• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المرأة في القرآن (1)
    قاسم عاشور
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (11)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الإنصاف من صفات الكرام ذوي الذمم والهمم
    د. ضياء الدين عبدالله الصالح
  •  
    الأسوة الحسنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    أحكام المغالبات
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    تفسير: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: الاستطابة
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    ثمرات الإيمان بالقدر
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    العشر وصلت... مستعد للتغيير؟
    محمد أبو عطية
  •  
    قصة موسى وملك الموت (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الشاكر، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (12)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    تلك الوسائل!
    التجاني صلاح عبدالله المبارك
  •  
    حقوق المسنين (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تعوذوا بالله من أربع (خطبة)
    عبدالله بن عبده نعمان العواضي
  •  
    حكم المبيت بالمخيمات بعد طواف الوداع
    د. محمد بن علي اليحيى
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / الحديث وعلومه
علامة باركود

الحصانة المنهجية والمعرفية لصحيح البخاري

د. محمد بنيعيش

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/12/2007 ميلادي - 19/12/1428 هجري

الزيارات: 19283

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الحصانة المنهجية والمعرفية لصحيح البخاري

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.


تمهيد:

كثيرةٌ هي مظاهرُ التطاولِ على الحديث النبوي عند بعضِ المشرقيين أو المغربيين؛ من حيث النيل من روايته أو تحريف معاني نصه، سواء في عصر بَرَزَ فيه ما يُعرف بالشعوبية وألوان الزندقة أو في عصرنا هذا؛ الذي يتقمَّص كثيرٌ من أقزام مثقفيه العلمانيةَ، ويدَّعون الحريةَ الفكرية وحقوقَ الإنسان والتفلسفَ القاصر الذي يؤدي بالضرورة إلى زندقة مقصودة أو غير مقصودة.


فقد كثر الطعنُ في الأحاديث الصحاح التي أفرغ العلماءُ فيها جهدَهم عبر التاريخ جرحًا وتعديلا وشرحًا وتفسيرًا وتمحيصًا وتحقيقًا وضبطًا وعدالة، ولم يُبقوا لمن يريد الطعنَ في أصولها مدخلاً، كمن تتوقُ أنفسُهم للبروز بإظهار سوءاتهم للعالم على نمط ما يبرزُها متطرفو الشهوات في عصرنا عبر الإنترنت أو القنوات الفضائحية!..


ولكي يكون نقاشُنا وموقفُنا علميًا موضوعيًا وغيرَ واقف مع الأشخاص أو محدد لها، لأن مسألة الطعن في الأحاديث النبوية الصحيحة -وخاصة صحيح البخاري- ليست من طرح فرد أو نكرة، وإنما هي توجه فكري وعقدي مقصود ومرصود منذ عدة سنوات، بل منذ عدة قرون! وحتى تعم الفائدةُ ونطرح القضيةَ على أصولها الثابتة وبتلخيص علمي ومنهجي ليستفيد الجميع، أرى أن أقسم هذا الموضوع باختصار شديد إلى العناصر التالية:


أولا: صحيح البخاري على محك المنهج التاريخي:

إن المنهج التاريخي الاستردادي يتضمَّن نقدَ النص من الخارج والداخل.


فالنقدُ الخارجي للنص يقتضي البحث في الطرق التي حصل بها تخريج الحديث على مستوى المعاصرة والمباشرة والمشافهة والمناولة، وبالجملة على مستوى اتصال السند الذي يعني أن الخبر حقيقي وواقعي، مرصود رصدًا موضوعيًا من خلال تسلسل الرواية وعدالة الرواة وضبطهم، وما إلى ذلك مما يعد من أهم خصوصيات منهج المحدثين ودقته، وهو المنهج الذي لم يَعرف العالمُ له مثيلاً عبر التاريخ في استخلاص النصوص الصحيحة من النصوص المدسوسة والمختلقة، والحكم على قضاياها بالواقعية والحدوث الفعلي.


1) فمنهجُ المحدثين -وعلى رأسهم محمدُ بنُ إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى - قد اعترف به المسلمُ والكافر والمشرقي والمستشرق والمغربي والغربي على حد سواء، بل قد كان الملهمَ لعلماء التاريخ المحدَثين والمعاصرين لأن يحددوا عناصر منهجهم في نقد النصوص التاريخية والحكم عليها بالواقعية أو الطوباوية والاختلاق..


خاصة وأن البخاري -رحمه الله تعالى- لم يكن مؤلفًا ولا مختلقًا أو متفلسفًا، وإنما كان راويًا ومخرجًا، ومن ثم شهد له العالم بالحصانة المنهجية في ضبط الحديث الصحيح، ونال رتبة الإمامة وإمارة المؤمنين في الحديث،كما يذكر ابنُ خلدون -المؤرخ الموضوعي- في مقدمته:

"وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمامُ المحدثين في عصره، فخرّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرَّر الأحاديث يسوقُها في كل باب بمعنى ذلك الذي تضمنه الحديثُ فتكررت لذلك أحاديثه..." [المقدمة - المكتبة العصرية - ط1425هـ-2004م ص413].


من هنا فقد كان منهجه يستعصي فهمُه على كثير من العلماء والأذكياء، فما بالك بالأغبياء والسفهاء من المتطفلين على أرفع العلوم وأرقاها، وفي هذا يقول ابن خلدون أيضا:

"فأما البخاري -وهو أعلاها رتبة- فاستصعب الناس شرحه، واستغلقوا منحاه من أجل ما يحتاج إليه من معرفة الطرق المتعددة ورجالها من أهل الحجاز والشام والعراق، ومعرفة أحوالهم واختلاف الناس فيهم، ولذلك يحتاج إلى إمعان النظر في التفقه في تراجمه؛ لأنه يترجم الترجمة ويورد فيها الحديث بسند أو طريق، ثم يترجم أخرى ويورد فيها ذلك الحديث بعينه لما تضمنه من المعنى الذي ترجم به الباب، وكذلك في ترجمة وترجمة إلى أن يتكرر الحديثُ في أبواب كثيرة بحسب معانيه واختلافها" [ص414].


ثم يمضي ملخصًا هذا المنهج ونتائجه قائلا: "واعلم أن الأحاديث قد تميزت مراتبُها لهذا العهد؛ بين صحيح وحسن وضعيف ومعلول وغيرها، ولهذا كان الأئمةُ في الحديث يعرفون الأحاديث بطرقها وأسانيدها، بحيث لو رُوي حديثٌ بغير سنده وطريقه يفطنون إلى أنه قد قلب عن وضعه، ولقد وقع مثلُ هذا للإمام محمد بن إسماعيل البخاري حين ورد على بغداد وقصد المحدثون امتحانَه فسألوه عن أحاديث قلبوا أسانيدها فقال: لا أعرف هذه ولكن حدثني فلان، ثم أتى بجميع تلك الأحاديث على الوضع الصحيح، وردَّ كل متن إلى سنده، وأقروا له بالإمامة" [ص415].


ويقول أبو الأزهر: "كان بسمرقند أربع مئة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بساقطة لا في الإسناد ولا في المتن".


يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) معلقا: "وقد رزق البخاري خصلتين بارزتين مكنتاه من أن قرب من غرضه:

أ- حافظة قوية لاقطة وخاصة فيما يتعلق بالحديث.. وكان يستعين على حفظه بالتقييد وكثرة الفكر، فقد رووا عنه أنه كان يقول: "ما تركتُ حديثًا في البصرة إلا كتبته".. وذكر عنه أنه كان يقوم في الليل مرارًا يأخذ القداحة فيوري نارًا ويسرج ثم يخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه!.


ب- مهارته في تعريف الرجال ونقدهم، وفي ذلك وضع كتابه "التاريخ" لتمييز الرجال، ورووا عنه أنه قال: "قَلَّ اسمٌ في التاريخ إلا وله عندي قصة" [ضحى الإسلام - دار الكتب العلمية ط1ج3ص90].

 

كما أنه إن اعترض بعضُ المحدثين على جملة من أحاديثه لا تتجاوز المئتين فذلك من باب التزامه بالشروط المنهجية التي اشترطها أو لم يلتزم؛ وليس طعنًا في صحة الأحاديث؛ لأنها قد وجدت لها طرق شتى لتخريجها وتصحيحها، ولم يعد حولها أي التباس فيما يذكره جهابذة المحدثين، إذ سلموا بقوة منهج البخاري وأسبقية الجامع الصحيح في باب صحة الحديث كما يصنفه ابنُ الصلاح في المقدمة وغيره كثير.


2) هذه الامتحانات وهذه الشواهد مذكورة ومشهورة في جل كتب التاريخ ومناهج المحدثين، ومن ثم فلم يكن البخاريُّ يعمل في الظلام أو يكتب في الخفاء حتى يتهم صحيحُه بوقوع الدس فيه؛ لأن هذه سخافة وبلادة ما بعدها من بلادة.

 

خاصة إذا علمنا أن علم الحديث مما تعم به البلوى عند المسلمين؛ لأنه أصل التشريع لديهم، ومن ثم فكان ما يكتب في الحديث يطلع عليه العلماءُ من المشرق والمغرب في حينه.


كما أن الدس لو طال صحيحَ البخاري فسرعان ما سينكشف؛ لأن المستنسخين للنص الأصلي كثيرون، ولهذا فعند المقابلة يتبينُ الاختلافُ بين النسخ؛ ولكن الأمر غير ذلك، إذ صحيح البخاري موزع عبر العالم ومنذ قرون ولم يحدث أن سربت نسخة مدسوسة تخالف ما عليه النسخ المتداولة عند المحدثين والعلماء، فلعل مدعي الدس على البخاري يكون مدسوسًا على وطنه وأمته وليس بأصيل فلينظر في حاله قبل فوات الأوان.


إذن فالدس موجود في العقل الفاسد لزاعمه، وليس موجودًا حقيقة، وهو بهذا يساير مزاعم الزنادقة من الشيعة الإسماعيلية الباطنية والرافضة المتطرفة الذين يقولون بأن القرآن قد بُدِّل، ويكفي هذا ضربًا من الزندقة والمروق من الدين، الذي سبق أن بينا نموذجه عند متفلسفة عصرنا في كتابنا "البطالة الفكرية في مجتمعنا".


3) من هنا فلم يكن البخاريُّ مجردَ راوٍ شخصي أو مؤلف، وإنما كان عملُه مبنيًا على قواعد موضوعية وعلمية، ابتداء من الضابط النفسي والكمال الجسدي، إلى الضابط العقدي الأخلاقي الذي لبه الصدقُ والإخلاص، ومن ثم التخصص في الشهادة التي لا تتم إلا بمبدأ العدالة المبنية عليها الأحكام والأنساب والمواريث وما إلى ذلك من العقود.

 

ولهذا فمن شك أو طعن -تفسيقًا وتعريضًا بسوء القصد- في روايات البخاري كرواية وإثبات، فالأولى به أن يطعن أو يشكك في نَسَبه إلى أبيه ما دام الإنكارُ يكون من أجل الإنكار، والهوى هو ديدنه.


فلا ينبغي للبعض - ممن يسلك هذا التطرفَ - أن يحكم على البخاري وغيره من كبار المحدثين؛ لأنه قد يقال له: إن أنت أنكرت روايةَ البخاري في صحيحه، فأنت لقيط أو دعيّ بهذا المقياس، مع أن أباك وأمك قد يكونان معروفين، وثابت زواجُهما بشهادة العدلين أو بينة السماع!!!


هذا وإن كثيرًا ممن يطعنون في رواية البخاري -مع أن جل الأحاديث التي خرّجها موجودة في صحيح مسلم وباقي كتب السنن- يكونون إما من الشيعة المتطرفة والرافضة، وإما من الزنادقة القدامى أو الجدد، ربائب الباطنية الإسماعيلية وفراخها، وكذلك قد يكونون من المتفلسفة المعاصرين قطاع الأصول والأنساب، وأيضا المستشرقين اليهود، وعلى رأسهم جولدتسيهر. 

ولهذا فحينما يأتي بعض الأغبياء والسخفاء في عصرنا لكي يرددوا تلك الزندقات على شكل ببغائي فإنهم يقعون على أم رأسهم؛ لأنهم منطقيًا يعرضون نسبهم وأصلهم للتشكيك والإنكار؛ إذ لم يقنعهم أي منهج أو طريق في الرواية وأوجهها الموضوعية عند الإثبات.


4) فإذا كان الطعنُ في رواية المحدث المتخصص قد يؤدي لزومًا إلى هذه النتيجة السيئة التي تعود على صاحبها سلبًا بالتشكيك في أصله وجذوره، فإن الطاعن في الصحابي يكون حاله أسوأ وألأم، بل أكثر عرضة للاتهام بالزندقة والكفر والإنكار.

 

وذلك لأن الصحابي هو الواسطة المباشرة بيننا وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ثمرة مدرسته في الإيمان والعدالة والصدق والتثبت.


فالصحابي قد يعد صحابيًا ولو جالس النبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة وصدق به؛ لأنه يكون قد نظر إلى وجهه الكريم واستضاء بنوره السني، فاغترف منه ما لا يمكن إدراكُه بالعقول والأفهام ولو عبر السنين والقرون، وذلك مصداقا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا لي أصحابي؛ فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبًا فأنفقه ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، رواه البخاري ومسلم في فضائل الصحابة.


وعن هذا التفاضل للزمن والتاريخ والفضل يقول ابن حزم الأندلسي: "وأما الزمان فكَمَنْ عَمِلَ في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين، وعَمِلَ غيرُه بعد قوة الإسلام وفي زمن رخاء وأمن؛ لأن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك" [ابن حزم - الفصل في الملل والأهواء والنحل - دار الكتب العلمية بيروت ج3ص35].


ثم يمضي قائلا: "وأما الإضافة فركعة من نبي، أو ركعة مع نبي، أو صدقة أو ذكر معه، وسائر أعمال البر منه أو معه، فقليلُ ذلك معه أفضلُ من كثير الأعمال بعده، ويبين ذلك ما قد ذكرنا آنفًا من قول الله عز وجل: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ [الحديد: 10]".

 

وإخباره عليه السلام أن أحدنا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ نصف مُدّ من أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فبهذا فضل الصحابة -رضي الله عنهم- من جاء بعدهم".

 

عند هذا نسأل: أبو هريرة أكان صحابيا أم لا؟ فلا بد من الجواب بنعم! لوجود الدلائل التاريخية المتواترة والثابتة عنه.


إذن فالطعنُ فيه مخالفة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن في رمز العدالة والثقة، وهذه وقاحة لا تليق بمسلم أو مؤمن.

 

ولهذا فحينما يطعن في رواية الصحابي الجليل أبي هريرة بصفة خاصة، من دعوى أنه لم يصاحب النبي سوى واحد وعشرين شهرًا، فذلك يكون هو لب السخافة والغباء والتعبير عن الانحطاط الفكري؛ حينما تقاس النتائجُ بطول المدة وبالكم من العمل وليس الكيف! لأن هؤلاء يحسبون الرواية بالزمن، إذ البليدُ لا يوازن بالذكي، وزمن الصحابي لا يقارن بزمن الغبي، وإلا فلم يعد للمقدرات والاستعدادات أي معنى في علم النفس ومقاييس الذكاء!.


بحيث إن حفظ خمسين ألف حديث لا يتطلب بالضرورة قرنًا حتى يتم المراد، كما أنها بالنسبة للصحابي لم تكن تمثل جهدًا فكريا من تأليف وتمحيص وتحقيق، وإنما هي حفظ واستظهار لا غير؛ وهذا من أيسر الأعمال الذهنية، وخاصة لدى ذوي المواهب والصفاء الذهني في الحفظ.


فأبو هريرة قد كانت له حافظة لاقطة لا تنسى ما تراه أو تسمعه، وهذه كانت من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقه وفضله عليه، وذلك حينما طلب منه بسط ردائه، لترسيخ الحفظ والاستظهار لديه.


إضافة إلى هذا فقد كان من أهل الصُّفَّة، وهؤلاء قد كانوا متفرغين كليًا للعلم والعبادة، ومن ثم كانوا من أبرز الرواة بين الصحابة الآخرين الكبار، وكذلك قد شهد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة بسبقه وحرصه على رواية الحديث عنه، فكان يُمده بكل ما هو ضروري في الدين ليبلغه لمن لم يشهده عنده؛ كما أورد البخاري في صحيحه "باب الحرص على الحديث" عن أبي هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله من أسعدُ الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه" [صحيح البخاري - كتاب العلم].

 

فصفة الحرص طبيعيًا قد تؤدي دائما إلى كثرة الجمع والتخزين، شأن الحريص على جمع المال والاجتهاد في اكتشاف طرقه.


5) هذه المبادئ قد تؤسس للتخصص في رواية الحديث سواء لدى الرجال أو النساء كما هو شأن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- وذلك لأنها كانت أكثرَ نساء النبي ملازمة له ومن أفقههن، ومن ثم كان صغرُ سنها في زواجها به صلى الله عليه وسلم إيذانًا بتحقيق هذه الغاية، ألا وهي تمام التَّذكار ودقته، وطول أمده والحرص على تحصيل المعارف؛ وخاصة في سن التاسعة من العمر، بحيث ستكون أكثر نساء النبي عشرة له وستبقى بعده مدة طويلة كي يتسنى لها نشرُ أحاديثه وإفادة السائلين عن قضايا الطهارة وشؤون المنزل والأسرة والعلاقة بين الزوجين.


هذه الروايات كانت تدخل من باب بيان أحكام الشرع في تلك العلاقة، وليس نشر الأسرار الزوجية، كما قد يحلو لبعض الزنادقة ومريضي القلوب تأويلُه به لكي يجعلوا منه ذريعةً لرفض الأحاديث الواردة في الموضوع.


ولهذا فزواجه صلى الله عليه وسلم بها لم يكن زواج شهوة، وإنما كان -كما جاءت الروايات- اختيارًا إلهيا رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام وسلم به، وما دخوله بها في سن التاسعة إلا من هذا الباب، وهو ثابت بالروايات الصحيحة، ومن خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المشرع؛ كما قد أباح له الزواج بأكثر من أربع نسوة.


من ثم فالطعنُ فيه زندقة ومروق، وذلك لأن المشرع هو الذي يحدد ما هو حلال وما هو حرام وما هو معقول وغير معقول، في حين إن البيئة قد تختلف من حيث تحديد سن الزواج وقيمة وخصائص المتزوجين جسديًا ونفسيًا.


فالمتزوج هنا هو النبي! وشتان بينه وبين سائر البشر! إذا قسنا المسألة بالسن أو بالشخص، كما أن السيدة عائشة حكمها حكم أمهات المؤمنين، أي لها طابع روحي قبل أن يكون جسديا، ومن هنا فهيهات هيهات التساوي بين الملائكة والحدادين! كما يقول أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى -.


هذا المعنى قد أوردناه بنوع تفصيل في كتابنا المتواضع "أحكام النسب لحماية الأسرة في الإسلام"؛ فحددنا مفهومَ المشروعية وحق التشريع من عهد آدم عليه السلام إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وذلك في تناولنا لمسألة أبناء وبنات آدم وزواجهم، وأثبتنا أن الزواج كان شرعيًا وليس خطيئة، كما يريد أن يوهم بذلك بعضُ الزنادقة والمتفلسفة لتسويغ الفساد في الأرض ودون الوعي بعلاقة التشريع بالمسار الكوني والتحول البيولوجي للكائنات الحية وخاصة الإنسان، وأيضا بالميل نحو إشاعة الفاحشة وإثارة الشكوك في الأنساب الأصلية للبشرية ومن ثم قطع كل متصل وإهدار للقيم وما معها من تفاصيل.


هكذا قد يتسلسل بهم فكرُهم الفاسدُ إلى أن يحاولوا قطعَ صلة الصحابي بالنبي، وهي مقدمة ماكرة لقطع الصلة بالدين وهدمه من جذوره، ولكن هيهات هيهات! فالعلمُ أقوى من الوهم الفاسد، والسندُ المتصل أقوى من بيت العنكبوت الواهي.


ثانيا: النصوص الحديثية وتوسيع دائرة العقل:

بعدما عرضنا باختصار للمنهج الاستردادي المتعلق بصلة النص بالمشرع الذي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوة الصحابي في توصيله ومن ثم قوة العالم الراوي المتخصص في تمحيصه؛ لأن "العلماء ورثةالأنبياء"، أنتقل إلى النظر في المنهج العقلي التحليلي وأسسه المختصرة لكي يتسنى لنا الحكمُ أو نقد النص داخليًا بدعوى موافقته للعقل أو مخالفته له، فهناك في عصرنا من الجهال المنسوبين للعقل ما لا يحصى كثرة وجرأة بغير عدة أو سلاح علمي رصين، وقد سبق أن انتقدتُ هذا النوع من الآرائيين والمتفلسفة الأقزام في كتابي المتواضع "البطالة الفكرية في مجتمعنا: الأسباب والانعكاسات".


فأقول وبالله التوفيق:

1) مما اتفق عليه عقلاءُ البشرية أن أحكام العقل تنقسم إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها وهي: الوجوب والاستحالة والجواز.

 

فالوجوب ما لا يمكن تصورُ عدمه، والاستحالة ما لا يمكن تصور وجوده، والجواز ما يحتمل الوجود والعدم على حد سواء.

 

من هنا يتأسس العلم الضروري لكل إنسان ولو كان صبيًا، أعني العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهذا يرسخ مبدأ الثالث المرفوع حسب تعبير المناطقة، وعليه تنبني الأقيسة المختلفة..


فحينما تقول 1 + 1 = 2 فلا يمكن مراجعة هذه النتيجة البتة، وإلا اتهم الشخص إما بالجنون الذي هو ضد العقل أو بالوقاحة والسخافة والهزل، وهذا ضد الأخلاق والقيم.

 

فالواجب حكمه واحد وقارّ وهو المطلوب حينما تكتمل آلة التفكير وينتظم القياس ببنائه على تصور صحيح وكلي ثابت.

 

لكن المستحيل والممكن يتفرعان إلى مستويين قد يتداخلان فيما بينهما، ومن ثم قد يقع ناقص العقل والتفكير في غلط الحكم عليهما.

 

هذان المستويان هما: الاستحالة العقلية والاستحالة الواقعية من جهة، والإمكان الذهني والإمكان الواقعي من جهة أخرى.

 

بحيث يمكن أن نقول للشيء: هذا مستحيل فيتطلب حينئذ منا النظر هل هذه الاستحالة عقلية أو واقعية.


فإذا قلنا بأنها عقلية فإنها لا يمكن تصورها واقعًا مهما ادعى الشخصُ المعاند ذلك، كالمثال الذي ضربناه سابقا حول العدد 1+1=2


إذ يستحيل عقلا أن يأتي شخص فيقول: 1+1=3 أو 1+1=0 ما دامت الأعداد عقلية وليست تواضعية أو اصطلاحية رياضية مفترضة.

 

لكن حينما نخبر عن إنسان يمشي على رأسه أو يطير في الهواء بغير أجنحة أو طائرة فتقول حينئذ بأن هذا مستحيل، فتكون هذه الاستحالة واقعية وليست عقلية؛ لأننا لم نرَ إنسانا في الواقع يطير في الهواء بغير أجنحة أو طيارة، لكننا في الوقت نفسه نستطيع أن نتخيل إنسانا يطير في الهواء على هذه الشاكلة.


إذن فالحكمُ هنا ليس عقليًا محضًا، وإنما يسير حسب الواقع وما تعوده الإنسان منه، فلو حدث وطار شخصٌ كما ذكرنا فالعقلُ السليم لا يعد ذلك مستحيلا؛ لأنه ممكنٌ تصوره في الذهن والخيال، وهذا ما عبرنا عنه بالإمكان الذهني أو العقلي الذي هو تمديد وتمطيط للإمكان الواقعي، ويفتح المجال للتوسع العلمي والإبداع الفكري وإنتاج الروايات والأفلام الخيالية واكتشاف الأفلاك والأجرام السماوية...


باختصار شديد، لأن هذه المسألة معرفية محضة (إبستمولوجية)، نربط الموضوع بمسألة التشريع والعقل، وذلك للتأكيد على أنه لا تناقض بين العنصرين عند التحقيق والتدقيق.

 

ولكن ينبغي أن يعلم بأن أحكام الشريعة لها صورتان من ناحية إمكان النظر العقلي وهما: الحكم التوفيقي بإدراك الحكمة من بعض قضايا التشريع وأسراره بواسطة العقل المجرد، والحكم التوقيفي الذي يتوقف العقلُ عن الخوض فيه حتى يأتي المشرع ليبينه: إما تخصيصًا أو تقييدًا أو نسخًا أو رخصة أو عزيمة وما إلى ذلك، مما هو مذكور في أصول الفقه وعلوم التفسير...


2) وبعد ما سبق من نموذج ملخص لبعض الاعتراضات، من بعض من لا يستحيون من جهلهم، ينبغي التعريف أو التمييز بين الطهارة الشرعية المتعلقة بأحكام المني والودي والحيض وما إلى ذلك، وكذلك أنواع المياه لإزالة النجاسات من البدن والثوب والمكان أو ما يعرف بطهارة الحدث والخبث، وبين النظافة العامة، هذا إذا أضفنا موضوع التيمم في باب الطهارة وموازنة حكمه بحكم الغسل الذي يكون بالماء.


ونقف عند التيمم ونتساءل: هل للعقل المادي فيه مدخل لتبيين حكمته، وهل هو يدخل في باب النظافة العامة بمجرد لمسة أو ضربة باليد؟


فكيف سيرد العقلاني القزم على حكمه لما يرد في صحيح البخاري حديث عن التيمم يبين حكمه ووصفه مرويًا عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة الكرام والأطهار؟


هل سيعد الحديث مدسوسًا أو ترهات وأوهامًا، أم هل سينكر التيمم أصلا؟ أم هل يسلم بأن التيمم مسألة تعبدية توقيفية؟

فالذي يدعي الإسلام والإيمان به حقيقة لا بد له من التسليم بهذه الأحاديث وأخذها كما هي من غير تعليل أو تحليل؛ لأنها تتعلق بالعبادة المرتبطة بالغيب والتشريع، والغيب لا مجال للعقل في تحديد أحكامه وعناصره بقياسه على ما هو معهود في عالم الشهادة، أو كما يعرفه الفلاسفة بعالم الكون والفساد، حيث يسود المنطقُ الفاسد الذي يريد أن يزن الجبال بميزان الذهب، فهل هذا معقول أيها العقلاء؟

 

ناهيك عن أن ما في الجنة مما في الأرض -فيما وصفه الشرع- إلا الأسماء، وإلا ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.


3) ومن الغباء والسخافة أن يقف البعضُ عند قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف الحورية من الجنة بأنها: "يُرى مُخُّ ساقها" لتسويغ رفض الحديث بمعنى شهوي بليد وحيواني متطرف، دون الانتباه إلى سياق الحديث ونهاية معناه الجميل والمبين أن المسألة أجمل مما يتصور، ألا وهو كلمة "من الحسن" الموالية لهذا الوصف، وحيث إن صفة الحسن قد وردت في الحديث، فمعنى مخ الساق دليل على نوع من الجمالية الغيبية الفائقة والتي لا تقاس بالجمالية الحيوانية التي اعتادها بعضُ المتأثرين بالصور الأرضية، ولم يستطيعوا - لبلادتهم- التخلصَ منها؛ لأنهم يفتقدون القدرة على توظيف ما عبرنا عنه بالإمكان الذهني والتطلع إلى ما هو أعلى مما هو عليه العالم الدنيوي الفاني، وذلك لأن مخهم حينما يتصورونه بشكله المادي لا يولد لديهم سوى الغثيان والتقزز على شكل انعكاسات شرطية كما استنتجها بافلوف من كلبه الاختباري!!!.


الشيء نفسه قد يحدث لدى الكثير من المغرَّر بهم للتجرؤ على الحديث النبوي الصحيح الوارد في البخاري وغيره، وخاصة لدى بعض النساء من متزعمات الجمعيات ومدعيات الدفاع عن حقوق المرأة، وذلك حينما يرفضون حديث "خلقت المرأة من ضلع أعوج"، متوهمين أو موهمين بأن هذا استنقاصٌ لمكانة المرأة وقيمتها الوجودية، ناسين بأن خلقة المرأة من الناحية الوجودية والبيولوجية أكثر تقدمًا من الرجل؛ لأن هذا الأخير قد خلق من التراب مباشرة، أما هي فقد خلقت من الكائن الحي المتطور، وشتان ما بينهما!.


إضافة إلى هذا -وبإيجاز شديد- فإن وصف المرأة في ابتداء خلقها بهذا الوصف دليل على امتلاكها عنصر الجمال في تكوين الرجل والمرأة معا، وهذا كمال ما بعده من كمال! إذ لولا اعوجاج الضلع لكان القفص الصدري للرجل عبارة عن نتوء لصفائح الزوارق أو قبعات صينية!!!


هذا من الناحية الشكلية الظاهرية، أما من الناحية الفكرية الفلسفية فهناك مبدأ علمي يقول: "نقصانُ الكون عينُ كماله"، ويمثل بعضُ المفكرين المستنيرين -كالغزالي رحمه الله تعالى- بهذا المثال الرائع: "لولا اعوجاجُ القوس لما صَلَحَ للرمي"، فليعتبر كلٌّ من الرجال والنساء بهذا المعنى ليستخلصوه من الحديث النبوي الشريف، عسى أن يحفظوا جمالهم الظاهر والباطن معًا ليتم التكاملُ في وجود الرجل والمرأة على حد سواء.


وأما من يدعي الإسلام ويزعم نظريًا بأنه يدافع عن عقلانيته وخوفًا من انتقادات اليهود أو النصارى أو العلمانيين وغيرهم، الذين هم في الأصل فاسدو العقائد والفكر والتشريع، فسيردّ هذه الأحاديث مع صحتها منهجيا ورواية، بزعم أنها لا توافق العقل ولا علاقة لها بالنظافة، وسيقول بأن مجرد لمس حجر لا يغني شيئا وهكذا.


كذلك قد يزعم بأنها لا توافق مقاييس الجمال، مع أن الجمال مسألة نسبية واعتبارية قد يتفاوت الناس في الحكم عليها من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى غيره، فما بالك بعالم الغيب حينما نقيسه بعالم الشهادة الذي ليس منه فيه سوى الأسماء! ومن ثم (يتعقلن) من خلفية عاجزة بدون ضوابط و(يتمنطق) بغير نطاق، فيصدق فيه حكمُ العلماء سابقا: من تمنطق فقد تزندق!.


فهذا ملخصُ الرد على من سخر من الأحاديث الواردة في باب المني، وأبوال الإبل، والفأرة التي سقطت في السمن، ومسائل غيرها لا يسمح المجال ولا المقام بتتبعها والرد عليها.


وذلك لأنها اعتراضات سخيفة، ولأن جهل أصحابها سواء أكانوا مشرقيين أم مغربين -لا يهمنا أشخاص بعينهم ولا نقصدهم علميا- قد أدى بهم الحال إلى أن لا يميزوا بين الحكم الشرعي والحكم العقلي الوهمي؛ الذي لا هو ممكن ذهنيًا لا موجود واقعيًا، وذلك لأنه لا يدرك الفرق بين حكم الخاص والعام ولا بين المطلق والمقيد ولا بين الناسخ والمنسوخ، ولا بين شرعنا وشرع من قبلنا وهل هو شرع لنا أم لا؟ ناهيك عن السخافة الأخلاقية في مناقشة كبار الصحابة -أبي هريرة بصفة خاصة- وأئمة الأمة وعلى رأسهم البخاري أمير المؤمنين في الحديث، كما تتابع على تسميته بذلك العلماء عبر التاريخ.


إذ لولا الأحاديثُ الصحيحة المبينة لأحكام الطهارة والحياء لكان متفلسفو زماننا ما زالوا يبولون على أعقابهم كما وصف بذلك الأعرابي قبل مجيء الإسلام، ولكانوا ما زالوا يأكلون الفئران والصراصير ويغتسلون بالنجاسات ويلحسونها كما هو شأن كثير من الشعوب غير المسلمة، والدليل على ذلك ما هو معروضٌ مشاهد على القنوات الفضائحية ومواقع الإنترنت من سخف ونجاسات تتخبط فيها البشرية بشتى صورها، قد يعافها الكلابُ والقطط بَلْهَ الإنسان المتحضر ومدعي العقلانية والتطور في الطب والعلوم الإنسانية، والحمد لله على نعمة الإسلام!!!.


ثالثاً: الرواية الصحيحة وتحدي العلوم والعقول

من هنا كان لا بد في التشريع من تبيين ما يجوز وما لا يجوز في العلاقات الجنسية بين الزوجين، للضرورة الشرعية وليس لإثارة الشهوات والتخبط في وحلها، وكذلك كان لا بد من توضيح ما يمكن أكلُه مما لا يمكن، وما يجب غسلُه مما لا يجب، وما ينبغي قولُه مما لا ينبغي، وكذلك ما يصح نشره مما لا يصح.


1) أوليس حكم الذبابة إذا سقطت في الماء يكون من الواجب غمس جناحها الثاني حتى يتم إبطال سم الجناح الأول؟ أوليس العلم قد أثبت معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر؟ فكان حكمه - صلى الله عليه وسلم - وقاية وصحة وطهارة واقتصادًا، وخاصة في بلد الجزيرة العربية التي كان الماء يوزن فيها بالذهب لندرته وشح مصادره؟


فأين هذا من منطق المبذرين والمستهترين الذين يريقون المئات من الأمتار المكعبة من الماء بمجرد نقطة أو ذبابة سقطت في الحوض أو البرميل؟ وكذلك شأن الفأرة إذا سقطت في السمن، فهل يضيع نتاج العام من اللبن وذخيرة السنة بمجرد فأرة سقطت في مكان معين محدود المساحة؟ أو نريق الصهاريج المعبأة في مراكز الحليب من زبدة و(لبن رائب) وغيره بمجرد مثل هذا الحادث اليسير الذي له علاجه الصحي النبوي في الحين؟


أو ليس هذا هو التبذير وسوء التدبير والتطرف في التصرف، الذي قد يتشعب حتى إلى التطرف في التعامل مع الآخر واختراق حدود العدالة العامة، ما دمنا لا نزن الأمور بواقعها ونقف بالدواء عند نقطة الداء، أوليس هذا هو مرض سلوكي يخضع للانعكاسات الشرطية الحيوانية؟


إن هذه الأحاديث هي التي قد تكرم علينا بروايتها والسهر على تبليغها إلينا سيدُنا أبو هريرة رضي الله عنه، وكذلك خرَّجها ومحصها إمامُنا في علم الحديث سيدي محمد بن إسماعيل البخاري.

إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَه ♦♦♦ وإن أنت أكرمت اللئيمَ  تمردا

 

ولإعطاء نموذج واقعي ومبين لهذا السخف الفكري في مواجهة الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري وغيره من الرواة في الصحاح وباقي السنن نقول:

هذه الترهات حول رفض الحديث النبوي باسم العقلانية وحقوق الإنسان والحيوان وما إليها كان قد سلك طريقَها بعضُ المغرورين من المتفلسفة في الماضي ولم يفلحوا في ذلك؛ لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، والزمان كفيل بإثبات الحقيقة، والحكم للوجود كما يقول علماؤنا الأفذاذ؛ ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17].


2) ذكر أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام -الجزء الثالث- نموذجًا حيا من هذا الاعتراض، وخاصة لدى بعض المعتزلة المتطرفين والمغرورين باسم العقلانية والجرأة والوقاحة، وذلك في حكاية عن إبراهيم بن سيار النظام زعيم المعتزلة (221هـ).


فيقول معترضا على المحدثين في روايتهم حول تمييز حكم الطهارة عند الكلب عن الهر: "لقد قدمتم السنور (الهر) على الكلب، ورويتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل الكلاب واستحياء السنانير، وتقريبها وتربيتها، وأنه قال: إنها من الطوافات عليكم، مع أن كل منفعة السنور هي أكل الفأر فقط... ومنافع الكلب لا تحصيها الطوامير، ثم السنور مع ذلك يأكل الأوزاغ والعقارب والخنافيس والحيات وكل خبيثة وكل ذي سم، وكل شيء تعافه النفس، ثم قلتم في سؤر السنور وسؤر الكلب ما قلتم، ثم لم ترضوا به حتى أضفتموه إلى نبيكم..." [ج3 ص87].

 

أولم يصدق القائل:

دار الزمان على دارا وقاتله ♦♦♦ وأم كسرى فما آواه  إيوان

 

فها نحن في عصر المجهر، يكتشفُ الأطباء وعلماءُ الحياة والجراثيم معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحكم، فيتبين من خلالها أن الطهارة أو النظافة كما يريد أن يسقطها عليها بعضُ القاصرين ليست مسألة يسيرة، وإنما هي مسألة معقدة وتخضع لرؤية غيبية محضة وحكم توقيفي إما بصورة مطلقة وإما بحسب الزمان واكتشافات العصور.


فلقد تبين علميًا أنَّ في لعاب الكلب جراثيمَ يفرزُها وخاصة عند الأكل أو الشرب، ومن ثم فهي مضرة بصحة الإنسان عند الملامسة وتعقب سؤره عند الشرب أو الأكل، في حين إن هذا الحكم لا ينطبق مطلقا على سؤر الهرة ولعابها، بحيث قد يدخل في حكم المطهرات، antiseptique أو désinfectant، وهذا ما نلاحظه بالعين المجردة حينما تصاب بجرح ثم تلحسه حتى تبرأ منه، بل قد تمارس غسل وجهها وأطرافها بلحسها بلعابها....


فأين حكمُ العقل المجرد والقاصر هنا وهناك؟ ومتى كان العقل حاكمًا على قضايا الشرع حتى يصبح مقدمًا في مثل هذه المسائل؟

إن العقل المجرد المتبع لهواه لا يعطي سوى الشذوذ في باب التشريع؛ سواء كان شذوذًا عقديًا أو سلوكيًا أو جنسيًا أو غيره؛ لأنه عقل مظلم غير مستنير بذكر الله تعالى، كان من نماذجه جمهوريةُ أفلاطون التي تقر بشيوعية المرأة والأطفال، وبلزوم العري التام بين الرجال والنساء، وبالحكم الجزافي الديمقراطي من غير أخلاق أو ضوابط ومرجعيات روحية أو فكرية قارّة، وما إلى ذلك من السخافات التي سبق أن ذكرنا نماذج منها في كتابنا "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي".


3) وقد سبق أن بينا في مقال لنا -عنوانه "العقل يهزم التجربة والفكر الإسلامي ينتصر!"- هذا الخللَ الفكري حينما تكون الرؤيةُ مجردةً والعقل قصيرًا، وذلك في موازنة بين الغزالي وجالينوس، وسقوط هذا الأخير في وهم التجربة الناقصة التي ولدت له عقلا ناقصا، فحكم بأن الشمس لا تتعرض للذبول أو الفناء من خلال رؤية بصرية قصيرة تعوّدها.


أما الغزالي فرأى أن الشمس تذبل وتنتقص بمقدار الجبال من غير أن نشعر بها، مستندًا في حكمه هذا على مبدأ التجويز المنطقي ومبدأ الحكم الكلي على العناصر المادية، كما كان يعبر عنه بأن: كل معدن فهو يتعرض للفساد، فالشمس من جنس المعادن، إذن فهي تتعرض للفساد (أي التأكسد بلغة كيميائية حديثة) لا محالة.

 

فكان أن جاء علم الفلك الحديث باستعمال المقراب (التليسكوب) هذه المرة فأكد قولة الغزالي من تعرض الشمس لانفجارات وظهور صياخد بها ونفاد بنسب معينة لطاقاتها وعناصرها...


إن هذا الحكم المعرفي نفسه المستنير بنور الإيمان ودلالة النصوص الشرعية يمكن أن نستعمله في تناول قضايا المجتمع والسير وأحكام الحرب والسلم والقصاص وما إلى ذلك مما ورد في صحيح البخاري وغيره من كتب الصحاح المعتبرة لدى العلماء والثابتة بالمنهج الذي سبق أن بيناه في أول هذا البحث الموجز؛ لأن التشريع كل متكامل لا يمكن أن ينتقص منه حرف واحد وإلا وقعنا في الشذوذ والمهاترات التي لا تنتهي، ومن ثم في الزندقة والمروق من الدين بطريقة أو بأخرى.


اضطرارًا قد نوجز متابعتنا للموضوع، كما أوجز لنا زُفَرُ -الفقيه الحنفي- في قولته المشهورة حول مثل هذا الشذوذ الفكري والعقدي في تناول قضايا الدين بالقياس الفاسد:"إنَّ من القياس ما هو أقبحُ من البول في المساجد".


فكان الطعنُ في الأحاديث الصحيحة وخاصة صحيح البخاري من نماذج هذا القياس الملوث، بل هو أسوأ منه، فيحتاج معه إلى تطهير وتنقية فكرية وسلوكية لأدمغة مريضة ومحاطة بشتى الملوثات المتراكمة عليها بفعل التعرية وعدم الصيانة...


فعلى مثل هؤلاء أن يتعلموا طهارة البدن والمكان أولا من صحيح البخاري، ثم يحصلوا حينئذ على طهارة الفكر والروح ليميزوا حينئذٍ بين الحق والباطل والصحيح والسقيم والسليم والفاسد... وما أجملَها من طهارة لو اعتبروا!!! ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • آراء الإمام البخاري الأصولية من خلال تراجم صحيحه
  • تراجم أحاديث الأبواب دراسة استقرائية في اللغة واصطلاح المحدثين من خلال صحيح البخاري
  • الإمام البخاري وكتابه "الصحيح"
  • عاداتُ الإمام البخاريِّ في صحيحه
  • دورة في مقدمة صحيح البخاري
  • هل استعمل البخاري لفظ "سكتوا عنه" في غير ظاهره؟
  • تعريف بكتاب الجامع الصحيح
  • التعريف بالإمام البخاري
  • صحيح البخاري أصح الكتب بعد القرآن بإجماع الأمة .. والطعن فيه سبيل الزائغين
  • نظم فوائد تتعلق بثلاثيات الإمام البخاري للعلامة شمس الدين البرماوي
  • تعقيب على محكمة في تتارستان لمنعها تداول صحيح البخاري
  • التعريف المختصر بصحيح البخاري وصحيح مسلم
  • عندما يغيب المنهج (غياب المقاييس في الأدب)
  • دفاع عن البخاري
  • نبذة تعريفية مختصرة بكتاب صحيح البخاري

مختارات من الشبكة

  • فرنسا: رفع الحصانة عن مارين لوبان لإساءتها للإسلام والمسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • في الحصانة الإلهية والعمل من أجلها(مقالة - آفاق الشريعة)
  • البرلمان الأوروبي يرفع الحصانة عن عضو فرنسي تهجم على الإسلام(مقالة - المسلمون في العالم)
  • الحصانة الشرعية وأهميتها في تشكيل الشخصية الإسلامية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأمل قوة دافعة وحصانة مانعة(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • خطبة: الحياء العام.. حصانة المجتمع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تعريف بكتاب جلاد الإلحاد - حصانة عقدية من الموجة الإلحادية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • حصانة القاضي: دراسة تأصيلية مقارنة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • فرنسا: مطالب برفض حصانة "لوبان" عقوبة على الإساءة للمسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • لإسقاط تهم الإبادة.. كراجيتش يدعي تلقيه وعدًا بالحصانة(مقالة - المسلمون في العالم)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 30/11/1446هـ - الساعة: 16:9
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب