• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المرأة في القرآن (1)
    قاسم عاشور
  •  
    ملخص من شرح كتاب الحج (11)
    يحيى بن إبراهيم الشيخي
  •  
    الإنصاف من صفات الكرام ذوي الذمم والهمم
    د. ضياء الدين عبدالله الصالح
  •  
    الأسوة الحسنة
    نورة سليمان عبدالله
  •  
    أحكام المغالبات
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    تفسير: (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تخريج حديث: الاستطابة
    الشيخ محمد طه شعبان
  •  
    ثمرات الإيمان بالقدر
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    العشر وصلت... مستعد للتغيير؟
    محمد أبو عطية
  •  
    قصة موسى وملك الموت (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (الشاكر، ...
    فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (12)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    تلك الوسائل!
    التجاني صلاح عبدالله المبارك
  •  
    حقوق المسنين (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    تعوذوا بالله من أربع (خطبة)
    عبدالله بن عبده نعمان العواضي
  •  
    حكم المبيت بالمخيمات بعد طواف الوداع
    د. محمد بن علي اليحيى
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية عشرة) منافقون ذوو طول سفهاء وأعراب حول المدينة جبناء

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية عشرة) منافقون ذوو طول سفهاء وأعراب حول المدينة جبناء
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/6/2024 ميلادي - 27/11/1445 هجري

الزيارات: 1459

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية عشرة)

منافقون ذوو طَوْل سفهاء

وأعرابٌ حول المدينة جبناء

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

قال الله تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 81 - 90].

 

كانت غزوة تبوك في فصل الصيف، وجو المدينة رطيب، وثمارها يانعة، والطريق إلى عين تبوك في الشام لاحب، حرارته شديدة جافة، وأرضه تكاد تكون في معظمها قاحلة لا يطيقها إلا أولو العزم من الرجال، فأقبل على الخروج إليها تلبية لنداء الجهاد، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأعرض عن الخروج فيها أشباه رجال من المخلفين، خيانة أو إيثارًا للسلامة والراحة والتمتع بجو المدينة الرطيب، وقال تعالى فيهم جميعًا: ﴿ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120].


ولئن بينت هذه الآية الكريمة فضل من شارك في غزوة تبوك صادقًا مقبلًا غير مدبر، وفضل من تُرك في المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأسهم الإمام علي رضي الله عنه، فأصر على الخروج فيما أخرجه ابْن مرْدَوَيْه عَن سعد بن أبي وَقاص قال: "إن عَليَّ بن أبي طَالب خرج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى جَاءَ ثنية الْوَدَاع يُرِيد تَبُوك وَعلي يبكي وَيَقُول: "تخلفني مَعَ الْخَوَالِف؟"، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه ليس بعدي نبي))، وكلفه إقامة الأحكام بالمدينة وإمامة الصلاة فيها، ورعاية من بها من أسر المجاهدين، نساء وأطفالًا وعجزة وعجائز ومرضى، وحمايتها في غيبته من الأعداء المترصدين يهودًا ونصارى وأعرابًا مشركين، ومراقبة المخلفين والمتخلفين عن الجهاد، وكانوا أصنافًا: صنف مغالٍ في العداوة أمِرَ[1] أمْرُ بعضهم، واشتد خطرهم، وحامت حولهم الشبهات، لنجاواهم في مجالسهم الخاصة وحلقهم الضيقة، وصنف تخلفوا عنه لاستكمال مسجد الضرار والتمهيد لاستقبال العائدين من تبوك في حال نجاح خطة الاغتيال، وإعلان الانقلاب على النبوة، وكانوا قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكيته بالصلاة فيه قبل خروجه لتبوك فاستمهلهم لانشغاله بالإعداد للجهاد، فلما عاد هدمه وأحرقه، وصنف أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتخلف ولم يرض لهم الخروج؛ لما يحتمل أن يقوموا به من التخذيل والفتنة، وقسم ممن كان له عذر شرعي أذن به لهم في التخلف، وصنف تخلف لا خيانة ولا كفرًا ولا نفاقًا؛ ولكن لطائف عارض من الشيطان خلَّفه، ثم ندم عن فعلته، فتاب إلى الله وحسنت توبته، وصنف مغالٍ في السفاهة تحايلوا بأعذار واهية للحصول على الإذن بالتخلف، فأذن لهم به الرسول صلى الله عليه وسلم زهدًا فيهم وهو يعلم طويتهم وحالهم، فقضوا فترة غيابه في الجهاد فرحين بما اكتسبوه من الراحة والاستقرار والأمن والسلامة ووافر الطعام ولذة المعاش، وغيرهم من المجاهدين في شظف العيش وحر الصحراء الجاف القاسي، فلما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم سالمًا والمجاهدون معه منتصرين معتزين بما نالهم ونالوه من الفضل والغنيمة، سُقِط في أيدي جميع المخلفين من المنافقين، ونزلت سورة التوبة تصنفهم صنفًا بعد صنف، متآمرين وحسدةً وبخلاء ولمَّازِين وسفهاء عابثين، وتبين مخاطرهم، وما ينبغي أن يعاملوا به في المجتمع الإسلامي، وتأمر بجهادهم وكف شرهم بما نزل فيها من القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التوبة: 73]، إلى قوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 80]، ثم عقبت بطائفة أخرى سفيهة لاهية لا همَّ لها إلا الراحة والمتعة، من الذين اعتذروا للرسول صلى الله عليه وسلم بتَعِلَّات واهية، ومعاذير كاذبة، فيغض الطرف عن افتراءاتهم أدبًا وحكمةً، ويأذن لهم، فيظنون أنه صدقهم وأنهم استغفلوه، كما فيما رواه ابن أبي حاتم عنهم قال: "اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ الجُلاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَمَخْشِيُّ بْنُ حمْيَر وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَ مُحَمَّدًا فَيَقَع بِكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا"، فينالون في غيبتهم عن الجهاد حظهم من الراحة والمتعة، ويفرحون بتخلفهم، وينزل فيهم قوله تعالى: ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾.


والفرح بالتخلف عن الجهاد في هذه الآية سرورهم به وابتهاجهم بنيله، كما يبتهج الطفل المدلل إذا ادَّعى المرض فأعفاه والده من الذهاب للكُتَّاب أو المدرسة، ثم خرج للشارع لاهيًا ظانًّا أنه استغفل والده، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لهم إلا لتفاهتهم وقابليتهم للخيانة وبما نزل فيهم من قوله تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 47]، لا سيما ومن خرج لأي قتال مكرهًا لا يكون في معظم الحالات إلا باحثًا عن مهرب منه، أو محاولًا تخذيل الصف وإشاعة الفوضى فيه لاستحداث ثغرة أو هزيمة تعفيه أو تنجيه.


و﴿ المُخَلَّفُونَ ﴾ جمع مُخَلَّف وهو المتروك، والذي بقي خلْف القوم، أو من يتركونه وراءهم، والمَقعَد في قوله تعالى: ﴿ بِمَقْعَدِهِمْ ﴾ من قعد يقعد؛ أي: جلس، والقعود؛ أي: الجلوس والإقامة، ومنه قول الحطيئة في هجاء الزبرقان:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

والمقعد ظرف مكان عبر به عن قعودهم وإقامتهم بالمدينة وعن مكانتهم المتدنية في سلم المكارم، زادها تدنيًا وسقوطًا أنها كانت ﴿ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ﴾؛ أي: خلفه ومخالفة له، ولفظ: ﴿ خِلَاف ﴾ من "الخلف"، ضد قدام، وفي نصبه ثلاثة أوجه، على الظرفية بِمَعْنَى خَلْفَ، أو على المصدرية بفعل مقدر؛ أي: تخَلَّفوا خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: فَرِحُوا؛ لأجل مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم من تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في المدينة، مخالفين أوامره وما كان ينتظره منهم ويرضاه لهم.


إن آفة هذه الفئة من المنافقين أنهم عطلوا عقولهم واستسلموا لأهوائهم، فصاروا عبيدًا لها تسير بهم في كل واد ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50]؛ ولذلك تراهم إذ فرحوا بالتخلف وقد وافق أهواءهم ﴿ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ نفروا من مكارم الطاعة عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد بأموالهم وأنفسهم والخروج لغزوة تبوك ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾؛ أي: لم يكتفوا بالاعتذار عن الخروج بل حاولوا تثبيط غيرهم وقالوا لهم: ﴿ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ﴾؛ أي: لا تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في فصل شديد الحرارة فتهلكوا؛ ولذلك أمر الحق تعالى رسوله بالرد عليهم قائلًا: ﴿ قُلْ ﴾ لهؤلاء المنافقين: ﴿ نَارُ جَهَنَّمَ ﴾ التي قد تُلقَون فيها بنفاقكم ﴿ أَشَدُّ حَرًّا ﴾ من حرارة الشمس في الطريق إلى تبوك ﴿ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ لو كانوا يتدبرون فيعلمون حكمة الله بالابتلاء في الدنيا وعدالة جزائه في الآخرة، وأن المسرة في الدنيا للكافر والمنافق مهما طالت لا يقابلها حتمًا في الآخرة إلا نقيضها وهو الحزن والشقاء ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا ﴾ في الدنيا؛ لأن حياتهم فيها مهما طالت قصيرة، وضحكهم فيها مهما طال معدود ومحدود ﴿ وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا ﴾؛ لأن عذابهم في جهنم شديد دائم غير محدود ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ عقابًا عادلًا لما اقترفوه في الدنيا من الآثام، والآية في مجملها وبصيغة الأمر فيها تأكيد وإخبار بما يؤول إليه أمرهم في الدنيا والآخرة، وهو الضحك القليل فرحًا بالدنيا، والبكاء والحزن الشديد الدائم في الآخرة.


ثم بالتفات بياني لما ينبغي أن يعاملوا به في الدنيا خاطب الحق تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ ﴾ يا محمد ﴿ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ﴾، والفعل "رجع" يستعمل لازمًا، فيقال مثلًا: رجعتُ إلى بيتي، والرجع بهذا المعنى هو مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، وإذا أردت تعديته أدخلت عليه همزة التعدية وقلت: "أرجعتك إلى البيت"، ولكن العرب أيضًا تستعمله متعديًا بدون أن تدخل عليه همزة التعدية، فيكون مصدرًا كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴾ [الطارق: 8]، ويكون مضارعًا كما في قوله عز وجل: ﴿ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 86، 87] ويكون أمرًا كما في قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [الملك: 4]، ويكون ماضيًا كما في هذه الآية من قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 83]، ولا يقصد بالإرجاع عودته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأن هذه الآية نزلت في المدينة وهو فيها، وسورة التوبة نزلت فيها بعد العودة من تبوك؛ وإنما يقصد به التقاءه بهم واجتماعه بهم؛ أي: فإن جمعك الله بأي طائفة من هؤلاء المنافقين الهازلين الفرحين بالتخلف، وحاولوا الخوض معك في أي حديث عن الجهاد ﴿ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ﴾، فسألوك الإذن لهم بالخروج مستقبلًا للجهاد معك ﴿ فَقُلْ ﴾ لهم: ﴿ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا ﴾ لن ترافقوني أو تكونوا معي في خروج لجهاد أو غيره أبدًا ﴿ وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ﴾ ولن تشاركوني في قتال لعدوٍّ مطلقًا ﴿ إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ﴾ رضيتم من قبلُ لأنفسكم ذلة التولي، وسفاهة الفرح بالسلامة، وضعة القعود عن الجهاد ﴿ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾ فواصلوا قعودكم مع الصبية والنساء وعجزة الشيوخ، وهو الموقف منهم الذي نزلت به من قبلُ سورة الفتح بقوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الفتح: 15]؛ أي: سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إِلَى غزوة خَيْبَر لتغنموها: "اتركونا نتبعكم فنغنم معكم"، فلا تأذن لهم وقد تخلفوا من قبل عن غزوة الحديبية.


هذا هو الإجراء الأول في حقهم، هدفه أن تُحمى كل حركة جهادية من رخاوتهم وضعفهم وقابليتهم المزمنة للانهزام والخيانة والتآمر، وذممهم الرخيصة القابلة للبيع والشراء، تليه عقوبة عاجلة تخزيهم في الدنيا وتحرمهم من الدعاء لهم أو الاستغفار لهم أو الشفاعة فيهم هي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ﴾ لا تصل على أي واحد منهم إن مات، والنهي في هذه الآية حكم شرعي بكراهة الصلاة على المنافق البيِّن نفاقه، وتحريمها مطلقًا وأبدًا على المنافق نفاق كفر، أو الذي ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو يجادل أو يماري فيه، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي مُسِرٌّ إِلَيْكَ سِرًّا فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أُصَلِّيَ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ)) رَهْطٍ ذَوِي عَدَدٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ: فَلِذَلِكَ كَانَ عُمَرُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ اسْتَتْبَعَ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ مَشَى مَعَهُ وَإِلَّا لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ. ﴿ وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ لدفنه أو زيارته أو الترحُّم عليه، ثم علَّل الحق تعالى هذا النهي فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ في حقيقة ما يضمرونه ويعتقدونه ﴿ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ وهم متلبسون بالفسق الاعتقادي والعملي؛ أي: كافرون كفرًا بواحًا، عكس ما كانوا يدعونه ويعلنونه بألسنتهم.


ولئن كان النهي حكمًا عامًّا، فإنه نزل في عبدالله بن أُبَيِّ أول مرة، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم، فلما مرِض رأسُ النفاق عبدُالله بن أُبَي بن سَلول، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيَه، فلما دخل عليه قال صلى الله عليه وسلم: (أهلكك حبُّ اليهود) فقالَ: "يا رسول الله، بعثتُ إليك لتستغفرَ لي لا لتؤنِّبني"، وسأله أن يكفِّنه في شِعاره الذي يليجلدَه ويصليَ عليه، فلما مات دعاه ابنُه وكان مؤمنًا صالحًا، فأجابه صلى الله عليه وسَلَّم تسليةً له ومراعاةً لجانبه، وأرسل إليه قميصَه، فكُفِّن فيه، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾، فَترك الصَّلَاة عَلَيْهِم.


إنها القطيعة المطلقة مع هؤلاء المنافقين، تجنبًا لخيانتهم ودفعًا لضررهم ويأسًا من خيرهم، وتأديبًا لهم، ثم زاد تعالى تحذيرًا من التأثُّر بهم فقال: ﴿ وَلَا تُعْجِبْكَ ﴾ يا محمد، والخطاب له صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، ﴿ أَمْوَالُهُمْ ﴾ التي اكتسبوها؛ لأنهم يبخلون بها ويحاسبون عليها، والله يغنيك بخير منها وأكثر بركة ﴿ وَأَوْلَادُهُمْ ﴾ فإن أراد الله بهم خيرًا هداهم، فكانوا شهودًا على كفر آبائهم، وإن كانوا عصاة زادوا آباءهم شقاء بعصيانهم وتمردهم وعدوانهم ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا ﴾ أن يشقيهم بما أعطاهم من الأموال والأولاد في الدنيا ﴿ وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ ويختم لهم بالكفر، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.


ثم انتقل الوحي الكريم للحديث عن طائفة أخرى من المنافقين ذوي المكانة الاجتماعية قدرةً ومالًا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عنهم الحق تعالى: ﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ ذلك أن الإيمان اعتقاد بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان، والقلب لا يطَّلِع عليه إلا خالقه تعالى، واللسان قد ينطق بحق أو باطل، ومصداق ما يعتقده المرء أو ينطق به هو الاستجابة لنداء الجهاد المالي أو الجهاد القتالي، وكان المنافقون في الصف المسلم ينكشف أمرهم من ملامح وجوههم وردود فعلهم وكلامهم بمجرد نزول أمر بالجهاد المالي كما في قوله تعالى: ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 7]، أو الجهاد القتالي كما في قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]


والسورة في قوله تعالى ﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ﴾ يراد بها تامة كاملة، كما يراد بها بعضها، مثل كلمة "القرآن" تطلق على القرآن كله وعلى بعضه، ولفظ "الكتاب" يطلق على الكتاب كله وعلى بعضه، وورودها نكرة غير معرفة بـ"أل" دال على أنها مطلق سورة أو آية من القرآن الكريم، ولكنها مقيدة بقيدين: أولهما الإيمان الحق في قوله تعالى: ﴿ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ ﴾ والإيمان بالله يقتضي الإيمان برسوله، ولا يكون إيمان برسوله تامًّا إلا بطاعته إذا دعا للجهاد، والقيد الثاني ﴿ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ﴾ جهادًا خالصًا وخاصًّا بإعلاء كلمة الله كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).


وحرف الواو في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ... ﴾ حرف استئناف، للانتقال من الحديث عن سفهاء المنافقين في الآية السابقة إلى الحديث عن أولي الطول منهم، وحرف "إذا" ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط، و﴿ أُنْزِلَتْ ﴾ فعل شرط مبني للمجهول نائب الفاعل فيه﴿ سُورَةٌ ﴾ وجواب الشرط قوله تعالى: ﴿ اسْتَأْذَنَكَ ﴾ من فعل: "أذن"؛ أي: علم بالشيء أو رضي به أو وافق عليه، زيدت فيه حروف الطلب: الألف والسين والتاء؛ أي: طلب الإذن، كما فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان استأذنه فحجبه، وأدخل غيره من الناس قبله، ثم أذن له، فقال له: "مَا كِدْتَ تأْذَنُ لِي حَتَّى تأْذَنَ لحِجارة الجُلْهُمَتَينِ[2]"، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((يَا أَبا سفيانَ، أَنت كَمَا قَالَ القائلُ: كلُّ الصَّيْدِ فِي جَوْفِ الفَرَا))، و﴿ أُولُو ﴾ فاعل مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم؛ أي: أصحاب ﴿ الطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾والطول لغة بفتح الطاء هُوَ مَا يستطيل بِهِ المرء على غيره من القوة أو المال أو الجاه؛ أي: استأذنك المستطيلون على الناس من المنافقين.


والآية تتحدَّث عن صورة أخرى لفئة أخرى من المنافقين، غير التي تحدثت عنها الآيات السابقة من سورة التوبة، فئة نشأت في المجتمع المسلم من الذين أعلنوا الإسلام ولم يبلغوا درجة الإيمان، وقال عن مثلهم الحق تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه))، فاستفادوا من مكاسب المسلمين وغنائمهم وفيئهم وصدقاتهم، واغتنوا وصارت لهم مكانة في المجتمع، فركنوا للراحة، وأصبحوا يحرصون عليها ويحذرون فقدها ويتوجَّسون من كل دعوة للجهاد وقال فيهم تعالى: ﴿ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ ﴾؛ أي: وكلما أنزلت آية من القرآن تدعو للجهاد ﴿ اسْتَأْذَنَكَ ﴾ طلب الإذن بزيارتك ﴿ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ ﴾ ذوو الغنى واليسر والقدرة على الجهاد أبدانًا وأموالًا﴿ وَقَالُوا ﴾ لك: ﴿ ذَرْنَا ﴾ اتركنا ﴿ نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ نبقى في بيوتنا مع القاعدين من الصبية والنساء والعجزة، ثم عقب الحق تعالى على حالهم استهانة بأمرهم وتحقيرًا لهم وتنفيرًا من وضاعتهم في المجتمع فقال: ﴿ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ﴾ رضوا لأنفسهم ضعف الأطفال والنساء وعجز العجزة وذلة الجبناء المخلفين ﴿ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾؛ أي: وأطبق النفاق على قلوبهم فهم عاجزون عن فهم قيم الإيمان وفقه كبرياء الرجولة واستيعاب نخوة الشهامة وحسن التصرف، ومعرفة سوء حالهم في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة. هذه النماذج الجديدة من المنافقين سبقت الإشارة إليهم بما تكتمل به صفاتهم في سورة محمد بقوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد: 20، 21].


ولئن تخَلَّف هؤلاء المنافقون بجميع فئاتهم عن الجهاد فلم ينالوا خيرًا ولا مكرمة، وكان مصيرهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فإن الله تعالى قد قيض لدينه خيرًا منهم، إيمانًا وجهادًا وأجرًا في الدنيا وثوابًا وكرامة في الآخرة فقال سبحانه عنهم: ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾، وحرف﴿ لَكِنِ ﴾ حُرِّك آخره لالتقاء الساكنين، واستدرك به في مستهل الآية للتذكير بحال المؤمنين الصادقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، و﴿ الرَّسُولُ ﴾ مبتدأ خبره الجملة الفعلية في قوله تعالى: ﴿ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾؛ أي: بذلوا أموالهم إعدادًا لآلة الحرب سلاحًا وركوبة وحاجات للمجاهدين أثناء المعارك وحاجات لأهلهم أثناء غيابهم، وبذلوا أنفسهم شهداء فداء للدين وقربى لرب العالمين ﴿ وَأُولَئِكَ ﴾؛ أي: وأُولئِكَ المتصفون بالإيمان وبذل المال والنفس في سبيل الله، والاسم ﴿ أولاء ﴾ مبتدأ مبني على الكسر في محل رفع، لا واحد له من لفظه، والكاف ضمير المخاطب، وخبره الجملة الاسمية ﴿ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ﴾؛ أي: خيرات النصر والغنيمة والذكر الطيب في الدنيا، وخيرات الشهادة والجنة والرضوان في الآخرة ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ والمفلحون من أفلح، والفاء واللام والحاء كما قال ابن فارس في معجمه أصلان صحيحان أحدهما يدل على شَقِّ الشيء، ومنه الفلاح يفلح الأرض ويشقها بالمحراث أو الرفش أو غيره، والأصل الثاني يدل على نيل الخير والفوز به والبقاء فيه، ومنه الفعل "أفلح"؛ أي: فاز بالخير وبقي فيه، ومنه ﴿ الْمُفْلِحُونَ ﴾؛ أي: الفائزون بالنصر في الدنيا الخالدون في الجنة الباقون أبدًا في رضوان الله، ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ هيَّأ لهم من خيرات الآخرة ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ مقامات حسان ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ دائمين فيها ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وما أعظمه من فوز! إنه رضوان الله والجنة.


وبعد أن بيَّن الحق تعالى حال تلك الفئات من منافقي الحضر في المدينة ومآلهم، وحال المؤمنين المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، أشار إلى ما كان عليه حال فئة أخرى من المنافقين الأعراب قاطني البادية، وما كان عليه موقفهم عندما دعوا للخروج إلى تبوك، فقال عز وجل: ﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.


و﴿ الْمُعَذِّرُونَ ﴾ بالتشديد كما قرأها جمهور القُرَّاء اسم فاعل من التعذير، وقرأها يعقوب بالتخفيف، وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: ﴿ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ ﴾، قَالَ: هم أهل الْأَعْذَار، وَكَانَ يقْرؤهَا: "وَجَاء المعْذِرون" خَفِيفَة، والأصل في الاستعمال العربي أن "المُعْذِر" بالتخفيف هو من له عذر حقًّا، وأن "المعذِّر" بالتشديد هو المقصِّر الذي لا عذر له ويدعي الأعذار تكلفًا، وقد زُعم أنهم من بني مقرن، وقيل: من غفار، ولكن الآية لم تعرفهم إلا بأنهم من الأعراب، وهم قاطنو بادية الجزيرة العربية سهولًا وجبالًا من الذين أعلنوا إسلامهم، وقال فيهم عز وجل: ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴾ [الفتح: 11، 12] وقد ذكر الله فضل الصادقين من الأعراب الذين لبَّوا دعوة الجهاد بقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، أما المنافقون ملتمسو الأعذار، مُعْذِرين ومعذِّرين، فقد جاؤوا رسول الله أول ما بلغتهم دعوة الجهاد ﴿ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ﴾ في التخلف فأذن لهم، كلٌّ على نيته ﴿ وَقَعَدَ ﴾ في بيوتهم ﴿ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ بادِّعائهم الأعذار الكاذبة ﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ﴾ وهم المُعَذِّرون منتحلو الأعذار ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في نار جهنم يوم القيامة.


لقد خاطب الله تعالى في هذه الآيات الكريمة رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة بدءًا من قوله له: ﴿ فَقُلْ ﴾ قريبًا من عشر مرات، إشعارًا له بالمعية الإلهية وتأنيسًا لقلبه وتطمينًا وتقوية له على تَحَمُّل ما يلقاه من المنافقين، وقد ضاقوا بأحكام الإسلام وحدوده وتكاليفه التي لا يطيقها إلا المؤمنون حقًّا، فأخذوا يتفلتون حينًا ويتنمَّرون حينًا، ويهزؤون سرًّا في خلواتهم حينًا، ويسيئون الخطاب حينًا ويعتذرون حينًا، وهم في تيههم وضلالهم كما قال فيهم الحق تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 17، 18]، وهو صلى الله عليه وسلم صابر محتسب مطمئن إلى رعاية ربه سبحانه، يداريهم ويحاول إنقاذهم من الكفر، كما وصف نفسه ووصفهم معه بقوله فيما رواه أبو هريرة: ((إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتْ هَذِهِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ تَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلْنَ يَغْلِبْنَهُ، وَأَنَا آخِذٌ بَحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي، وَتَقْتَحِمُونَ فِيهَا))، والناس حوله وأمامه كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة.


لقد عانى صلى الله عليه وسلم في السنتين الأخيرتين من حياته الشريفة أشد مما عاناه من قريش في مكة، إلا أنه في مكة هاجر إلى المدينة، أما في المدينة فقد هاجر إلى ربه في الملأ الأعلى، فصلى الله عليه وسلم صلاةً دائمةً ثريةً نديةً ما دام الليل والنهار وإلى أن يكتب الله لقاءه في الجنة برحمته وجوده وكرمه سبحانه وتعالى.



[1] أمِرَ- بكسر الميم- الأمرُ: إذا اشتد وتعاظم.

[2] الجُلهُمَة جانب الوادي، وحجارة الجلهمتين: الحجارة المتراكمة في جانبي الوادي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة التوبة (الحلقة السابعة) {إلا تنصروه فقد نصره الله}
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثامنة) نشأة النفاق في المجتمع الإسلامي الأول
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة العاشرة) للمنافقين خسران وللمؤمنين رحمتان
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الحادية عشرة) المنافقون حسدة بخلاء لمازون
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة عشرة) حكمة الوحي وتصنيفه للمجتمع الإسلامي في آخر عهد النبوة
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الرابعة عشرة) الجهاد جهادان، بالقرآن وبالسنان
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة عشرة - الأخيرة) بالقرآن يتميز الصادق عن المنافق

مختارات من الشبكة

  • التوبة.. التوبة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة التاسعة) مصارع المنافقين في قلوبهم وألسنتهم وأيديهم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الخامسة) لا مأمن من البلاء إلا بخالص الولاء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الرابعة) ولائج السوء والبطانات الفاسدة أصل البلاء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة) الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة التوبة (الحلقة الثانية) المفاصلة مع الشرك والمشركين ظاهرًا وباطنًا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التوبة إلى الله تعالى (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التوبة الصادقة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الترغيب في التوبة (توبوا إلى الله توبة نصوحا)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • تفسير القرآن بالقرآن من أول سورة المائدة إلى آخر سورة التوبة جمعًا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 29/11/1446هـ - الساعة: 21:31
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب