص (9).

[75] "البهجة في شرح التحفة في الفقه المالكي"، ج (1)، ص (236)، طبعة سنة 1370هـ.

[76] راجع في الإيجاب والقَبول: "مبادئ الفقه الإسلامي"؛ للمؤلِّف، ص (284)، طبعة 1399هـ.

[77] التعبير عنه بالحقيقة اللغويَّة ينحصِر في لفظي الزواج والنِّكاح، كما نبيِّن في المتن، أما المجاز المشهور المصْحوب بالقرينة الدالة صراحة على إرادة الزَّواج، فمِنْ أمثلتِها في نظَرنا أن يقولَ لك: أريد أنْ أجْعَلَها شريكةَ حياتي، أو رَفِيقةَ عُمْري، أو أُمًّا لأولادي، وما إلى ذلك من الألْفاظ الدالة على هذا المعنى الذي يكاد يكون صريحًا في إرادة الزواج.

[78] راجع آراء الفقهاء في هذه الجزئيَّة: أبو زهرة؛ "الأحوال الشخصيَّة"، ص (46 - 47).

[79] "الفتاوى الكُبرى"؛ ابن تيميَّة، ج (1)، ص (270).

[80] أخرجه الحافظ أبو نعيم من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله؛ "تفسير القرطبي"، ص (3734)، والمراد تعليمها وتأديبها في حدود الشرع، وطبْقًا لما أمر الله، وليس المراد تعليمها الذي فيه خروج عن الدين من الظهور بمظهر لا يتفق مع الخلق الكريم، فالذي يتساهَل مع ابنته لتخرج بمظهر لا يتَّفق مع الخلق الكريم، قد يؤدِّي ذلك به إلى حساب عسيرٍ وعذاب أليم.

[81] بل لا يزال القانون المدني الفرنسي لا يعترف للمرأة بالأهليَّة الماليَّة الكاملة.

[82] وما كان ينبغي لهم مثل هذا التسرُّع، نعم لقد ساعدهم على هذا ما صرَّح به بعضُ الفقهاء قديمًا وحديثًا من أنَّ المرأة هي محل عقد الزواج.

وإنِّي اختلف تمامًا معهم في الرأي؛ فالمرأة طرف أصيلٌ في عقد الزواج، وأما محل عقد الزواج، فهو الحياة المشتركة والتعاون والتفاهم على إنشاء الأسرة وتربية الأولاد، كما بيَّنتُ في المتن، ومع ذلك فإن الفقهاء - رحمهم الله - لم يقصدوا، ويستحيل أن يقصدوا بعباراتهم المشار إليها ما أوَّله أولئك المستشرقون، فقد فَهِمَ فقهاء الشريعة كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فَهمًا صحيحًا، وقد قال الله - تعالى -: ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء : 4]؛ أي مِنْحة وعطية بلا مقابل، وذلك لأن المرأة طرف في عقد الزواج تستفيد منه كما يستفيد الرجل تمامًا، وسوف نعود إلى هذه المسألة فيما بعد.

[83] راجع في تفصيل هذه الشروط كتابنا: "مبادئ الفقه الإسلامي"، ص (289 - 295)، سنة 1399 هـ.

[84] أي: المهر المستحق للزوجة هو القدْر المتَّفق عليه، أمَّا الزِّيادة التي طرأتْ في القبول، فإنها لا تكون حقًّا للزوجة، إلا إذا قبلتها؛ فإذا لَم تقبلها صراحة في المجلس، فلا يجوز لها أن تطالب بهذه الزيادة بعد ذلك؛ فضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى شلبي، "أحكام الأسرة في الإسلام"، ص (100)، طبعة 1393هـ - 1973م.

[85] فقد مضى العهد الذي يُخدع فيه الزوج؛ فيبرم عقد الزواج، ثم يفاجأ بامرأة غير التي عقد عليها.

[86] فضيلة الأستاذ الشيخ محمد مصطفى شلبي؛ "أحكام الأسرة في الإسلام"، ص (101)، طبعة 1993 هـ بيروت.

على أن الصيغة لو كانتْ في ظاهرها معلقة، وفي حقيقتها منجزة، كما إذا عُلِّق العقد على شيءٍ متحقق وموجود بالفعل، مثل أن يقول: تزوجتُ ابنتك إن وافق والدي، والوالد موجود موافق، فإن العقد ينعقد بهذه الصيغة؛ لأن تعليقها ظاهري فقط.

ولذلك فقد نصَّت الفقرة (أ) من المادة السابعة من مشروع قانون الأحوال الشخصيَّة على أنه: "لا يصح الزواج المعلَّق على شرط غير متحقق، ولا الزواج المضاف إلى المستقبل، ولا زواج المتعة ولا الزواج المؤقت، ولا يعقد بغير ما تضمنه العقد الرسمي من الشروط".

[87] أبو زهرة، المرجع السابق، ص (52).

[88] فالزواج المؤقَّت باطلٌ، وزواج المتعة باطلٌ، وكلٌّ منهم قريب من الآخر، وقد ذكر بعض الفقهاء أنهما نوع واحد، والذين فرَّقوا بينهما قالوا: إن الزواج المؤقَّت تُذكر فيه مدة العقد، كأنْ يقول: تزوجْتُها لمدة سنة أو ستة أشهر وهكذا، وأما زواج المتعة، فهو ما يكون بصيغة المتعة أو الاستمتاع.

وأيًّا ما كان الحال، فكلُّ عقدٍ للزواج يُذكر فيه ما يدلُّ على التأقيت، أو يستفاد من مضمونه أنه غير مؤبد، فإنه يُعتبر باطلاً؛ سواء كان زواجًا مؤقتًا أم زواج متعة، فهو باطلٌ على كلِّ حالٍ، قررت ذلك الجماهير من علماء الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين على اختلاف العصور، طبقًا لما يوجبه الفَهم الصحيح لكتاب الله العزيز، وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

ولَم يخالف في ذلك إلا الشيعة الإماميَّة الذين قالوا: يحلُّ زواج المتعة، ورأيهم هذا لا يقوم على أساس من الشرع مطلقًا، فقد تمسَّكوا بظاهر قوله - تعالى -: ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ [النساء: 24]، وبما رُوي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رخَّص فيه لأمرٍ طارئ في بعض الغزوات، وهذا الاستدلال لا يقوم على قدميه أمام الأدلة القاطعة في تحريم زواج المتعة والزواج المؤقت، وبيان ذلك من وجهين: الوجه الأول: أن استدلالهم بالآية لا يفيدهم لا من قريب ولا من بعيد، ولا حُجة لهم فيه على الإطلاق، بل إن سياق الآية يؤكِّد الردَّ عليهم من جميع الوجوه.

فالله - تعالى - ذكر في الآية رقم (23) من سورة النساء المحرَّمات اللائي لا يجوز التزوج بهن أبدًا، ثم قال - سبحانه - بعد ذلك في الآية رقم (24) من نفس السورة: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ ﴾ [النساء : 24]؛ أي: إن الله - عز وجل - قد أحلَّ لكم التزوُّج ممن عدا المحرَّمات زواجًا طاهرًا عفيفًا، {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}، ثم يؤكِّد معنى الطُّهر والعفاف في الآية التالية أيضًا، وهي رقم (25) من سورة النساء؛ حيث يقول - جل علاه -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [النساء : 25]؛ أي ومن لم يستطع التزوج بالحُرَّة؛ لكثرة تكاليف هذا الزواج، فلا بأس أن يتزوَّج الأَمَة بإذن سيِّدها زواجًا شرعيًّا؛ يؤكِّد ذلك ما جاء في هذه الآية المباركة من قوله - تعالى -: ﴿ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ﴾ [النساء: 25]، ثم يختم الله - تبارك وتعالى - هذه الأحكام بقوله: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء : 25].

أفبعد كل هذا يقولون ما قالوا؟ تباركتْ آيات الله التي حرَّمت كلَّ أنظمة الجاهليَّة: من أخدان وخليلات، وسائر أنواع المحرَّمات، وما زواج المتعة أو المؤقَّت إلا من هذا القبيل الذي قطعت الآيات المباركات بتحريمه تحريمًا صريحًا لَم يترك مجالاً لقول بَشَرٍ بعد ذلك.

ثم إننا نتساءل: إذا كانت الجملة التي اقتطعوها من الآية تفيد ما فهموا، فلماذا يأتي الله - تبارك وتعالى - في الآية التالية بحكم جديد لحالة استثنائيَّة هي بالقطع حالة ضرورة يبيح فيها برحمته للمضطر أن يتزوَّج بالأَمَة متى كان عاجزًا عن مُؤْنة التزوُّج بالحُرَّة، وهو في نفس الوقت يَخشى على نفسه الوقوع في المحظور؟! وهذا هو المنصوص عليه صراحة في أول هذه الآية؛ حيث قال الله - سبحانه -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ﴾، ثم في نهاية الآية أيضًا؛ حيث ختمها بقوله - عز وجل -: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء : 25].

أي إن إباحة التزوُّج بالأَمَة هو فقط في حالة الضرورة لمن لم يستطع القيام بأعباء التزوج بالحُرَّة، وهو مع ذلك يَخشى على نفسه العَنَت؛ أي الوقوع في الفاحشة، أعاذنا الله من ذلك.

وأما استدلالهم بالسُّنَّة، فهو في غير محله مِنْ جميع الوجوه؛ ذلك أن الترخيص الذي احتموا به كان أمرًا وقتيًّا لحكمة تشريعيَّة، ولعذر طارئ، ثم ثبت من وجوه كثيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة بعد ذلك نهيًا صريحًا قاطعًا، مؤكدًا ومؤبدًا حتى تقوم الساعة.

وبيان ذلك أن الحكمة التشريعيَّة من الترخيص ترجع إلى سُنَّة الله - عزَّ وجلَّ - في تشريع الأحكام؛ حيث خاطب عباده بالتدريج، فقد كانوا حديث عهد بجاهليَّة لا تفرِّق بين النِّكاح والسفاح، فجاءتْ أحكام الله تبيِّن شرعيَّة النِّكاح - أي: الزواج - الذي أقرَّه الله، وتحرِّم السفاح بكافة صوره وأشكاله، وتضع أقسى العقوبات وتطبِّقها على مَن يثبت أنه ارتكب تلك الجريمة الشنعاء التي وصف الله - عز وجل - فِعلها بقوله - سبحانه -: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء : 32].

فكان من مقتضيات الحكمة الإلهيَّة في أول الأمر وعند الضرورة القصوى الترخيص في زواج المتعة باعتباره حكمًا تمهيديًّا يجب نسخه وإلغاؤه عند زوال الضرورة الداعية إليه، وقد نُسخ وأُلغي بالفعل عند نزول الأحكام الدائمة الثابتة.

فترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتعة كان لفترة زمنيَّة مؤقَّتة محددة في بعث الغزوات، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه نهيًا صريحًا مؤبَّدًا حتى تقوم الساعة.

ففي الحديث الصحيح المتفق عليه بين البخاري ومسلم وأئمة الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الإنسيَّة زمن (خَيْبَر).

وروى مسلم وأحمد عن سيرة الجهني أنه غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر؛ فأذِن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في متعة النساء، ثم قال: فلم أخرج حتى حرَّمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية عنه أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أيها الناس، إنِّي كنتُ أذِنت لكم في الاستمتاع بالنساء، وإن الله قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنَّ شيءٌ، فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا)).

وأخيرًا فإن في قول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المؤمنون : 5 - 6]، ما يزيد اليقين يقينًا في نسخ المتعة وتحريمها؛ لأن المرأة في المتعة ليست زوجةً.

ولقد قال عَلِي - كرَّم الله وجه -: "لا أعلم أحدًا تمتَّع وهو مُحصن، إلا رجمته بالحجارة".

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

[89] ولَم يخالفْ في ذلك إلا الشيعة الإماميَّة؛ حيث قالوا بعدم اشتراط الشَّهادة في عقْد الزواج، فقد ذهبوا إلى أنَّ العقد يُعتبر صحيحًا بدون شهادة، ووجهة نظرهم في ذلك تقوم على أن الله - تعالى - لَم يذكر الشهادة في عقد الزواج وإنما ذكرها في البيوع والديون، وذلك في قول الله - تعالى -: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة : 282]، وقوله - تعالى - في آية الدَّين: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ ﴾ [البقرة : 282]، فسكوت النصوص القرآنيَّة عن الشهادة في الزواج دليلٌ على عدم اشتراطها.

ويمكن التأكيد على ذلك بأن النُّصوص القرآنيَّة الواردة في الزواج وإن جاءت مطلقة، إلا أنه من المسلَّم به شرعًا أن السُّنَّة تقيِّد مطلق القرآن.

والأحاديث الصحيحة الواردة في الشهادة بيَّنتْ أنَّ المراد من الزواج المنصوص عليه في القرآن: هو الذي ينعقد أمام الشهود، كما بيَّن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث العديدة والتي سنشير إلى بعضها في المتن.

[90] "نيل الأوطار"، ج (6)، ص (231 - 337).

قوله: ((وليولم أحدُكم ولو بِشاة)) ورد في "السُّنن الكُبرى"؛ للبيْهقي، لا في "نيْل الأوطار".

[91] المرجع السابق، نفس الموضع.

[92] أضاف الفقهاء إلى ذلك شرط الحريَّة؛ أي: إنه يُشترط في الشاهد على عقد الزواج أن يكون حرًّا، وذلك وقت أن كان الرقُّ موجودًا ومنتشرًا، وهو شرطٌ كان متفقًا عليه، بل هو معلوم بداهة؛ فالرقيق مملوك لا ولاية له على نفسه، فمِن باب أولى ألا تكون له ولاية على غيره، لكن لا مجال للنصِّ عليه في العصر الحديث.

[93] شلبي، المرجع السابق، ص (112 - 113).

[94] حيث يقول الله - تبارك وتعالى -: ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق : 2].

[95] وهي قولُ الله - تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة : 282].

[96] وعلى الرغم مِنْ أنَّ العَلَّامة القرطبي - رحمه الله - انتهى في تفسير هذه الآية إلى النتيجة النهائيَّة التي أريد الوصول إليها في الترجيح بين الآراء التي ذكرتها في المتْن، إلا أنه يقول في هذا المقام:

"المعنى: إن لَم يأتِ الطالب برجُلَيْن، فليأتِ برجل وامرأتين...، وقال قوم: بل المعنى: فإنْ لَم يكنْ رجلان؛ أي: لَم يوجدا فلا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، قال ابن عطيَّة: وهذا ضعيف؛ فلفظ الآية لا يعطيه، بل الظاهر منه إن لم يكن المستشهد رجلين؛ أي: إن أغفل ذلك صاحب الحق أو قصده لعذر ما، يستشهد رجلاً وامرأتين، فجعل - تعالى - شهادة المرأتَيْن مع الرجل جائزة مع وجود الرجلَيْن في هذه الآية - أي آية الدَّيْن - ولَم يذْكرها في غيرها، فأجيزتْ في الأموال خاصة في قول الجمهور، بشَرْط أن يكون معهما رجل، وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثَّر الله أسباب تَوْثِيقها لكثْرة جهات تحصيلها، وعموم البلوى بها وتكررها، فجعل فيها التوثق تارة بالكتبة، وتارة بالإشهاد، وتارة بالرَّهن، وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال، ولا يتوهم عاقل أن قوله - تعالى -: ﴿ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ ﴾ يشْتمل على دين المهر مع البضع... فإن تلك الشهادة ليست شهادة على الدين، بل هي شهادة على النكاح، وأجاز العلماء شهادتهن منفردات فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة"؛ "تفسير القرطبي"، ص (1199).

أقول: بالرغم من ذلك كله، فإنِّي أرى أن سياق الآية يشعر بأن الأصل هو شهادة الرجال، ولكن يقوم مقام هذا الأصل شهادة رجل وامرأتين، وإلا لَمَا جاء النصُّ الكريم على هذا النَّسَق: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ [البقرة: 282].

وقد ساق بعض المفسرين المعاصرين ما يجعلنا نطمئن إلى هذا الفَهْم؛ حيث يقول - رحمه الله -: "إنه لا بد من شاهِدَيْن على العقد... ولكن ظروفًا معينة قد لا تجعل وجود شاهدين أمرًا ميسورًا، فهنا ييسر التشريع فتستدعى النساء للشهادة، وهو إنما دعا الرجال؛ لأنهم هم الذي يزاولون الأعمال عادة في المجتمع المسلم السوي - الذي لا تحتاج المرأةُ فيه أن تعملَ لتعيش، فتجور بذلك على أُمومتها وأُنوثتها وواجبها في رعاية أثْمن الأرْصدة الإنسانيَّة: وهي الطفولة الناشئة الممثلة لجيل المستقبل، في مقابل لقيمات أو دريهمات تنالها من العمل، كما قد تضطر إلى ذلك المرأةُ في المجتمع النكِد المنْحَرِف الذي نعيش فيه اليوم - فأمَّا حين لا يوجد رجلان، فلْيكنْ رجلٌ واحدٌ وامرأتان، ولكن لماذا امرأتان؟

إن النصَّ لا يدعنا نحدس؛ ففي مجال التشريع يكون النص واضحًا محددًا معللاً: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة : 282]، والضلال هنا ينشأ من أسبابٍ كثيرة؛ فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد؛ مما يجعلها لا تستوعب كل وقائعه وملابساته، ومن ثَمَّ لا يكون من الوضوح في عقلها، بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء فتذكرها الأخرى بالتعاون معًا على تذكُّر ملابسات الموضوع كله، وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعاليَّة؛ فإن وظيفة الأمومة العضويَّة البيولوجيَّة تستدعي مقابلاً نفسيًّا في المرأة حتمًا تستدعى أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانيَّة الانفعاليَّة لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيويَّة لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء، وهذا مِن فضل الله على المرأة وعلى الطفولة، وهذه الطبيعة لا تتجزَّأ؛ فالمرأة شخصيَّة موحَّدة هذا طابعها - حين تكون امرأة سويَّة - بينما الشهادة على التعاقُد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرُّد كبيرٍ من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثُّر ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكِّر إحداهما الأخرى إذا انحرفتْ مع أيِّ انفعالٍ - فتتذكَّر وتفيء إلى الوقائع المجردة"؛ "في ظلال القرآن"؛ للأستاذ/ سيد قطب، ج (1)، ص (337)، طبعة سنة 1395 هـ.

[97] أبو زهرة، المرجع السابق، ص (62).

[98] اللهم إلا إذا أردنا من كلمة الشروط أقل الجمع: وهو ما زاد عن واحد، على أن مجرَّد التجانُس بين هذا العنوان وبين العنوا السابق - الشروط المتفق عليها - هو الداعي إلى هذا التعبير.

[99] الكتابيَّة: هي التي تدين بدينٍ سماوي أنزل الله في شأنِه كتابًا، والمراد هنا اليهوديَّة أو المسيحيَّة.

[100] شلبي، المرجع السابق، ص (113 - 114).

[101] يقول فضيلة الشيخ مصطفى شلبي: "وأنت ترى أن هذا تكلُّف منهم - أي الحنفيَّة - في الرد على الحديث؛ لأنَّ عبارة الحديث صريحة في صحة الزواج بغير الشهود العدول، وقد جاء في بعض رواياته: ((وما كان من نكاح على غير ذلك، فهو باطل)).

على أن الحنفية ليس لهم دليلٌ على اشتراط أصل الشهادة إلا هذا الحديث، فكيف يأخذون بعضه ويتركون بعضه؟ وبهذا يترجَّح رأي القائلين باشتراط العدالة"؛ شلبي، المرجع السابق، ص (116).

[102] "مبادئ الفقه"؛ للمؤلف، ص (355).

[103] وغنيٌّ عن البيان أن عديم الأهليَّة لا يتصور أن يصدر منه عقد، وإن صدرتْ منه عبارة تُفيد العقد فلا عِبْرة بها، فأيًّا كانتْ صورة العقْد الذي يصدر مِنْ عديم الأهليَّة يُعتبر باطلاً بُطلانًا مطلقًا.

[104] أبو زهرة، المرجع السابق، ص (96).

[105] أي: باعتباره قانونًا متكاملاً.

[106] بمعنى لو أن الفتاة قد زوجت نفسها، كان لوليِّها حقُّ الاعتراض على العقد؛ لأنه عقد موقوف على إجازة الولي، وبالمقابل لو أن الولي قد استقل بإبرام العقد، فإن عقده هذه يكون موقوفًا على إجازة الفتاة.

[107] الأصل في تعريف العاصب: أنه القريب من الرجال الذي ينتمي إلى الإنسان عن طريق قرابة الرجال، وأقرب عصبات الإنسان: هم من ينتسبون إليه عن طريق البنوَّة، أو عن طريق الأبوة، فأقرب العصبات هنا هو الأب ثم الجد.

[108] اللهم إلا في حالة تجاوز حدود الوكالة.

[109] شلبي المرجع السابق ص 121.

[110] إذا أفاق المجنون كان بالخيار بين إلغاء بعض العقود أو إمضائها.

[111] إذا بلغ الصبي كان له نفس الحق بالنسبة لبعض العقود.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الأسرة في الإسلام (1)
  • الأسرة في الإسلام (2)
  • الأسرة في الإسلام (3)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (1)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (3)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (4)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (6)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (7)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (8)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (9)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (10)
  • حقوق الأسرة في الفقه الإسلامي (11)
  • الزوجة والانشغالات الدعوية
  • لا تفش أسرار عائلتك (قصة للأطفال)

مختارات من الشبكة

  • في حقوق الأخوة من النسب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بريطانيا: استبيان لمفوضية حقوق الإنسان عن حقوق المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • التبيان في بيان حقوق القرآن (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حقوق الزوج على زوجته (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: من أعظم حقوق الناس حق الجوار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الإسلام وحقوق المعاقين: دراسة فقهية في كيفية حماية حقوق المعاقين في المجتمعات الإسلامية وفق الشريعة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من حقوق ومكانة أهل الأعذار عند السلف وحقوقهم علينا (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • من حقوق ومكانة أهل الأعذار عند السلف وحقوقهم علينا(محاضرة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • تكفير الحج حقوق الله تعالى وحقوق عباده(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- شكر
Mery 03-05-2025 01:45 AM

ممتاز..

1- الدعاء
أبوسماء - مصر 03-10-2012 01:22 AM

جزاك الله كل خير

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب