• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خالق الناس بخلق حسن (خطبة)
    ساير بن هليل المسباح
  •  
    فضل زيارة المسجد الحرام والمسجد النبوي
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    مدينة أشباح
    سمر سمير
  •  
    تفسير قوله تعالى: { قل آمنا بالله وما أنزل علينا ...
    الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
  •  
    خطبة: فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الحرص على الوقت (خطبة)
    أحمد إبراهيم الجوني
  •  
    خاطرة تربوية: على ضفاف حالة
    د. عوض بن حمد الحسني
  •  
    تحريم الحلف بالله تعالى كذبا
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    حديث القرآن عن خلق الأنبياء عليهم السلام
    د. أحمد خضر حسنين الحسن
  •  
    فوائد وعبر من قصة قارون (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    الاستبشار بنزول الأمطار (خطبة)
    د. عبد الرقيب الراشدي
  •  
    اتباع الحق معيار للأدب
    شعيب ناصري
  •  
    من محاسن الدين الإسلامي وجود بدائل لكل عمل صالح ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    دعاء يجمع خيري الدنيا والآخرة
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    عبرة اليقين في صدقة أبي الدحداح (خطبة)
    د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
  •  
    ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين
    أ. د. فؤاد محمد موسى
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن / عون الرحمن في تفسير القرآن
علامة باركود

تفسير قوله تعالى: { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط... }

تفسير قوله تعالى: { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسبا
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/8/2025 ميلادي - 24/2/1447 هجري

الزيارات: 51

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير قوله تعالى:

﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ... ﴾

 

قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 84 - 92].

 

قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

 

ذكر عز وجل في الآيات السابقة أخذه ميثاق الأنبياء بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونُصرته هم وأممهم، وأنكر على من يبغون غير دين الله، ثم مقابل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس من أهل الكتاب وغيرهم: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ الآية.

 

فكما أخذ ميثاق النبيين وأممهم بالإيمان به وبرسالته، كذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بإيمانه هو وأمته بما أنزل على النبيين قبله، وأن يقول لمن ابتغوا غير دين الله وغيرهم ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ الآية، وهذه الآية شعار الإسلام.

 

قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾: الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر له ولأمته، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ [البقرة: 136].

 

ولهذا جمع الضمير في قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾، وقوله: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

والإيمان بالله يتضمن التصديق والإقرار بوجوده، وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: موصولة، أي: وآمنا بالذي أُنزِل علينا من الوحي، أي: بالقرآن والسنة؛ لأن كلًّا منها وحي مُنَزَّل من عند الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [البقرة: 231].

 

وقال هنا: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية، وقال في آية البقرة: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [البقرة: 136]، فباعتبار مبدأ الإنزال عُدي بـ«على»؛ لأنه من أعلى ومن فوق، وباعتبار انتهاء الإنزال إلى المنزَّل عليه عُدي بـ«إلى».

 

وقدَّم الأمر بالإيمان بالمنزل على هذه الأمة في الآيتين تعظيمًا له واعتناءً به.

 

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي: وآمنا بالذي أُنزِل على إبراهيم عليه السلام - وهو أبو الأنبياء - من الصحف؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 36، 37]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

 

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وهؤلاء وإن لم تصل إلينا كتبهم، فنؤمن بأن الله أنزل عليهم؛ لأن الله أخبرنا بذلك.

 

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾: هو إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام- وهو الابن الأول لإبراهيم، وهو الذي ابتلى الله إبراهيم بالأمر بذبحه فاستسلما معًا لأمر الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُسَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات:102-107].

 

وهو أبو العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأفضل الرسل - عليهم السلام، فقدَّم ذِكر «إسماعيل» لسبقة زمنًا وفضلًا، فهو أكبر من «إسحاق» وهو أفضل منه؛ لأنه أب لأفضل الرسل وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

 

﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾: هو إسحاق بن إبراهيم الابن الثاني لإبراهيم - عليهما السلام - ومن فضله أن جل الأنبياء بعده من ذريته.

 

﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾: هو يعقوب بن إسحاق - عليهما السلام - ويلقَّب «إسرائيل»، ومعناه «عبد الله»، وهو الذي يُنسب إليه بنو إسرائيل.

 

﴿ وَالْأَسْبَاطِ ﴾: جمع سِبط، وأصل السبط في اللغة ابن البنت، ولهذا يقال للحسن والحسين - رضي الله عنهما - سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

قيل: المراد بـ «الأسباط» أحفاد إبراهيم أبناء ابنه يعقوب الاثنا عشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].

 

وعلى هذا يكون أولاد يعقوب كلهم أنبياء، وقد قال تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

 

وقيل: المراد بـ «الأسباط» بطون بني إسرائيل الذين فيهم الأنبياء، فيكون التقدير: وما أنزل على أنبياء الأسباط؛ قال تعالى: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 160].

 

وخصَّ هؤلاء المذكورين؛ لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم.

 

﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أوتيَ موسى وعيسى، أي: بالذي أنزل إليهما من الوحي والآيات الشرعية في التوراة والإنجيل، ومن الآيات الكونية التي أُعطيها كل منهما.

 

ولعل السبب في التعبير بقوله: ﴿ وَمَا أُوتِيَ ﴾ بدل، «وما أنزل» للإشارة إلى الآيات الكونية التي أعطاها الله كلًّا منهما، والتي بقي ذكرها إلى نزول القرآن؛ لأن موسى وعيسى- عليهما السلام - أُعطيا الكثير من الآيات الكونية؛ لأن موسى بعث في وقت قد انتشر فيه السحر، وعيسى قد بعث في وقت قد ظهر فيه الطب، فأُعطي كلٌّ منهما من الآيات ما يناسب ما ظهر في عهده.

 

﴿ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾: معطوف على «موسى وعيسى»، أي: وآمنا بما أوتي النبيون من ربهم من الآيات الشرعية والكونية؛ كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 136]؛ أي: وآمنا بما أوتي جميع النبيين والرسل من الكتب والمعجزات؛ كما قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].

 

﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾: الجملة الحالية؛ أي: حال كوننا لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، أي: لا نفرِّق بين أحدٍ منهم والآخر، بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما هو حال اليهود والنصارى، بل نؤمن بهم جميعًا على السواء، إيمانًا مجملًا؛ كما أخبر القرآن والسنة عنهم.

 

﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾: الجملة في محل نصب معطوفة على جملة الحال قبلها، أي: ونحن له، أي: لله وحده مستسلمون، منقادون ظاهرًا وباطنًا، بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.

 

وقدَّم المتعلِّق (له) على المتعلَّق به وهو (مسلمون) للدلالة على الحصر، أي: مستسلمون له وحده دون سواه، وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.

 

قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

 

قوله: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ ﴾ الواو: استئنافية، و«من»: شرطية، و«يبتغ»: فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء، أي: ومن يطلب ويريد ﴿ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ﴾ «غير»: مفعول ﴿ يَبْتَغِ ﴾، و﴿ دِينًا ﴾: تمييز أو مفعول ثانٍ لـ«يبتغ» أي: دينًا يدين لله تعالى به، ويعمل به، ويجازى عليه، ويُدان به، كما قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]؛ أي: لكم دينكم الذي تدينون به، وعملكم الذي تعملون به، وليَ ديني الذي أدين به وأعمل به.

 

﴿ الْإِسْلَامِ ﴾: معناه العام: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهذا يطلق على جميع الأديان، فكل من انقاد لما جاءت به رسل الله فهو مسلم.

 

ومعناه الخاص: ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع – وهو المراد هنا - وهو ينتظم المعنى الأول، أي: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا بعد مجيء الإسلام.

 

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

 

﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾: جواب الشرط «مَنْ»، والفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فلن يقبل منه ذلك الدين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»[1]، أي: مردود غير صحيح، فلا يقبله الله تعالى منه، ولا يُقره رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المؤمنون، ولا يُثاب عليه، ولهذا قال: ﴿ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الواو: عاطفة، أو حالية، وأصل الخسران ذهاب رأس المال، أي: وهو في الدار الآخرة من الخاسرين، الذين خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم وخسروا أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وخسروا كل شيء، وحرموا من الثواب وأُركِسوا في العذاب.

 

خسروا دينهم؛ لأنهم دانوا بغير الإسلام، وخسروا دنياهم؛ لأنهم لم يعملوا فيها ما يقربهم إلى الله تعالى، وخسروا أنفسهم فضاعت أعمارهم وحياتهم سدًى، وخسروا أموالهم فلم يقدموا منها ما ينفعهم في الآخرة، وخسِروا أهليهم، فحيلَ بينهم وبينهم في الآخرة، وتلك والله الخسارة الكبرى والمصيبة العظمى؛ قال تعالى: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9].

 

قولة تعالى: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

 

سبب النزول:

عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: «كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: «سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟»، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالو: إن فلانًا قد ندم، وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 86 - 89]، فأرسل إليه، فأسلَم»[2].

 

وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا برسلهم، ثم كفروا فعبدوا غير الله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا أنه حق قبل مبعثه وبعده، بما في كتبهم من البشارة به؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، وبما عندهم من المعرفة به؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 20]، ثم كفروا به حسدًا منهم وعنادًا.

 

والآية أعمُّ من هذا كله، فتشمل كل من كفر بعد الإيمان، وبعد قيام الحجة عليه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

 

قوله: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ «كيف»: اسم استفهام ومعناه هنا: الاستبعاد، والمراد بالهداية في قوله: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ ﴾: هداية التوفيق، أي: يبعد أن يوفق الله للهدى قومًا كفروا بعد إيمانهم من العرب وأهل الكتاب وغيرهم، أي: ارتدوا ورجعوا إلى الكفر بعد أن آمنوا، وكيف يستحق من هذه صفته أن يهديه الله، أو كيف يتوقع أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم.

 

ويُحتمل كون الاستفهام للإنكار والنفي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 168، 169]؛ وذلك لأن مَن آمَن وعرَف الحق ثم ارتد عنه أعظم ذنبًا وكفرًا ممن لم يعرف الحق وبقي على كفره ولم يدخل في الإيمان.

 

فمن عرَف الحق وتركه يُعاقب بالانتكاس وانقلاب القلب وزيغه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5].

 

والكفر بعد الإيمان وبعد معرفة الحق علامة على عدم تمكن الإيمان، فإن من ذاق حلاوة الإيمان يبعد أن يعود إلى الكفر؛ كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار»[3].

 

﴿ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ﴾: الجملة في محل نصب عطفًا على جملة ﴿ كَفَرُوا ﴾، أي: كيف يهديهم بعد اجتماع الأمرين الكفر والشهادة بصدق الرسول.

 

ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والواو في شهدوا تعود لمن كفروا.

 

والمراد بـ«الرسول»: محمد صلى الله عليه وسلم، و( أل ) فيه للعهد الذهني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معهود في الأذهان بعد بعثته ونزول القرآن عليه؛ أي: شهدوا أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم حق ثابت، صادق فيما أخبر به، عادل فيما حكم به، لاشك في رسالته.

 

﴿ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾: معطوف على: ﴿ وَشَهِدُوا ﴾، ولم يؤنث الفعل، فلم يقل: «وجاءتهم»؛ لأن التأنيث في ﴿ الْبَيِّنَاتُ ﴾ غير حقيقي، وفصل بينه وبين الفعل بالمفعول «هم» ويجوز تأنيثه، كما في قوله تعالى: ﴿ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 213]؛ أي: وجاءهم الآيات البينات في القرآن الكريم والكتب السابقة، واكتفى بذكر الصفة وهي «البينات» دون الموصوف وهي «الآيات»؛ لأن المهم في الآيات كونها بيِّنات مُبيَّنات مُبيِّنات للحق من الباطل، والهدى من الضلال.

 

والمعنى: وجاءهم الآيات البينات الواضحات، والحجج والبراهين القاطعات، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به حق وصدق وعدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.

 

﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾: الجملة استئنافية، وهي كالتعليل لما قبلها، فاستبعد هداية من كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حقٌّ، وبعد مجيء البينات إليهم؛ لأنهم ظالمون: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: والله لا يوفق القوم الظالمين.

 

و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: جمع «ظالم»، والظلم: النقص؛ كمال قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]، وهو وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان.

 

وهو إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم عمدًا، فهؤلاء ظلموا باختيارهم الكفر، ووضعه مكان الإيمان بعد تبيُّن الحق لهم، وظلموا أنفسهم فنقصوها حقها، وعرَّضوها للعذاب ودسَّوها؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»[4].

 

قوله: ﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [البقرة: 161، 162].

 

قوله: ﴿ أُولَئِكَ ﴾: الإشارة للذين كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول حق، ومجيء البينات إليهم، وأشار إليهم بإشارة البعيد ﴿ أُولَئِكَ﴾ تحقيرًا لهم.

 

﴿ جَزَاؤُهُمْ﴾: مبتدأ ثانٍ، وهو وما بعده خبر للمبتدأ الأول ﴿ أُولَئِكَ ﴾ أو بدل من ﴿ أُولَئِكَ ﴾.

 

﴿ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ ﴾ أي: أن الله تعالى يلعنهم؛ لاستحقاقهم للعنته عز وجل، واللعنة من الله: طرده وإبعاده لهم عن رحمته وعن جنته، وإدخالهم في عذابه وناره، ومقته لهم.

 

﴿ وَالْمَلَائِكَةِ ﴾ أي: وعليهم لعنة الملائكة.

 

﴿ وَالنَّاسِ ﴾ أي: وعليهم لعنة الناس، ﴿ أَجْمَعِينَ ﴾: توكيد، أي: عليهم لعنة الملائكة أجمعين، ولعنة الناس أجمعين، مؤمنهم وكافرهم.

 

واللعنة من الملائكة ومن الناس: هي الدعاء بالطرد، والإبعاد عن رحمة الله وجنته، ومقتهم وبغضهم لهم.

 

قوله تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾.

 

قوله: ﴿ خَالِدِينَ ﴾: حال.

 

﴿ فِيهَا ﴾ أي: في اللعنة، أي: ماكثين في هذه اللعنة مكثًا أبدًا، تلاحقهم وتستمر معهم؛ لأن عذاب الكفار أبدي سرمدي؛ كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [المائدة: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 167].

 

﴿ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾؛ كقوله في سورة النحل: ﴿ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [النحل: 85].

 

وجملة: ﴿ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ﴾ في محل نصب على الحال، و﴿ الْعَذَابُ ﴾: العقوبة، أي: لا يخفف عنهم العذاب بأن يهوِّن عليهم من شدته، أو بأن يقطع عنهم يومًا أو فترة، كما قال أهل النار لخزنتها: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 49]، وكما قال تعالى: ﴿ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ [الزخرف: 75]؛ أي: لا ينقطع عنهم فترة، ﴿ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾ أي: يائسون من الخروج منه أو انقطاعه.

 

﴿ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾: معطوفة على جملة الحال قبلها، أي: ولاهم يمهلون ويؤخَّر عنهم العذاب، بل يُبادرون بالعذاب.

 

فيبادرون بالعذاب في الحياة الدنيا قبل الموت بالقتل على أيدي المؤمنين، والسبي، والاضطراب النفسي، والقلق، والشقاء الدنيوي، والمصائب التي سببها الكفر والبعد عن الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].

 

ويُبادرون بالعذاب عند الموت؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ [الأنفال: 50].

 

ويُبادرون بالعذاب في البرزخ بعد الموت؛ كما قال تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 46].

 

ويُبادرون بالعذاب بعد البعث يوم القيامة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 70، 71].

 

قوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

 

بعد ما ذكر عز وجل في الآيات السابقة استبعاد أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم، وشهادتهم أن الرسول حقٌّ، ومجيء البينات إليهم، وتوعدهم باللعنة والخلود فيها وفي العذاب، لم يؤيسهم، بل فتح لهم باب التوبة، فقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، وهذا من لطفه ورأفته وواسع رحمته.

 

قوله: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ «إلا»: أداة استثناء، والاستثناء هنا متصل، المستثنى: ﴿ الَّذِينَ تَابُوا ﴾، والمستثنى منه قوله تعالى: ﴿ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [آل عمران: 86].

 

ومعنى ﴿ تَابُوا﴾ أي: رجعوا إلى الله، وأنابوا إليه، فرجعوا من الكفر إلى الإيمان، وتابوا مما حصل منهم من الكفر بعد الإيمان، فأقلعوا عن الردة بالرجوع إلى الإسلام، وندموا على ذلك، وعزموا على عدم العودة إليه، وكان ذلك في وقت قبول التوبة قبل بلوغ الروح الحلقوم، وقبل طلوع الشمس من مغربها.

 

﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾: الإشارة إلى ما سبق من كفرهم بعد إيمانهم، وأشار إليه بإشارة البعيد تحقيرًا له.

 

﴿ وَأَصْلَحُوا ﴾ أي: وأصلحوا حالهم وأعمالهم، وما حصل منهم من فساد وإفساد.

 

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ أي: فإن الله يتوب عليهم ويغفر لهم ويرحمهم؛ لأنه غفور رحيم؛ أي: ذو مغفرة واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ [النجم: 32]، وذو رحمة واسعة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 147].

 

والمغفرة ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة.

 

والرحمة قسمان: رحمة ذاتية، ورحمة فعلية يوصلها عز وجل من شاء من خلقه، رحمة عامة، وخاصة، وباجتماع المغفرة والرحمة زوال المرهوب وحصول المطلوب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾.

 

ذكر عز وجل في الآيات السابقة استبعاد أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهودهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وجاءهم البينات، واستثنى من ذلك من تابوا وأصلحوا، ثم يبيِّن في هذه الآية أن التوبة لا تقبل ممن كفروا بعد إيمانهم، واستمروا على الكفر وازدادوا منه لشدة ضلالهم وبعدهم عن الهدى.

 

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ أي: ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا وعرفوا الحق من أهل الكتاب وغيرهم.

 

﴿ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ﴾ أي: أوغلوا في الكفر وانحدَروا في دركاته، واستمروا عليه فازداد كفرهم كيفيةً ونوعيةً وكميةً.

 

﴿ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ﴾ أي: عند حضور الموت، بحضور علاماته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل التوبة العبد ما لم يُغرغر»[5].

 

﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]، والإشارة «أولئك» لمن كفروا وبعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا.

 

وأكد ضلالهم بكون الجملة اسمية معرفة الطرفين، وبضمير الفصل «هم»، أي: الذين بلغوا غاية الضلال؛ لأنهم تركوا الحق بعد معرفته، وأشار إليهم بإشارة البعيد «أولئك» تحقيرًا لهم.

 

عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قومًا أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ﴾[6].

 

قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾.

 

ذكر الله - عز وجل - في الآية السابقة عدم قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، أي عند حضور الموت، ثم أتبع ذلك بذكر عدم قبول الفداء منهم بعد الموت.

 

قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾، جملة ﴿ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾: حال، أي: وماتوا حال كونهم كفارًا، أي: وماتوا على الكفر وعلى غير الإيمان.

 

﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا ﴾: الجملة في محل رفع خبر «إنَّ»، أي: فلن يقبل منه لوكان أنفق ملء الأرض ذهبًا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54].

 

قال ابن كثير[7]: «أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبًا فيما يره قربة، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن جُدْعان، وكان يقري الضيف، ويفك العاني، ويطعم الطعام-: هل ينفعه ذلك؟ فقال: «لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»[8].

 

﴿ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ﴾: معطوف على ما قبله فدلَّ على أنه غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، أي: لو أنفق هذا المبلغ في الدنيا لم يُقبل منه، ولو افتدى به يوم القيامة من العذاب لم يُقبل منه، ولم ينقذه من عذاب الله عز وجل.

 

ويُحتمل كون الجملة حالية، أي: فلن يُقبل منه ولو في حال الافتداء به.

 

والمعنى: ولو جعل هذا المال فدية له من عذاب الله لم يقبل منه.

 

و«الفدية»: مال أو عرض يدفع مقابل الخلاص؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 36].

 

وعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟»، قال: «فيقول: نعم»، قال: «فيقول: قد أردت منك أهونَ من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تُشرِك»[9].

 

﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾: والإشارة للذين كفروا وماتوا وهم كفار، وفي الإشارة بإشارة البعيد تحقير لهم، و«العذاب»: العقوبة.

 

﴿ أَلِيمٌ ﴾: على وزن «فعيل» بمعنى: «مفعل»؛ أي: مؤلم موجِع حسيًّا للأبدان ومعنويًّا للقلوب.

 

﴿ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: نافية، و«من»: زائدة إعرابًا، مؤكدة لاستغراق النفي من حيث المعنى، و«ناصرين» جمع (ناصر) وهو الذي يدفع ويمنع الضر عن غيره.

 

والمعنى: وما لهم من أيِّ ناصر ينصرهم، فيدفع عنهم عذاب الله ويمنعه قبل وقوعه، أو يرفعه بعد وقوعه.

 

قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.

 

بيَّن عز وجل في الآية السابقة أن مَن مات على الكفر، فلن يقبل منه ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به، ثم بيَّن في هذه الآية ما ينال به البر وهو الإنفاق ابتغاء مرضاة الله مما يحبون.

 

قوله: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ ﴾ «لن»: حرف نفي ونصب للفعل المضارع، وتنقله من الحال إلى الاستقبال، والمعنى: لن تدركوا البر وتحصلوا عليه، وتكونوا أبرارًا.

 

و«البر»: كلمة جامعة لكل خصال الخير الظاهرة والباطنة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]، وقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «البر حُسن الخُلق»[10]، «البرُّ ما سكنت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب»[11].

 

وهو ضد الإثم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»، «والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب».

 

﴿ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾: «حتى» للغاية، أي: إلى غاية أن تنفقوا مما تحبون، وفي هذا دلالة على تعدد خصال البر وأنه درجات، من أعلاها الإنفاق ابتغاءَ مرضاة الله تعالى مما يحبون.

 

و«من» في قوله: ﴿ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾: تبعيضية، و«ما» موصولة، أي: بعض الذي تحبون من المال، كما قال تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]؛ أي: حتى تنفقوا بعض المال الذي تحبونه، ومن أحبه إليكم وأفضله عندكم؛ لما في ذلك من كرم النفس والبعد عن البخل والشح، ومن إيثار محبة الله تعالى ومرضاته على محبة المال والنفس.

 

وقيل: إن «من» لبيان الجنس.

 

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله - عز وجل - أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»[12].

 

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصب مالًا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبَست أصلها وتصدَّقت بها»[13]، وفي رواية قال: «فاحبس أصلها وسبل الثمرة»[14].

 

وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، يتأوَّل قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾[15].

 

﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾: الواو: عاطفة، و«ما»: اسم شرط، و﴿ تُنْفِقُوا﴾: فعل الشرط، و﴿ من ﴾: بيانية مبينة للعموم في «ما»، ﴿ شيءٍ ﴾: نكرة في سياق الشرط وتفيد العموم أيضًا؛ أي: وما تنفقوا من شيء، أيِّ شيء كان، قليلًا كان أو كثيرًا، مما تحبون أو مما لا تحبون، طيبًا أو غير طيب.

 

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾: جواب الشرط، والفاء: رابطة في جواب الشرط، أي: فإن الله ذو علم تام به سيُحصيه لكم، ويحاسبكم ويُجازيكم عليه بالخلف العاجل في الدنيا والنعيم الآجل في الآخرة، ولن يضيع عنده؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7]، وقال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].

 

والحصر في تقديم المتعلق «به» لتأكيد علمه - عز وجل - بكل ما ينفقون.



[1] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.

[2] أخرجه النسائي في تحريم الدم- توبة المرتد (4068)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 557، 558) ، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 700)، وابن حبان (4477)، والحاكم (2/ 142، 4/ 366)، وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه».

[3] أخرجه البخاري في الإيمان ( 16)، ومسلم في «الإيمان» (43)، والنسائي في «الإيمان وشرائعه» (4987)، والترمذي في الإيمان (2624)، وابن ماجه في الفتن (4033)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

[4] أخرجه الترمذي في الدعوات ( 3517)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (280)، من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[5] أخرجه الترمذي في الدعوات (3537)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: «حديث حسن غريب».

[6] أخرجه البزار فيما ذكر ابن كثير في تفسيره (2/ 95) وقال ابن كثير: «هكذا رواه وإسناده جيد».

[7] «تفسيره» (2/ 95).

[8] أخرجه مسلم في الإيمان (214)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

[9] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3334)، ومسلم في صفة القيامة (2805)، وأحمد (3/ 208).

[10] أخرجه مسلم في البر والصلة والأدب (3553)، والترمذي في الزهد (2389)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.

[11] أخرجه أحمد (4/ 194)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

[12] أخرجه البخاري في الزكاة (1461)، ومسلم في الزكاة - فضل الصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين (998)، وأحمد (3/ 141).

[13] أخرجه البخاري في الشروط (2737)، ومسلم في الوصية (1633)، وأبو داود في الوصايا (2878)، والترمذي في الأحكام (1375)، وابن ماجه في الأحكام (2396).

[14] أخرجها النسائي في الأحباس (3604)، وابن ماجه في الأحكام (2397).

[15] أخرج أبو نعيم في «الحلية» (1/ 295) أن ابن عمر أعتق جارية له يقال لها رميثة، وقال: «إني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، وإني والله إن كنت لأحبك في الدنيا، اذهبي فأنت حرة لوجه الله عز وجل.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ...)

مختارات من الشبكة

  • تفسير: (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غرائب وعجائب التأليف في علوم القرآن (13)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ...)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار...)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تخريج ودراسة أحاديث مواهب الرحمن في تفسير القرآن للشيخ عبد الكريم المدرس (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • تفسير: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مفسر وتفسير: ناصر الدين ابن المنير وتفسيره البحر الكبير في بحث التفسير (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شرح كتاب المنهج التأصيلي لدراسة التفسير التحليلي (المحاضرة الثالثة: علاقة التفسير التحليلي بأنواع التفسير الأخرى)(مادة مرئية - موقع الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي)
  • منتقى التفاسير في تفسير سورة البقرة: تفسير الآيات من (135 - 152) (WORD)(كتاب - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • كوبريس تستعد لافتتاح مسجد رافنو بعد 85 عاما من الانتظار
  • 57 متسابقا يشاركون في المسابقة الرابعة عشرة لحفظ القرآن في بلغاريا
  • طلاب هارفارد المسلمون يحصلون على مصلى جديد ودائم بحلول هذا الخريف
  • المعرض الرابع للمسلمين الصم بمدينة دالاس الأمريكية
  • كاتشابوري تحتفل ببداية مشروع مسجد جديد في الجبل الأسود
  • نواكشوط تشهد تخرج نخبة جديدة من حفظة كتاب الله
  • مخيمات صيفية تعليمية لأطفال المسلمين في مساجد بختشيساراي
  • المؤتمر السنوي الرابع للرابطة العالمية للمدارس الإسلامية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/2/1447هـ - الساعة: 18:23
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب